مجموعة مقالات الدكتور عائض القرني

سلسلة شهر القرآن/د.عائض القرني/فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى

سلسلة شهر القرآن

فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى

الدكتور عائض القرني

لا تمدحوا أنفسكم فعلمها عند اللطيف الخبير، ولا تثنوا عليها فإن الناقد بصير، وما أجهل الإنسان إذا زكى نفسه وشهد لها بالفضائل وبرّأها من الرذائل! وما أثقل كلامه وهو يستعرض على ربه وعلى الناس مناقبه ويسوق محامده ويذكر حسناته! إن الذي يزكي نفسه يكون في محل التهمة وفي مقام الريبة؛ لأن الإنسان بطبعه ظلوم جهول، يحب نفسه ويعشق ذاته، ويعجب بصفاته، فإذا نما هذا الطبع وأعلنه في الناس كان دليلا على قلة تقواه وضحالة معرفته، وأي شيء عند الإنسان حتى يزكي نفسه وهو بين نعمة لم تُشكر، أو ذنب لم يُغفر، أو عثرة لم تظهر، أو زلة من ربه تُستر؟

أفلا يكفيه أن الذي خلقه وصوّره وشقّ سمعه وبصره قبِل منه القليل، وغفر له الذنب الجليل، وأصلح خلله وستر زللـه؟ ثم يأتي هذا الإنسان بدعـــــاوى عريضة ونفس مريضة ليخبر ربه الذي يعـــــلم السر وأخفى أنه ذو تقوى، والله أعلم بمن اتقى، فهو الذي لا تخفى عليه خافية.

وإن منطق الزور ولسان البهتان أوحى إلى إبليس اللعين بتزكية نفسه الشريرة ليقول لربه: ( أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ) لتكون هذه التزكية لعنة ماحقة وضربة ساحقة لهذا المريد العنيد، وإن الشهادة الآثمة للنفس سولت لفرعون الطاغية ليقول: ( أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ ) فأذله القوي العزيز، وأرغم أنفه في الطين.

وإن التزكية المفتراة دفعت بقارون الآثم ليتفوه بفرية: ( إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي ). ألا فليصمت العبد الضعيف الهزيل، وليسكت المخلوق الفقير، وليخجل العبد المسكين من ربه، وليهضم نفسه، فلولا ستر الله لظهرت الفضائح، ولولا لطف الله لبدت القبائح، وإن من يتصدر النوادي ليخبر الناس بنسبه الأصيل لهو فاشل، ومن يحدثهم عن مجده الرفيع لهو أحمق، ومن يزكي لهم تقواه لهو مخدوع، ومن يذكرهم بمناقبه لهو مخذول.

لماذا لا يترك العبد تزكية نفسه لربه، فهو الذي يزكي من يشاء وقوله الحق؟‍! ولماذا لا يدع الإنسان أعماله تتحدث عنه لا أقواله، وإحسانه لا لسانه؟ وسوف يظهر زيف من مدح نفسه بالباطل، فالناس شهداء الله في الأرض، وألسنة الخلق أقلام الحق، وإن عبدا خلق من نطفة لجدير بأن يصمت، وإن مخلوقا يحمل فضلاته لحقيق أن يسكت، ونعوذ بالله من لسان حي بالمديح، وقلب ميت بالقبيح، ومن عجب ظاهر، وذنب خفي.

فيا من أخفيت على الناس العيوب، وسترت عن العيون الذنوب، نسألك صلاح القلوب فإنك علام الغيوب.

منقول

يتبع
 
سلسلة شهر القرآن/د.عائض القرني/وأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ

سلسلة شهر القرآن

وأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ

الدكتور عائض القرني

تحدث عن جميلنا، أخبر الناس بأيادينا، أعلن نعمنا عليك، لأن الجحود خطيئة والتنكر سيئة، وكتمان المعروف لؤم، إن الله يحب من عبده أن يشكره، وأن يثني عليه، وأن يعترف بما وصل من بره إليه؛ لأن الله يحب المدح، فهو أهل له، ويريد الحمد؛ لأنه مستحق له.

ونعم الله تغمر العبد، فإذا قابلها العبد بالحمد والثناء على مسديها، والمدح والشكر لمهديها بورك فيها، وإذا تنكر لها العبد وجحدها وكتمها محقت وذهب نفعها، والله يلوم الحاسدين من عباده فيقول: «يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا» فهم يعلمون أن مانح النعمة هو الله، ولكنهم لؤماء يتنكرون للجميل، وينسون المعروف، وينسبون الفضل لغير أهله.

ورد في أثر: «إن القلوب جبلت على حب من أحسن إليها»، فقال أبو معاذ الرازي معلقا على الأثر: «يا عجبا ممن لا يرى محسنا إلا الله! كيف لا يميل إليه بالكلية؟!»، وقال بعض السلف: «ويحك يا بن آدم! والله لو كساك رجل ثوبا لرأيت إحسانه وعرفت جميله فكيف بمن كل نعمة وصلت إليك فمن عنده، وكل خير لديك فمن لدنه؟!»، وقال المغيرة: «إن صاحب الكلب يحسن إلى كلبه فلا ينبحه ويحفظ له وده، فكيف بمن غيرك بنعمه؟!»، وقالوا لعابد في البصرة: «كيف أصبحت؟» قال: «أصبحت في نعم غير مشكورة وذنوب غير منسية». وفي حديث حسن أنه صلى الله عليه وسلم قال: «سمع سامع بفضل الله ونعمته علينا». وقال رجل لمالك بن دينار: «أشكو إليك ديونا لحقتني وحاجة لزمتني. فقال مالك: ويلك! كأنك تشكو الله إلى خلقه وله عندك نعم ما شكرت، وأياد طالما كفرت».

وقال بعض الشعراء:

وإذا شكوت إلى العباد فإنما *تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم
وقال الحسن البصري لفرقد السبخي: «تعال تغدَّ معنا من هذا الخبيص، وهو طعام لذيذ، فقال فرقد: أنا لا آكل الخبيص لأنني لا أدري شكره. فقال الحسن: قاتلك الله! وهل أديت شكر الماء البارد؟!».

وكان بعض العباد ينادي: «سبحان من أعطى الجزيل، ووهب الجليل، ورضي بالقليل، وستر القبيح من العمل!».

وقال رجل لأحد الوعاظ: «هل ترى لي شرب الماء البارد أو الحار؟ فقال: اشرب البارد؛ لأنك إذا شربته أروى عروقك، ودخل في مسام جسمك، فإذا حمدت الله حمد كل عضو وعرق فيك، وإذا شربت الماء الحار قلت: الحمد لله بكزازة، أي: بثقالة ومشقة».

وبالجملة، ينبغي إظهار نعمة المنعم شريطة ألا يكون من باب الزهو والرياء والعجب، مع ملاحظة عين الحاسد فإنها تصيب، وقد جعل الله لكل شيء قدرا.

منقول

يتبع
 
التعديل الأخير:
سلسلة شهر القرآن/د.عائض القرني/يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه

سلسلة شهر القرآن

يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه

الدكتور عائض القرني

أخبر الله عن أوليائه الصادقين، وعباده الصالحين، بأنه يحبهم ويحبونه، وهو خبر تهش له نفس المؤمن، ويشتاق إليه قلب الولي، والعجيب قوله: ( يُحِبُّهُمْ ) فهو الذي خلقهم وأطعمهم وسقاهم وكفاهم وآواهم، ثم أحبهم، وهو الذي رباهم وهداهم وعلمهم وألهمهم وأرشدهم، ثم أحبهم، وهو الذي أنزل عليهم الكتاب، وأرسل إليهم الرسل، وبين لهم المحجة، وأوضح لهم الحجة، ثم أحبهم، فيا له من فضل عظيم، ويا له من عطاء جسيم.

أما قوله عنهم: ( يُحِبُّونَه ) فهذا عجيب أيضا، فكيف لا يحبونه وقد أوجدهم من العدم، وأطعمهم من جوع، وآمنهم من خوف، وكساهم من عري؟

كيف لا يحبونه وهو الذي وهب لهم الأسماع والأبصار، وحماهم من الأخطار، وحفظهم في سائر الأقطار؟

وكيف لا يحبونه وهو الذي وهبهم الأموال والأولاد، وأغدق عليهم الأرزاق، وساق إليهم كل ما يطلبونه، ومنحهم كل ما يسألونه، وأمّنهم من كل ما يخافونه؟

كيف لا يحبونه وقد سخر لهم ما في البر والبحر؟ أرسل لهم السماء بالماء، وشق لهم الأرض بالنبات، وجعل الأرض بهم فراشا وذلولا ومهادا، والسماء بناء، ورزقهم من الطيبات، وأصناف الثمرات، ومختلف المطعومات، وسائر المشروبات؟

كيف لا يحبونه وهو الذي أنزل عليهم القرآن، وعلمهم البيان، وهداهم إلى الإيمان، وحذرهم من كيد الشيطان؟

وما أجمل المقابلة بين قوله: ( يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه ) فهو حب بحب أزكى من حب الرب، فليت من له مقام في دنيا المحبين أن يتذوق هذه اللفظة المشرقة، وأن ينقلها رسالة قوية لعشاق الفن محبي العيون السود، والخدود والقدود؛ ليعلموا أن حبهم منقوص هابط، وحياتهم ذاوية ذابلة، وقلوبهم خاوية خربة، ونفوسهم ظالمة ظامئة، وبصائرهم كسيفة كليلة، أما حب أولياء الله فهو الحب الصادق الصائب الطيب الطاهر الزكي النافع.

والله إن من أجلّ مطالب القوي السوي وصوله إلى رتبة ( يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه ).

وإن من أعظم العطايا وأشرف المواهب لهي عطية وموهبة: يحبهم ويحبونه، كل حب غير حب الله مقطوع، وكل عمل لغير الله ضائع، كل السعي لغير مرضاته باطل، كل تعب في غير مرضاته عناء:

سهر العيون لغير وجهك ضائع ورضا النفوس بغير حبك باطل فيا من خلق خلقا ثم رزقهم ثم هداهم ثم أحبهم، أسألك أن تجعلنا من أحبابك، وخالص عبادك، وصالح أوليائك؛ فإنك أهل للإجابة، معروف بالإحسان، مقصود لكل مطلوب.

