ماذا على أردوغان فعله إزاء الخطر الكبير الذي يواجه تركيا؟
علي سيريني
منذ مجئ أردوغان إلى السلطة في عام 2003، تشهد تركيا تغيراً جذريا متصاعدا وملفتا، يشبه إلى حد كبير المعجزات التي نسمعها في القصص التي تتلى على مسامعنا حول التاريخ الغابر. ففي تركيا التي كانت تطبق مبادئ أتاتورك بصرامة أكثر حدة من التعاليم الدينية في المعابد المقدسة، كانت هناك شؤون وأمور أساسية تم توزيعها على منطقتين لا ثالث لهما، بل ولا منزلة وسطى بينهما: ممنوع قطعا أو مسموح وفق مبادئ أتاتورك الصارمة. من جملة الممنوع قطعا، أو المحرمات الموبقات، كانت القضية الكـُردية والهوية والثقافة الكـُرديتان. فبالنسبة إلى الإنسان الكـُردي كان العيش في تركيا، إن لم يكن جحيما، كان سجنا كبيرا يصارع فيه يائساً الملاحقات القانونية التي رافقها على الأغلب التعذيب والإهانة، والذوبان في حضن اليأس والبؤس!
في تلك الأزمنة، أي قبل عام 2003، كان الكـُرد الشمالييون (نسبة إلى شمال كـُردستان) والموصوفون بأتراك الجبال، قد عُرّفوا لدى أوساط غربية بأنهم "الكـُرد السيئون" مقارنة بإخوانهم الجنوبيين (كُرد العراق) "الكـُرد الطيبون". ومكمن هذا التعريف نشأ كنقد ملحوظ لسياسة الغرب عموما، والولايات المتحدة خصوصا، في الكيل بالمكيالين، إزاء الكـُرد في العراق والكـُرد في تركيا. فعلى طول المدة التي خاض حزب العمال الكـُردستاني حربه على تركيا منذ عام 1984، صنّف الغرب هذا الحزب كحزب إرهابي، وتمت ملاحقته القانونية في أستراليا وأوروبا وأمريكا، إلى حد تم تسليم قادته إلى تركيا أكثر من مرة، وأشهر مرة تم فيها تسليم قادة الحزب إلى تركيا كانت في عام 1999، حين رفضت أوروبا زعيم الحزب عبدالله أوجلان كلاجئ سياسي، ومن ثم طردته إلى أفريقيا، ولاحقا تورطت في تسليمه إلى تركيا إبان حكم بولند أجاويد (الزعيم اليساري العلماني الراحل).
اليوم ما عاد التعريف الغربي المذكور، الذي صنّف كـُرد تركيا بالسوء، يأبه بإيجاد أدلة له على أرض الواقع! بل على العكس، تحول كـُرد تركيا في عين الإعلام الغربي، منذ الأحداث التي عصفت بمنطقتنا قبل خمسة أعوام، إلى "قدوات" في الحريّة والمساواة بين الرجل والمرأة، مما جذب غربيين كـُثر إلى صفوفهم للقتال ضد الإسلاميين في سوريا! فمنذ الربيع العربي في عام 2011، لم يتردد حزب العمال الكُردستاني في حجز مقعده في الحلف الشيعي بقيادة إيران. ولم يتوان هذا الحزب في أن يتحول إلى ذراع عسكرية للنظام السوري والإيراني، وشارك وما يزال في الحرب الدائرة في سوريا وفي العراق، بل وعلى الحدود الإيرانية، حيث قام حزب العمال بمهاجمة مقاتلي الحزب الديموقراطي الكـُردستاني المعارض لنظام إيران، مما خلّف العشرات بين قتيل وجريح بين الحزبين المذكورين.
