حرب أكتوبر في الاستراتيجية العالمية
في ساعة الصفر بدأت الضربة الجوية الكبرى: (240) طائرة من القاذفات المقاتلة انطلقت إلى أعماق سيناء لتدك فيها مطارات العدو وقواعده الجوية وطائراته الجاثمة على الأرض. وكان أبرز أهداف الغارة الضاربة هي مطارات المليز وتمادة والسر والجفجافة شرق الحائط الجبلي، ثم القاعدة الجوية في العريش في أقصى شمال شبه الجزيرة ومطار رأس نصراني في أقصى جنوبها. هذا فضلاً عن مراكز الرادار والتشويش في أم خشيب وأم مرجم والطاسة وغيرها على المحور الأوسط، مما شل الجهاز العصبي للعدو الجوي، واضطره إلى نقل قيادته الجوية إلى العريش.
وفي اللحظة نفسها التى انقضت فيها طائراتنا على أهدافها في أعماق العدو، انطلقت المدفعية الثقيلة البعيدة المدى 2000 مدفع كاملة، مضافاً إليها قوة صواريخ أرض - أرض كاملة- تقصف في قصفات متصلة لا تنقطع نيرانها ساعة كاملة مواقع العدو المختلفة في الشريط الغربي من سيناء: نقط خط بارليف الحصينة، بطاريات المدفعية، تجمعات الاحتياطي الأمامية والخلفية، التكتيكية والتعبوية. وهكذا كان للمدفعية بعشرات آلاف الطلقات دور أساسي في التمهيد النيراني الجبار للعبور وفي تغطية وتأمين إقامة رؤوس الجسور على الضفة.
من ناحية أولى قامت المدفعية بتدمير وإسكات مدافع ورشاشات العدو التى تطل من فتحات ومزاغل خط بارليف، وأجبرت قواته بذلك على البقاء داخل نقط الخط تاركة الرد على مدفعيتنا لمدفعيته في العمق، مما أدى إلى ترك ساحة الشاطئ الشرقي مفتوحة للقوات المصرية العابرة. (يلاحظ أن المدفعية الإسرائيلية ضعيفة نسبياً بصورة تقليدية نظراً لتركيز العدو بشدة على سلاح طيرانه).
ومن ناحية أخرى فإنها كانت السلاح الأساسي في التصدي لدبابات ومدرعات العدو في المرحلة التي لم يكن لنا فيها على الضفة الشرقية إلا قوات المشاة قبل أن تنتقل إليها المدرعات والأسلحة الثقيلة.
ومن ناحية ثالثة فإنها شغلت مدفعية العدو في عملية سبق مثيلها دون عبور غزو حقيقي، وبذلك أبعدت أنظاره عن حقيقة الغزو وشتت انتباهه عن عملية العبور إلى حين. وأخيراً فإنها هي المدفعية التي تكفلت بتدمير احتياطاته التكتيكية والتعبوية التي كانت معدة للتعامل مع قواتنا في حالة أي عبور كامل، وبذلك حدت من فرص وإمكانيات المقاومة في لحظات النزول الأولى على الضفة الشرقية. وبهذا كله نجحت المدفعية في "اقتطاع" مقدمة الجبهة مؤقتاً من دائرة دفاعات العدو لتنفرد قواتنا بالمسرح حراً خلال ساعات الحسم الثمينة، تماماً مثلما نجحت الضربة الجوية في تعطيل دفاعاته في العمق فأصيب بالشلل المؤقت.
تحت هذا القوس الناري المحدب الهائل، وفي حمايته الوثيقة وفى اللحظة نفسها التي انطلق فيها، بدأت أولى مراحل التحرك الأرضي، وهذه المرحلة الأولى كان قوامها المهندسين والمشاة. ففي صمت تام، ومن مواقعها المحددة والمنتخبة بدقة، انزلق إلى الماء في هدوء، أسطول من زوارق المطاط، 1000 قارب، صغيرة كما هي خفيفة، وكذلك من المركبات البرمائية جنوب البحيرات المرة شمال بحيرة التمساح وتحمل عدة آلاف بعضهم من المهندسين والكباري والمعابر... لفتح ثغرات المرور في السد الترابي ولإبطال مفعول أنابيب النابالم، والبعض من المشاة والصاعقة الكوماندوز لتأمين رؤوس تلك الجسور والتعامل المباشر مع طلائع العدو وصد وتصيد دباباته وبث الألغام في مصاطبها لمنعها من الحركة والتدخل.
ولقد كانت عملية مد الجسور والمعابر عملية حيوية بالغة الدقة والحرج والتعقيد، إذ لابد لها أن تتم بسرعة وكفاءة حتى تحت نيران المعركة الكثيفة. فبينما كانت الزوارق تعبر بأقصى سرعتها إلى المواضع المحددة لإقامة رؤوس الكباري على الضفة الشرقية، كانت مدفعيتنا تركز نيرانها على خطين طوليين في تلك المواضع، تنقطهما نقطة تقريباً بقذائفها الثقيلة خلخلةً لأجناب السد الترابي وتمزيقاً لشبكة أسلاكه الشائكة وتفجيرا لحقول ألغامها.
وتلك الخطوة البارعة كانت بدورها تمهيداً لعمل مضخات المياه الجبارة أو مدافع الماء التي سلطت عليها فبدأت تنهار رمالها وأتربتها تحت قوة تعريتها حتى تحولت إلى أخاديد وفجوات في عرض الحائط الساتر. وهنا ينبغي أن نلاحظ أنه بينما ركزت المدفعية الثقيلة نيرانها وقصفاتها على قطاعات المحاور الاستراتيجية الثلاثة بصفة خاصة، ركزت مدافع الماء عملها على القطاع الجنوبي من القناة حيث الأرض مضرسة مرتفعة، وطبيعة تكوينات الساتر الترابي طَفْلية وصلصالية لا تساعد كثيراً على عمليات التجريف وإنما تتحول تحت الماء إلى كتلة طينية لزجة متماسكة صماء، زلقة للمشاة وللآليات والمركبات. كذلك كان تراب الساتر يتساقط إلى القناة فيطميها، فيعوق إرساء الجسور، فكان لابد من إزالة الإطماء فورا وبسرعة، وكان لابد كذلك من تسليط المضخات على أعالي الساتر ثم على أسافله منعاً للإرساب. ولقد كان هذا هو السبب في تأخر عملية مد الجسور والمعابر في هذا القطاع بعض الوقت. يبد أن العملية في جملتها تمت بنجاح عظيم، وقد تم فيها شق 85 ثغرة في الساتر الترابي أزيل فيها من مكعبات الحفر في ساعة إلى بعض ساعات ما كان يحتاج إلى عمل نصف مليون رجل- ساعة بالطريقة التقليدية، كذلك تمت إقامة 10 أو 11 من الكباري العائمة الثقيلة Pontoon bridges، و10 أخرى للمشاة، ونحو 50 معدية، وذلك كله في بضع أو عدة ساعات. وهذه هي الشبكة العابرة التي ستنقل الجسم الأساسي للقوة الضاربة والتي ستصبح الشريان الحامل لتدفق الهجوم.
