هذه واحدة من أروع المعارك البحرية في عصر الدولة العثمانية، والتي تجلت فيها كل معاني البذل والتضحية والصبر والثبات أمام الشدائد، وهي المعركة التي حطمت كبرياء وهيبة أعظم ملوك أوروبا في حقبة ما بعد العصور الوسطى، وهو الإمبراطور شارل الخامس أو شارلكان ملك أسبانيا والبرتغال وألمانيا وهولندا والنمسا وإيطالي وهي الدول التي كانت تشكل قديمًا ما يسمى بالإمبراطورية الرومانية المقدسة.
سقوط الأندلس وأثره على شمال إفريقيا
على الرغم من أن دولة الإسلام في الأندلس قد سقطت نهائيًا في 21 محرم سنة 879هـ ، إلا إن الصراع بين الأسبان الصليبيين والعالم الإسلامي لم يتوقف أو ينتهي، فما إن أحكم الأسبان قبضتهم على الأندلس حتى وثبوا مباشرة بعدها على العالم الإسلامي مدفوعين هم والبرتغاليون بشحنات ضخمة من الغل والحقد والكراهية على العالم الإسلامي عامة ومسلمي شمال إفريقيا خاصة، لأنهم كانوا طرفًا أساسيًا في معادلة الصراع الخالدة بين الإسلام والنصرانية على أرض الأندلس، فتدخل مسلمي الشمال الإفريقي المتكرر أنقذ دولة الإسلام من السقوط عدة مرات، ولولا فضل الله عز وجل بتقييض هؤلاء الأبطال لنجدة مسلمي الأندلس لسقطت الأندلس من قبل ذلك التاريخ (897هـ) بقرون.
ومن ثم كان سقوط الأندلس نذير حرب لا تهدأ وتيرتها ضد الشمال الإفريقي، وقد تبارى كل من الأسبان والبرتغاليين في الهجوم على السواحل الإفريقية، فاستولى الأسبان على تونس والجزائر واستولى البرتغاليون مدن أسفى وأزمور والكثير من المراكز الجنوبية في المغرب الأقصى، كما استولوا أيضًا على طنجة وسبتة.
لم يقف مسلمو الشمال الأفريقي مكتوفي الأيدي أمام هذه التهديدات الصليبية المتتالية وكان مسلمو الأندلس الذين هاجروا إلى بلاد الشمال الإفريقي أكثر الناس استجابة لداعي الجهاد، وكانوا في الأصل خبراء ومهرة في مجال الجهاد البحري، فانتظموا في عمليات قتالية بحرية ضد السفن الأسبانية والبرتغالية لرد عدوان تلك القوى الصليبية عن الشمال الإفريقي، مما زاد من وتيرة الصراع بين الجانبين.
الدولة العثمانية والشمال الإفريقي
كان لدخول السلطان العثماني سليم الأول لبلاد مصر في أواخر سنة 922هـ الأثر البالغ في تقوية الأساطيل البحرية العثمانية، وتطلع الدولة لمد نفوذها إلى سائر دول الشمال الإفريقي، بعدما اعتبر السلطان سليم الأول خليفة للمسلمين وحامي بلاد الحرمين، وكان لظهور شخصية البطل خير الدين بابروسا على ساحة الأحداث في الجزائر دور كبير في تسريع وتيرة انضمام الشمال الإفريقي للدولة العثمانية.
فقد تمكن خير الدين بابروسا بمساعدة أخويه الشهيدين عروج وإلياس أن يسيطر على الجزائر وينتصر على ولاة الأسبان وعملائهم من بني حمود وغيرهم، ونظرًا لخطورة وحساسية الأوضاع داخل الجزائر وتربص الأسبان بهم، طلب الجزائريون من السلطان سليم الأول أن يدخلوا في حماية الدولة العثمانية، وأن ينصب عليهم خير الدين بربروسا حاكمًا وقائدًا عامًا للقوت المدافعة عن الجزائر، وذلك سنة 925هـ، فوافق السلطان سليم الأول على الفور ومنح خير الدين بربروسا لقب القائد الأعلى للقوات المسلحة، وأمده بالعتاد والرجال وفتح المجال لمن يشاء في السفر إلى الجزائر للانضمام لصفوف المجاهدين، ومنح المتطوعين مزايا الجنود النظاميين تشجيعًا منه للهجرة إلى الجزائر.
