معارك الدبابات كما يرويها البكباشي عبدالقادر حاتم فى يومياته

fireston

عضو
إنضم
9 أغسطس 2013
المشاركات
373
التفاعل
1,072 0 0
معارك الدبابات كما يرويها البكباشي عبدالقادر حاتم فى يومياته

الخميس 09-07-2015| 05:13ص
10.png

412.jpg
صورة ارشيفية عماد الصابر

أوراق جلال ندا.. أكدت أن الهزيمة فى فلسطين صنعها القيادات
قمنا ببطولات فاقت الإمكانيات الضعيفة وعدم التخطيط أو التنسيق وفارق التسليح مع العدو وتردد قيادة الجيش
استولينا على موقع تبة الفناطيس ببسالة الرجال رغم شدة نيران العدو وقلة المعدات وعدم اختبار الأرض قبل الهدنة بيوم

فى يوليو حدثت الثورة، وقبلها بنحو أربع سنوات، حدثت مسببات النكبة العربية، فى يوليو أيضا، لا فى مايو كما يعتقد الذين أرخوا لها ببداية الحرب ومفاوضات الهدنة، فيما الأحداث كلها تشير إلى أن يوليو الذى كان شهرا للنكبة والهزيمة فى 1948، تحول بعد تشكيل اللبنة الأولى للضباط الأحرار بعدها، ليكون شهر الثورة التى غيرت مجرى الأحداث فى مصر.. فى هذه السلسلة من الحلقات نتحدث عن الحرب وذكرياتها، من خلال أوراق الراحل البكباشى جلال ندا الذى استودعها أمانة لدى الكاتب، وفيها أيضا الكثير من الوقائع التى ذكرها على لسانه باعتباره شاهدا على مجريات الأحداث، أو على ألسنة قادة الثورة أنفسهم، كاشفا ما غم على كثير ممن أرخوا للحدث العظيم فى تاريخ مصر الحديث، ومع تتابع الحلقات سنتعرف على ندا شخصيا مصحوبا بذكرياته عن الحرب التى شارك فيها، وكيف أنقذ جمال عبدالناصر من الموت، بينما هو قعيد مصاب لا يجد منفذا لعلاجه، وكيف كانت قيادة البطل أحمد عبدالعزيز للفدائيين، وعن الهدنة التى خربت التاريخ المعاصر للعرب، وتسببت فى هزيمتهم بالشكل الذى يؤرخ له المؤرخون باعتبارها النكبة العربية، ودور الإخوان المسلمين فى هذه الهزيمة، وخطة القائد عبدالعزيز لاحتلال القدس، ونتيجة رفض القيادة لها، وبعدها نستمع لشهادته عن بدء تشكيل تنظيم الضباط الأحرار، وكيف تشكلت علاقة محمد حسنين هيكل بعبدالناصر، ثم الحوارات التى أجراها مع بعض أعضاء مجلس قيادة الثورة، وتحقيقنا لبعض مما ورد فيها، عبر شهادات أخرى لم ترد فى مذكراته، سعيا للبحث عن حقيقة ما حدث فى مصر منذ العام 1948 إلى قيام الثورة لنصل إلى ذهاب السادات إلى القدس، ورأى المعاصرين لعهده فى هذه المبادرة، كل هذا وأشياء أخرى ستمثل مفاجآت نتركها لوقتها.
فى الحلقة السابقة تحدثنا عن البطولات فى حرب النكبة، كما يطلق عليها الآن لتزامنها مع إعلان تأسيس الكيان الصهيوني، تحدثنا عن البطولة ممثلة فى شخص البطل أحمد عبدالعزيز، وهو البطل المعلن دون أن نعرف أحدا من جنوده، لنتحدث عنه، وفى هذه الحلقة سنتحدث عن البطولات الجماعية ممثلة فى بطولة كتيبة الدبابات اللوكوست، تماما كما كتبها قائدها البكباشى محمد عبد القادر حاتم، الذى ربما يكون هو نفسه الدكتور محمد عبد القادر حاتم، مؤسس التليفزيون المصرى فيما بعد، وكانت ضمن الأوراق التى أمدنا بها الراحل جلال ندا، ويبدأها من يوم ٢٣ مايو من عام ١٩٤٨.