هذا عن دور الوحدات الهندسية. أما دور المشاة فقد كان ضروياً لتأمين رؤوس الكباري على الضفة. وكانت هذه المهمة بالغة الأهمية والحرج لأن معناها أن على المشاة أن يتصدوا، وحدهم وإلى أن يتم إنشاء الجسور، لقوات العدو المدرعة ومدفعيته الثقيلة، ولهذا فإن الساعات القليلة التي استغرقها مد الجسور ثم تدفق أسلحتنا الثقيلة من المدرعات والمدفعية، والتي تقدر في مجموعها بما يتراوح بين 12 ، 24 ساعة، كانت فترة فائقة الخطر وبمثابة عنق الزجاجة في العملية كلها، ولكنها بنجاح، بمثير، تمت، فمثلاً حتى في القطاع الجنوبي الذي تعطلت فيه إقامة الجسور بعض الوقت كما رأينا لم تصل الأسلحة إلا بعد يومين أو ثلاثة، فظلت فيها المشاة وحدها في الميدان ولكنها تسيدته بالدرجة نفسها التي حققتها في بقية قطاعات الجبهة.
والسؤال الذي يفرض نفسه هنا على التو هو: كيف، كيف حدث هذا؟ ولماذا؟ والرد مباشر كما هو بسيط: فلقد سُلح الرجال، الذين تخففوا إلى أقصى حد ممكن من كل ما ليس للقتال بصفة مباشرة سواء من المعدات أو التموين، سُلحوا بصواريخ الكتف الخفيفة المضادة للدبابات وللطائرات، ومدوا بعربات جر يدوية صغيرة مبتكرة يحملونها الأسلحة الأثقل ويعتلون بها الساتر الترابي، كما زودوا بسلالم خشبية وسلالم من الحبال يتسلقون بها الساتر، وهكذا، بالسلالم المتحركة والحبال، والأظفار أيضاً، اقتحم المشاة والصاعقة وقناصة الدبابات الساتر وانطلقوا للتعامل مع العدو.
وإذا عدنا للنظر قليلاً إلى عملية العبور في مجملها، فسنجد عدة حقائق لافتة لها مغزاها، فهي أولاً تمت على طول امتداد القناة من البحر إلى الخليج، 170-180كم، أو نحو 100 ميل. وبهذا فإن جبهة الهجوم المصرية شملت القناة برمتها، رغم أن جبهة المواجهة المباشرة تدور حول 100كم منها فقط، وذلك لوجود قطاعات ذات طبيعة جغرافية خاصة تخرجها من المواجهة. وأهم هذه القطاعات هي سهل الطينة الهش على الضفة الشرقية إزاء بحيرة المنزلة، ثم قطاع بحيرة التمساح والبحيرات المرة شديدة الاتساع بحيث لا تصلح لعبور قوات كبيرة ولكن من الواضح أن الخطة المصرية اختارت عمداً وعن وعي أن يغطى الهجوم جبهة القناة بكامل أبعادها بين البحرين، والسبب أن هذا الانتشار يوزع دفاع العدو ويشتت هجومه المضاد وخاصة منه الجوي، كما يربك العدو في تحديد اتجاه مجهودنا الرئيسي ويعطل بالتالي رد فعله إزاءه.
كذلك يلاحظ أن العدد الذي أقيم من الجسور والمعابر كان أقل من المطلوب فعلاً للعبور. ولكنه كان كافيا لإرباك العدو وتشتيته وخداعه، ولأن يكفل احتياطيات وبدائل تحسباً لأية إصابة قد تحدث، ولأن يفيد من قطاعات القناة الضحلة أو الضيقة، وأخيراً لأن يبتعد بصورة مأمونة عن مواضع نقط العدو القوية على طول خط بارليف.
وبالفعل فلقد تم فيما بعد، حين مرت الفترة الحرجة، اختزال هذا العدد إلى 3 فقط ضمت فيها الجسور إلى بعضها البعض في المواقع الاستراتيجية الأساسية. ففي بداية العملية كان هناك 3 حبسور على القطاع الجنوبي بين خليج التمساح والقنطرة، اثنان منها جنوب جزيرة البلاح واثنان شمالها، وحين ضمت هذه الجسور والمعابر تركزت أمام محاور سيناء الاستراتيجية الثلاثة، أي قطاعات السويس، والإسماعيلية، والقنطرة.
المبارزة
وبديهي جداً أن هذه الجسور والمعابر، الحبل السري وخط الحياة بين جانبي القوات الزاحفة، كانت الهدف الرئيسي الذي ركز عليه العدو نيرانه، وخاصة من الجو، بصورة مجموعة. وفي وجه هذا الخطر لجأت الخطة إلى تكنيكات دينامية أفشلت كل محاولاته. فمن ناحية دأبت القوات المصرية على تحريك مواقع الكباري بمرونة فائقة وسرعة من مكان إلى آخر. ومن ناحية أخرى أطلقت ستارة كثيفة من الدخان تحجب الرؤية وتمنع إصابة الأهداف، ومن ناحية ثالثة أقامت بعض الجسور الخداعية ودفعت عليها بقوات هيكلية ركز عليها العدو فبددت جهوده وشغلته عن الجسور الحقيقية. وهكذا.