حقق خير الدين بربروسا نجاحات باهرة في القتال البحري ضد الأسبان، كما قضى على بقايا الجيوب الموالية للأسبان مثل حصن البنيون الذي استولى عليه بعد معركة بحرية طاحنة سنة 934هـ، كما قضى خير الدين على مؤامرات بني زيان وبني حفص الموالين للأسبان، وفي سنة 936هـ نجح خير الدين في توجيه ضربات قوية ضد السواحل الأسبانية عندما قاد 36 سفينة في سبع رحلات متتالية لإنقاذ آلاف المسلمين من نير محاكم التفتيش والاضطهاد الصليبي في أسبانيا.
قرر الإمبراطور شارل الخامس مواجهة نشاطات خير الدين البحرية، بطريقة "لا يفل الحديد إلا الحديد" ، فاستعان بخدمات القبطان الجنوبي الشهير "أندريا دوريا" وكان من أمهر قادة البحر النصارى، وربما الأمهر على مر العصور، فشرع في بناء أسطول ضخم واستعان بخبرات فرسان القديس يوحنا بعد طردهم من جزيرة رودس، وبدأ "دوريا" في الهجوم البحري على ثغور الدولة العثمانية، فاستدعى السلطان سليمان القانوني البطل خير الدين بربروسا إلى إستانبول وعينه قائدًا عامًا للبحرية العثمانية، فشرع خير الدين في تجديد البحرية العثمانية وتحديثها، ولما تكاملت استعداداته خرج للقاء عدوه اللدود "أندريا دوريا" فانتصر عليه في عدة معارك بحرية واسترجع كورون وليبانتو وتونس، وأغار على سواحل إيطاليا الجنوبية وجزيرة صقلية وبسط النفوذ العثماني على غربي البحر المتوسط.
وبعد توقيع المعاهدات التي عرفت تاريخيًا بالامتيازات الأجنبية بين الدولة العثمانية وفرنسا، تصاعدت وتيرة العمليات الحربية البحرية ضد السواحل الأوروبية، واهتزت أوروبا بأسرها من روع هذه العمليات، وهدد بابا روما ملك فرنسا "فرانسوا الأول" بالحرمان الكنسي إذا لم ينقض عهده مع العثمانيين فوافق دون تردد، فغضب خير الدين من هذه الخيانة واستولى على معظم جزر بحر إيجه، مما أدى إلى تشكيل حلف صليبي بحري كبير بقيادة دوريا، غير أن خير الدين قد أوقع بهذا الحلف البحري هزيمة كبرى عند "يريفيزا" في ألبانيا.
إزاء كل هذه النجاحات الكبيرة للبحرية العثمانية وقائدها البطل خير الدين بربروسا، قرر شارل الخامس القيام بعمل كبير يحفظ له هيبته ومكانته بين ملوك أوروبا، فاستغل فرصة انشغال الدولة العثمانية بالحرب ضد الشيعة الروافض الصفويين في بلاد فارس والعراق، وهجم على تونس بأسطول بحري ضخم مكون من 500 سفينة وثلاثين ألف مقاتل أسباني وهولندي وألماني وإيطالي وصقلي وذلك سنة 942هـ، وحاول خير الدين وقف هذا الهجوم الضخم ولكنه لم يستطع لأسباب كثيرة من أهمها خيانة الأمير الحسن بن محمد الحفصي حاكم تونس، وفرار الأعراب عن الجهاد، والتفاوت الواسع بين الجانبين.
عاد خير الدين إلى الجزائر في مهمة مؤقتة لالتزاماته كقائد عام للبحرية العثمانية، وتمثلت هذه المهمة في ردع شارل الخامس عن فكرة الهجوم على الجزائر والرد عليه بصورة عملية وقوية على احتلال تونس، فأغار خير الدين على جزر البليار، واجتاز مضيق جبل طارق، وانقض على السفن الأسبانية والبرتغالية العائدة من أمريكا حملة بالثروات وذلك سنة 943هـ.