حاول أردوغان وحزبه كثيراً الوصول إلى إتفاق سلام نهائي مع الحزب المذكور. إلا أن الملفت في الأمر، أن حزب العمال لم يكن يأبه كثيرا بهذه المحاولات، وظل أعضاء قيادته يطلقون على الدوام تصريحات نارية وإستفزازية، في الوقت الذي كانت وفود السلام تهم بزيارة جبل قنديل في كـُردستان العراق (حيث تستقر قيادة الحزب وقواعده)، أو أنها كانت عائدة لتوها إلى تركيا لتحمل ردود الحزب إلى السلطات التركية. كان إندفاع أردوغان وحزبه، لتحقيق السلام مع الحزب الكـُردي، نابعا من تخطيط إستراتيجي لمستقبل تركيا والمنطقة عموما. أردوغان يملك تخطيطا إستراتيجيا لعام 2023، يهدف إلى الإرتقاء بتركيا إلى واحدة من الدول الخمس الأكبر إقتصاديا في العالم. ومن أجل ذلك، قام أردوغان بما يشبه المعجزة منذ عام 2003 حيث أصلح الإقتصاد التركي المنهار وحرر تركيا من الديون الثقيلة التي تجاوزت العشرات من المليارات. لكن أردوغان كان على علم أن هدفه الأكبر لعام 2023، لن يتحقق إلا بتحقيق سلام عادل مع الشعب الكـُردي، في تركيا و في العراق أيضا. المعضلة الكبرى التي واجهت أردوغان كمنت في إندفاعه المذكور نحو السلام، وفي إمتلاكه لمشروع إقتصادي ونهضوي جبار لتركيا المستقبل. فالإندفاع المذكور، شكـّل نقطة ضعف ملفتة للنظر في ما يتعلق بمسألة السلام مع الكـُرد، قام حزب العمال الكُردستاني يداعبها حينا ويهملها أغلب الأحيان، نكاية بأردوغان وحزبه الإسلامي! أما تخطيط أردوغان لمستقبل تركيا فكان صدمة للعالم الغربي، الذي حاول أن يمتص صدمته بهدوء، ويخلق مضادا حيويا لتخطيط أردوغان بهدوء أيضا! ومن هنا فإن أحلام ومشاريع أردوغان شكـّلت خطرا عضويا عليه هو وحزبه لأسباب منها:
أولا، ضاقت إسرائيل بسياسات أردوغان ذرعا، وبدأت قلقة جدا ومستاءة إلى حد بعيد تجاه السياسات "العثمانية الجديدة".
ثانيا، فكـّر الغرب بجدية أن مضي أردوغان قدما في بنائه الإقتصادي والعمراني، يعني الدفع بتركيا نحو الصدارة والقوة التي قد تؤرق ذاكرة الغرب الممتدة إلى ما قبل قرن، إزاء الخلافة العثمانية التي ردت أوروبا على أعقابها طويلا، وصدت أطماعها ومشاريعها "الإستعمارية"!
ثالثا، تهيئة وبناء النموذج الإسلامي المعتدل الناجح في السياسة والسلطة، مما يعني إنتقال "العدوى" إلى الدول الإسلامية الأخرى وفق نظرة الغرب وهواجسه.
رابعا، مخاوف وأقلاق الجبهة الشيعية بقيادة إيران تجاه تنامي قوة تركيا وريادتها للعالم الإسلامي الذي يشكل المسلمون السنة أكثريته.
ومن هنا، فإن نقطة ضعف أردوغان في تخطيطه ومشاريعه غير المحمودة لدى الغرب، كانت الإستنزاف والخطر القادمين من جهة حزب العمال الكـُردستاني. هذا الضعف هو بمثابة كعب آخيل في عملية التخطيط الأردوغاني لمستقبل تركيا. ومما يفاقم الأمر خطورة، هو نتائج الربيع العربي التي فتحت الأبواب على مصراعيها أمام التدخلات الإيرانية المباشرة والعلنية في العراق وفي سوريا ولبنان، والتي شكـّلت وتشكل تهديدا مباشرا لقوة تركيا وتطورها وأمنها وهيبتها. لذلك وجد الغرب ضالته في الجبهة الشيعية بقيادة إيران، وكذلك في حزب العمال الكـُردستاني الذي تحول إلى أداة إيرانية سورية في الحرب الدائرة في المنطقة عموما. وفي أعقاب صعود تنظيم الدولة الإسلامية، صعد نجم هذا الحزب، وتحول فجأة في الإعلام العالمي إلى حزب تحرري، ومسلحوه إلى مقاتلين من أجل الحرية!