وفي النتيجة فشل العدو في تدمير شيء من الكباري أو المعابر ولم ينل منها بالكاد، على العكس تماما من دعايته الدولية (والكاذبة) في هذا الصدد. وفي الحالات القليلة التى حدثت بها إصابات كان إصلاحها يتم في دقائق ويستمر العبور بلا توقف. ولو أن من الجدير بالذكر، كما يقول كتاب حرب رمضان، "أن معظم الكباري أصيبت وأعيد إصلاحها أكثر من خمس مرات..." (في 7 أكتوبر أعلنت إسرائيل أنها دمرت "ربما كل" الجسور التي أقامها المصريون، وأن المعارك تدور "على حافة المياه" وأنها ستستعيد السيطرة على الضفة الشرقية خلال 24 ساعة أو 48 ساعة. وفي 9 أكتوبر أعلنت أنها "تخلت" عن خط بارليف، وأن الحرب ستكون طويلة وصعبة جدا، وأن الخسائر الإسرائيلية كبيرة!).
فبعد ساعات من بدء العبور، رد العدو بالهجوم الجوي الشامل خلال الليل وتحولت السماء إلى نهار بفعل المشاعل الجوية، وبلغ عدد الطائرات المغيرة أكثر من 250 طائرة، أي أكثر من نصف سلاح العدو، حتى إذا كان الصباح، حاول العدو أن يعود إلى أسلوبه في يونيو 1967 بضربة جوية خاطفة ومكثفة على ارتفاع منخفض جدا، ولكن طائراته فوجئت بصواريخنا القصيرة المدى من طراز سام 7 إلى جانب المدفعية والرشاشات تتصيدها عن قرب أو ترغمها على الارتفاع فورا، فتتسلمها صواريخنا البعيدة المدى من طراز سام 2، و3 ولكن بالأخص 6 فتتسافط قنابلها بعيدا عن أهدافها أو تتساقط هي نفسها محطمة أو محترقة.
6 أكتوبر في الاستراتيجية العسكرية
منذ الحرب العالمية الثانية، أكبر ملحمة عسكرية كوكبية في التاريخ البشري، وفي ظل العصر النووي نفسه، لم تحُدث حرب ما انقلابا في الفكر الاستراتيجي والنظريات العسكرية مثلما فعلت حرب أكتوبر، فبإجماع كل الخبراء العسكريين، قادة ونقادا، محترفين ومؤرخين، جاءت حرب أكتوبر "ثورة" استراتيجية جذرية كاملة قلبت معظم مفاهيم الحرب التقليدية وغير التقليدية، وثوَّرت كثيرا من قواعد الجغرافيا العسكرية، وجعلت من الضروري إعادة كتابة "كتاب الحرب" من أساسه. ولقد كانت هذه النتيجة هي كبرى مفاجآت هذه المعركة، لا تقل عن مفاجأتها هي نفسها.
الحرب الكورية مثلاً، وحرب الهند - الباكستان، وحتى حرب فيتنام الممطوطة التي استمرت سنين عددا، كانت كلها حروبا تقليدية رغم حداثتها وعصرية الأسلحة التي استخدمت فيها، حتى حرب يونيو، التى اعتمدت على نظرية الحرب الخاطفة... لم تقدم جديداً ثورياً بالقياس إلى نموذجها الأصلي الذي ابتكرته ألمانيا الهتلرية في الحرب الثانية، ومن هنا أصبحت حرب أكتوبر تجربة جديدة، مدرسة جديدة، انكبت عليها دوائر الجيوش والأكاديميات العسكرية والمعاهد0 الاستراتيجية، تعكف على نتائجها ومغازيها ومدلولاتها ومحمولاتها وسيمضي وقت طويل بالتأكيد قبل أن تأخذ هذه النتائج كل أبعادها وأعماقها الكاملة.
على أن الشيء الذي يمكن القطع به من الآن بكل اطمئنان وثقة هو أن المعركة أثبتت أصالة وجدة كلتاهما حقيقة ومحققة من ناحية الاستراتيجية تخطيطاً وتنفيذاً وتطويعاً واستخداما للسلاح. إنها في كل هذه المجالات تختلف اختلافا بيناً عن كل الحروب المحدودة وغير المحددة التي شهدها العالم منذ الحرب الثانية. وهذا هو بالفعل مدار تفردها ومحور الاهتمام العالمي الملتهب بها.
ومما لن يتطرق إليه شك أن المعركة قد أضافت زائدة أصلية محددة وغير تقليدية ولا مسبوقة، وأثبتت بذلك أن المدرسة العسكرية العربية، خاصة المصرية، قد ساهمت مساهمة مبتكرة وفذة في الفن العسكري، ضربت بها أرضاً جديدة بكراً في العلم الاستراتيجي والحربي. والمعركة، باختصار، أثبتت أن العسكرية العربية قد انتقلت، ربما أولَ مرة، من مرحلة التلمذة الحربية والنقل إلى مرحلة الإبداع والابتكار.
وأبسط دليل على هذا أن جيوش العالم بدأت تأخذ عن المعركة كثيراً من خبراتها ودروسها، ومن إنجازات العسكرية العربية بعض خطوطها التكنولوجية والهندسية وخططها الاستراتيجية والتكتيكية، على سبيل المثال، دشم مخابئ الطائرات المصرية المبكرة منذ ما بعد يونيو اقتبس منها حلف الأطلنطي الكثير كما يقال، وفي هذا قال وزير الدفاع الأمريكي بأسلوب مباشر "ليس ثمة على الإطلاق غير الدشم وسيلة لحماية الطائرات من إغارة الطيران المنخفض". وبالمثل اقتبس حلف وارسو وبعض الأشقاء العرب إضافات الهندسة العسكرية المصرية في مجال بناء وتصميم قواعد الصواريخ المضادة للطائرات، التي توصلت إليها بالتجربة الواقعية أثناء ملحمة إنشاء شبكتها العظيمة غرب القناة في أخريات حرب الاستنزاف. هناك أيضاً تطوير تعدد ممرات المطارات وتصميمها وحمايتها، والاستخدام الثوري للمشاة الصاروخية والميكانيكية في جبهة القناة أصبح الآن نموذجاً يحتذيه الجميع.. إلخ.
