البرنامج الأمريكي للصواريخ المضادة للصواريخ: ما له وما عليه
من حق أية دولة في العالم أن تنظّم شؤون دفاعها، وأن تتولّى إدارة هذا الدفاع وتحقيقه واتخاذ ما تراه مناسباً لضمانه في حدود كيانها الجغرافي وأجوائها ومياهها الإقليمية، شريطة ألاّ تتعدى شؤون الدفاع هذه تلك الحدود، وألاّ تكون سبباً في الاعتداء أو التجاوز على حقوق الدول الأخرى في تنظيم شؤون دفاعها.
وما فعلته الولايات المتحدة، حين أعلنت عن رغبتها في تنفيذ برنامجها المسمّى "الدفاع الوطني المضاد للصواريخ " National MissileDefense - NMDس لا يتعدى ممارسة هذا "الحق". ولكن المهم أن هذا "الحق" مرتبط بمعاهدة وقعت الولايات المتحدة عليها في العام 1972م هي معاهدة "ستارت 1"، وفيها نص واضح يمنع على طرفي المعاهدة، وهما الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي (وريثته الآن هي روسيا)، بناء أو نشر شبكة وطنية واقية من الصواريخ.
ويعني هذا النص أن الدولتين وكانتا أكبر قوتين نوويتين وافقتا آنذاك على مبدأ أن البادئ بالعدوان سيتلقّى ضربة جوابية. ويعني البرنامج الأمريكي أن الشبكة المنوي بناؤها ستحمي الأراضي الأمريكية وأجواءها ومياهها الإقليمية من صواريخ "العدو المحتمل"، فتغدو الولايات المتحدة بذلك قلعةًً منيعة توجِّه الضربات ولا تتلقّاها، أي أن واشنطن ستكون ذات "ذراع طويلة" ترهب كل من يجرؤ على رفض "القيم" الأمريكية.
وحتى لا يظن الآخرون السوء، فقد سارعت الإدارة الأمريكية إلى التوضيح بأن هدف الشبكة هو التصدّي للمخاطر التي قد تأتي من "الدول المارقة Rague States"، وهو مصطلح جديد على القانون الدولي وفي قاموس العلاقات الدولية، لذلك فهو "مطاطي" بحيث يسع مجموعة من الدول يكبر عددها أو يصغر حسب ما تراه الإدارة الأمريكية. وهو اليوم يضمّ: كوبا وكوريا الشمالية وإيران والعراق، وقد يتسع ليضم الصين وروسيا وغيرهما، فالتعريف "مطاطي" بطبيعته، بحيث يمكن أن تُحشر فيه دول وجماعات كثيرة.
يهدف البرنامج الأمريكي وهو في الأصل جزء من مبادرة الدفاع الاستراتيجي التي كان أعلنها الرئيس الأسبق رونالد ريغان في العام 1983م إلى نصب درع يقي الولايات المتحدة من قصف الصواريخ المعادية، وذلك باعتراضها في الفضاء وتدميرها قبل وصولها إلى أهدافها، ويتألف هذا الدرع من المنظومات الفرعية التالية:
1 منظومة استطلاع وإنذار مبكر واتصالات، وقوامها مجموعة متكاملة من أقمار التجسس وطائرات الاستطلاع ووسائل الإنذار والاتصال والقيادة والتوجيه والسيطرة. وتتولى هذه الوسائل استطلاع كل ما يخص أسلحة التدمير الشامل في منطقة محددة، مع استطلاع وسائل إطلاق وحمل تلك الأسلحة. وتستفيد وسائل الاستطلاع هذه من معلومات مخابراتية مسبقة توفّرها أجهزة تجسس واستطلاع أخرى. ومهمة وسائل الاستطلاع أن تكشف الصاروخ المعادي ومكانه منذ لحظة إطلاقه، ثم يتمّ اعتراض الصاروخ المعادي هذا في الفضاء أو الجو بواسطة الاتصال بين أقمار الإنذار وأقمار الاتصالات ومراكز الإنذار الأرضية وسائر وسائل المجموعة. وفي الوقت نفسه يجري توجيه أسراب الطائرات المقاتلة لقصف مواقع إطلاق الصواريخ المعادية وتدميرها قبل أن تنتقل بطاريات الإطلاق إلى مواقع أخرى.