مع هذا الصعود المفاجئ، وتزامنا مع الحرب السورية والدعم الغربي والإيراني لهذا الحزب، تم صعود أعضاء علويين إلى سدة القيادة، في مؤتمر جرى بقنديل، على مقربة من جناح مرشد الثورة الإيرانية قبل نحو عامين أو أكثر. وتزامنت هذه الأحداث مع خفوت لافت لدور الزعيم التاريخي للحزب، عبدالله أوجلان، الذي حافظ على شعبيته بين الكـُرد، لكنه أمسى عاجزا في فرض رأيه على الحزب الذي بات أمره في يد الأقلية العلوية المتنفذة، على رأي عثمان أوجلان، القيادي الأسبق في حزب العمال الكـُردستاني وشقيق زعيمه. ويبدو أن الأتراك أدركوا أيضا أن أوجلان ما عاد الزعيم الآمر والناهي، بل رمزا يستغله كل طرف لتمرير سياساته وأهدافه، إلى حد ليس بعده حد، سوى رفض قيادة حزب العمال عودة عجلة التاريخ إلى الوراء، بتسنم عبدالله أوجلان مقاليد السلطة في حزبه، كما كان في السابق. أي أن الحزب بحلّـته الجديدة وقيادته الطائفية، ما عادت ترى في وجود أوجلان سوى رمز يمكن توظيفه، لحشد الطاقات الكـُردية بقيادة علوية، لها أهدافها واستراتيجياتها وعلاقاتها الإقليمية المرتبطة، بمحور تاريخي، تنبع سياساته من مركزية لا تعمل بعفوية في إختيار السلم والحرب في هذه المنطقة الملتهبة. بإختصار، يريد الحزب أوجلان في السجن وليس زعيما ذي ظل ثقيل، يعود إلى سلطة باتت رهينة سياسات جديدة واصطفافات جديدة، ليس بمقدور حزب العمال الكـُردستاني التخلص منها، حتى ولو لم تكن توافق رغبة أوجلان وأهدافه. وبدا هذا واضحا في كل مرة، كان يلتقي فيها أعضاء قيادة حزب الشعوب الديموقراطي (ظل حزب العمال الكـُردستاني في تركيا والحائز على 79 مقعدا نيابيا في البرلمان التركي) بعبدالله أوجلان. فكلما كان أوجلان يصرّح بتصريح، كانت قيادة الحزب ترد في جبل قنديل، أنها لا تعمل بتوصية أوجلان، متحججة بأن أوجلان سجين يفتقد إلى إرادة حرّة!
قبل أسابيع، أشعل حزب العمال الكـُردستاني فتيل الحرب من جديد، مستقوياً بدعم وتحريض النظامين الإيراني والسوري، من أجل خلق حرب إستنزاف مستمرة ضد أردوغان وحزبه. فضلا عن هذا، فإن حزب العمال يبدو أكثر حماسة في إقدامه على الحرب، بعد أن قرأ الموقف الغربي الداعم له ضمنا وعلنا، بسبب حربه ضد تنظيم الدولة والإسلاميين في سوريا، وكذلك بسب وقوفه مع المحور الإيراني السوري المتناغم مع الإستراتيجيات الغربية. ومن هنا تحول الحزب إلى آداة طائعة لقطبي السياسة اليوم في منطقة الشرق، القطب الإيراني والقطب الغربي بزعامة أمريكا، وكلاهما كانا يبحثان عن قوة مثل قوة حزب العمال تستطيع أن تحقق بالحرب ما يسعد الطرفين الإيراني والغربي معا. ومكمن الإتفاق بين هذين القطبين يرتكز على نقطة جوهرية وهي تدمير وتشتيت العالم الإسلامي السنـّـي وشلّ قوته وقدراته.