بعدها عاد خير الدين إلى إستانبول لمباشرة مهام عمله والذي كان يتركز عادة في الحوض الشرقي للبحر المتوسط وترك القائد حسن الطوشي نيابة عنه في ولاية الجزائر على أن يستمر في التصدي للبحرية الأسبانية والبرتغالية في الحوض الغربي للبحر المتوسط، فأدى حسن الطوشي مهمته على أفضل ما يكون فأنزل بالأسبان عدة هزائم بحرية جعلت الأمم النصرانية تتشكك في كفاءة وقيادة عاهلها الأكبر الإمبراطور شارل الخامس، حتى أن البابا بول الثالث بعث إليه برسالة بهذا المعنى حاثًا له فيها على الهجوم على الجزائر للقضاء على حركة الجهاد البحري القوية هناك.
معركة باب الواد الأسطورية
عزم شارل الخامس على القيام بحملة صليبية كبيرة تستهدف القضاء على حركة الجهاد البحري في الحوض الغربي للبحر المتوسط، وقد أخذ مباركة صليبية من الباب بول الثالث، وانطلق بأسطول ضخم يقدر بأكثر من خمسمائة سفينة من ميناء برشلونة، فوصل إلى شواطئ الجزائر العاصمة في 28 جمادى الآخرة سنة 948هـ / 15 أكتوبر 1541م، فجمع حسن الطوشي قادة الجند وأمراء البحر والأعيان وكبار رجال الدولة، وشرح لهم خطورة الأمر، ونية شارل الخامس، وحثهم على الجهاد والدفاع عن الدين والأرض والعرض، وقد ألهب حماسهم عندما قال لهم: "لقد وصل العدو عليكم ليسبي أبناءكم وبناتكم، فاستشهدوا في سبيل الدين الحنيف ...." فبايعوه جميعًا على الجهاد والثبات.
أخذ حسن الطوشي في إعداد أساطيله البحرية وقواته البرية وأخذ في تحصين قلعة ميناء الجزائر بمنتهى النشاط والجدية، فتعجب شارل الخامس من استعدادته، فأرسل إليه بخطاب يفيض غطرسة وسخرية يريد من ذلك تحطيم معنويات المدافعين وقد هدده فيها بتخريب البلاد كلها وقتل السكان جميعًا، فرد عليه حسن الطوشي بالقول العمل معًا، إذ أرسل إليه يقول: "غزت أسبابا الجزائر في عهد عروج مرة وفي عهد خير الدين مرة، ولم تحصل على طائل، بل انتهبت أموالها، وفنيت جنودها، وستحصل المرة الثالثة كذلك إن شاء الله، فتعالى واستلم القلعة، ولكن لهذه البلاد عادة، أنه إذا جاءها العدو، لا يعطى إلا الموت".
هذا كان الرد بالقول، أما الرد بالعمل فلقد أرسل في نفس الليلة إلى معسكر شارلكان رسولاً يطلب منه السماح للنساء والأطفال وكبار السن بمغادرة المدينة عبر باب الواد وفي ذلك إشارة واضحة على عزم حسن الطوشي ورجاله على الدفاع عن المدينة حتى آخر رمق في حياتهم.
على ما يبدو أن شارل الخامس لم يكن يتوقع ذلك الإصرار والثبات من أهل الجزائر في ظل غياب القائد خير الدين بربروسا، وقد اتضح ذلك جليًا في عدم إنزاله لمدفعية الحصار حتى وصول رسالة حسن الطوشي إليه، فأمر في الحال بإنزال القوات الأسبانية إلى البر، فلم يمهلهم المجاهدون الجزائريون شيئًا لالتقاط الأنفاس، فهجموا على الفور بكل قوة وشجاعة رغم ضخامة القوات الأسبانية البرية، وكان مجاهدو الجزائر بهاجمون الصليبيين على شكل الأمواج المتتالية، فوج بعد فوج.
وكان الجزائريون قد أقبلوا من كل مكان عندما علموا بنزول الصليبيين إلى البر الجزائري، وكأن السموات والأرض ومن فيهن يقاتل مع العصبة المؤمنة، وقد سخر الله عز وجل الريح والأمواج العاتية والأمطار الغزيرة لصالح جنود الإسلام، فقد هبت ريح عاصف استمرت عدة أيام فاقتلعت خيام الصليبيين، وارتطمت سفنهم بعضها ببعض، فغرق كثير منها بمن عليها، وقذفت الأمواج الهادرة بعض السفن إلى الشاطر فأخذه المسلمون غنيمة باردة، أما الأمطار فقد أفسدت مفعول البارود.