يقول حاتم فى أوراقه: «قامت الكتيبة الأولى دبابات خفيفة من القاهرة، وكانت قوتها عبارة عن عدد ٧ ضباط، هم الصاغ منصور لطفى منصور، واليوزباشى محمد جمال الدين ملش، وملازم أول أحمد عز الدين جعفر، ملازم أول محمد فؤاد السيوفى، وملازم ثان مصطفى حسن حمزة، وملازم ثان فؤاد حسن حلمى كرارة، وملازم ثان كمال حبيب أيوب، بالإضافة إلى ١٠١ صف وجندي، و٩ صانيعية ملكيين، بالإضافة إلى ١٦ دبابة خفيفة و١٢ لورى وعربة.
وصلت الكتيبة إلى غزة يوم ٢٦ مايو، وقسمت إلى قسمين كل منهما ٣ دبابات ومعها الحملة اللازمة، بقيادة الصاغ منصور لطفى منصور، والثانى بقيادة اليوزباشى محمد جمال الدين ملش، الأول بدير سبير والثانى بغزة، الذى تحرك يوم ٢٨ مايو لينضم على قوة دير سبير، بهدف حماية الجانب الأيمن للقوات، وفى يوم ٣١ مايو تحركت الكتيبة بأكملها كمقدمة للقوات إلى أسدود، لتحاصر مستعمرة نتساليم لمنعها من التدخل فى عملية التقدم.. قامت الكتيبة بعملها واستأنفت التقدم لأسدود فى الساعة الثالثة من عصر نفس اليوم، وبقيت بها لمدة ٢٤ ساعة، ثم عادت إلى المجدل يوم ١ يونيو، بناء على طلب رئاسة القوات.
وكما كتب البكباشى وقتها محمد عبد القادر حاتم عن عملية نجبا الأولى: «فى يوم ٢ يونيو ١٩٤٨ – نفس اليوم الذى سيصفه هيكل فى حلقة مقبلة بيوم النصر، فيما كانت الهزيمة والفشل سببا فى حزن جلال ندا - شاركت كتيبة الدبابات بقيادة الصاغ منصور لطفى الكتيبة الأولى مشاة، وفصيلة من المناضلين العرب مسلحة، بالإضافة إلى مساعدة من القائمقام السيد طه، كان الهجوم على موجتين، الأولى تبدأ الساعة الرابعة والنصف صباحا، وتتشكل من سريتى دبابات ومعها الدبابة «الفيات»، وفصيلة من المناضلين وفصيلة المشاة بقيادة البكباشى يوسف شلبي، أما الموجة الثانية فتشكلت من كتيبتى دبابات وسرية مشاة وباقى كتيبة المشاة وسرية سيارات مدرعة ومعها فصيلة حمالات».
يحكى حاتم عن سير العملية بقوله: «تقدمت الموجة الأولى وفتح المناضلون ثغرة فى الأسلاك، لكنها لم تكن كافية فقامت الدبابة «الفيات» بفتح ثغرة أخري، تقدمت منها لداخل المستعمرة، وخلفها باقى الدبابات، حيث اشتبكت مع الدشم ودمرت بعضها، وتمكنت عناصر المشاة من احتلال دشمة واحدة فقط، ولم تتمكن باقى الفصيلة من متابعة الدبابات لشدة نيران العدو، فيما تقدمت الموجة الثانية بعد الأولى بنصف ساعة، ودخلت المعركة وأحكمت غلق الثغرات، وكان واجبها استغلال نجاح الموجة الأولي، واحتلال القطاع الأيمن من المستعمرة، لكنها لم تتمكن من الدخول للمستعمرة بسرعة، نظرا لاستخدام العدو للمدافع المضادة للدبابات».