هذا السياق، يشكل خطرا حقيقيا على مشاريع أردوغان وخططه لمستقبل تركيا، ومستقبل السلام في المنطقة. لذلك فإن الخطوة التي أراها واجبة في هذا الشأن إتخاذها، من قبل الحكومة التركية، هي إطلاق سراح عبدالله أوجلان من سجنه، بعد فحصه من قبل لجنة طبية دولية والتأكد من سلامته وصحته، ومن ثم إطلاق سراحه نحو دولة أوروبية. وبهذه الخطوة يرمي أردوغان الكرة إلى ملعب خصومه، الذين هم في واقع الحال لا يأبهون بأوجلان، لكنهم يتخذونه ذريعة كقميص عثمان. المهم في هذه المسألة أمران. أولهما أن أوجلان وهو فعلا يريد السلام مع تركيا، على نقيض الجناح العلوي في حزبه، سيصطدم لا محال بهذا الجناح المدعوم من قبل إيران وسوريا والغرب في الآونة الأخيرة. وبهذا، يعرّي أردوغان دعاوي حزب العمال وتحججه بأسر أوجلان. ومن ناحية أخرى، فإن الشعبية التي يحظى بها أوجلان بين كـُرد تركيا، تجعله القوة التي ترجح كفة الميزان ضد الجناح الموالي لإيران. وفي النتيجة، فإن قوة هذا الجناح تضعف وتتلاشى بين الأوساط الكـُردية الموالية له في تركيا، ثم تنحصر في مجموعة مسلحة لا شعبية لها بين الأكثرية السنـّية الكـُردية في تركيا. أما إذا اختار أوجلان أن يصطف مع هذا الجناح ويتبنى سياساته، وهذا ما أستبعده، فإن تركيا تثبت للكـُرد في تركيا والمنطقة أنها فعلا تريد السلام معهم، لكن الذي يقف ضد ذلك هو حزب العمال الكـُردستاني الذي بات جزءا من أجندات إقليمية ودولية، لا علاقة لها بمصالح الكـُرد وحقوقهم. ومن هنا لا فرق جوهري بالنسبة لتركيا، بين وجود أوجلان في السجن، وبين وجوده خارج تركيا بين أنصاره.
لذلك فإن حاجة تركيا الماسّة إلى حل هذه المشكلة تستدعي أول ما تستدعي، تخليص الأكثرية الكـُردية السنيّة، من هيمنة القيادات العلوية الموالية لإيران وسوريا. ولن يتحقق هذا الأمر في الوقت الحاضر حسب ما أراه إلا بثلاثة طرق:
أولا، إطلاق سراح عبدالله أوجلان، برفقة كادر طبي عالمي، يؤكد سلامة الرجل الصحية أثناء الخروج من تركيا نحو أوروبا.
ثانيا، أو وضع أوجلان تحت الإقامة شبه الجبرية في منطقته، وإعطائه حرية الإتصال والعمل السياسي الذي يتيح له الإمساك بزمام الأمور من جديد عبر جذب الحاضنة الشعبية نحوه، وتفويت الفرصة على حزب العمال، من إستغلال هذه الحاضنة، في الوقت الذي ينطلق من قواعد متصلة بهيمنة إيرانية سورية، تستهدف أمن وإستقرار تركيا.
ثالثا، إنسحاب تركيا من جنوب شرقي تركيا على غرار إنسحاب نظام صدام حسين من شمال العراق في عام 1991، للتخلص من العبء الذي تشكله هذه المنطقة على الدولة. حينئذ تضع تركيا حزب العمال الكـُردستاني (ذي النزعة التسلطية الإقصائية) أمام الشعب الكـُردي، الذي لا شك، لن يتحمل طويلا الشرعية الثورية لهذا الحزب الذي لا يتوان في إستعمال الإرهاب والقوة ضد خصومه، ولا يسمح بأدنى حرية للتعدد السياسي والفكري في المناطق التي يسيطر عليها، وخير دليل على هذا هو مناطق شمال سوريا التي وقعت في قبضة هذا الحزب منذ عام 2011، حيث مارس سياسة التطهير السياسي والحزبي ضد الفصائل الكـُردية الأخرى.
تركيا اليوم أمام إمتحان صعب، لا يمكن التعامل معه إلا بعقلانية بعيدة عن تأثيرات آيديولوجية الدولة التركية المتراكمة، والعاطفة الشعبية العامة التي تتشكل عادة بتأثير هذه الآيديولوجية، والأجواء التي تحتم ردات فعل عاطفية لا تأبه بالمنطق والعقلانية في أمور السياسة.
والأمور اليوم منوطة بعواقبها، وعلى تركيا أن لا تتردد في إختيار الحل المرّ، لصد المخططات العدوانية الهائلة التي تواجهها من قبل العالم الغربي والعالم الشيعي، وكلاهما يشكلان العدوين التاريخيين لجوهر تركيا السنيّة التي لم تقدر من تغيير معادلة العداء لدى هذين العالَـمين، عبر عقود طويلة من العلمنة والحداثة، وبعد عن الإسلام. فجوهر التاريخ لا يتغير بعمليات تجميل بلاستيكة لجلد الدولة والمجتمع!