2 منظومة قيادة وسيطرة وتحكّم، وهي مكمّلة للمنظومة السابقة، وتعمل معها؛ فالمعلومات التي تحصل عليها أقمار الإنذار وتنقلها أقمار الاتصالات، والخاصة بزمان ومكان إطلاق الصاروخ المعادي، تصل إلى مركز الإنذار الأرضي الرئيسي، الذي ينقلها إلى مراكز قيادة وسيطرة وتحكم أخرى فرعية، قادرة على تنفيذ الردِّ الإيجابي فيما لا يزيد على 6،1 دقيقة من لحظة انطلاق الصاروخ المعادي. ومن المعروف أن المركز الرئيس للقيادة والسيطرة والتحكم موجود في ولاية كولورادو الأمريكية، وأن بعض المراكز الفرعية موجودة في بريطانيا وكندا وإسرائيل، وأن مشروع الجدار المضاد للصواريخ الأمريكي يتضمن إنشاء مراكز فرعية أخرى في بعض المناطق، مثل اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان وغيرها.
3 منظومات الصواريخ المضادة للصواريخ، لاعتراض وتدمير الصواريخ المعادية عابرة القارات أو البالستية متوسطة المدى.
وكان الرئيس الأمريكي جورج بوش قد ألقى في مطلع شهر مايو 2001م خطاباً في الكلية الوطنية للدفاع، حيث كرر اعتزام الولايات المتحدة نشر صواريخ دفاعية مضادة للصواريخ، ولو أدى الأمر إلى التخلّي عن معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ البالستية (1972م)؛ وقال بوش إن هدف البرنامج هو حماية الولايات المتحدة وحلفائها من "تهديدات محدّدة" تقوم بها دول "خارج السيطرة"، وإن بلاده ستعتمد على تقانة متطورة وصفها بأنها "واعدة" ودعا إلى استبدال معاهدة 1972م مع الاتحاد السوفيتي السابق ووضع إطار جديد يعكس الوضع الناجم عن الحرب الباردة الزائلة؛ فالمعاهدة تعكس وضعاً مضى عليه ثلاثون عاماً، وهي قد تجاهلت التقدُّم التقاني الذي حدث في تلك الفترة، وحظرت على الولايات المتحدة استكشاف خيارات للدفاع عن نفسها ضد المخاطر التي تواجهها واشنطن وحلفاؤها. وأيّد الرئيس بوش مبدأ قيام الولايات المتحدة بخفض ترسانتها النووية من أجل تحقيق مصالحها ومصالح السلام في العالم، على أساس أن يعكس تغيير تركيبة وطبيعة هذه الترسانة واقع انتهاء الحرب الباردة، مع تحقيق قوة ردع فعّالة وفقاً لاحتياجات الأمن القومي الأمريكي والتزامات واشنطن حيال حلفائها.
لاريب في أن البرنامج الأمريكي ينبني على توجّهات جديدة في السياسة الأمريكية، فإلى جانب الحق الطبيعي في الدفاع عن النفس وفي اتخاذ الإجراءات التي تحقق ذلك، وإلى جانب ما هو مطلوب من الولايات المتحدة كقوة عظمى قائدة للنظام العالمي، ثمة توجّهات جديدة للسياسة الأمريكية مهّدت السبيل أمام البرنامج الأمريكي للدفاع ضد الصواريخ البالستية؛ ومن هذه التوجّهات:
1 تراجع مكانة روسيا في قائمة العلاقات الخارجية الأمريكية.
2 إعطاء الأولوية للعلاقات مع دول الأمريكتين.