منقول

يتبع
 
سلسلة شهر القرآن/د.عائض القرني/لا إِلَه إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين

سلسلة شهر القرآن

لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ

الدكتور عائض القرني

هذه آية الفرج؛ ما قالها عبد مكروب إلا فرج الله عنه، بذلك صح الخبر. وفيها أسرار عظيمة ورسائل مهمة، لكن لمن له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

ففي هذه الآية إقرار بالتوحيد، وإثبات للتنزيه، واعتراف بالذنب، وهي أركان ثلاثة عليها تقوم العبودية وبها ينال ما عند الله من لطف ورحمة ورزق وهداية، ولهذا فرج الله عن يونس عليه السلام لما قالها، ويفرج عن كل من قالها من المؤمنين لقوله تعالى: ( وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ) فركن التوحيد في: لا إله إلا الله ، وركن تقديس الرب وتنزيهه في: سبحانك ، وركن الاعتراف بالخطيئة في: إني كنت من الظالمين.

فلا إله ألا أنت: اعتراف بألوهيته سبحانه وكماله وتفرده بكل وصف حسن. وسبحانك: نفي للنقص والعيب عنه. وإني كنت من الظالمين: اعتراف من العبد بالتقصير والخطأ.

فكأن العبد نسب كل مدح وجود إلى ربه ونزهه عن كل شين، وقدح لا يليق به، ثم اعترف هذا العبد بظلمه وعدوانه، فكانت هذه الكلمة بحق من أغلى الكلمات وأثمنها في ميزان العبودية.

وما من عبد إلا وتمر به كارثة، أو يلم به خطب، أو تقع عليه شدة، فإذا قال هذه الكلمة بقلب حاضر خاشع مخبت أنقذه الله من كل ما أهمه، وفرج غمه، وأزال حزنه وكشف كربه.

والله عز وجل في كتبه وعلى ألسنة رسله أوجب توحيده على عباده، ونزه نفسه، وأخبر بظلم العبد وكفرانه وتمرده، فجاءت هذه الآية متضمنة هذه المعاني في أحسن وأجمل خطاب وأزهى حلة، حتى إن بعض الصالحين كان يعكف بقلبه على هذه الكلمة تردادا وتكرارا، فيجد من الأنس والراحة والأمن والانشراح ما يفوق الوصف، وقد شرحها شيخ الإسلام؛ فأحسن وأجاد، ووردت في فضلها آثار، وكان يوصي بها الصالحون من أحبوا، ويكفي في فضلها قوله صلى الله عليه وسلم: «كلمة أخي ذي النون ما قالها مكروب إلا فرج الله عنه».

فالواجب على العبد أن يعطي كل أصل من أصولها الثلاثة ما يستحق، فأصل القول اعتقاده، والعمل بمقتضاه والتبرؤ مما يضاده. وأصل التنزيه عدم نسبة المشابهة والمماثلة له سبحانه بخلقه، أو وصفه بغير ما وصف به نفسه، أو تحوير كلامه والإلحاد في أسمائه وصفاته. وأصل الاعتراف بالاقتراف تحقير النفس، والنظر إليها بعين الازدراء والمقت، فإن هذا العمل يقطع من المسافات - أعني احتقار النفس ونفي العجب عنها - إلى الله ما لا يقطعه صيام الهواجر، وقيام الليالي، وهذا مراد العبودية وبابها الأكبر وسرها الأعظم، والله أعلم.

منقول

يتبع
 
التعديل الأخير:
سلسلة شهر القرآن/د.عائض القرني/من عمل صالحا من ذكر أوأنثى وهو مؤمن

سلسلة شهر القرآن

مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ

الدكتور عائض القرني

الحياة الطيبة تنال بأمرين: الإيمان والعمل الصالح، فمن آمن وعمل صالحا نال مرتين حياة سعيدة رغيدة، وجزاء كريما موفورا في الآخرة.

ولكن كلمة «حَيَاةً طَيِّبَةً» عجيبة، فإن فيها من الجمال والعموم ما تهش له النفس، فكل أمن وسكينة وسرور وحبور وصحة وأمن وأنس وطمأنينة مع صلاح الأبناء واستقامة الحال وحسن المنقلب والعافية من كل مكروه؛ فإنها كلها من الحياة الطيبة، فمن أراد حياة طيبة بلا إيمان ولا عمل صالح فقد حاول المستحيل، وطلب الممنوع.

وكيف ينال الحياة الطيبة من أساء المعاملة مع ربه الذي منه وحده تنال الحياة الطيبة، فإن كل خير وصلاح أساسه التقوى، وإن كل شر وبلاء سببه المعاصي والآثام، وهذا معلوم من نص الشرع، قال سبحانه: «ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ»، وقال: «فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ»، وقال: «قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ»، فمن حقق الأصلين، وهما الإيمان والعمل الصالح، سعد في الدارين وأفلح في الدنيا والآخرة، وما أروع القسم في قوله جل في علاه: «فَلَنُحْيِيَنَّهُ»! فهذا وعد أكيد وخبر جازم وبشرى محققة.

وانظر إلى قوله: «فَلَنُحْيِيَنَّهُ»، ما أحسن اختيارها! فالذي لا يحييه الله كأنه ميت ولو عاش، وهالك ولو عُمّر، وفي كلمة «نحيينه» من الجاذبية والأسرار والتشويق لهذه الحياة ما يأخذ اللب ويأسر القلب، وانظر كيف نكر كلمة «حياة» لتكون عامة كاملة، وهذا تنكير تعظيم، وتحت كلمة حياة من الأسرار والمعاني ما يفوق الوصف، فإن هذه الحياة تشمل حياة القلب بالإيمان والهدى، فلا يموت أبدا يوم تموت القلوب، وحياة العقل بحسن الإدراك وصواب البصيرة وسداد الرأي، وحياة الجسم بالعافية وحسن المعيشة، والسلامة من الآفات، والنجاة من الكدر، والأمن من المتالف.

أقسم، وهو أصدق القائلين، على أنه سوف يجزيهم بأحسن من عملهم، ولم يقل بحسن أو بخير أو بجميل، بل قال: «بأحسن»؛ لأن في العمل حسنا وأحسن، فالله يجزيهم بأحسن عمل عملوه، وتقاس بقية الأعمال على أحسنها، فيثاب على أحسن صلاة صلاها في حياته، وتساوى بها بقية الصلوات، وهكذا سائر الأعمال، وهذا من كرمه وجوده وتفضله جل في علاه.

ثم انظر إلى الجمع في الآية بين الذكر والأنثى في من يعمل، والإيمان والعمل الصالح في العمل، والحياة الطيبة والأجر الأحسن في الثواب، فهي ثنائية من أصناف ثلاثة؛ فذكر الذكر والأنثى ليعلم الجنس، والإيمان والعمل الصالح يشمل أصول العمل، والحياة الطيبة والأجر العظيم يستغرق كرامة الله لعباده.

منقول

يتبع
 
سلسلة شهر القرآن/د.عائض القرني/أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ

سلسلة شهر القرآن

أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ

د. عائض القرني

تطمئن القلوب من خوفها فتسكن إلى موعود ربها مع الثقة به، وحسن التوكل عليه، وصدق اللجوء إليه.

وتطمئن من حزنها فتجد الأمن من كل غم وهم وحزن، فتعيش راضية مرضية؛ لأنها بربها ومولاها راضية.

وتطمئن من قلقها فتستقر بعد التذبذب، وتهدأ بعد التمزق، وتثبت بعد الاضطراب.

وتطمئن من الشتات، فيجتمع شملها، ويتحد توجهها، ويلم شعثها، وتنجو من شتات أمرها.

وتطمئن من كيد شيطانها، وغلبة هواها، وتحرش أعدائها، وكيد خصومها، وشرور أضدادها.

فليس للقلب دواء أنفع من ذكر الله، فمهما حصل القلب على مطلوبه ورغباته من دون ذكر الله فإن مصيره القلق والتمزق والفرق والخوف والغم والهم والحزن والكدر والاضطراب.

أبى الله أن يؤمّن من عصاه، وأن يؤنس من خالفه واتبع هواه، وكيف يطمئن من بينه وبين الله وحشة وبينه وبين خالقه قطيعة؟ وكيف يأنس من نسي مولاه، وأعرض عن كتابه، وأهمل أوامره، وتعدى حدوده؟

إن طمأنينة القلب هي السعادة التي يسعى لها الكل، ويبحث عنها الجميع، فمنهم من خطبها عن طريق المال فجمع وأوعى، وحصل وكنز، فإذا المال بلا إيمان شقاء، وإذا الحطام بلا طاعة وباء، ومنهم من طلب السعادة عن طريق المنصب فصب من أجله دمعه وعرقه ودمه، فلما تولاه بلا إيمان كان فيه حتفه وهلاكه وخيبته، ومنهم من طلبها عن طريق اللهو من غناء وشعر وهواية فما حصل عليها ولا نالها، لأنه عزلها عن عبودية ربه عز وجل.

فيا من تكاتفت سحب همومه اذكر الله لتسعد، ويا من أحاط به حزنه وأقلقله همه اذكر الله لتأنس، ويا من طوقه كربه وزلزله خطبه اذكر الله لتأمن، ويا من تشتت قلبه وذهب لبه اذكر الله لتهدأ، ذكر الله دواء وشفاء وهناء، وذكر غيره داء ووباء وشقاء، ويكفي الذكر فضلا أن الله يذكر من ذكره، ويكفي الذكر شرفا أنه العلم الوحيد الذي يبقى مع أهل الجنة، ويكفي الذكر أجرا أنه أفضل عمل، الذكر حياة ولكن المبنج لا يحس، والمخدر لا يشعر، والميت لا يتألم، والذكر أمن وسكينة، لكن العاصي مفرط، والفاجر هالك.

وفي كلمة «تَطْمَئِنُّ» رخاء ونداء وطلاوة، فكأن القلوب كالأرض، فما سهل منها فهو المطمئن، وما صعب وشق فهو القاسي الموحش المقفر، فليت سحب الرضوان وغمام الرحمن تترك غيث الوحي على القلوب لتؤتي أكلها كل حين بإذن ربها من الذكر والشكر والإنابة والمحبة والرهبة والرغبة:
«أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ».

منقول

يتبع
 
سلسلة شهر القرآن/د.عائض القرني/إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِي أَقْوَمُ

سلسلة شهر القرآن

إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِي أَقْوَمُ

د. عائض القرني

هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم من المعتقدات والأقوال والأفعال والأحوال والأخلاق والآداب والسير، فهو يدل على الأكمل والأحسن دائما، فكلما اشتبهت الأمور واختلطت الآراء وماجت القلوب، جاء القرآن بهداه وسناه، فهدى إلى الأرشد، ودل على الأتقى والأسمى.