علي سيريني
منذ مجئ أردوغان إلى السلطة في عام 2003، تشهد تركيا تغيراً جذريا متصاعدا وملفتا، يشبه إلى حد كبير المعجزات التي نسمعها في القصص التي تتلى على مسامعنا حول التاريخ الغابر. ففي تركيا التي كانت تطبق مبادئ أتاتورك بصرامة أكثر حدة من التعاليم الدينية في المعابد المقدسة، كانت هناك شؤون وأمور أساسية تم توزيعها على منطقتين لا ثالث لهما، بل ولا منزلة وسطى بينهما: ممنوع قطعا أو مسموح وفق مبادئ أتاتورك الصارمة. من جملة الممنوع قطعا، أو المحرمات الموبقات، كانت القضية الكـُردية والهوية والثقافة الكـُرديتان. فبالنسبة إلى الإنسان الكـُردي كان العيش في تركيا، إن لم يكن جحيما، كان سجنا كبيرا يصارع فيه يائساً الملاحقات القانونية التي رافقها على الأغلب التعذيب والإهانة، والذوبان في حضن اليأس والبؤس!
في تلك الأزمنة، أي قبل عام 2003، كان الكـُرد الشمالييون (نسبة إلى شمال كـُردستان) والموصوفون بأتراك الجبال، قد عُرّفوا لدى أوساط غربية بأنهم "الكـُرد السيئون" مقارنة بإخوانهم الجنوبيين (كُرد العراق) "الكـُرد الطيبون". ومكمن هذا التعريف نشأ كنقد ملحوظ لسياسة الغرب عموما، والولايات المتحدة خصوصا، في الكيل بالمكيالين، إزاء الكـُرد في العراق والكـُرد في تركيا. فعلى طول المدة التي خاض حزب العمال الكـُردستاني حربه على تركيا منذ عام 1984، صنّف الغرب هذا الحزب كحزب إرهابي، وتمت ملاحقته القانونية في أستراليا وأوروبا وأمريكا، إلى حد تم تسليم قادته إلى تركيا أكثر من مرة، وأشهر مرة تم فيها تسليم قادة الحزب إلى تركيا كانت في عام 1999، حين رفضت أوروبا زعيم الحزب عبدالله أوجلان كلاجئ سياسي، ومن ثم طردته إلى أفريقيا، ولاحقا تورطت في تسليمه إلى تركيا إبان حكم بولند أجاويد (الزعيم اليساري العلماني الراحل).
اليوم ما عاد التعريف الغربي المذكور، الذي صنّف كـُرد تركيا بالسوء، يأبه بإيجاد أدلة له على أرض الواقع! بل على العكس، تحول كـُرد تركيا في عين الإعلام الغربي، منذ الأحداث التي عصفت بمنطقتنا قبل خمسة أعوام، إلى "قدوات" في الحريّة والمساواة بين الرجل والمرأة، مما جذب غربيين كـُثر إلى صفوفهم للقتال ضد الإسلاميين في سوريا! فمنذ الربيع العربي في عام 2011، لم يتردد حزب العمال الكُردستاني في حجز مقعده في الحلف الشيعي بقيادة إيران. ولم يتوان هذا الحزب في أن يتحول إلى ذراع عسكرية للنظام السوري والإيراني، وشارك وما يزال في الحرب الدائرة في سوريا وفي العراق، بل وعلى الحدود الإيرانية، حيث قام حزب العمال بمهاجمة مقاتلي الحزب الديموقراطي الكـُردستاني المعارض لنظام إيران، مما خلّف العشرات بين قتيل وجريح بين الحزبين المذكورين.