3 التعامل مع الحلفاء الأوروبيين بمنطق القوة، التي لا يملك حلفاؤها إلاّ التكيُّف مع أولوياتها حتى في حال الاختلاف معها.
4 التراجع عن القيام بدور قوي ومؤثر في نزاعات إقليمية عدة، مثل: الشرق الأوسط، وإيرلندا الشمالية، والكوريتين.
5 التصعيد مع الصين، ومن وقائعه: الموافقة على صفقة السلاح مع تايوان، والإعلان عن عزم الولايات المتحدة على الدفاع عن تايوان بما في ذلك استخدام القوة العسكرية. إن ذلك يعني البدء بتوزيع استراتيجي جديد للتحالفات في العالم، وهو ما يشبه مقدمات نشوء الحرب الباردة السابقة، مع استبدال الصين بالاتحاد السوفيتي السابق.
وقد أخذ هذا التصعيد يشتدّ على أساس أن زوال العدو السوفيتي يفسح المجال أمام إزالة أي منافس جديد، وقد بلغ هذا الموقف إحدى ذراه حينما قال وزير الدفاع الأمريكي إن أحد الأسباب التي تدفع الولايات المتحدة إلى إعادة تشكيل الأسلحة هو أن "الشرق الأقصى أصبح أكثر مسارح العمليات الأمريكية الممكنة في المستقبل، وأن الجيل الجديد من القاذفات النووية بعيدة المدى القادرة على العمل، بدءاً من القواعد الأمريكية، ضروري من أجل خوض حرب نووية والانتصار فيها".
في مواجهة هذا التصعيد، ذهبت الصين إلى عدة إجراءات عبّرت عن سياسة دفاعية مبنية على الريبة من التصعيد الذي أشرنا إليه، ومن ذلك:
1 ظهور كتاب صيني اسمه "حرب بلا حدود" في العام 1996م، سعى إلى الإجابة عن السؤال التالي: كيف يمكن أن يواجه بلد ضعيف دولة قوية؟ الطريق إلى ذلك في الكتاب أنه رصد 24 نوعاً مختلفاً من الحروب، مثل: الإرهاب، وتجارة المخدرات، وتجريح البيئة، ونشر الأوبئة، وحرب الإعلام، وحرب المال ... إن ذلك كله يعني أن "الحرب بلا حدود هي حرب تتعدى جميع الحدود والقيود ... إنها حرب تتخذ أشكالاً عسكرية وأخرى غير عسكرية، وتحارب على عدة جبهات ... إنها حرب المستقبل".
يقول أحد مؤلفي الكتاب في حديثه الذي نشرته جريدة "واشنطن بوست": "إننا قطر ضعيف، فهل علينا أن نكافح حسب قواعدكم؟ كلا، للحرب قواعد، ولكن هذه القواعد وضعها الغرب؛ ولو استعملت هذه القواعد، فإن البلاد الضعيفة لن يكون لها أية فرصة، ولكن لو استعملت وسائل غير تقليدية للكفاح مثل تلك التي استعملها رجال المال لتحطيم أنظمة مالية عندئذ تكون لدينا فرصة". ويقول المؤلف الآخر: "خذ مثلاً نظام الصواريخ المضادة للصواريخ أي البرنامج NMD إنه جزء من خطة أمريكية لدفع الصين إلى فخ بالغ التكلفة؛ إننا لا نريد أن تقع الصين في هذا الفخ، لأن جميع الضباط الصينيين يعرفون أننا لا نملك الإمكانات للمنافسة في سباق التسلّح".
2 رفع مستوى تحديث الدفاع، وهو ما تضمنته الخطة الثالثة للدفاع الوطني (يونيو 1999م)، وأساسها توفير القدرة لمختلف جيوش القوات المسلحة على القيام بعمليات مشتركة عبر تطوير نظريات استراتيجية جديدة في إطار حرب تستعمل أسلحة ذات تقانات متقدمة تمنح سلاحي الطيران والصواريخ دوراً أكبر.