بعد فشل الهجوم البحري حاول شارلكان مهاجمة مدينة الجزائر بفرقة الخيالة الأسبانية بالاشتراك مع فرسان القديس يوحنا، فتصدت لهم فرقة الحاج البشير قائد خيالة الجزائر، وكما هو معلوم عبر التاريخ بكل مراحله أن المجاهدين المخلصين لا يستطيع أحد مهما كانت قوته وتعداده أن يصمد أمامهم في ميادين القتال المفتوحة حيث القتال فيها رجل لرجل، وبعد خسارة ضخمة في الأرواح اضطر شارل الخامس أن ينسحب بفلول جنوده، وركب ما تبقى من أسطوله واتجه ناحية إيطاليا بدلاً من أسبانيا.
نهاية شارل الخامس
كما أسلفنا من قبل كان شارل الخامس أو شارلكان أكبر ملوك النصرانية في حقبة ما بعد العصور الوسطى، وكان إمبراطورًا على الدولة الرومانية المقدسة التي تشمل معظم دول أوروبا، لذلك كان فشله على أبواب الجزائر للمرة الثالثة ضربة عميقة الأثر لهيبة ونفوذه ومكانته، وتطورت الأحداث في أوروبا بشدة، وانضم العديد من ملوك أوروبا إلى حلف فرنسا والدولة العثمانية، مثل ملك الدانمارك وملك السويد، ولم يبق على ولائه لشارل الخامس سوى هنري الثالث ملك إنجلترا.
ولم يعد شارل الخامس قادرًا على توجيه حملات كبيرة إلى الشمال الإفريقي، وأخذ في تغيير خططه والاعتماد على الخونة والعملاء من بقايا الأسر القديمة مثل بني زيان وبني وطاس وغيرهم وهو التكتيك الذي ما زال أعداء الإسلام يتبعونه مع الأمة الإسلامية.
فهل من معتبر في تكرار الأحداث والليالي بنفس الصبر والدروس
موقع قصة الإسلام
http://islamstory.com/ar/معركة-باب-الواد-الأسطورية
سقوط الأندلس وأثره على شمال إفريقيا
على الرغم من أن دولة الإسلام في الأندلس قد سقطت نهائيًا في 21 محرم سنة 879هـ ، إلا إن الصراع بين الأسبان الصليبيين والعالم الإسلامي لم يتوقف أو ينتهي، فما إن أحكم الأسبان قبضتهم على الأندلس حتى وثبوا مباشرة بعدها على العالم الإسلامي مدفوعين هم والبرتغاليون بشحنات ضخمة من الغل والحقد والكراهية على العالم الإسلامي عامة ومسلمي شمال إفريقيا خاصة، لأنهم كانوا طرفًا أساسيًا في معادلة الصراع الخالدة بين الإسلام والنصرانية على أرض الأندلس، فتدخل مسلمي الشمال الإفريقي المتكرر أنقذ دولة الإسلام من السقوط عدة مرات، ولولا فضل الله عز وجل بتقييض هؤلاء الأبطال لنجدة مسلمي الأندلس لسقطت الأندلس من قبل ذلك التاريخ (897هـ) بقرون.
ومن ثم كان سقوط الأندلس نذير حرب لا تهدأ وتيرتها ضد الشمال الإفريقي، وقد تبارى كل من الأسبان والبرتغاليين في الهجوم على السواحل الإفريقية، فاستولى الأسبان على تونس والجزائر واستولى البرتغاليون مدن أسفى وأزمور والكثير من المراكز الجنوبية في المغرب الأقصى، كما استولوا أيضًا على طنجة وسبتة.