لماذا القرآن وحده يهدي للتي هي أقوم؟ لأنه من فوق، وكتب البشر من تحت، ولأنه من السماء، ومذكرات العبيد من الأرض، ولأنه من رب العالمين، أما هي فمن الطين، ولأنه من عند الله، وآراؤهم من أفكارهم المضطربة وقلوبهم الزائغة، فالذي أنزل القرآن هو الخالق، والذي صنف ما يعارضه مخلوق، وعظمة القرآن في أن من تكلم به أحكم الحاكمين، وأحسن الخالقين، وخالق الناس أجمعين، فكيف لا يكون كلامه فوق كل كلام، وهداه أعظم من كل هدي؛ لأنه عليم خبير بصير، ومن سواه جاهل غبي إلا من اهتدى بهداه، فبقدر اهتداء العبد بهذا النور يحصل له من سداد الرأي ونور البصيرة على قدر ما بذل وطلب واستفاد.

فالقرآن يهدي للتي هي أقوم في المعتقدات، فهو يدعو للتوحيد الصحيح، والدين الخالص، والعبادة المعتدلة، وهو يهدي للتي أقوم في الحكم، من حيث العدل والإنصاف، ومراعاة الحقوق، والبعد عن الظلم والهضم والقهر والاستبداد: (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَق)، وهو يهدي للتي هي أقوم في الأخلاق؛ فهو يدعو إلى طهر الضمير، وزكاء النفس، وسلامة الصدر، ونقاء اللسان، وعفاف الخلق، ومكارم الصفات، وأشرف الآداب: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ).

وهو يهدي للتي هي أقوم في البيع والشراء، وسائر العقود، وكافة المنافع، فلا غش ولا غرر ولا نجش ولا ربا ولا حيلة ولا خديعة ولا غبن ولا تدليس: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا).

وهو يهدي للتي هي أقوم في المعيشة والكسب والإنفاق والبذل، فلا إسراف ولا تقتير، ولا بذخ ولا شح ولا إمساك ولا تضييع: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاما).

وهو يهدي للتي أقوم في الدعوة والإصلاح والتربية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا غلظة ولا فظاظة ولا مداهنة ولا تمييع، بل حكمة ولين ورفق ورشد وهدى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِي أَحْسَنُ).

وهو يهدي للتي هي أقوم في الآداب والفنون، فلا تعدي على الحدود، ولا استخفاف بالقيم، ولا تلاعب بالمبادئ، ولا جفاف وجمود وجحود ورهبانية، وإنما جمال باحتشام، ومتعة بأدب، وذوق بعفاف، وحسن بالتزام: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدا

منقول
.
 
سلسلة شهر القرآن/د.عائض القرني/اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض

سلسلة شهر القرآن

اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض

د. عائض القرني

هذا أصدق مدح لربنا جلّ في علاه، فالله نور هذا العالم، فكل نور يشع فمن نوره جلّ في علاه، فالقلوب في ظلمة حتى يصلها نور توحيده، والبصائر معتمة حتى يطلع عليها نور هدايته، والعالَم في دياجير الظلم حتى يشرق عليها نور ربها، فالنفس النيرة إنما استنارت بنور الله لما عرفت شرعه وأبصرت هداه، والعقل النير إنما فتح عليه لما أصابه حظه من نور الله، والكلمة السديدة إنما حسنت وجملت لما أضاءت بنور ربها، والفعل الحسن الراشد إنما صلح لأن الله وهبه من نوره، والمجتمع المستنير إنما استقام أمره لما أدركه نور من نور ربه، فكل نور في العقول والنفوس والأفئدة فمن الملك الحق، فبنوره أشرقت السماء والأرض، وصلح أمر الدنيا والآخرة، واستقام الحال، وطاب المآل، وكتبه سبحانه نور يبصر بها العمي، ويهدى بها من الضلال، ويرشد بها أهل الغي، ورسله نور يبعثهم بالحق فينقذون بإذنه من الهلاك، ويردعون من الردى، وينجون من المعاطب، وصراطه المستقيم نور به يهتدي المهتدون، وعليه يسير العابدون، وفيه يسلك الصادقون، ومن أهل العلم من قال في قوله تعالى: (اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض) قال: منورهما يعني الشمس والقمر والكواكب، ولا تعارض، فكل نور معنوي، أو ظاهر أو باطن فمن لدن الحكيم الخبير جلّ في علاه.

فليطلب النور من عند الله فإن كل أرض لا يشرق عليها نوره فهي أرض ملعونة، وكل قلب لا يبصر نوره فهو قلب غاوٍ، وكل نفس لم تهتد بهداه فهي نفس خاوية، العالم إذا لم يهبه الله من نوره صار عالم سوء، وصاحب زور، وحامل بهتان، والحاكم الذي حرمه الله نوره غادر جبار، غشوم ظلوم، وكل عبد حرم نور ربه فقد تم خسرانه وعظم حرمانه.

أعظم خصائص القرآن أنه نور؛ لأنه من عند الله جلّ في علاه، فهو الذي تكلم به وأوحاه، وفصل آياته، وأحكم بيناته: (وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا).
ومحمد صلى الله عليه وسلم نور؛ لأن الله بعثه ووهبه من نوره وهداه بهداه (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدا وَمُبَشِّرا وَنَذِيرا (45) وَدَاعِيا إِلَى اللهِ بِإِذنِهِ وَسِرَاجا مُنِيرا).

وبقدر اهتداء العبد ومتابعته وصدقه في طاعته يمنحه ربه نورا من نوره يبقى معه حتى يصل به إلى جنات النعيم.

والمؤمنون لما صدقوا في العمل بالكتاب واتباع الرسول، صلى الله عليه وسلم، جعل الله نورهم يسعى بين أيديهم جزاء وفاقا، ولما أعرض من أعرض من أعداء الله حرمهم الله ذلك النور، فبقوا في الظلمات فما لهم من نور، فنور الفطرة مع نور الهداية، ونور الكتاب مع نور الرسول، ونور البصيرة مع نور الحجة
(نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ
(وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ).

منقول
 
أرض التوحيد/د.عائض القرني

أرض التوحيد

الدكتورعائض القرني

أرض التوحيد، والمجد التليد، والنهج الرشيد، وهي أرض الإنسان، والبيان، والإيمان، والقرآن؛ لأنها دار الإنسان السوي، والمؤمن الرضي، التابع للمنهج المحمدي، ولأنها أرض البيان الخلاب، والأدب الجذاب، واللغة الحية، والموهبة الأدبية. ولأنها بلاد الإيمان، فمنها أرسل الإيمان إلى العالم أنواره، وبعث إلى الدنيا قصصه وأخباره، ولأنها مهبط القرآن بها نزل جبريل، على المعلم الجليل، بآيات التنزيل.

في هذه البلاد، أعظم ناد للرواد، وأكبر واد للأجواد. قال الموفق بن هادي: لا تلمني في حب بلادي، فإنها سر أنسي وإسعادي، فقد بعث منها محمد المحمود، رسول الجود، صاحب الحوض المورود، والمقام المحمود، واللواء المعقود، وفيها ولد أبو بكر، طيب الذكر، صاحب الشكر، نير الفكر. ومنها عمر، جميل الخبر، وناشر العدل في البشر، وصاحب أحسن السير. ومنها عثمان، جامع القرآن، ومكرم الضيفان، وله من الرسول نوران. ومنها علي، البطل الولي، والسيف الجلي، خائض الهول حتى ينجلي. ومنها الأسياد، والأجواد، والآساد.

فلما سمعنا كلام الموفق، وإذا هو بالدليل محقق، قلنا: ونسيت البترول، فإنه السيف المسلول، والشافع المقبول.

قال: كلا، لمن أعرض وتولى، فخرنا بالرسول، لا بالبترول، وسعادتنا بالذكر المنزل، لا بالديزل، وفرحتنا بالإسراء والمعراج، لا بالحديد والزجاج، وبهجتنا بالمقام والبيت، لا بالزيت، وتاريخنا بالإعجاز، والإنجاز، والامتياز، لا بالبنزين والغاز.

فقلنا له: اترك من هلكوا وبادوا، وحدثنا عن وصول الراديو، ودعنا ممن يهمزون ويلمزون، وكلمنا عن بث التلفزيون، ومتى وصلكم التليفون، وما كنتم قبله تعرفون، بل بالجهل توصفون.

فقال: أخطأتم التقدير، وخطأ العاقل كبير، اعلموا أننا قبل الصناعة، كنا أهل البراعة، والشجاعة، والذاكرة اللماعة، وأهل الأصالة، والرسالة، والبسالة.

نحنُ الذين روى التاريخ قصَّتَهم ونحنُ أعظم مَنْ في أرضِنا ظهَرا أما تَرى الشمس غارت من مكارمنا والبدر في نورنا العلوي قد سَهرا كان العالم قبل وصولنا غابة، كأن عليه جنابة، وكانت الدنيا قبل ميلادنا في مأتم، تشكو وتتألم، فلما بزغ فجر رسولنا من البطحاء، أشرقت على نوره الأرض والسماء، خيام العدل في بلادنا، وولد الشرف مع ميلادنا، مضرب المثل في الكرم من أوطاننا، وأشجع الناس من ودياننا. نحن بعثنا إلى الدنيا النور، وأزلنا منها الظلم والجور، أذنا في أذن الدنيا فآمنت، ومشينا على جبالها فتطامنت، كنا في الجاهلية الجهلاء، أهل العزة الشماء، فلما جاء الإسلام كنا الأعلام، والصفوة الكرام، شجاعة لو قابلتنا الأسود لهابت، وعزيمة لو طرحت على الصخور لذابت، هنا دار الفضائل، ومنازل القبائل، عندنا قبلة المصلين، وكعبة الطائفين، وملاذ الخائفين، اختارنا الله لدينه أمناء، وعلى الأمانة أوصياء، من دارنا هبت كتائب الفتوحات، وسارت قوافل التضحيات، عندنا محبرة ومقبرة، محبرة لتقييد العلوم، وتسجيل نتاج الفهوم، ومقبرة للغزاة، والمحاربين الطغاة، نحن أول من حمل السيف، وأكرم الضيف، وأبى الحيف.