حاول أردوغان وحزبه كثيراً الوصول إلى إتفاق سلام نهائي مع الحزب المذكور. إلا أن الملفت في الأمر، أن حزب العمال لم يكن يأبه كثيرا بهذه المحاولات، وظل أعضاء قيادته يطلقون على الدوام تصريحات نارية وإستفزازية، في الوقت الذي كانت وفود السلام تهم بزيارة جبل قنديل في كـُردستان العراق (حيث تستقر قيادة الحزب وقواعده)، أو أنها كانت عائدة لتوها إلى تركيا لتحمل ردود الحزب إلى السلطات التركية. كان إندفاع أردوغان وحزبه، لتحقيق السلام مع الحزب الكـُردي، نابعا من تخطيط إستراتيجي لمستقبل تركيا والمنطقة عموما. أردوغان يملك تخطيطا إستراتيجيا لعام 2023، يهدف إلى الإرتقاء بتركيا إلى واحدة من الدول الخمس الأكبر إقتصاديا في العالم. ومن أجل ذلك، قام أردوغان بما يشبه المعجزة منذ عام 2003 حيث أصلح الإقتصاد التركي المنهار وحرر تركيا من الديون الثقيلة التي تجاوزت العشرات من المليارات. لكن أردوغان كان على علم أن هدفه الأكبر لعام 2023، لن يتحقق إلا بتحقيق سلام عادل مع الشعب الكـُردي، في تركيا و في العراق أيضا. المعضلة الكبرى التي واجهت أردوغان كمنت في إندفاعه المذكور نحو السلام، وفي إمتلاكه لمشروع إقتصادي ونهضوي جبار لتركيا المستقبل. فالإندفاع المذكور، شكـّل نقطة ضعف ملفتة للنظر في ما يتعلق بمسألة السلام مع الكـُرد، قام حزب العمال الكُردستاني يداعبها حينا ويهملها أغلب الأحيان، نكاية بأردوغان وحزبه الإسلامي! أما تخطيط أردوغان لمستقبل تركيا فكان صدمة للعالم الغربي، الذي حاول أن يمتص صدمته بهدوء، ويخلق مضادا حيويا لتخطيط أردوغان بهدوء أيضا! ومن هنا فإن أحلام ومشاريع أردوغان شكـّلت خطرا عضويا عليه هو وحزبه لأسباب منها:
أولا، ضاقت إسرائيل بسياسات أردوغان ذرعا، وبدأت قلقة جدا ومستاءة إلى حد بعيد تجاه السياسات "العثمانية الجديدة".
ثانيا، فكـّر الغرب بجدية أن مضي أردوغان قدما في بنائه الإقتصادي والعمراني، يعني الدفع بتركيا نحو الصدارة والقوة التي قد تؤرق ذاكرة الغرب الممتدة إلى ما قبل قرن، إزاء الخلافة العثمانية التي ردت أوروبا على أعقابها طويلا، وصدت أطماعها ومشاريعها "الإستعمارية"!
ثالثا، تهيئة وبناء النموذج الإسلامي المعتدل الناجح في السياسة والسلطة، مما يعني إنتقال "العدوى" إلى الدول الإسلامية الأخرى وفق نظرة الغرب وهواجسه.
رابعا، مخاوف وأقلاق الجبهة الشيعية بقيادة إيران تجاه تنامي قوة تركيا وريادتها للعالم الإسلامي الذي يشكل المسلمون السنة أكثريته.
ومن هنا، فإن نقطة ضعف أردوغان في تخطيطه ومشاريعه غير المحمودة لدى الغرب، كانت الإستنزاف والخطر القادمين من جهة حزب العمال الكـُردستاني. هذا الضعف هو بمثابة كعب آخيل في عملية التخطيط الأردوغاني لمستقبل تركيا. ومما يفاقم الأمر خطورة، هو نتائج الربيع العربي التي فتحت الأبواب على مصراعيها أمام التدخلات الإيرانية المباشرة والعلنية في العراق وفي سوريا ولبنان، والتي شكـّلت وتشكل تهديدا مباشرا لقوة تركيا وتطورها وأمنها وهيبتها. لذلك وجد الغرب ضالته في الجبهة الشيعية بقيادة إيران، وكذلك في حزب العمال الكـُردستاني الذي تحول إلى أداة إيرانية سورية في الحرب الدائرة في المنطقة عموما. وفي أعقاب صعود تنظيم الدولة الإسلامية، صعد نجم هذا الحزب، وتحول فجأة في الإعلام العالمي إلى حزب تحرري، ومسلحوه إلى مقاتلين من أجل الحرية!