لم يقف مسلمو الشمال الأفريقي مكتوفي الأيدي أمام هذه التهديدات الصليبية المتتالية وكان مسلمو الأندلس الذين هاجروا إلى بلاد الشمال الإفريقي أكثر الناس استجابة لداعي الجهاد، وكانوا في الأصل خبراء ومهرة في مجال الجهاد البحري، فانتظموا في عمليات قتالية بحرية ضد السفن الأسبانية والبرتغالية لرد عدوان تلك القوى الصليبية عن الشمال الإفريقي، مما زاد من وتيرة الصراع بين الجانبين.
الدولة العثمانية والشمال الإفريقي
كان لدخول السلطان العثماني سليم الأول لبلاد مصر في أواخر سنة 922هـ الأثر البالغ في تقوية الأساطيل البحرية العثمانية، وتطلع الدولة لمد نفوذها إلى سائر دول الشمال الإفريقي، بعدما اعتبر السلطان سليم الأول خليفة للمسلمين وحامي بلاد الحرمين، وكان لظهور شخصية البطل خير الدين بابروسا على ساحة الأحداث في الجزائر دور كبير في تسريع وتيرة انضمام الشمال الإفريقي للدولة العثمانية.
فقد تمكن خير الدين بابروسا بمساعدة أخويه الشهيدين عروج وإلياس أن يسيطر على الجزائر وينتصر على ولاة الأسبان وعملائهم من بني حمود وغيرهم، ونظرًا لخطورة وحساسية الأوضاع داخل الجزائر وتربص الأسبان بهم، طلب الجزائريون من السلطان سليم الأول أن يدخلوا في حماية الدولة العثمانية، وأن ينصب عليهم خير الدين بربروسا حاكمًا وقائدًا عامًا للقوت المدافعة عن الجزائر، وذلك سنة 925هـ، فوافق السلطان سليم الأول على الفور ومنح خير الدين بربروسا لقب القائد الأعلى للقوات المسلحة، وأمده بالعتاد والرجال وفتح المجال لمن يشاء في السفر إلى الجزائر للانضمام لصفوف المجاهدين، ومنح المتطوعين مزايا الجنود النظاميين تشجيعًا منه للهجرة إلى الجزائر.
حقق خير الدين بربروسا نجاحات باهرة في القتال البحري ضد الأسبان، كما قضى على بقايا الجيوب الموالية للأسبان مثل حصن البنيون الذي استولى عليه بعد معركة بحرية طاحنة سنة 934هـ، كما قضى خير الدين على مؤامرات بني زيان وبني حفص الموالين للأسبان، وفي سنة 936هـ نجح خير الدين في توجيه ضربات قوية ضد السواحل الأسبانية عندما قاد 36 سفينة في سبع رحلات متتالية لإنقاذ آلاف المسلمين من نير محاكم التفتيش والاضطهاد الصليبي في أسبانيا.
قرر الإمبراطور شارل الخامس مواجهة نشاطات خير الدين البحرية، بطريقة "لا يفل الحديد إلا الحديد" ، فاستعان بخدمات القبطان الجنوبي الشهير "أندريا دوريا" وكان من أمهر قادة البحر النصارى، وربما الأمهر على مر العصور، فشرع في بناء أسطول ضخم واستعان بخبرات فرسان القديس يوحنا بعد طردهم من جزيرة رودس، وبدأ "دوريا" في الهجوم البحري على ثغور الدولة العثمانية، فاستدعى السلطان سليمان القانوني البطل خير الدين بربروسا إلى إستانبول وعينه قائدًا عامًا للبحرية العثمانية، فشرع خير الدين في تجديد البحرية العثمانية وتحديثها، ولما تكاملت استعداداته خرج للقاء عدوه اللدود "أندريا دوريا" فانتصر عليه في عدة معارك بحرية واسترجع كورون وليبانتو وتونس، وأغار على سواحل إيطاليا الجنوبية وجزيرة صقلية وبسط النفوذ العثماني على غربي البحر المتوسط.
وبعد توقيع المعاهدات التي عرفت تاريخيًا بالامتيازات الأجنبية بين الدولة العثمانية وفرنسا، تصاعدت وتيرة العمليات الحربية البحرية ضد السواحل الأوروبية، واهتزت أوروبا بأسرها من روع هذه العمليات، وهدد بابا روما ملك فرنسا "فرانسوا الأول" بالحرمان الكنسي إذا لم ينقض عهده مع العثمانيين فوافق دون تردد، فغضب خير الدين من هذه الخيانة واستولى على معظم جزر بحر إيجه، مما أدى إلى تشكيل حلف صليبي بحري كبير بقيادة دوريا، غير أن خير الدين قد أوقع بهذا الحلف البحري هزيمة كبرى عند "يريفيزا" في ألبانيا.