فى الساعة الواحدة والنصف ظهرا كما تقول سطور حاتم، صدرت الأوامر من القائد العام بالانسحاب لوصول معلومات تفيد بأن العدو يزحف بقوات كبيرة لعمل هجوم مضاد، على الجانب الأيمن، وبدأ بالفعل فى فتح نيران شديدة، من مدافع الهاون مركزة على الدبابات، فانسحبت القوات المشتركة فى العملية عدا الدبابات، التى بقيت لعمل ستارة من الدخان حتى الساعة الثالثة، لستر انسحابها ولإتمام عملية انسحاب باقى القوات التى عادت بالفعل للمجدل، وكما ذكرت السطور، فإن المعركة أسفرت عن خسارة دبابة واحدة، واستشهاد جندى بدرجة أومباشى اسمه محمد أبو الريش عبد العزيز.
ثم تضيف سطور البكباشى عبد القادر حاتم فتقول: «فى الفترة من ٢ إلى ٧ يونيو، تم إعداد وتجهيز الدبابات للعمليات، وصدرت الأوامر بالاستعداد لاحتلال مستعمرة نيتساليم، وهذه العملية شاركت فيها قوات مشتركة من الكتيبة التاسعة مشاة وسرية من الكتيبة السابعة وكتيبة دبابات، بالإضافة لكتيبة سيارات مدرعة، ووحدات مساعدة بقيادة القائمقام محمد كامل الرحمانى بك، وكان المخطط هو الاستيلاء على المستعمرة على مرحلتين.. الأولى تحتل منطقة الفناطيس والحمام، بالجانب الأيمن، فيما تكون مهمة القوات المشاركة فى المرحلة الثانية احتلال الجانب الأيسر منها واحتلالها كاملة».
وتستمر حكاية المعركة الثانية لاحتلال مستعمرة نيتساليم فيقول حاتم: «نظرا لعدم القيام بعمليات استكشاف واختبار للأرض المناسبة للدبابات، تداخلت المرحلتين ودخلت الدبابات كتيبة كاملة غير مجزأة، وقامت بالآتى: فى الساعة العاشرة تقدمت الدبابات فى الأرض المناسبة، واقتربت من المستعمرة حتى أحاطت بها من الجانب الأيمن «منطقة الفناطيس»، واشتبكت مع العدو بنيرانها، إلى أن تمكنت من إسكات جميع الدشم، وفى العاشرة والنصف تسللت قوات المشاة داخل بقايا مستعمرات الجيش الإنجليزي، إلى أن أصبحت خلف الدبابات مباشرة، ثم فتحت ثغرات داخل أسلاك المستعمرة، وتقدمت واحتلت دشم المنطقة، فاضطر العدو للانسحاب إلى الجانب الأيسر من المستعمرة».
بعد ذلك كما تقول سطور البكباشى حاتم: «فى المرحلة الثانية تقدمت المشاة فى منطقة الفناطيس للضلع المقابل، وانفصلت سرية دبابات ومعها رئاسة الكتيبة إلى الجانب الأيمن وانضمت مع المشاة المذكورة لتغطية الثغرة بين الفناطيس والبحر بالنيران، ومعاونة المشاة أثناء التقدم واحتلال باقى المواقع خلف المنطقة، فانسحبت جميع عناصر العدو إلى الجانب الأيسر، مما دعا لإرسال سريتى دبابات للمعاونة مع كتيبة السيارات لسحق مقاومة العدو فى تلك المنطقة، فكان لها أكبر الأثر فى تسليم العدو، فيما لم تخسر القوات المصرية سوى سائق الدبابة الفيات، أما المعدات فلا خسائر فيها».