وإذا نحن نظرنا بعد هذا نظرة كلية علوية إلى معركة أكتوبر فلا شك أن أبرز ما يجابهنا هو أنها بحق "حرب المفاجآت" فهذه الحرب العجيبة - وعجيبة هي كما سنرى بالتأكيد- مليئة بالمفاجآت النادرة بل التناقصات المذهلة، كما هي حافلة بالأوليات والأخريات، بالقمم والكبريات، والبدايات والنهايات، إنها غنية جداً بالطفرات الاستراتيجية الجديدة وخصبة إلى أقصى حد في نتائجها ودروسها العسكرية بحيث قد تكون استراتيجيا نهاية عصر وبداية عصر، أي نقطة تحول تاريخية بكل مقياس.
من سجل "الأوليات" بها، على سبيل المثال، أنها أول حرب محددة في ظل الوفاق، أنها أول حرب تكنولوجية في التاريخ، ومن سجل "الكبريات" بها أنها قد تكون أكبر حرب صحراء في التاريخ الحديث، وكذلك أكبر معركة مدرعات فيه ولكن سجل "أخرياتها" أنها- للمفارقة الغربية - قد تكون أيضا آخر معركة دبابات كبرى في تاريخ الحروب.
حرب محدودة لكنها كثيفة
حربنا بحسب التصنيف الاستراتيجي الحديث والمتداول حرب محلية أو إقليمية "صغيرة أو محدودة" تدور بين دول أطراف متوسطة أو صغيرة الحجم والقدرات، فعلى المستوى الاستراتيجي، كما يقول بوفر "فإن الموقف العالمي الحالي، ووجود القوتين الأعظم وتهديدات الحرب النووية، قد جعلا الحرب بين الدول الصغيرة محدودة من حيث الأهداف، ومن حيث الزمن ومن حيث المساحة. ولقد كانت حرب رمضان حربا محدودة "وهي من هذه الزاوية تأتي -بالتعريف- في الفئة أو الطبقة نفسها التي تضم حرب فيتنام وحرب الهند -الباكستان، عدا حرب يونيو بالطبع، ومن هنا فإنها تختلف عنها جميعا اختلافا كميا يكاد يصل إلى حد الاختلاف الكيفي.
أما مع حرب فيتنام، فإن الاختلاف واضح. حرب فيتنام تتفوق خارج كل مقارنة في المدة والطول بطبيعة الحال، وكذلك في كميات الأسلحة الرهيبة والخسائر المادية والبشرية الهائلة بحكم أن الدور الأمريكي هناك كان مباشرا وإباديا من البداية إلى النهاية، ولكن الفارق الأساسي هو أن المواجهة كانت بين قوات نظامية من جانب "أمريكا" وحرب عصابات وحرب شعبية من الجانب الآخر "الثوار الفيتناميون" أما إذا قارنا حرب أكتوبر 1973 بسابقتها ونقيضتها حرب يونيو 1967، فإنها حتى بصرف النظر عن اختلاف النتائج، أكبر حجما إلى أقصى حد في كميات الأسلحة وأعداد القوات، فضلا عن أنواع الأولى ونوعيات الثانية.
ومهما يكن فقد لا يكون بالرقم المسرف في المبالغة إذا نحن ذكرنا حقيقة أخرى مذهلة ومؤكدة، وهى أن مجموع ما دمر من دبابات لكل الأطراف المتحاربة في 20 يوم قتال هو 2500 دبابة، أي أكثر مما تم تدميره في الحرب العالمية الثانية كلها كما تؤكد بعض المصادر. بل لقد ورد في حديث للرئيس السادات إلى النيوزويك أن هذا العدد هو 3000 دبابة: "أن نحواً من 3000 دبابة قد فُقد على الجانبين خلال حرب أكتوبر، وهو أكبر بكثير من أي شيء حدث في الحرب العالمية الثانية".
هذا عن الدبابات ومعها الطائرات، أما عن سائر الأسلحة الأخرى بجميع أنواعها، فلا سبيل إلى حصرها، ولكنها بطبيعة الحال تتناسب مع تلك الأسلحة القاعدية، ويكفي هنا، على سبيل المثال، أن نذكر حقيقة واحدة ولكنها عميقة الدلالة، لقد قدر أن ما صبَّته مدفعيتنا وحدها -وللمدفعية المصرية تاريخ عريق مشهور ومشهود له، كان آخر فصوله معركة المدافع عبر القناة في حرب الاستنزاف- مجموع ما صبَّته طوال حرب أكتوبر من البداية إلى النهاية يعادل في مجموع قوته التفجيرية قوة قنبلة نووية صغيرة.
وإذا نحن نسبنا هذا كله إلى رقعة ميدان المعركة المحدودة نوعا، فإن كثافة الحرب ستكون من أعلى ما عرف في الحروب الحديثة، وفي هذا المعنى قال بعض المعلقين العسكريين أثناء المعركة، مثل ك. تارنر مراسل اليونايتدبرس، أن خبراء الدفاع في العالم في حيرة تامة إزاء هذه الأعداد الهائلة من جانب القوات العربية التي تخوض الآن قتالا ضاريا لم تعرفه حتى الحرب العالمية الثانية نفسها، حتى في أخطر مراحلها، حتى في العلمين أو ستالينجراد. ثم يردف الكاتب نفسه قائلا أن خبراء الدفاع يرون أن اشتراك مثل هذه المعدات العسكرية الثقيلة على مساحات أرض صغيرة ومن جانب دول صغيرة نسبيا هو ظاهرة لم يسبق لها مثيل في تاريخ الحروب، ربما يدخل في ذلك معارك أوربا بين الدول الكبرى خلال الحرب العالمية الثانية، وهي التي شاركت فيها الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي وبريطانيا ما بين سنتي 1939-1945.
ولا ننسى بعد هذا أن معظم الأسلحة التي دخلت المعركة هي أسلحة بالغة العصرية والحداثة، فائقة التطور، أغلبها بحكم العصر لم تعرفه حرب أخرى من قبل. ومع ذلك فكما أكد الخبراء العسكريون في الغرب فقد كانت هناك قدرة قتالية عالية جدا وخبرة ومهارة فائقة في إدارة معارك الدبابات خاصة والحرب الحديثة عامة أثناء حرب أكتوبر، فإذا تذكرنا أخيرا أن الدول المتحاربة كلها دول صغيرة نامية أو شبه نامية، وأنها لا تنتج السلاح ولا تملك إمكانات الصناعات الحربية الثقيلة بل حتى الخفيفة إلى حد أو آخر، فإنه سيتأكد لنا تناقض الموقف كله.