إزاء كل هذه النجاحات الكبيرة للبحرية العثمانية وقائدها البطل خير الدين بربروسا، قرر شارل الخامس القيام بعمل كبير يحفظ له هيبته ومكانته بين ملوك أوروبا، فاستغل فرصة انشغال الدولة العثمانية بالحرب ضد الشيعة الروافض الصفويين في بلاد فارس والعراق، وهجم على تونس بأسطول بحري ضخم مكون من 500 سفينة وثلاثين ألف مقاتل أسباني وهولندي وألماني وإيطالي وصقلي وذلك سنة 942هـ، وحاول خير الدين وقف هذا الهجوم الضخم ولكنه لم يستطع لأسباب كثيرة من أهمها خيانة الأمير الحسن بن محمد الحفصي حاكم تونس، وفرار الأعراب عن الجهاد، والتفاوت الواسع بين الجانبين.
عاد خير الدين إلى الجزائر في مهمة مؤقتة لالتزاماته كقائد عام للبحرية العثمانية، وتمثلت هذه المهمة في ردع شارل الخامس عن فكرة الهجوم على الجزائر والرد عليه بصورة عملية وقوية على احتلال تونس، فأغار خير الدين على جزر البليار، واجتاز مضيق جبل طارق، وانقض على السفن الأسبانية والبرتغالية العائدة من أمريكا حملة بالثروات وذلك سنة 943هـ.
بعدها عاد خير الدين إلى إستانبول لمباشرة مهام عمله والذي كان يتركز عادة في الحوض الشرقي للبحر المتوسط وترك القائد حسن الطوشي نيابة عنه في ولاية الجزائر على أن يستمر في التصدي للبحرية الأسبانية والبرتغالية في الحوض الغربي للبحر المتوسط، فأدى حسن الطوشي مهمته على أفضل ما يكون فأنزل بالأسبان عدة هزائم بحرية جعلت الأمم النصرانية تتشكك في كفاءة وقيادة عاهلها الأكبر الإمبراطور شارل الخامس، حتى أن البابا بول الثالث بعث إليه برسالة بهذا المعنى حاثًا له فيها على الهجوم على الجزائر للقضاء على حركة الجهاد البحري القوية هناك.
معركة باب الواد الأسطورية
عزم شارل الخامس على القيام بحملة صليبية كبيرة تستهدف القضاء على حركة الجهاد البحري في الحوض الغربي للبحر المتوسط، وقد أخذ مباركة صليبية من الباب بول الثالث، وانطلق بأسطول ضخم يقدر بأكثر من خمسمائة سفينة من ميناء برشلونة، فوصل إلى شواطئ الجزائر العاصمة في 28 جمادى الآخرة سنة 948هـ / 15 أكتوبر 1541م، فجمع حسن الطوشي قادة الجند وأمراء البحر والأعيان وكبار رجال الدولة، وشرح لهم خطورة الأمر، ونية شارل الخامس، وحثهم على الجهاد والدفاع عن الدين والأرض والعرض، وقد ألهب حماسهم عندما قال لهم: "لقد وصل العدو عليكم ليسبي أبناءكم وبناتكم، فاستشهدوا في سبيل الدين الحنيف ...." فبايعوه جميعًا على الجهاد والثبات.
أخذ حسن الطوشي في إعداد أساطيله البحرية وقواته البرية وأخذ في تحصين قلعة ميناء الجزائر بمنتهى النشاط والجدية، فتعجب شارل الخامس من استعدادته، فأرسل إليه بخطاب يفيض غطرسة وسخرية يريد من ذلك تحطيم معنويات المدافعين وقد هدده فيها بتخريب البلاد كلها وقتل السكان جميعًا، فرد عليه حسن الطوشي بالقول العمل معًا، إذ أرسل إليه يقول: "غزت أسبابا الجزائر في عهد عروج مرة وفي عهد خير الدين مرة، ولم تحصل على طائل، بل انتهبت أموالها، وفنيت جنودها، وستحصل المرة الثالثة كذلك إن شاء الله، فتعالى واستلم القلعة، ولكن لهذه البلاد عادة، أنه إذا جاءها العدو، لا يعطى إلا الموت".