عملية تبة الفناطيس
تقول سطور عبد القادر حاتم: «كان من المقدر بداية الهدنة فى يوم ١٠ يونيو ١٩٤٨، من الساعة العاشرة صباحا، فانتهز اليهود الفرصة واحتلوا تبة الفناطيس لقطع الطريق بين المجدل وأسدود، وفى الساعة ٥٠٠ الخامسة صباحا يوم ٩ يونيو وصلت أوامر بطلب سرية دبابات واحدة للمعاونة مع قوة الكتيبة التاسعة مشاة، لطرد العدو من مواقعه، على أساس تقدير قوته بفصيلة مشاة واحدة.. تقدمت السرية بقيادة ملازم أول محمد فؤاد السيوفى، حسب الخطة الموضوعة، ومعها جماعة هاون، ووصلت إلى مسافة ٢٠٠ متر من الجهة اليسرى، واشتبكت مع العدو، فى مواقعه إلى أن أصبحت النيران مؤثرة جدا، وعند ذلك بدأ العدو فى الرد عليها بنيران مركزة، سببت خسائر فادحة فى جماعة الهاون، مما اضطرها للانسحاب فيما بقيت الدبابات وحدها فى مواقعها. ولما كان العدو قد عزز قواته بسرعة فقد طلبت سرية دبابات أخرى قيادة الملازم ثان فؤاد كرارة، وتقدمت إلى مدى قريب من العدو.
وفى الساعة ٩٠٠ كان الموقف كالتالي، لا يزال العدو فى مواقعه بمواجهة سرية دبابات على مسافة ١٠٠ متر، وسرية على الجانب الأيسر على نفس المسافة السابقة، فيما المشاة يحتلون تبة على مقربة من العدو، ولا توجد خطوط اقتراب مستورة تمكن المشاة من التسلل إلى مواقع الدبابات، ليبقى الموقف على هذه الحال حتى الساعة ١٠٠٠- العاشرة صباحا- حيث صدرت الأوامر إلى باقى كتيبة الدبابات للتحرك من المجدل إلى المعركة، وحين وصلت تمكنت القوة من اقتحام مواقع العدو وأجبرته على التسليم، ثم تقدمت المشاة لاحتلال الموقع واستلمت الأسري، ثم تقدمت الدبابات لستر احتلال المواقع، ومواجهة أى هجوم مضاد، حتى صدرت الأوامر من القيادة بالانسحاب، ولم نخسر يومهات سوى جندى واحد هو الأومباشى محمد صالح هنداوي، بالإضافة إلى ٣ دبابات دمرت من تأثير الألغام، وفى اليوم التالى ١٠ يونيو قام العدو بهجوم مضاد، إلا أن قوات المشاة قامت بصده وطرده، وفى الساعة العاشرة صباحا صدرت الأوامر بإيقاف إطلاق النار.
كوكبة وبيت عفة
كانت الهدنة من ١٠ يونيو ولمدة شهر، وهى فترة مرت فى بدايتها هادئة، وكان واجب الدبابات وقتها هو حراسة تقاطع الطرق « كوكبة – برنيس»، وهو الطريق الرئيسى للمستعمرات لتموين الجنوبية، ولم يكن يسمح بمرور قوافل تموين إلا ما كانت تحت إشراف مندوبى الأمم المتحدة، لكن بدأ اليهود فى اختراق وقف إطلاق النار، وهاجموا القرى العربية الآمنة متحدين أوامر وقف القتال، فاحتلوا قرية كوكبة، مما اضطر السلطات المصرية للرد عليهم وإخراجهم بالقوة، وفى ليلة التاسع من يوليو استولى العدو على قريتى تبة عفة وعبديس، فطلبت رئاسة اللواء الرابع سرية دبابات للاشتراك فى الهجوم على القريتين المذكورتين».
لكن بعد محاولات عديدة ذكرها حاتم فى مذكراته عن كتيبة الدبابات اللوكوست، حيث نجحت القوات فى استعادة قرية بيت عفة، واقتحمت قرية عبديس فى النهار، مكبدة العدو خسائر فادحة، إلا أنها انسحبت ليلا إلى قرية بيت عفة، وسحبت جميع المعدات المعطلة لإصلاحها بالقاعدة، ثم حاولت فى اليوم التالى اقتحام قرية عبديس، إلا أنها هوجمت بشراسة من القوات الصهيونية، فلم تتمكن من متابعة التقدم، وأعيد الهجوم مرة أخرى، لكنه منى بالفشل لشدة نيران العدو، ولم تفلح القوات فى العملية، حتى بعد استعانتها بسريتين إضافيتين، إحداهما سعودية والأخرى سودانية.