في ساعة الصفر بدأت الضربة الجوية الكبرى: (240) طائرة من القاذفات المقاتلة انطلقت إلى أعماق سيناء لتدك فيها مطارات العدو وقواعده الجوية وطائراته الجاثمة على الأرض. وكان أبرز أهداف الغارة الضاربة هي مطارات المليز وتمادة والسر والجفجافة شرق الحائط الجبلي، ثم القاعدة الجوية في العريش في أقصى شمال شبه الجزيرة ومطار رأس نصراني في أقصى جنوبها. هذا فضلاً عن مراكز الرادار والتشويش في أم خشيب وأم مرجم والطاسة وغيرها على المحور الأوسط، مما شل الجهاز العصبي للعدو الجوي، واضطره إلى نقل قيادته الجوية إلى العريش.
وفي اللحظة نفسها التى انقضت فيها طائراتنا على أهدافها في أعماق العدو، انطلقت المدفعية الثقيلة البعيدة المدى 2000 مدفع كاملة، مضافاً إليها قوة صواريخ أرض - أرض كاملة- تقصف في قصفات متصلة لا تنقطع نيرانها ساعة كاملة مواقع العدو المختلفة في الشريط الغربي من سيناء: نقط خط بارليف الحصينة، بطاريات المدفعية، تجمعات الاحتياطي الأمامية والخلفية، التكتيكية والتعبوية. وهكذا كان للمدفعية بعشرات آلاف الطلقات دور أساسي في التمهيد النيراني الجبار للعبور وفي تغطية وتأمين إقامة رؤوس الجسور على الضفة.
من ناحية أولى قامت المدفعية بتدمير وإسكات مدافع ورشاشات العدو التى تطل من فتحات ومزاغل خط بارليف، وأجبرت قواته بذلك على البقاء داخل نقط الخط تاركة الرد على مدفعيتنا لمدفعيته في العمق، مما أدى إلى ترك ساحة الشاطئ الشرقي مفتوحة للقوات المصرية العابرة. (يلاحظ أن المدفعية الإسرائيلية ضعيفة نسبياً بصورة تقليدية نظراً لتركيز العدو بشدة على سلاح طيرانه).
ومن ناحية أخرى فإنها كانت السلاح الأساسي في التصدي لدبابات ومدرعات العدو في المرحلة التي لم يكن لنا فيها على الضفة الشرقية إلا قوات المشاة قبل أن تنتقل إليها المدرعات والأسلحة الثقيلة.
ومن ناحية ثالثة فإنها شغلت مدفعية العدو في عملية سبق مثيلها دون عبور غزو حقيقي، وبذلك أبعدت أنظاره عن حقيقة الغزو وشتت انتباهه عن عملية العبور إلى حين. وأخيراً فإنها هي المدفعية التي تكفلت بتدمير احتياطاته التكتيكية والتعبوية التي كانت معدة للتعامل مع قواتنا في حالة أي عبور كامل، وبذلك حدت من فرص وإمكانيات المقاومة في لحظات النزول الأولى على الضفة الشرقية. وبهذا كله نجحت المدفعية في "اقتطاع" مقدمة الجبهة مؤقتاً من دائرة دفاعات العدو لتنفرد قواتنا بالمسرح حراً خلال ساعات الحسم الثمينة، تماماً مثلما نجحت الضربة الجوية في تعطيل دفاعاته في العمق فأصيب بالشلل المؤقت.
تحت هذا القوس الناري المحدب الهائل، وفي حمايته الوثيقة وفى اللحظة نفسها التي انطلق فيها، بدأت أولى مراحل التحرك الأرضي، وهذه المرحلة الأولى كان قوامها المهندسين والمشاة. ففي صمت تام، ومن مواقعها المحددة والمنتخبة بدقة، انزلق إلى الماء في هدوء، أسطول من زوارق المطاط، 1000 قارب، صغيرة كما هي خفيفة، وكذلك من المركبات البرمائية جنوب البحيرات المرة شمال بحيرة التمساح وتحمل عدة آلاف بعضهم من المهندسين والكباري والمعابر... لفتح ثغرات المرور في السد الترابي ولإبطال مفعول أنابيب النابالم، والبعض من المشاة والصاعقة الكوماندوز لتأمين رؤوس تلك الجسور والتعامل المباشر مع طلائع العدو وصد وتصيد دباباته وبث الألغام في مصاطبها لمنعها من الحركة والتدخل.
ولقد كانت عملية مد الجسور والمعابر عملية حيوية بالغة الدقة والحرج والتعقيد، إذ لابد لها أن تتم بسرعة وكفاءة حتى تحت نيران المعركة الكثيفة. فبينما كانت الزوارق تعبر بأقصى سرعتها إلى المواضع المحددة لإقامة رؤوس الكباري على الضفة الشرقية، كانت مدفعيتنا تركز نيرانها على خطين طوليين في تلك المواضع، تنقطهما نقطة تقريباً بقذائفها الثقيلة خلخلةً لأجناب السد الترابي وتمزيقاً لشبكة أسلاكه الشائكة وتفجيرا لحقول ألغامها.
وتلك الخطوة البارعة كانت بدورها تمهيداً لعمل مضخات المياه الجبارة أو مدافع الماء التي سلطت عليها فبدأت تنهار رمالها وأتربتها تحت قوة تعريتها حتى تحولت إلى أخاديد وفجوات في عرض الحائط الساتر. وهنا ينبغي أن نلاحظ أنه بينما ركزت المدفعية الثقيلة نيرانها وقصفاتها على قطاعات المحاور الاستراتيجية الثلاثة بصفة خاصة، ركزت مدافع الماء عملها على القطاع الجنوبي من القناة حيث الأرض مضرسة مرتفعة، وطبيعة تكوينات الساتر الترابي طَفْلية وصلصالية لا تساعد كثيراً على عمليات التجريف وإنما تتحول تحت الماء إلى كتلة طينية لزجة متماسكة صماء، زلقة للمشاة وللآليات والمركبات. كذلك كان تراب الساتر يتساقط إلى القناة فيطميها، فيعوق إرساء الجسور، فكان لابد من إزالة الإطماء فورا وبسرعة، وكان لابد كذلك من تسليط المضخات على أعالي الساتر ثم على أسافله منعاً للإرساب. ولقد كان هذا هو السبب في تأخر عملية مد الجسور والمعابر في هذا القطاع بعض الوقت. يبد أن العملية في جملتها تمت بنجاح عظيم، وقد تم فيها شق 85 ثغرة في الساتر الترابي أزيل فيها من مكعبات الحفر في ساعة إلى بعض ساعات ما كان يحتاج إلى عمل نصف مليون رجل- ساعة بالطريقة التقليدية، كذلك تمت إقامة 10 أو 11 من الكباري العائمة الثقيلة Pontoon bridges، و10 أخرى للمشاة، ونحو 50 معدية، وذلك كله في بضع أو عدة ساعات. وهذه هي الشبكة العابرة التي ستنقل الجسم الأساسي للقوة الضاربة والتي ستصبح الشريان الحامل لتدفق الهجوم.