هذا كان الرد بالقول، أما الرد بالعمل فلقد أرسل في نفس الليلة إلى معسكر شارلكان رسولاً يطلب منه السماح للنساء والأطفال وكبار السن بمغادرة المدينة عبر باب الواد وفي ذلك إشارة واضحة على عزم حسن الطوشي ورجاله على الدفاع عن المدينة حتى آخر رمق في حياتهم.
على ما يبدو أن شارل الخامس لم يكن يتوقع ذلك الإصرار والثبات من أهل الجزائر في ظل غياب القائد خير الدين بربروسا، وقد اتضح ذلك جليًا في عدم إنزاله لمدفعية الحصار حتى وصول رسالة حسن الطوشي إليه، فأمر في الحال بإنزال القوات الأسبانية إلى البر، فلم يمهلهم المجاهدون الجزائريون شيئًا لالتقاط الأنفاس، فهجموا على الفور بكل قوة وشجاعة رغم ضخامة القوات الأسبانية البرية، وكان مجاهدو الجزائر بهاجمون الصليبيين على شكل الأمواج المتتالية، فوج بعد فوج.
وكان الجزائريون قد أقبلوا من كل مكان عندما علموا بنزول الصليبيين إلى البر الجزائري، وكأن السموات والأرض ومن فيهن يقاتل مع العصبة المؤمنة، وقد سخر الله عز وجل الريح والأمواج العاتية والأمطار الغزيرة لصالح جنود الإسلام، فقد هبت ريح عاصف استمرت عدة أيام فاقتلعت خيام الصليبيين، وارتطمت سفنهم بعضها ببعض، فغرق كثير منها بمن عليها، وقذفت الأمواج الهادرة بعض السفن إلى الشاطر فأخذه المسلمون غنيمة باردة، أما الأمطار فقد أفسدت مفعول البارود.
بعد فشل الهجوم البحري حاول شارلكان مهاجمة مدينة الجزائر بفرقة الخيالة الأسبانية بالاشتراك مع فرسان القديس يوحنا، فتصدت لهم فرقة الحاج البشير قائد خيالة الجزائر، وكما هو معلوم عبر التاريخ بكل مراحله أن المجاهدين المخلصين لا يستطيع أحد مهما كانت قوته وتعداده أن يصمد أمامهم في ميادين القتال المفتوحة حيث القتال فيها رجل لرجل، وبعد خسارة ضخمة في الأرواح اضطر شارل الخامس أن ينسحب بفلول جنوده، وركب ما تبقى من أسطوله واتجه ناحية إيطاليا بدلاً من أسبانيا.
نهاية شارل الخامس
كما أسلفنا من قبل كان شارل الخامس أو شارلكان أكبر ملوك النصرانية في حقبة ما بعد العصور الوسطى، وكان إمبراطورًا على الدولة الرومانية المقدسة التي تشمل معظم دول أوروبا، لذلك كان فشله على أبواب الجزائر للمرة الثالثة ضربة عميقة الأثر لهيبة ونفوذه ومكانته، وتطورت الأحداث في أوروبا بشدة، وانضم العديد من ملوك أوروبا إلى حلف فرنسا والدولة العثمانية، مثل ملك الدانمارك وملك السويد، ولم يبق على ولائه لشارل الخامس سوى هنري الثالث ملك إنجلترا.
ولم يعد شارل الخامس قادرًا على توجيه حملات كبيرة إلى الشمال الإفريقي، وأخذ في تغيير خططه والاعتماد على الخونة والعملاء من بقايا الأسر القديمة مثل بني زيان وبني وطاس وغيرهم وهو التكتيك الذي ما زال أعداء الإسلام يتبعونه مع الأمة الإسلامية.
فهل من معتبر في تكرار الأحداث والليالي بنفس الصبر والدروس
موقع قصة الإسلام
http://islamstory.com/ar/معركة-باب-الواد-الأسطورية