القراءة بعيدا عن تفصيلات القوات التى ذكرها حاتم فى ذكرياته عن معارك الدبابات فى حرب النكبة، تؤكد أن هناك قصورا فى التسليح وضعفا فى التنسيق بين القوات المختلفة العربية أو المصرية على حد سواء، حدث هذا فى معارك عدة بعد إقرار الهدنة الأولى، وتجلت بعد انتهائها، مثل معارك نجبا الثانية وإسحاق بيرون، رغم تكبيد العدو خسائر كبيرة، إلا أن القوات المشتركة لم تفلح فى مهمتها وهى احتلال البلدتين.. النتيجة التى توصلنا إليها من خلال السطور التى كتبها البكباشى وقتها محمد عبدالقادر حاتم، ربما تؤكدها أو تنفيها ذكريات قائد الثورة البكباشى وقتها أيضا جمال عبد الناصر عن نفس الحرب.
لم أكن متفرجا
فى بداية مذكراته عن حرب فلسطين قال جمال عبد الناصر: «لم أكن فى مأساة فلسطين أجلس على مقاعد المتفرجين! كما كنت أجلس فى تلك القصة المثيرة التى شاهدتها فى إحدى دور السينما بالقاهرة منذ بضعة أسابيع! كنت أيامها على المسرح.. مع غيرى من آلاف الضباط والجنود الذين زيفت عليهم هزيمة لم يرتكبوها!».
ويكمل جمال عبد الناصر فى مذكراته: «ذات صباح.. وجدت نفسى مع عبد الحكيم عامر وزكريا محيى الدين نودع صديقنا وزميلنا فى اللجنة التأسيسية للضباط الأحرار، كمال الدين حسين، وكان فى طريقه إلى فلسطين مع غيره من الأصدقاء والزملاء، كنا نواعدهم على اللقاء بعد يوم غير بعيد فى الأرض المقدسة التى سوف يسبقوننا إليها، كنا نؤكد لهم فى حماسة ملتهبة أننا سنحاول من القاهرة أن نبذل جهدنا لإنجاح معركتهم، وكان آخر شيء قلته لكمال الدين حسين قبل أن يتحرك القطار: «إذا احتجت شيئا فابعث لى سوف ألاحق أي طلبات لكم فى الجيش، ولن نترك الروتين العادى والتواكل والتهاون تعيق طريقكم! وتحرك القطار.. وقلوبنا تهتز من فرط الانفعال!».
ثم يضيف: «ذات يوم قيل لنا أن دفعتنا من كلية أركان الحرب، سوف تتخرج قبل الوقت المحدد، فإن احتمالات فلسطين تقضى بهذا، وكان احتفال التخرج بسيطا، هرعنا بعده لنعرف أين ينتهى بنا المطاف، وصدرت لى الأوامر بأن ألتحق بالكتيبة السادسة، وصدرت الأوامر لعبد الحكيم عامر لكى يلتحق بالكتيبة التاسعة، ولزكريا محيى الدين لكى يلتحق بالكتيبة الأولي، وكانت الكتائب الثلاث يومها على الحدود، ولم يكن هناك من يعرف على وجه اليقين ما الذى ستأتى به الأيام المقبلة! وكنا نحن الثلاثة على أى حال نتعجل الزمان، لكى نستطيع أن نلحق بكتائبنا على الحدود، وكانت الأوامر الصادرة لنا بأن نغادر القاهرة يوم ١٦ مايو ١٩٤٨، ولكن حماستنا لم تكن تطيق الانتظار.. غادرت بيتى صباح ١٦ مايو أحمل حقيبة الميدان، بعد أن تركت على إحدى الموائد صحيفة الصباح، وكانت صفحتها الأولى مليئة بالبلاغ الرسمى الأول الذى صدر عن وزارة الدفاع فى ذلك الوقت يروى للناس بداية العمليات الحربية فى فلسطين. وبأحاسيس صادقة ومشاعر عميقة، ولم يكد القطار يتحرك فى اتجاه ميدان القتال حتى أصبح الركن الذى جلست فيه مع عبد الحكيم عامر وزكريا أشبه بغرفة عمليات حربية! وفتحنا خريطة كبيرة بيننا.. وبدأنا نناقش الموقف.. وبدت أمامنا للوهلة الأولى فجوات كان يمكن أن يتسرب منها إلى خطوطنا خطر!