مع هذا الصعود المفاجئ، وتزامنا مع الحرب السورية والدعم الغربي والإيراني لهذا الحزب، تم صعود أعضاء علويين إلى سدة القيادة، في مؤتمر جرى بقنديل، على مقربة من جناح مرشد الثورة الإيرانية قبل نحو عامين أو أكثر. وتزامنت هذه الأحداث مع خفوت لافت لدور الزعيم التاريخي للحزب، عبدالله أوجلان، الذي حافظ على شعبيته بين الكـُرد، لكنه أمسى عاجزا في فرض رأيه على الحزب الذي بات أمره في يد الأقلية العلوية المتنفذة، على رأي عثمان أوجلان، القيادي الأسبق في حزب العمال الكـُردستاني وشقيق زعيمه. ويبدو أن الأتراك أدركوا أيضا أن أوجلان ما عاد الزعيم الآمر والناهي، بل رمزا يستغله كل طرف لتمرير سياساته وأهدافه، إلى حد ليس بعده حد، سوى رفض قيادة حزب العمال عودة عجلة التاريخ إلى الوراء، بتسنم عبدالله أوجلان مقاليد السلطة في حزبه، كما كان في السابق. أي أن الحزب بحلّـته الجديدة وقيادته الطائفية، ما عادت ترى في وجود أوجلان سوى رمز يمكن توظيفه، لحشد الطاقات الكـُردية بقيادة علوية، لها أهدافها واستراتيجياتها وعلاقاتها الإقليمية المرتبطة، بمحور تاريخي، تنبع سياساته من مركزية لا تعمل بعفوية في إختيار السلم والحرب في هذه المنطقة الملتهبة. بإختصار، يريد الحزب أوجلان في السجن وليس زعيما ذي ظل ثقيل، يعود إلى سلطة باتت رهينة سياسات جديدة واصطفافات جديدة، ليس بمقدور حزب العمال الكـُردستاني التخلص منها، حتى ولو لم تكن توافق رغبة أوجلان وأهدافه. وبدا هذا واضحا في كل مرة، كان يلتقي فيها أعضاء قيادة حزب الشعوب الديموقراطي (ظل حزب العمال الكـُردستاني في تركيا والحائز على 79 مقعدا نيابيا في البرلمان التركي) بعبدالله أوجلان. فكلما كان أوجلان يصرّح بتصريح، كانت قيادة الحزب ترد في جبل قنديل، أنها لا تعمل بتوصية أوجلان، متحججة بأن أوجلان سجين يفتقد إلى إرادة حرّة!
قبل أسابيع، أشعل حزب العمال الكـُردستاني فتيل الحرب من جديد، مستقوياً بدعم وتحريض النظامين الإيراني والسوري، من أجل خلق حرب إستنزاف مستمرة ضد أردوغان وحزبه. فضلا عن هذا، فإن حزب العمال يبدو أكثر حماسة في إقدامه على الحرب، بعد أن قرأ الموقف الغربي الداعم له ضمنا وعلنا، بسبب حربه ضد تنظيم الدولة والإسلاميين في سوريا، وكذلك بسب وقوفه مع المحور الإيراني السوري المتناغم مع الإستراتيجيات الغربية. ومن هنا تحول الحزب إلى آداة طائعة لقطبي السياسة اليوم في منطقة الشرق، القطب الإيراني والقطب الغربي بزعامة أمريكا، وكلاهما كانا يبحثان عن قوة مثل قوة حزب العمال تستطيع أن تحقق بالحرب ما يسعد الطرفين الإيراني والغربي معا. ومكمن الإتفاق بين هذين القطبين يرتكز على نقطة جوهرية وهي تدمير وتشتيت العالم الإسلامي السنـّـي وشلّ قوته وقدراته.