أرضنا بدماء الشهداء تفوح، وقلوبنا بأسرار التوحيد تبوح، عندنا الذهب الأبيض والأحمر والأسود، فالأبيض علم ينعش الأحياء، من الشريعة السمحاء، والأحمر دماء في عروق الأحرار، وفي شرايين الأبرار، والأسود بترول مدفون في الثرى، يدلف بالحضارة للمدن والقرى.

اندهش الدهر يوم طالع صفحة جلالنا، وهام الزمان يوم أبصر لوحة جمالنا، وتعجب كل جيل يوم قرأ مكارم أجيالنا، وتحطمت جماجم الغزاة على جبالنا.

دافع الله عنا يوم قصدنا صاحب الفيل، فعاد في ثوب ذليل، ورد الله عنا غارة الفرس الكفار، ومزقهم في يوم ذي قار. وأنزل الله نصره علينا في بدر، يوم صعب الأمر، وضاق الصدر، فأيد رسولنا بملائكة مسومين، وكرام معلمين، نحن خرجنا للعالم وفي قلوبنا قرآن نسكبه في قلب من وحد وتشهد، وفي أيماننا سيوف نقطع بها رأس من تمرد وألحد، عندنا قداسة الإنسان، وقداسة البيان، وقداسة الزمان، وقداسة المكان.

فقداسة الإنسان ماثلة في الرسول العظيم والنبي الكريم، وقداسة البيان قائمة في القرآن، الذي أذهل الإنس والجان، وقداسة الزمان، كامنة في عشر ذي الحجة ورمضان، وقداسة المكان في الحرم الطاهر، والمشعر الزاهر. ليس للزمان بدوننا طعم، وليس للتاريخ بسوانا رسم، وليس للناس إذا أغفلنا اسم، نحن شهداء على الناس، ونحن مضرب المثل في الجود والبأس. كأن النور ولد معنا، وكأن البشر لفظ ونحن معنى، جماجمنا بالعزة مدججة، وخيولنا بالعزائم مسرجة، نحن الأمة الوسط، لا غلط في منهجنا ولا شطط، وسط في المكان فنحن قلب الكرة الأرضية، وزعماء الأخلاق المرضية، ووسط في الزمان فلم نأت في طفولة الإنسانية، ولم نتأخر إلى شيخوخة البشرية، ووسط في العقيدة، فنحن أهل التوحيد والمذاهب السديدة، فلم نعتنق رهبانية النصارى، ولم ننهج نهج اليهود الحيارى، بل أمتنا معصومة من الضلالة، مصونة من الجهالة.

نحنُ الذين إذا دعُوا لصَلاتِهم والحربُ تسقي الأرض جاما أحمرا جعلوا الوجوه إلى الحجاز وكبروا في مسمع الكون العظيم فكبرا أليس في بلدنا الركن والمقام، والبلد الحرام، وعندنا عرفات، ومنى حيث الجمرات وزمزم والحطيم، والمشعر العظيم، وفي أرضنا غار حراء، مشرق الشريعة الغراء، ونزل في أرضنا جبريل، على المعلم الجليل، وحمى بيتنا من الفيل، بطير أبابيل. ومنا خالد بن الوليد، وأسامة بن زيد، وطلحة بن عبيد.

وفي دارنا عائشة أم المكرمات، المبرأة من فوق سبع سماوات، وفاطمة البتول، بنت الرسول، طيبة الأصول. وفي أرضنا الحرمان، والبيتان، والعمران، والهجرتان، والبيعتان، والسبطان، والقرآن، والإيمان، والبيان.

نحن أهل عذوبة الألفاظ، والجهابذة الحفاظ، وفي بلادنا سوق عكاظ. نحنُ الذين على خُطَى أمجادهم وقف الزمان مُدَلَّها مَبْهُورا تِيجان عزَّتنا النُّجومُ فلا تَرى غيرَ الوفاءِ وصارما مشهورا في بلادنا البطحاء، حيث انطلقت الشريعة السمحاء. وعندنا نجد الأبية، مطلع شمس العربية، ومنبع المواهب الشاعرية، والخطابية.

ولدينا عسير، حيث المسك والعبير، والجمال منقطع النظير، والذكاء الشهير. ولدينا حائل، أهل الفضائل، أحفاد حاتم الطائي شرف القبائل. ولدينا الحجاز، أهل الفضل والامتياز، والكرم والاعتزاز، ولدينا الأحساء، دار الشرفاء، وبيت الأوفياء.

فغربنا أرض النبوة المحمدية، والسنة الأحمدية، أرض قدمت للعالم أشرف هدية. وشرقنا أرض الخيرات، وبلد المسرات، ودار الهبات، والأعطيات. ووسطنا دار الملك والإمارة، وبيت الجدارة، ومحل الوزارة، والسفارة. وشمالنا أرض الجود، والند والعود، والأسود، وحفظ العهود، وإكرام الوفود. وجنوبنا أرض الهمم الوثابة، والطبيعة الخلابة، والأخلاق الجذابة، والفهم والنجابة، والشعر والخطابة.

نحن كتبنا التاريخ بالدماء، ووصلنا الأرض بالسماء، أنجبنا العلماء، وأنتجنا الحكماء، وأرسلنا للعالم الزعماء، وأهدينا الدنيا الحلماء.

إذا لم يبدأ التأريخ بنا فاعلم أنه منكوس، وإذا لم يثن علينا سفر المكارم فاعلم أنه منحوس. كسرنا سيوفنا في بدر، على رؤوس أهل الكفر، ثم أرسلنا شظاياه لصلاح الدين، في حطين، فقهر بها الملحدين. رددنا في أحد: «قل هو الله أحد» فسحقنا من جحد وقطعنا دابر من فسد.

منا قائد القادسية، الذي أسقط المجوس في الخانة المنسية. ومنا قائد اليرموك، الذي أذهب من رؤوس الروم الشكوك، وصبغ وجوههم بالدم المسفوك. ابدأْ بِنَا في رأس كلِّ صحيفةٍ أسماؤنَا في أصلِها عُنْوانُ وإذا كتبت روايةً شرقيةً فَحَديثُنا مِنْ ضِمْنِها تِيجَانُ نحن أرسلنا بني أمية، ملوكا للديار الشامية. وبعثنا لبغداد بني العباس، أهل الجود والبأس. وجيش الشرك ما أسلم، حتى بعثنا له قتيبة بن مسلم. ومددنا للهند السيف الحاسم، محمد بن القاسم.

من كتب التاريخ وأهمل الجزيرة، فقد ارتكب كبيرة، وأتى بجريرة، كيف يهمل الرسول والأصول، وأهل المنقول والمعقول؟! كيف يأخذ البدن بلا روح، ويجرد البستان من الدوح؟! كيف يبني القصر على غير أساس، ويقيم الجسم بلا رأس؟! تريد المسجد بلا محراب، والمدرسة بلا كتاب، نحن الفصول والأبواب، ونحن السيف والنصاب، لسجل المكرمات كتاب، ولأرقام المجد حساب، وعلى قصر الرسالة حجاب.

نحن قلب المعمورة، وأصحاب المناقب المأثورة، العالم يتجه إلى قبلتنا كل يوم خمس مرات، والدنيا تنصت لندائنا بالصلوات، والكون يستمع لتلاوتنا بالآيات، زارنا بلال بن رباح، فصار مؤذن دولة الفلاح، وجاءنا سلمان من أرض فارس، فلما أسلم صار كأنه على قرن الشمس جالس، ووفد إلينا صهيب من أرض الروم، فأصبح من سادات القوم، من بلادنا تشرق شمس المعارف، ويقام للعلم متاحف، وتنشر للهدى مصاحف، حتى ماؤنا يفوق كل ماء، فماء زمزم شفاء، ومن كل داء دواء، ونحن بيت العرب العرباء، وعندنا سادات الكرماء، ولدينا أساطين النجباء، وأساتذة الحكماء، إن ذكرت الحرب فنحن وقودها، وإن ذكرت الملة فنحن أسودها، وإذا سمعت بالرسالة فنحن جنودها.

بتصرف بسيط عن الشرق الأوسط
 
التعديل الأخير:
تحية للشعب التونسي/د.عائض القرني

تحية للشعب التونسي

الدكتور عائض القرني

مدح الله الشجعان الأقوياء فقال ( وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ ) وقال عمر الفاروق: يعجبني الرجل إذا سيم الخسف أن يقول بملء فيه: لا، وقال للمستبدين: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟ خرج الشعب التونسي رجالا ونساء، كبارا وصغارا، بعد أن طفح الكيل وبلغ الظلم مبلغه والقهر حده، والكبت منتهاه، خرجوا لا يفكرون في الموت ولا يرهبون الرصاص ولا يخافون العواقب كما قال شاعرهم أبو القاسم الشابي:

* إذا الشعب يوما أراد الحياة - فلا بد أن يستجيب القدر

* ولا بد لليل أن ينجلي - ولا بد للقيد أن ينكسر

* ومن يتهيب صعود الجبال - يعش أبد الدهر بين الحفر​

* خرج التونسيون الأبطال يقولون للظلم: لا، ويقولون للقهر: كلا، ويقولون للاستبداد: كفى، ويقولون للطغيان: انتهِ، تحية إجلال وشكر وعرفان وتقدير وإعجاب لكل تونسي وتونسية اندفعوا إلى الشارع بعد ما ذاقوا صنوف الإذلال، وتجرعوا غصص الهوان، واحتسوا كأس المرارة، انفجروا فجأة كما ينفجر البركان، ثاروا مرة واحدة كما يثور البحر الصاخب الهائج المائج، لا الحديد يردعهم، لا السلاح يخيفهم، لا الرصاص يهزمهم، لا النار ترهبهم، لأنهم يريدون الحرية والكرامة والخبز والاستقلال والأمن، شكرا من كل أحرار العالم وعقلاء المعمورة وأشراف الدنيا للشعب التونسي الذي عزم وصمم أن يستعيد إنسانيته المسلوبة، وأمواله المنهوبة، وحقوقه المنتهكة، ليعيش حرا أبيا مستقلا في فكره وكلمته ومستقبله وأرضه، وفي الأخير يخرج عليهم ابن علي ليقول لهم: فهمت عليكم الآن، وهذه الكلمة جاءت في الوقت الضائع كاللاعب الذي يسجل هدفا بعد انتهاء المباراة، وقد رفض الله عز وجل هذه الكلمة من فرعون لما قال بعد ما غرق: ( آمَنْتُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ ) ولكنها كلمة جاءت في الوقت الضائع المهدر، فكانت باهتة سخيفة لا قيمة لها، فقال الله له: ( آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ) أي لا تنفعك ولا تنجيك، إن الشجاع القوي الصادق محبوب من كل عقلاء الدنيا، ولذلك خرج الرئيس الأميركي باراك أوباما يحيي شجاعة التونسيين واستردادهم لكرامتهم، ويحييهم أيضا الرئيس الفرنسي وكل حر عاقل يقول لهم: عاش الإباء، عاشت البطولة، عاشت الشجاعة. مبارك هذا القرار المجيد من الشعب التونسي، لقد تكلم المفكرون والكتاب عربا وعجما، شرقيين وغربيين، عن الظروف التي كان يمر بها شعب تونس، وكنت أستمع لترجمة كتاب لكاتبة فرنسية يتكلم عن الحالة في تونس فإذا الشعب التونسي يعيش الحرمان، والبطالة، والجوع، والكبت، والقهر، والإذلال، ومصادرة الحقوق، وسلب الحريات، وحجب المعلومة، ومحاولة عزله عن العالم، وفتح السجون والمعتقلات له، بل أصبحت الدولة كلها سجنا كبيرا، حينها نفد الصبر، وانتهى الانتظار، وفار التنور وغلا القدر ثم وقع الزلزال، وهذه سنة الله في عباده :
{ ولن تجد لسنة الله تبديلا }.​