هذا عن دور الوحدات الهندسية. أما دور المشاة فقد كان ضروياً لتأمين رؤوس الكباري على الضفة. وكانت هذه المهمة بالغة الأهمية والحرج لأن معناها أن على المشاة أن يتصدوا، وحدهم وإلى أن يتم إنشاء الجسور، لقوات العدو المدرعة ومدفعيته الثقيلة، ولهذا فإن الساعات القليلة التي استغرقها مد الجسور ثم تدفق أسلحتنا الثقيلة من المدرعات والمدفعية، والتي تقدر في مجموعها بما يتراوح بين 12 ، 24 ساعة، كانت فترة فائقة الخطر وبمثابة عنق الزجاجة في العملية كلها، ولكنها بنجاح، بمثير، تمت، فمثلاً حتى في القطاع الجنوبي الذي تعطلت فيه إقامة الجسور بعض الوقت كما رأينا لم تصل الأسلحة إلا بعد يومين أو ثلاثة، فظلت فيها المشاة وحدها في الميدان ولكنها تسيدته بالدرجة نفسها التي حققتها في بقية قطاعات الجبهة.
والسؤال الذي يفرض نفسه هنا على التو هو: كيف، كيف حدث هذا؟ ولماذا؟ والرد مباشر كما هو بسيط: فلقد سُلح الرجال، الذين تخففوا إلى أقصى حد ممكن من كل ما ليس للقتال بصفة مباشرة سواء من المعدات أو التموين، سُلحوا بصواريخ الكتف الخفيفة المضادة للدبابات وللطائرات، ومدوا بعربات جر يدوية صغيرة مبتكرة يحملونها الأسلحة الأثقل ويعتلون بها الساتر الترابي، كما زودوا بسلالم خشبية وسلالم من الحبال يتسلقون بها الساتر، وهكذا، بالسلالم المتحركة والحبال، والأظفار أيضاً، اقتحم المشاة والصاعقة وقناصة الدبابات الساتر وانطلقوا للتعامل مع العدو.
وإذا عدنا للنظر قليلاً إلى عملية العبور في مجملها، فسنجد عدة حقائق لافتة لها مغزاها، فهي أولاً تمت على طول امتداد القناة من البحر إلى الخليج، 170-180كم، أو نحو 100 ميل. وبهذا فإن جبهة الهجوم المصرية شملت القناة برمتها، رغم أن جبهة المواجهة المباشرة تدور حول 100كم منها فقط، وذلك لوجود قطاعات ذات طبيعة جغرافية خاصة تخرجها من المواجهة. وأهم هذه القطاعات هي سهل الطينة الهش على الضفة الشرقية إزاء بحيرة المنزلة، ثم قطاع بحيرة التمساح والبحيرات المرة شديدة الاتساع بحيث لا تصلح لعبور قوات كبيرة ولكن من الواضح أن الخطة المصرية اختارت عمداً وعن وعي أن يغطى الهجوم جبهة القناة بكامل أبعادها بين البحرين، والسبب أن هذا الانتشار يوزع دفاع العدو ويشتت هجومه المضاد وخاصة منه الجوي، كما يربك العدو في تحديد اتجاه مجهودنا الرئيسي ويعطل بالتالي رد فعله إزاءه.
كذلك يلاحظ أن العدد الذي أقيم من الجسور والمعابر كان أقل من المطلوب فعلاً للعبور. ولكنه كان كافيا لإرباك العدو وتشتيته وخداعه، ولأن يكفل احتياطيات وبدائل تحسباً لأية إصابة قد تحدث، ولأن يفيد من قطاعات القناة الضحلة أو الضيقة، وأخيراً لأن يبتعد بصورة مأمونة عن مواضع نقط العدو القوية على طول خط بارليف.
وبالفعل فلقد تم فيما بعد، حين مرت الفترة الحرجة، اختزال هذا العدد إلى 3 فقط ضمت فيها الجسور إلى بعضها البعض في المواقع الاستراتيجية الأساسية. ففي بداية العملية كان هناك 3 حبسور على القطاع الجنوبي بين خليج التمساح والقنطرة، اثنان منها جنوب جزيرة البلاح واثنان شمالها، وحين ضمت هذه الجسور والمعابر تركزت أمام محاور سيناء الاستراتيجية الثلاثة، أي قطاعات السويس، والإسماعيلية، والقنطرة.
المبارزة
وبديهي جداً أن هذه الجسور والمعابر، الحبل السري وخط الحياة بين جانبي القوات الزاحفة، كانت الهدف الرئيسي الذي ركز عليه العدو نيرانه، وخاصة من الجو، بصورة مجموعة. وفي وجه هذا الخطر لجأت الخطة إلى تكنيكات دينامية أفشلت كل محاولاته. فمن ناحية دأبت القوات المصرية على تحريك مواقع الكباري بمرونة فائقة وسرعة من مكان إلى آخر. ومن ناحية أخرى أطلقت ستارة كثيفة من الدخان تحجب الرؤية وتمنع إصابة الأهداف، ومن ناحية ثالثة أقامت بعض الجسور الخداعية ودفعت عليها بقوات هيكلية ركز عليها العدو فبددت جهوده وشغلته عن الجسور الحقيقية. وهكذا.