أسئلة ناصر الحرجة
كان الجيش المصرى يومها مكونا من تسع كتائب، ولكن ثلاثا منها فقط كانت قرب الحدود حينما صدر الأمر بدخول فلسطين! وكانت هناك كتيبة رابعة فى الطريق، وكنا نتساءل والقطار يندفع بنا إلى ميدان القتال: لماذا لم يحشد عدد كبير من الكتائب ما دمنا نريد دخول حرب فلسطين؟ ولماذا لم تستدع جنود الاحتياطى لكى تكون منها كتائب جديدة ترسل إلى الميدان على عجل؟
ثم لماذا يصف البلاغ الرسمى الأول عمليات فلسطين بأنها مجرد حملة لتأديب العصابات الصهيونية؟ على أى حال، فإن الحماسة لم تلبث أن ملأت الفجوات جميعا، وسدت ما بينها! لكن الإحساس بالفجوات المنذرة بالخطر، لم يلبث أن عاد إلينا عندما وصل القطار إلى العريش، كان المظهر الخارجى للبلدة الغارقة فى ظلام الليل الحالك، يتلاقى فى خيالنا مع الهيبة التى كنا نتصورها للقاعدة الخلفية لميدان العمليات، لكن المتناقضات كانت تصدمنا كلما تعمقنا داخل المظهر الخارجى إلى صميم العمل الحربي، الذى كان يجب أن تقوم به القاعدة، لم يكن هناك من يهتم بنا أو يرشدنا إلى ما يتعين علينا صنعه، ولم نكن ندرى أين مواقع وحداتنا بالضبط حتى نستطيع أن نلحق بها، ولم نجد أحدا يستطيع أن يرشدنا إلى هذه المواقع!
الكتيبة في الدنجور
وبكل صراحة يصف جمال عبد الناصر الوضع البائس الذى وجد عليه الجيش المصرى فى فلسطين قائلا: «كان الجو فى الكتيبة السادسة حين وصلت إليها فى حال عجيب! كانت قد فرغت لتوها من العملية العسكرية ضد مستعمرة الدنجور، وعادت بعدها إلى مراكزها فى رفح، وتركت الكتيبة وراءها على أرض المعركة حول الدنجور بعض الضحايا، ولكنى أحسست أنه كان من بين الضحايا الذين تركتهم الكتيبة عند الدنجور إيمانها بالحرب التى تخوض غمارها! وبدأت أسمع التفاصيل.. صدرت الأوامر من القاهرة بأن تتحرك الكتيبة إلى الدنجور فى ليلة ١٥ (مايو)، ولم يكن هناك وقت لكى تستكشف الكتيبة هدفها الذى سوف تهاجمه، وكذلك لم تكن هناك معلومات قدمت عنه! وكان هناك دليل عربى واحد!