عن الشرق الأوسط
 
يوم الغلاة والطغاة/د.عائض القرني

يوم الغلاة والطغاة

الدكتور عائض القرني

الغلاة والطغاة هم مصيبة العالم الإسلامي، فأما الغلاة فهم خوارج على الدين حملوا السلاح على المجتمع، وسفكوا الدم الحرام، وأزهقوا الأرواح المعصومة، وروعوا الآمنين، وشوهوا صورة الإسلام، وأما الطغاة فظلموا العباد، وأفسدوا في البلاد، وصادروا حقوق الناس، وحكموا بغير شرع الله، الغلاة لا يفهمون النص، ولا يعرفون الدليل، ولا يحترمون العلماء، والطغاة ليس لهم شريعة، وما عندهم ضمير، وليس في قلوبهم رحمة، الغلاة اختصروا الإسلام في فهمهم الخاص المشوه، وخرجوا عن الإجماع، ورفضوا التحاكم إلى المنطق والعقل والحجة، والطغاة ألغوا كل صوت إلا أصواتهم، وشطبوا على كل صورة إلا صورهم، وأهدروا كل مصلحة إلا مصلحتهم، وعقلاء العالم وأحرار الدنيا وصناع القرار في الأرض إنما اعترضوا على طائفتين اثنتين في العالم الإسلامي، اعترضوا على الغلاة المتطرفين الإرهابيين، واعترضوا على الطغاة الظالمين المستبدين، فالغلاة تطاردهم الأمة الإسلامية في الكهوف والمغارات والسراديب، لأنهم مشبوهون، والطغاة تطاردهم الشعوب في الميادين العامة والمساجد والجامعات، وتنصب لهم المشانق في السكك والشوارع، لأنهم حاربوا الحياة، وألغوا العدالة وداسوا على الكرامة والحرية والاستقلال، ليس عندنا في العالم الإسلامي مشكلة ولا أزمة إلا من هاتين الطائفتين، فالحوادث والفتن والأزمات والمظالم والخوف والفقر والبطالة والفساد المالي والإداري كلها من صنع الغلاة والطغاة، ولهذا حارب القرآن الغلو في الدين واستبداد الظالمين، ومقت الفساد في الأرض: « أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ »، وكل الذين تكلموا في السياسة الشرعية ذكروا أن أصل المشكلات ورأس الأزمات هم الغلاة والطغاة، فالفرق الضالة إنما خرجت على جماعة المسلمين بالغلو في الدين، والحكام الظلمة لما عطلوا الشريعة قوبلوا بالثورات من الشعوب، فسالت الدماء، وأزهقت الأرواح، وذهب العمران، وضاعت مصالح الناس، وفقد الأمن.
بالاعتدال والعدل يقوم الأمن والسلام، فاعتدال المجتمع على المنهج الوسطي لا إفراط ولا تفريط، وعدل الحكام على ما أنزله الله في كتابه وسنة رسوله، صلى الله عليه وسلم، وإنما هاجمنا الشرق والغرب بعلمائه ولجان حقوقه الدولية ومؤسساته المدنية بسبب الغلاة والطغاة، فالغرب والشرق لم يعترض على مساجدنا بل سمح بها في بلاده، ولم يحارب جامعاتنا وليس له اعتراض على أساليب حياتنا، إنما واجهنا بسبب الغلاة والطغاة، ولو أن الأمة الإسلامية بعلمائها وقضاتها ومفكريها وكتابها وحكمائها ومصلحيها أصلحت داء الغلو والطغيان وقامت بحركة تجديدية إصلاحية تصحيحية توقف الغلو في الدين والظلم عند الحكام لصلح وضعنا، ولهذا تجد أن العدل أساس الحضارة وأصل الازدهار حتى قال ابن تيمية وابن خلدون وغيرهما: «إن الله يؤيد الدولة العادلة ولو كانت كافرة، ويمحق الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة»، هذا هو الداء في العالم الإسلامي، غلو من شباب مراهقين متطرفين، وظلم من حكام مستبدين طاغين، وغياب للمصلحين الناصحين.

وباختصار، وهذه كلمة سر بيني وبينكم: «مشكلات الغلاة والطغاة هي في عالمنا الإسلامي»، والله تعالى قال للغلاة: « يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ »، وقال للطغاة: « فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا ».

عن الشرق الأوسط
 
مصر الجديدة/د.عائض القرني

مصر الجديدة

الدكتور عائض القرني

كأنني رأيت فيما يشبه الأحلام مصر الجديدة بعد 25 يناير، ورأيتها دولة قوية مزدهرة يحكمها العدل ويملأها الأمن ويعمها السلام، لمصانعها هدير، ولمعاملها ضجيج، وجامعاتها تجدد الدماء في جيلها، والعبقرية في أبنائها، ونواديها عامرة بالثقافة والأدب والحوار، مصر الجديدة لا تحتاج إلى استيراد في عالم الزراعة؛ فهي الأرض المباركة أرض البساتين الفيحاء، والحقول الخضراء، والحدائق الغناء، أرض النيل وحاضنة الجيل. مصر الجديدة سوف تزدهر فيها الصناعة والزراعة، ويعود لها مجد المعرفة والعلم والشِّعر والحكمة. مصر الجديدة ليس فيها مصادرة للحريات، ولا قتل للإبداع، ولا ترويع للآمنين، ولا اعتداء على الخصوصيات، ولا احتقار للمواهب، ولا استبداد بالرأي، ولا استحواذ على الثروة. مصر الجديدة سوف تصل بإسلامها إلى ما وصل إليه في عالم الدنيا اليابانيون والصينيون والغربيون. وقد انتهت مصر القديمة يوم 25 يناير، وماتت مصر القديمة (رحمها الله) بعد هذا التاريخ، ودُفنت مصر القديمة (أحسن الله عزاءكم) فيها؛ لأن مصر القديمة لا تصلح لهذا العصر؛ فقد توقف فيها العقل، وماتت فيها الهمة، وأُغلق فيها على العبقرية في زنزانة الإهمال. لقد زرت مصر القديمة أكثر من عشرين مرة، فوجدتها كالعجوز الشمطاء ذهب شبابها، وتغير جمالها، واضمحل جلالها، وخارت قواها، فالتعليم أصبح في الغالب عقيما، وما نبغ من نبغ من المصريين وجلس على النجوم وحاز على الجوائز العالمية إلا لأنه خرج من مصر القديمة؛ كأحمد زويل وزغلول النجار وفاروق الباز وغيرهم، ولو بقوا في مصر القديمة لأُحيلوا على المعاش، وأصابهم الصلع والسكري والضغط والقلق والوسواس القهري؛ لتردي الأوضاع، ومحاربة الطموح، وعكس سنة الحياة.

كانت مصر القديمة تمشي إلى الوراء (إلى الخلف دُرْ) فأصبحت تراوح مكانها، وتستهلك تاريخها، وتأكل جسمها، وكان المفترض على مصر القديمة أن تناصر بداية النجومية مع الأستاذ محمد عبده وشوقي وحافظ إبراهيم والعقاد والمنفلوطي وإبراهيم ناجي وطه حسين والمازني وأحمد أمين، ولكنها للأسف توقفت فجأة، فصارت تشكو قلة الغذاء، وضحالة المعيشة، وكساد المعرفة، وتأخر الثقافة، وتدهور الصحافة، وهزال الأدب والفن الإسلامي. وفي الأخير فرغ صبر المصريين، وانتهى انتظارهم، وكانوا على موعد مع التاريخ، فخرجوا يبحثون عن مصر الجديدة، ويودعون مصر القديمة، خرج أبناء الأبطال وأحفاد الفاتحين وسلالة الأحرار، خرج الذين حطموا خط (بارليف)، والذين هزموا العدوان الثلاثي، والذين صنعوا 6 أكتوبر، خرجوا يريدون الحرية والكرامة والإنسانية والعدل والمساواة، خرجوا يريدون أن يعيدوا لمصر مجدها وتاريخها وكرامتها، خرجوا يعيدون لها جمالها وجلالها وكمالها، خرجوا يريدون المجتمع المدني ودولة المؤسسات التي تؤمّن للإنسان حياته وطعامه وشرابه وفكره وعلمه ومستقبله وسعادته ورُقيّه. أبشّركم بأن مصر الجديدة في ثورة 25 يناير خرجت لتأخذ مكانها في السيادة والقيادة والريادة، خرجت مصر الجديدة لتقول للعالم: أنا لا أرضى إلا بالصدارة، ولا أعشق إلا النجومية، ولا أحب إلا الصف الأول، خرجت مصر الجديدة لتقول: لن أعود إلى الوراء، ولن أرجع إلى الخلف، فمرحبا بمصر الجديدة، ومرحبا بالعبقرية المصرية والإلهام المصري، وأهلا وسهلا بالمصريين قادة التنوير، وأبطال التحرير، وأساتذة الفضيلة، ونجوم الألمعية.