وفي النتيجة فشل العدو في تدمير شيء من الكباري أو المعابر ولم ينل منها بالكاد، على العكس تماما من دعايته الدولية (والكاذبة) في هذا الصدد. وفي الحالات القليلة التى حدثت بها إصابات كان إصلاحها يتم في دقائق ويستمر العبور بلا توقف. ولو أن من الجدير بالذكر، كما يقول كتاب حرب رمضان، "أن معظم الكباري أصيبت وأعيد إصلاحها أكثر من خمس مرات..." (في 7 أكتوبر أعلنت إسرائيل أنها دمرت "ربما كل" الجسور التي أقامها المصريون، وأن المعارك تدور "على حافة المياه" وأنها ستستعيد السيطرة على الضفة الشرقية خلال 24 ساعة أو 48 ساعة. وفي 9 أكتوبر أعلنت أنها "تخلت" عن خط بارليف، وأن الحرب ستكون طويلة وصعبة جدا، وأن الخسائر الإسرائيلية كبيرة!).
فبعد ساعات من بدء العبور، رد العدو بالهجوم الجوي الشامل خلال الليل وتحولت السماء إلى نهار بفعل المشاعل الجوية، وبلغ عدد الطائرات المغيرة أكثر من 250 طائرة، أي أكثر من نصف سلاح العدو، حتى إذا كان الصباح، حاول العدو أن يعود إلى أسلوبه في يونيو 1967 بضربة جوية خاطفة ومكثفة على ارتفاع منخفض جدا، ولكن طائراته فوجئت بصواريخنا القصيرة المدى من طراز سام 7 إلى جانب المدفعية والرشاشات تتصيدها عن قرب أو ترغمها على الارتفاع فورا، فتتسلمها صواريخنا البعيدة المدى من طراز سام 2، و3 ولكن بالأخص 6 فتتسافط قنابلها بعيدا عن أهدافها أو تتساقط هي نفسها محطمة أو محترقة.
6 أكتوبر في الاستراتيجية العسكرية
منذ الحرب العالمية الثانية، أكبر ملحمة عسكرية كوكبية في التاريخ البشري، وفي ظل العصر النووي نفسه، لم تحُدث حرب ما انقلابا في الفكر الاستراتيجي والنظريات العسكرية مثلما فعلت حرب أكتوبر، فبإجماع كل الخبراء العسكريين، قادة ونقادا، محترفين ومؤرخين، جاءت حرب أكتوبر "ثورة" استراتيجية جذرية كاملة قلبت معظم مفاهيم الحرب التقليدية وغير التقليدية، وثوَّرت كثيرا من قواعد الجغرافيا العسكرية، وجعلت من الضروري إعادة كتابة "كتاب الحرب" من أساسه. ولقد كانت هذه النتيجة هي كبرى مفاجآت هذه المعركة، لا تقل عن مفاجأتها هي نفسها.
الحرب الكورية مثلاً، وحرب الهند - الباكستان، وحتى حرب فيتنام الممطوطة التي استمرت سنين عددا، كانت كلها حروبا تقليدية رغم حداثتها وعصرية الأسلحة التي استخدمت فيها، حتى حرب يونيو، التى اعتمدت على نظرية الحرب الخاطفة... لم تقدم جديداً ثورياً بالقياس إلى نموذجها الأصلي الذي ابتكرته ألمانيا الهتلرية في الحرب الثانية، ومن هنا أصبحت حرب أكتوبر تجربة جديدة، مدرسة جديدة، انكبت عليها دوائر الجيوش والأكاديميات العسكرية والمعاهد0 الاستراتيجية، تعكف على نتائجها ومغازيها ومدلولاتها ومحمولاتها وسيمضي وقت طويل بالتأكيد قبل أن تأخذ هذه النتائج كل أبعادها وأعماقها الكاملة.
على أن الشيء الذي يمكن القطع به من الآن بكل اطمئنان وثقة هو أن المعركة أثبتت أصالة وجدة كلتاهما حقيقة ومحققة من ناحية الاستراتيجية تخطيطاً وتنفيذاً وتطويعاً واستخداما للسلاح. إنها في كل هذه المجالات تختلف اختلافا بيناً عن كل الحروب المحدودة وغير المحددة التي شهدها العالم منذ الحرب الثانية. وهذا هو بالفعل مدار تفردها ومحور الاهتمام العالمي الملتهب بها.
ومما لن يتطرق إليه شك أن المعركة قد أضافت زائدة أصلية محددة وغير تقليدية ولا مسبوقة، وأثبتت بذلك أن المدرسة العسكرية العربية، خاصة المصرية، قد ساهمت مساهمة مبتكرة وفذة في الفن العسكري، ضربت بها أرضاً جديدة بكراً في العلم الاستراتيجي والحربي. والمعركة، باختصار، أثبتت أن العسكرية العربية قد انتقلت، ربما أولَ مرة، من مرحلة التلمذة الحربية والنقل إلى مرحلة الإبداع والابتكار.
وأبسط دليل على هذا أن جيوش العالم بدأت تأخذ عن المعركة كثيراً من خبراتها ودروسها، ومن إنجازات العسكرية العربية بعض خطوطها التكنولوجية والهندسية وخططها الاستراتيجية والتكتيكية، على سبيل المثال، دشم مخابئ الطائرات المصرية المبكرة منذ ما بعد يونيو اقتبس منها حلف الأطلنطي الكثير كما يقال، وفي هذا قال وزير الدفاع الأمريكي بأسلوب مباشر "ليس ثمة على الإطلاق غير الدشم وسيلة لحماية الطائرات من إغارة الطيران المنخفض". وبالمثل اقتبس حلف وارسو وبعض الأشقاء العرب إضافات الهندسة العسكرية المصرية في مجال بناء وتصميم قواعد الصواريخ المضادة للطائرات، التي توصلت إليها بالتجربة الواقعية أثناء ملحمة إنشاء شبكتها العظيمة غرب القناة في أخريات حرب الاستنزاف. هناك أيضاً تطوير تعدد ممرات المطارات وتصميمها وحمايتها، والاستخدام الثوري للمشاة الصاروخية والميكانيكية في جبهة القناة أصبح الآن نموذجاً يحتذيه الجميع.. إلخ.