هذا السياق، يشكل خطرا حقيقيا على مشاريع أردوغان وخططه لمستقبل تركيا، ومستقبل السلام في المنطقة. لذلك فإن الخطوة التي أراها واجبة في هذا الشأن إتخاذها، من قبل الحكومة التركية، هي إطلاق سراح عبدالله أوجلان من سجنه، بعد فحصه من قبل لجنة طبية دولية والتأكد من سلامته وصحته، ومن ثم إطلاق سراحه نحو دولة أوروبية. وبهذه الخطوة يرمي أردوغان الكرة إلى ملعب خصومه، الذين هم في واقع الحال لا يأبهون بأوجلان، لكنهم يتخذونه ذريعة كقميص عثمان. المهم في هذه المسألة أمران. أولهما أن أوجلان وهو فعلا يريد السلام مع تركيا، على نقيض الجناح العلوي في حزبه، سيصطدم لا محال بهذا الجناح المدعوم من قبل إيران وسوريا والغرب في الآونة الأخيرة. وبهذا، يعرّي أردوغان دعاوي حزب العمال وتحججه بأسر أوجلان. ومن ناحية أخرى، فإن الشعبية التي يحظى بها أوجلان بين كـُرد تركيا، تجعله القوة التي ترجح كفة الميزان ضد الجناح الموالي لإيران. وفي النتيجة، فإن قوة هذا الجناح تضعف وتتلاشى بين الأوساط الكـُردية الموالية له في تركيا، ثم تنحصر في مجموعة مسلحة لا شعبية لها بين الأكثرية السنـّية الكـُردية في تركيا. أما إذا اختار أوجلان أن يصطف مع هذا الجناح ويتبنى سياساته، وهذا ما أستبعده، فإن تركيا تثبت للكـُرد في تركيا والمنطقة أنها فعلا تريد السلام معهم، لكن الذي يقف ضد ذلك هو حزب العمال الكـُردستاني الذي بات جزءا من أجندات إقليمية ودولية، لا علاقة لها بمصالح الكـُرد وحقوقهم. ومن هنا لا فرق جوهري بالنسبة لتركيا، بين وجود أوجلان في السجن، وبين وجوده خارج تركيا بين أنصاره.
لذلك فإن حاجة تركيا الماسّة إلى حل هذه المشكلة تستدعي أول ما تستدعي، تخليص الأكثرية الكـُردية السنيّة، من هيمنة القيادات العلوية الموالية لإيران وسوريا. ولن يتحقق هذا الأمر في الوقت الحاضر حسب ما أراه إلا بثلاثة طرق:
أولا، إطلاق سراح عبدالله أوجلان، برفقة كادر طبي عالمي، يؤكد سلامة الرجل الصحية أثناء الخروج من تركيا نحو أوروبا.
ثانيا، أو وضع أوجلان تحت الإقامة شبه الجبرية في منطقته، وإعطائه حرية الإتصال والعمل السياسي الذي يتيح له الإمساك بزمام الأمور من جديد عبر جذب الحاضنة الشعبية نحوه، وتفويت الفرصة على حزب العمال، من إستغلال هذه الحاضنة، في الوقت الذي ينطلق من قواعد متصلة بهيمنة إيرانية سورية، تستهدف أمن وإستقرار تركيا.
ثالثا، إنسحاب تركيا من جنوب شرقي تركيا على غرار إنسحاب نظام صدام حسين من شمال العراق في عام 1991، للتخلص من العبء الذي تشكله هذه المنطقة على الدولة. حينئذ تضع تركيا حزب العمال الكـُردستاني (ذي النزعة التسلطية الإقصائية) أمام الشعب الكـُردي، الذي لا شك، لن يتحمل طويلا الشرعية الثورية لهذا الحزب الذي لا يتوان في إستعمال الإرهاب والقوة ضد خصومه، ولا يسمح بأدنى حرية للتعدد السياسي والفكري في المناطق التي يسيطر عليها، وخير دليل على هذا هو مناطق شمال سوريا التي وقعت في قبضة هذا الحزب منذ عام 2011، حيث مارس سياسة التطهير السياسي والحزبي ضد الفصائل الكـُردية الأخرى.
تركيا اليوم أمام إمتحان صعب، لا يمكن التعامل معه إلا بعقلانية بعيدة عن تأثيرات آيديولوجية الدولة التركية المتراكمة، والعاطفة الشعبية العامة التي تتشكل عادة بتأثير هذه الآيديولوجية، والأجواء التي تحتم ردات فعل عاطفية لا تأبه بالمنطق والعقلانية في أمور السياسة.
والأمور اليوم منوطة بعواقبها، وعلى تركيا أن لا تتردد في إختيار الحل المرّ، لصد المخططات العدوانية الهائلة التي تواجهها من قبل العالم الغربي والعالم الشيعي، وكلاهما يشكلان العدوين التاريخيين لجوهر تركيا السنيّة التي لم تقدر من تغيير معادلة العداء لدى هذين العالَـمين، عبر عقود طويلة من العلمنة والحداثة، وبعد عن الإسلام. فجوهر التاريخ لا يتغير بعمليات تجميل بلاستيكة لجلد الدولة والمجتمع!