عن الشرق الأوسط
 
الشباب صناع التغيير/د.عائض القرني

الشباب صناع التغيير

الدكتور عائض القرني

كان جيش الرسول - صلى الله عليه وسلم - في بدر شبابا خرجوا معه لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، فحطموا الأصنام، وداسوا الأزلام، وحذفوا رؤوس الأقزام، واستمر الشباب في كل أمة وفي كل جيل يصنعون أملها المنشود ومجدها الموعود.
والذي شرح خاطري في شباب تونس ومصر الذين صنعوا التغيير أنهم جمعوا بين الإيمان والعمل.. الإيمان بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - رسولا، والعمل من أجل حياة كريمة وحضارة راقية ومجتمع سليم معافى، كانوا يصلون الصلوات الخمس في الميدان، ويحفظون الأمن، وينظفون السكك، ويداوون الجرحى، وينظمون المرور، جمعوا بين ثقافة المسجد والمصنع، والمصلى والشركة، والمصحف والميدان، والقلم والمشرط والريشة، فأذهلوا العالم بإيمانهم وصبرهم وثقافتهم.

كنت قبل أسبوع في الهند مع بعض الدعاة السعوديين، فزرنا خمس جامعات في ولاية كجيرات وجمعية العلماء بنيودلهي وندوة العلماء بلكنو، فوجدنا شبابا مؤمنا بالله جمع بين دراسة صحيح البخاري والـ«فيس بوك»، بين التسبيح وتعلم الكيمياء، بين اتباع السنة ودراسة الكون، وكان أستاذهم في الهند الدكتور أبو الكلام الفيزيائي المسلم المصلي الذي اكتشف القنبلة الذرية، فأكرمه الشعب الهندي بأن توجه رئيسا للهند، كان عنده معمل فيزيائي معه ثمانية موظفين، إذا أذن المؤذن ترك العمل، وذهب إلى المسجد، وهذا الذي نريده من الشباب.

وعجبي من شباب مفلسين محبطين فاشلين ليسوا ناجحين في الدين ولا في الدنيا، بل تجدهم متذمرين من الطاعة لله، عندهم خجل من التدين، ما أخذوا من الغرب إلا ركوب الـ«بنز»، ولبس الجنز، فصار أحدهم كالعنز، قلوبهم فارغة من الإيمان، وأدمغتهم فاضية من الثقافة والمعرفة، وهم ممتازون في السهر الضائع وقتل الوقت في نفث سجائر الدخان والأحلام الوردية والوساوس الشيطانية.. صلينا صلاة الجمعة في الهند في اليوم الذي سقط فيه رأس النظام المصري فيما يقارب عشرين ألف شاب مسلم درسوا علم الشريعة والرياضيات والكيمياء والفيزياء، وأخذوا يدعون الله أن ينصر الشعب المصري كما نصر الشعب التونسي، فهم يحملون رسالة الإسلام التي جمعت بين الأبيض والأحمر والأسود، وبين العربي والهندي والفارسي والتركي والكردي وكل أجناس البشر.

إن الأمة الإسلامية لا يصنع تغييرها إلى الأفضل والأجمل والأكمل إلا شباب مؤمن يعترف بالقبلة والمصحف والشريعة، مؤمن بالعمل، وينتشر بعد الصلاة إلى المكتب والثكنة والعيادة والمزرعة والجندية والجامعة والسوق، يشارك في صنع الحياة، فيبني ويعمر، ويخطط ويهندس، ويحرث الأرض، ويبيع ويشتري، ويحرس الأمة، ويكون عضوا صالحا في المجتمع المسلم.

لا نريد شبابا فاجرا يستهزئ بالديانة، ويخون الأمانة، لا يشارك في صنع الحياة، وإنما هو غدة زائدة في الجسم، وصفر مهمل في عدد الأمة، من أين أتتهم الفكرة التي تقول: لن يحصل تقدم دنيوي إلا بالتنكر للدين؟! «كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا». لقد شاهدنا الشباب المسلم الناجح في الشرق والغرب الذي حصل على أعلى الشهادات وأعظم الجوائز في كل تخصص، وهو يحافظ على الصلوات الخمس، ورأينا الشباب الفاشل المهزوم المسحوق وقد تنكر للعبادة، ففشل في الدراسة والوظيفة والإنتاج.. نريد أن نجمع بين المسجد والمصنع، والجامعة والميدان، والمصحف والمختبر، بين المجد في الدنيا والنجاة في الآخرة، وأعوذ بالله من الكفر والفقر والفجور والكسل. يقول الله تعالى في كتابه عن الشباب المؤمن صانع التغيير: «إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى».

عن الشرق الأوسط
 
أحفاد عمر المختار ساجدون لله أمام العالم/د.عائض القرني

أحفاد عمر المختار ساجدون لله أمام العالم

الدكتور عائض القرني

مشهد لا أنساه في حياتي ما عشت، وأنا أنظر عبر الفضائيات إلى أحفاد عمر المختار المجاهد العظيم وهم يصلون في بنغازي بليبيا في ميدان التحرير، وقد سجدوا لله لا إله إلا هو تقدست أسماؤه، وقد أوقف المصور كاميرا التصوير على هذا المشهد المهيب، وقد وضعوا جباههم التي تحمل العزة والكرامة والمجد على التراب، ذلة وعبودية للواحد القهار، العزيز الجبار، وكأنهم يقولون للعالم: بهذا السجود سوف ننتصر. وبهذا السجود انتصر جدنا المجاهد عمر المختار، وبهذا السجود ننطلق إلى نداء الحرية والمجد والعزة والكرامة. لقد زرت البواسل الأبطال في طرابلس وبنغازي في شهر رمضان الماضي، فوجدت التدين الصادق والثقافة الراقية والشجاعة النادرة والكرم الحاتمي، فهم يملأون المساجد في أوقات الصلوات، ويتسابقون على حفظ القرآن « وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ». ما أعظم سجودكم لله رب العالمين أمام العالم يا شعب البطولات والتضحيات، يا من دحرتم الاستعمار، والآن تدحرون الاستبداد. هكذا في لحظة مؤثرة موحية تقف الكاميرا أمام مشهد الساجدين في ميدان التحرير ببنغازي، فكأنها تقول للعالم: انظروا لهؤلاء يسجدون والرصاص على رؤوسهم والموت من بين أيدهم ومن خلفهم، ولكنهم يقولون بلسان الحال: وما قيمة الحياة بلا سجود؟ وما ثمن المجد بلا سجود؟ وهل للحرية طعم بلا سجود؟ وهل للشرف قدر بلا سجود؟
نعم، يسجدون؛ لأن السجود لله فيه إذلال لطغاة البشر، وتحطيم للأصنام، واستعلاء على الباطل، وانتصار على الدجالين الكذابين الأفاكين، نعم، في السجود ثورة على الطغيان، واستعباد البشر، وتسلط الجبناء، وفرعنة الجبابرة، دام مجدكم يا أحفاد عمر المختار، تسجدون أمام العالم على التراب مباشرة لتدوسوا بأقدامكم الشريفة أنوف المتكبرين والمتجبرين، وتقولوا للشرق والغرب: لا نريد الدعم منكم، ولا نبتغي النصر من لدنكم، فالله ينصرنا وحده: « إِن يَنصُرْكُمُ الله فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ ». أنتم أيها الكرام المجاهدون البواسل تصفعون الباطل على وجهه بهذا السجود، وتهينون المستبدين العتاة بهذا السجود، تسجدون وأنتم في حرب تحرير، وفي ميدان مقاتلة، والدماء تضرج بمسكها جدرانكم وتضمخ بطيبها ميادينكم، تسجدون لله بعدما دفنتم الشهداء البررة من أبنائكم، تسجدون لله ولا تخافون من الدبابات أو الصواريخ أو المقاتلات؛ لأن معكم القوة العظمى: « يا أَيُّهَا الَّذِين آمَنُوا إِن تَنصُرُوا الله يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ». إن سجودكم وأنتم في ساح الوغى رسالة واضحة للعالم، وهي أنكم تريدون العزة من الله، والانتصار على الطاغوت، والحياة الكريمة، والحرية الراشدة، والاستقلال الأبدي، والمجد السرمدي، من الذي في قلبه ذرة إيمان ولا يهتز ضميره أو تتأجج عواطفه أو تسيل دموعه وهو يراكم يا أهل بنغازي تسجدون لله وأنتم في ساحة حرب وفي ميدان قتال وفي معركة بقاء وعزة وكرامة؟ الله ما أعظمها من لحظة وأنوفكم وجباهكم على الطين تعظيما لقاهر المستبدين وقاصم الطغاة المتجبرين، يقول شوقي:

قد يهون العمر إلا ساعة *وتهون الأرض إلا موضعا​
السلام عليكم في الخالدين يا أحفاد عمر المختار، وتحية من كل شرفاء وأوفياء وأحرار العالم، لقد دفعتم ثمن المجد فنلتم المجد بجدارة وحق، فيكم قول الشاعر:

ثمن المجد دمٌ جُدْنا به * فاسألوا كيف دفعنا الثمنا​

عن الشرق الأوسط
 
يا دعاة الإسلام الزموا الوحي/د.عائض القرني

يا دعاة الإسلام الزموا الوحي

الدكتور عائض القرني

الأصل في الداعية أن يكون على منهج الأنبياء عليهم السلام في لزوم الوحي والدعوة إلى التوحيد الخالص وتعليم الناس سبيل النجاة في الآخرة، مع توجيههم في أمور دنياهم التوجيه الديني، أما أن يترك الداعية هذا المنهج ويتحول إلى تخصصات أخرى باسم الدعوة إلى الله فهذا خطأ؛ فتجد الكثير من الدعاة تركوا فقه الكتاب والسنة وإصلاح عقائد الناس وتقويم أخلاقهم. وذهبوا إلى حقول إدارة الوقت وفن التعامل مع الآخر واكتساب الأصدقاء وإدارة العلاقات الاجتماعية وفن الخطابة وقضايا الحب والتحدث عن المستحضرات التجميلية والفنون التشكيلية. وهذه التخصصات لها روادها والمتخصصون فيها، بل أصبحت هناك دورات تدريبية لكثير من الدعاة برسوم مالية في مشاريع دنيوية باسم الدعوة إلى الله تحت مسميات اكتساب المهارات وتنمية القدرات وتقوية اللياقات والمواهب، فلا آية ولا حديث ولا كتاب ولا سنة.
وأنا أعرف أن ديننا الإسلامي هو للدنيا والآخرة ولكل شؤون الحياة، لكن هناك مسلمين قائمين بهذه التخصصات؛ لأنهم قضوا حياتهم في تعلمها كالمهندس والطبيب والصيدلي والعسكري والمزارع والنجار والخياط والبناء وغيرهم، فيأتي الداعية فيترك تخصصه الشرعي في تعليم الناس ودعوتهم بالحكمة والموعظة الحسنة وإصلاح عقائدهم وتهذيب أخلاقهم، يترك هذا ويذهب يزاحم أهل التخصصات الأخرى، فيدخل في دورات ليس له فيها علم، ولم يدرسها أصلا ولكن ركوبا للموجة، وموافقة للموضة، واستفادة من الشهرة، تحت مفهوم أن الشريعة فيها صلاح كل شأن وتقويم كل اعوجاج، وهو كلام صحيح، ولكن تطبيقه من الدعاة خطأ، فأصبح بعضهم يجيب على الهواء مباشرة عن مسائل الحلال والحرام، والشؤون العسكرية، والسلم والحرب، والاقتصاد والتجارة، والأسهم والبنوك والبورصة، والعلاقات الدولية، والزلازل والبراكين، والكوارث الطبيعية، والمحاصيل الزراعية، وأزمة الغذاء، والماء والهواء والبطالة، وتحسين الأجور، والعمل والعمال، والتاريخ والجغرافيا، والطب الشرعي والطب البديل، وعلم النفس والاجتماع والفلسفة، والمشاركة في بعض الاكتشافات والاختراعات والكيمياء والفيزياء والسيمياء. فلا يعرف الاعتذار من أي جواب، ولا قول لا أدري، وكأن الله جمع فيه علم الشافعي والبخاري وابن سينا وابن خلدون والمتنبي والغزالي وشكسبير، فله إلمام بكل شيء، واطلاع على كل شيء بلا حدود ولا قيود ولا ضوابط، وأغلبها كلام في كلام، ونقطة من هنا ونقطة من هناك، المهم أن عنده مشاركة وهمة وتفاعلا اجتماعيا ودورات تدريبية وسكرتارية ولجنة إعلامية، فأين المنهج النبوي الصحيح من لزوم الوحي والتمسك بمنهج الأنبياء عليهم السلام في غرس الإيمان في النفوس وتعليم الناس العبادة والخلق الحسن وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر في سهولة ويسر ورفق وحكمة بلا تشدد ولا تكلف؟

وانظر لسيرة الأئمة من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين والمجددين كيف لزموا علم الشريعة ومسائل الإيمان وعلم الحلال والحرام، وتركوا التشدق والتفيهق والتنطع، فبارك الله في جهودهم، ونفع بدعوتهم، واهتدى بعلمهم خلق كثير، ثم إن هذا اللون الحادث الطارئ من الدعوة ما سمعنا به في آبائنا الأولين، فليس له مثيل ولا شبيه.

فيا دعاة الإسلام راجعوا أنفسكم، والزموا الوحي، وعودوا للكتاب والسنة، واحترموا التخصصات الأخرى التي ما درستموها، فلها أبطالها وجهابذتها، وقد كفوكم تبعتها، ورحم الله امرءا عرف قدر نفسه.

عن الشرق الأوسط
 
الصحيح أننا لا نقاتل إلا من قاتلنا/د.عائض القرني

الصحيح أننا لا نقاتل إلا من قاتلنا

الدكتور عائض القرني

لشيخ الإسلام ابن تيمية رسالة بعنوان «قتال الكفار ومهادنتهم وتحريم قتلهم لمجرد كفرهم»، حققها الدكتور عبد العزيز بن عبد الله الزير، وهي رسالة مهمة ومؤصلة، ونحن في أمس الحاجة إليها في هذا العصر الذي فتح فيه قتال الكفار على مصراعيه من جماعات كثيرة باسم الإسلام ينقصها كثيرا العلم الشرعي المؤصل، يقول ابن تيمية: الكفار إنما يقاتلون بشرط الحراب كما ذهب إليه جمهور العلماء وكما دل عليه الكتاب والسنة. وقال تلميذه ابن القيم: ولأن القتل إنما وجب في مقابلة الحراب لا في مقابلة الكفر، ولذلك لا يقتل النساء ولا الصبيان ولا الزمنى والعميان ولا الرهبان الذين لا يقاتلون، بل نقاتل من حاربنا. ولم يكره - صلى الله عليه وسلم - أحدا قط على الدين وإنما كان يقاتل من يحاربه، وأما من سالمه وهادنه فلم يقاتله ولم يكرهه على الدخول في دينه امتثالا لأمر ربه سبحانه.
وفي رسالة ابن تيمية هذه تحقيق وتدليل لهذا القول الصحيح.. أننا لا نقاتل من الكفار إلا من قاتلنا. وهو رأي جمهور العلماء، أما إطلاق المسألة ومقاتلة غير المسلمين بحجة الكفر ولو لم يقاتلونا فهذا غير صحيح، ويجر علينا من المفاسد والشر والأضرار ما لا يعلمه إلا الله، فالواجب نشر هذا القول الذي دل عليه الكتاب والسنة، وهو أن من سالمنا من الأمم سالمناه، وأننا لا نكره أحدا على الدين، وأنه لا يجوز لنا أن نفتح حربا مع العالم بذريعة أنهم كفار ولا نحمل السلاح عليهم إلا إذا حملوا السلاح علينا، بل ينبغي لنا أن ندعوهم بالحكمة والموعظة الحسنة ولا نرغمهم على اعتناق ديننا تحت التهديد والوعيد، بل ينبغي أيضا أن نفي معهم بالعقود والمواثيق التي لا تخالف ديننا ما داموا ملتزمين بها، ولا نقاتلهم وهم مسالمون لنا حتى يقاتلونا. وعلى هذا فإن نقل المعركة إلى دول الشرق والغرب بحجة كفرهم منهج ليس بصحيح ورأي ليس بسديد، وقد وقع على المسلمين من آثار هذا المسلك أضرار عظيمة وأشرار وخيمة وشوه الإسلام عند غير المسلمين، ووقع فساد عظيم في الأنفس والأموال والأعراض، وما ذاك إلا لأن من قام بهذا القتال شباب لا يحملون علما راسخا ولا فهما لمقاصد الشريعة ولا معرفة لفقه المصالح والمفاسد.

ومن يقرأ رسالة ابن تيمية هذه يقتنع تماما بهذا القول الصحيح الذي دلنا عليه ابن تيمية وساق البراهين الساطعة والحجج القوية وكلام أئمة الإسلام بحيث انتهى إلى هذا القول الذي فيه الخير العظيم لأمة الإسلام والحل الصحيح لما ابتليت به من فتنة تحت مسمى الجهاد، وهو في كثير من صوره اعتداء لا جهاد. وإني أهيب بالعلماء والدعاة ووسائل الإعلام أن تنشر هذه الرسالة القويمة والحجج المستقيمة التي أوردها هذا العالم الرباني والإمام الموفق المجدد شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - فقد أوضح أن الإسلام دين رحمة وعدل وإنصاف، وأنه بريء من العدوان والظلم والحيف حتى على غير المسلمين. وأقول: لو عملنا بمدلول هذه الرسالة لحصل للأمة الإسلامية الخير العظيم من انتشار الإسلام وكثرة معتنقيه وإظهار سماحته ويسره وما فيه من تعاليم جليلة وآداب جميلة اشتملت على مصالح العباد والبلاد. فبالله عليكم، أنأخذ بكلام هذا الإمام المحقق الذي دل عليه الكتاب والسنة وكلام أئمة الدين، أم نأخذ بكلام شاب غر قليل البضاعة بالعلم ضحل التجربة فقير المعرفة بالواقع والمصالح والمفاسد؟!

عن الشرق الأوسط
 
حضارة الإنسان قبل حضارة المكان/د.عائض القرني

حضارة الإنسان قبل حضارة المكان

د. عائض القرني

جميل أن تكون لدينا طرق معبدة وشوارع واسعة وحدائق منظمة، وأجمل من ذلك أن يكون عندنا أمة واعية وشعب مثقف وجيل متعلم موهوب، زراعة الأفكار في أدمغة العباقرة أعظم وأجل من زراعة النخيل في البساتين الفيحاء، احترام الذوق العام والاعتناء بالنظام وترتيب شؤون الحياة والتزود من العلم والمعرفة أنفع لنا من نوافير تضخ الماء في الميادين العامة، ومن ناطحات سحاب تختال في السماء، ومن أبراج عاجية تمتطي الجو. إن صناعة الإنسان إنجاز كبير تقوم به الدول المتحضرة؛ لأن الاستثمار في الإنسان أغلى وأثمن من الاستثمار في المكان، نحن في الشرق نهتم بالبناء والحيطان والجدران والآثار، وهذا جميل، لكن الأجمل منه الاهتمام بغرس الفضيلة في النفوس والرحمة في الأرواح والمعرفة في الأذهان؛ لأن الإنسان محور الحضارة ونقطة الانطلاق إلى آفاق الرقي والازدهار، ماذا تنفعنا فنادق فارهة وجسور عملاقة وقاعات واسعة مع حشود من الجهلة والمتخلفين الصادين عن العلم النافع والمعرفة الراقية والخلق الكريم؟! إن الإنسان الجاهل الهمجي يخرب العمران ويفسد المكان، إن القطيع من الهمجيين الغوغائيين المنحرفين يتحولون حتى في المدن الراقية إلى لصوص وقطاع طرق ومحاربين وشبكات من المخربين ومروجي الأفكار السامة والأعمال الهدامة، نريد صناعة بشر بنور الوحي على أرض الرسالة يسقى بماء الهمة ويكسى بجلباب الأدب الجميل والسلوك الراقي، تعال بإنسان مؤمن متعلم منظم مرتب إلى قرية مبعثرة بالية فسوف يحولها إلى روضة أنس ومهرجان معرفة وساحة عمل وإنتاج، وتعال بإنسان متخلف سفيه طائش أهوج بليد إلى حي راق منظم مرتب جميل فسوف يحول الحي إلى سوق من الضوضاء والهمجية وإلى أطلال بالية بفساد ذوقه وقبح نفسه وسوء تصرفه وذميم أفعاله! في العالم العربي تقام حدائق للحيوان فيؤتى بأسد من أوغندا وحية من كينيا وثعبان من السنغال وفيل من الهند وثور من إسبانيا وبغل من رومانيا، ثم يصرف على الحديقة ملايين في الغذاء والنظافة والترتيب والحراسة والدواء والسكن، ولكن الجمهور المتفرج في حاجة إلى مال يتعلم به وينظف جسمه ويصحح أفكاره ويغسل ثوبه ويشبع بطنه ويصرف على أسرته ويعلم أبناءه، ولكن للأسف تجد الكثير من هذا الجمهور المتفرج على الحيوان المكرم المعتنى به جاهلا أميا محدود المعرفة ساقط الهمة عديم الذوق! في الدول النامية المتخلفة يهتم فيها بالصورة والمظاهر والظاهرة الصوتية والقوالب على حساب المضمون والمدنية والرقي والنظام والذوق العام والمعرفة. وفي الدول المتحضرة يهتم فيها بالمعاني وقيمة الإنسان وتنمية الفكر وتربية الموهبة وتثقيف الإنسان والاهتمام بالنابغين والتنافس في الريادة العلمية. إن العبرة بالسيف الصارم لا بذنبه الجميل، فلو ألبست إنسانا جاهلا منحطا سفيها تاجا على رأسه ونياشين على أكتافه وأوسمة على صدره لبقي صفرا كحاله الأول لا يزداد إلا انحطاطا وضعة وخفة، ولو ألبست عالما موهوبا منتجا عاملا أسمالا بالية وثيابا ممزقة لبقيت قيمته وجلاله ورزيته في نفسه ولما ضره لباسه. وفي الحديث الصحيح قوله - صلى الله عليه وسلم: « إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم » (رواه مسلم).