كانت مهمة الدليل قيادة الكتيبة إلى موقع مستعمرة الدنجور، ولم يكن هذا الدليل يعلم شيئا عن تحصيناتها ودفاعها، وكل الذى قام به هو إرشاد الكتيبة إلى الطريق، ويدلى لها بمعلومات غير واضحة، ولا دقيقة حتى ظهرت أمامها فجأة تحصينات الدنجور! لم يسترح الجنود بعد الرحلة الشاقة، وإنما اندفعوا نحو الأسلاك! ولم يكن هناك من يعرف ما الذى يجب عمله على وجه التحديد، لكن المدافعين عن الدنجور كانوا يعرفون! وأصيبت الكتيبة بخسائر لم تكن متوقعة! وعند الظهر أصدر القائد أمره بالابتعاد عنها، وعادت الكتيبة إلى رفح، لتجد بلاغا رسميا أذيع فى القاهرة يقول: «إنها أتمت عملية تطهير الدنجور بنجاح! ولاحظت بين الذى سمعته من تفاصيل ظاهرتين هامتين، الأولي، أن هناك نغمة بين الضباط تقول إن الحرب حرب سياسية، وكان لهذه النغمة ما يؤيدها ويتناسق معها من كل من رأوا حولهم أنه لم يكن معقولا أن تكون هذه حربا! لا قوات تحتشد، لا استعدادات فى الأسلحة والذخائر لا خطط.. لا استكشافات..ولا معلومات! ومع ذلك فهم هنا فى ميدان قتال!
كان أول أيام جمال عبد الناصر فى حرب فلسطين كافيا ليحكم بنفسه على حال الجيش المصرى هناك، ويدرك مبكرا أي كارثة تنتظره فى هذه المعارك التاريخية، حيث سجل فى يومياته فى حرب فلسطين بعد أيام من وصوله إليها فقال: «بدأت بعدها كأركان حرب للكتيبة السادسة، أشعر بالحيرة والعجز اللذين كانا يحكمان قيادتنا العليا، أكثر من غيرى! كانت مئات من العوامل تتنازعني.. ولم أكن أعرف الوسيلة التى أعبر بها عما أحس، وأعترف أننى سمعت من أحد الجنود تعبيرا واضحا عن حالتنا، قاله الجندى بلغته الساذجة الدارجة، ولم يكن يعرف أننى أسمعه، ولا كان يعرف أن عبارته الساذجة الدارجة كانت وصفا صادقا لما كنا فيه! جاءت الأوامر إلى الكتيبة بأن تهد معسكرها الذى تقيم فيه، وتنقل إلى مكان آخر يبعد عنه ثلاثة كيلو مترات، ولم أكن أستطيع تصور الغرض من هذا التحرك! ولكن الكارثة الكبرى أن الذين أصدروا أمرهم لم يكونوا يعرفون له غرضا هم الآخرون! وكان الدليل أنه بعد ثلاث ساعات من هذا الأمر، وبينما نحن نقيم المعسكر الجديد، جاءتنا أوامر بالتحرك إلى المحطة وركوب القطار المتجه إلى غزة، وبدأنا نهد الخيام التى لم نكد نفرغ من إقامتها، وجاء أحد الجاويشية إلى جندى كان منهمكا فى إقامة إحدى الخيام وقال له: «يا عسكري.. هد الخيمة، ونظر الجندى فى دهشة إلى الجاويش، ولما علم بأن أوامر جديدة بالتحرك لركوب القطار قد صدرت، بدأ يهد الخيمة التى هدها فى الصباح من مكانها، وبدأ عند الظهر يقيمها فى مكان جديد، ثم أمر بهدها مرة أخرى قبل أن يفرغ من إقامتها، فسمعت الجندى بأذنى يقول: يا خيبتنا.. يا خيبتنا! قالها منغمة ممدودة.. بلهجة ريفية ساخرة، وأحسست أن الشكوك التى كانت تساورنى حول عجز قيادتنا وترددها قد وصلت إلى الجنود، وأن هذا هو التعبير البسيط الساذج عنها».
لماذا لم يحشد عدد كبير من الكتائب ما دمنا نريد دخول حرب فلسطين؟ ولماذا لم تستدع قوات الاحتياطى لكى تكون منها كتائب جديدة ترسل إلى الميدان على عجل؟ ثم لماذا يصف البلاغ الرسمى الأول عمليات فلسطين بأنها مجرد حملة لتأديب العصابات الصهيونية.

 
قبل كل شئ كل سنة وكل المصريين واخوتنا العرب بخير
كل سنة وبلادنا دايما قوية منتصرة متمسكة بعقيدة التوحد والخير والايمان بالله
ورحمة الله علي كل شهدائنا
 
عودة
أعلى