وإذا نحن نظرنا بعد هذا نظرة كلية علوية إلى معركة أكتوبر فلا شك أن أبرز ما يجابهنا هو أنها بحق "حرب المفاجآت" فهذه الحرب العجيبة - وعجيبة هي كما سنرى بالتأكيد- مليئة بالمفاجآت النادرة بل التناقصات المذهلة، كما هي حافلة بالأوليات والأخريات، بالقمم والكبريات، والبدايات والنهايات، إنها غنية جداً بالطفرات الاستراتيجية الجديدة وخصبة إلى أقصى حد في نتائجها ودروسها العسكرية بحيث قد تكون استراتيجيا نهاية عصر وبداية عصر، أي نقطة تحول تاريخية بكل مقياس.
من سجل "الأوليات" بها، على سبيل المثال، أنها أول حرب محددة في ظل الوفاق، أنها أول حرب تكنولوجية في التاريخ، ومن سجل "الكبريات" بها أنها قد تكون أكبر حرب صحراء في التاريخ الحديث، وكذلك أكبر معركة مدرعات فيه ولكن سجل "أخرياتها" أنها- للمفارقة الغربية - قد تكون أيضا آخر معركة دبابات كبرى في تاريخ الحروب.
حرب محدودة لكنها كثيفة
حربنا بحسب التصنيف الاستراتيجي الحديث والمتداول حرب محلية أو إقليمية "صغيرة أو محدودة" تدور بين دول أطراف متوسطة أو صغيرة الحجم والقدرات، فعلى المستوى الاستراتيجي، كما يقول بوفر "فإن الموقف العالمي الحالي، ووجود القوتين الأعظم وتهديدات الحرب النووية، قد جعلا الحرب بين الدول الصغيرة محدودة من حيث الأهداف، ومن حيث الزمن ومن حيث المساحة. ولقد كانت حرب رمضان حربا محدودة "وهي من هذه الزاوية تأتي -بالتعريف- في الفئة أو الطبقة نفسها التي تضم حرب فيتنام وحرب الهند -الباكستان، عدا حرب يونيو بالطبع، ومن هنا فإنها تختلف عنها جميعا اختلافا كميا يكاد يصل إلى حد الاختلاف الكيفي.
أما مع حرب فيتنام، فإن الاختلاف واضح. حرب فيتنام تتفوق خارج كل مقارنة في المدة والطول بطبيعة الحال، وكذلك في كميات الأسلحة الرهيبة والخسائر المادية والبشرية الهائلة بحكم أن الدور الأمريكي هناك كان مباشرا وإباديا من البداية إلى النهاية، ولكن الفارق الأساسي هو أن المواجهة كانت بين قوات نظامية من جانب "أمريكا" وحرب عصابات وحرب شعبية من الجانب الآخر "الثوار الفيتناميون" أما إذا قارنا حرب أكتوبر 1973 بسابقتها ونقيضتها حرب يونيو 1967، فإنها حتى بصرف النظر عن اختلاف النتائج، أكبر حجما إلى أقصى حد في كميات الأسلحة وأعداد القوات، فضلا عن أنواع الأولى ونوعيات الثانية.
ومهما يكن فقد لا يكون بالرقم المسرف في المبالغة إذا نحن ذكرنا حقيقة أخرى مذهلة ومؤكدة، وهى أن مجموع ما دمر من دبابات لكل الأطراف المتحاربة في 20 يوم قتال هو 2500 دبابة، أي أكثر مما تم تدميره في الحرب العالمية الثانية كلها كما تؤكد بعض المصادر. بل لقد ورد في حديث للرئيس السادات إلى النيوزويك أن هذا العدد هو 3000 دبابة: "أن نحواً من 3000 دبابة قد فُقد على الجانبين خلال حرب أكتوبر، وهو أكبر بكثير من أي شيء حدث في الحرب العالمية الثانية".
هذا عن الدبابات ومعها الطائرات، أما عن سائر الأسلحة الأخرى بجميع أنواعها، فلا سبيل إلى حصرها، ولكنها بطبيعة الحال تتناسب مع تلك الأسلحة القاعدية، ويكفي هنا، على سبيل المثال، أن نذكر حقيقة واحدة ولكنها عميقة الدلالة، لقد قدر أن ما صبَّته مدفعيتنا وحدها -وللمدفعية المصرية تاريخ عريق مشهور ومشهود له، كان آخر فصوله معركة المدافع عبر القناة في حرب الاستنزاف- مجموع ما صبَّته طوال حرب أكتوبر من البداية إلى النهاية يعادل في مجموع قوته التفجيرية قوة قنبلة نووية صغيرة.
وإذا نحن نسبنا هذا كله إلى رقعة ميدان المعركة المحدودة نوعا، فإن كثافة الحرب ستكون من أعلى ما عرف في الحروب الحديثة، وفي هذا المعنى قال بعض المعلقين العسكريين أثناء المعركة، مثل ك. تارنر مراسل اليونايتدبرس، أن خبراء الدفاع في العالم في حيرة تامة إزاء هذه الأعداد الهائلة من جانب القوات العربية التي تخوض الآن قتالا ضاريا لم تعرفه حتى الحرب العالمية الثانية نفسها، حتى في أخطر مراحلها، حتى في العلمين أو ستالينجراد. ثم يردف الكاتب نفسه قائلا أن خبراء الدفاع يرون أن اشتراك مثل هذه المعدات العسكرية الثقيلة على مساحات أرض صغيرة ومن جانب دول صغيرة نسبيا هو ظاهرة لم يسبق لها مثيل في تاريخ الحروب، ربما يدخل في ذلك معارك أوربا بين الدول الكبرى خلال الحرب العالمية الثانية، وهي التي شاركت فيها الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي وبريطانيا ما بين سنتي 1939-1945.
ولا ننسى بعد هذا أن معظم الأسلحة التي دخلت المعركة هي أسلحة بالغة العصرية والحداثة، فائقة التطور، أغلبها بحكم العصر لم تعرفه حرب أخرى من قبل. ومع ذلك فكما أكد الخبراء العسكريون في الغرب فقد كانت هناك قدرة قتالية عالية جدا وخبرة ومهارة فائقة في إدارة معارك الدبابات خاصة والحرب الحديثة عامة أثناء حرب أكتوبر، فإذا تذكرنا أخيرا أن الدول المتحاربة كلها دول صغيرة نامية أو شبه نامية، وأنها لا تنتج السلاح ولا تملك إمكانات الصناعات الحربية الثقيلة بل حتى الخفيفة إلى حد أو آخر، فإنه سيتأكد لنا تناقض الموقف كله.