عن الشرق الأوسط​






 
المسلمون على درجات في التدين/د.عائض الفرني

المسلمون على درجات في التدين

الدكتور عائض القرني

ينبغي على المسلم أن يكون عادلا رحيما؛ فلا يظلم في أحكامه ولا يقسو في أفعاله، وليقبل سائر المسلمين على مستوياتهم بالتدين؛ فنحن - المسلمين - في التدين كطلاب الجامعة؛ منهم المقبول والجيد والممتاز، وقد قسم القرآن أهل الإيمان إلى ثلاثة مستويات ووعدهم بالرحمة والمغفرة جميعا، فقال تعالى: « ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ »، فالمسلمون منهم العالم الرباني والعابد القانت الخاشع والملتزم بالواجبات التارك للكبائر، ومنهم الظالم لنفسه بارتكاب بعض المنهيات وترك بعض الواجبات، فهم على درجات متفاوتة بالالتزام بالدين، وهم بحاجة إلى من يدعوهم برحمة ويعاملهم برفق لاختلاف عقولهم ومداركهم وتباين أفكارهم وكثرة الشبهات والشهوات وضعف اليقين والصبر عند الكثير منهم، وليس بصحيح أن يقال في المجتمع المسلم: فئة المتدينين أو رجال الدين؛ لأننا كلنا رجال دين من العلماء والمسؤولين والأطباء والمهندسين والكتاب والجنود والتجار وغيرهم، فعلى المسلم أن يتعامل مع إخوانه المسلمين ويقبلهم على اختلاف مستوياتهم في التدين.
وقد كان رسول الهدى صلى الله عليه وسلم يعامل المسلمين جميعا، بل عموم الناس بالعدل والحكمة والرفق، وكان يحضر مجلسه كبار الصحابة والأعراب والشعراء والأغنياء والفقراء، بل حضر اليهود والنصارى مجلسه، وأطعمهم ودعاهم بالرفق إلى دينه العظيم، حتى إنك تجد في الصحابة الأمير والعالم والعابد والشاعر والخطيب والمجتهد في التدين والمقصر على مستويات متباينة، ومقصودي من هذا أن لا نقصي طائفة داخل المجتمع المسلم لأنها لم تتشاغل بالعلم الشرعي؛ فإن لها حق الإسلام وحرمة الدين وأخوة لا إله إلا الله، فلا يقال: المتدينون والرياضيون والكتاب تحت مقصد إضفاء التدين على طائفة واحدة، بل كلهم مسلمون، بل يقال طلبة العلم والرياضيون والكتاب وهكذا؛ لأن نصب الحواجز بين أبناء الدين الواحد على غير سبب شرعي ليس منهجا صحيحا، والغلاة من كل طائفة يستثيرون خصومهم ويستفزون من يخالفهم فيرد عليهم بالمثل من الاستثارة والغلو والتنابز بالألقاب والسب والشتم، فتجد بعض المتدينين لقلة بضاعته من العلم في خصومة مع من خالفه من المسلمين، حتى في فروع المسائل يرى أنه يجب على المسلمين اتباع رأيه، وتجد بعض غلاة الكتاب يرد على المتدينين بأبشع الأوصاف وأقبح الألفاظ مما يقسم المجتمع ويثير في النفوس العداوة والبغضاء، ولو اتسعت صدورنا وارتفعت هممنا لخاطبنا إخواننا المسلمين بألطف العبارات وأجمل الأساليب؛ فإن الآراء لا تصحح بالسب والشتم، والبراهين لا تعرض بالتهديد والوعيد، لأن الحجة الصادقة الناصعة تكفي بنفسها في إثبات الحق. فرجائي أن نعترف بمستويات التدين وأن نقبل الناس على علاتهم، ولا نزكي أنفسنا، والله أعلم بمن اتقى، ولسنا نحن من يحاسب الناس، وليست في أيدينا الرحمة أو العذاب، وليست في جيوبنا مفاتيح الجنة، ونحن لم نخلق الناس ولم نرزقهم، بل نحن عبيد مثلهم.

وقد يكون بعض الناس ممن لا يشار له بالبنان أفضل عند الله ممن اشتهر بالتدين إما لسريرة صادقة أو عمل خاص متقبل أو خاتمة حسنة، فادعوا الخليقة بالرفق وعاملوهم بالعدل واشملوهم بالرحمة، وليكن إمامنا في ذلك سيد ولد آدم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم الذي قال له ربه: « فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ».

عن الشرق الأوسط​
 
العرب طلقوا الدنيا فتزوجها الغرب/د.عائض القرني

العرب طلقوا الدنيا فتزوجها الغرب

الدكتور عائض القرني

يردد بعض الوعاظ في خطبهم قول الناظم:
إن لله عبادا فطنا * طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا​
وهذا البيت له معنى صحيح وخاطئ، أما المعنى الصحيح فإن عباد الله لا تشغلهم الدنيا عن طاعة الله ولا يجعلون الدنيا أكبر همهم ولا مبلغ علمهم ولا غاية قصدهم بل يجعلونها ممرا للآخرة، والمعنى الخاطئ هو رفض الدنيا بالكلية وعدم التزود من حلالها وترك عمارها والله يقول: « هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا » أي لتقوموا بعمارتها، وكان الشيخ محمد الغزالي المفكر الإسلامي يقرأ هذا البيت هكذا:

إن لله عبادا فطنا * طلقوا الدنيا فتزوجها الغرب​
وكلامه صحيح، فبعد أن أسس أجدادنا في القرون السابقة المفضلة أروع حضارة عرفها الإنسان تخلف العرب في عصور الانحطاط الحضاري والثقافي إلى أن صاروا يستجدون الشرق والغرب في باب الحضارة الدنيوية والوسائل المادية، وإلا فمن الذين عمروا عواصم العالم بالعلم والمعرفة إلا المسلمون الأوائل؟، أما أرسل أجدادنا أشعة النور والرقي والتمدن من مكة والمدينة والقاهرة ودمشق وبغداد والزيتونة والقيروان وقرطبة والحمراء والزهراء وأقاموا أقسام الفقه والتأريخ وعلم الاجتماع والكيمياء والفيزياء والأحياء والطب والهندسة؟، وأسماء العباقرة المسلمين تزدان بها العواصم الغربية إلى اليوم، ثم وصل بنا الحال إلى أن صار غالبنا قبل عشرات السنوات أعرابا يرعون الإبل والغنم ولا يعلمون أن تحت أقدامهم آبار البترول والغاز حتى وفد الخواجة أزرق العينين أشقر الشعر من قبيلة بني الأصفر من أسرة بني الأشقر فأخرج البترول والغاز ومد الأنابيب وأقام المصافي وجهز البراميل وصنع ناقلات البترول كالمدن العظيمة وأخرج من البترول والغاز عشرات الأنواع من البتروكيماويات فصنع بها آنية وملابس وحقائب ووسائل للحياة وأخذنا نلبس ونأكل ونرقص حاملين الهراوى والمشاعيب ونردد:
خبر إسرائيل واللي وراها وأخبروه عن بطولاتنا وأصبحنا نهدد الحلف الأطلسي وحلف النيتو، وهذا لا يجوز لأن فيه تخويفا وإرهابا لهذه القوى العظمى الضاربة، ولا أدري لماذا العرب إلى اليوم يتركون العلوم العملية الميدانية التطبيقية ويكتفون بالعلوم التنظيرية والقصص الخيالية والأسمار والأشعار كقصة داحس والغبراء وعبس وذبيان ونقائض جرير والفرزدق التي تقرر على الطلاب في المراحل المتقدمة ليتعلم الطالب فن السب والشتم والانتقام. أما مراكز البحوث والاكتشاف والاختراع فقد ظفر بها بنو الأصفر فملكوا بها العالم واستولوا على خيرات الأرض، فكل ما في بيتك أيها العربي الآن هو من صنع الخواجات واقرأ موسوعة: (إبداع الخواجة، في صنع الثلاجة، وتركيب الزجاجة، وإثبات أن من لا يسعى للمجد دجاجة)،
أين تطبيق العرب للقرآن وهو يدعوهم للعمل والجد والمثابرة وعمار الأرض واستخراج خيراتها والإنتاج والإتقان والإبداع. والواجب على العرب أن يتواضعوا وأن يخففوا من شرب خمر المديح الذي ما قتل بعوضة ولا أقام نهضة، ولكن الأمل معقود في الله وبشائر الأمل موجودة في جيل جديد موهوب صاعد مسلم أصبح الآن في بلادنا وغيرها يأخذ مقعده اللائق به في كل مجالات التقدم والرقي والحضارة والمدنية:

« وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ».


عن الشرق الأوسط
 
رد: العرب طلقوا الدنيا فتزوجها الغرب/د.عائض القرني

الموضوع كله اختصرته مقولة الامام علي رضي الله عنه
اللهم اجعلها في ايدينا ولا تجعلها في قلوبنا
فقط اخي نبيل
 
عودة
أعلى