► الجيش .. العمود الفقرى فى الحياة المصرية
► العيش السعيد لا يأتى إلا تحت رايات النصر
► خبراء: الجيش المصرى سحق الأعداء فى 955 معركة وهزم 12 مرة فقط
► تاريخنا الحربى معطر بدماء الشهداء وحكام مصر أدركوا أن تحقيق الاستقرار الداخلى مرهون بتأمين الحدود
► العسكرية المصرية القديمة علمت العالم مفاهيم الفكر الاستراتيجى ومصطلحاته وأساليب القتال القائمة حتى اليوم
► مجدو.. قادش.. حطين.. عين جالوت.. المورة.. قونية..عكا..نصيبين.. أكتوبر..ملاحم حربية صنعتها «أم الدنيا»
► مينا وأحمس وتحتمس ورمسيس الثانى وسنوسرت الثالث وصلاح الدين وقطز وبيبرس وقلاوون وإبراهيم باشا «قادة عظماء» حفروا اسم مصر فى سجلات الفخار
► جيش «الكنانة» حمى العالم المتحضر من همجية المغول وحرر الشرق من عدوانية الغرب الصليبى
► عبقرية محمد على جعلت الجيش المصرى دعامة الاستقلال وقاعدة النهضة والتحديث الشامل
► المؤسسة العسكرية «وسيط الخير» فى ثورة 25 يناير أبهرت العالم بانحيازها لإرادة المواطنين وحماية المتظاهرين
► عبدالناصر بنى الجيش وأرسى التجنيد الإجبارى.. والسادات بطل العبور والسلام
► فى ثورة 30 يونيو جددت القوات المسلحة العهد مع الشعب وأحيت الأمل فى المستقبل ضمانا للديمقراطية والاستقرار
► المصريون خير أجناد الأرض وإسهامات المؤسسة العسكرية فى التنمية لا تقل عن دورها فى ميادين القتال
لكل أمة من الأمم تاريخها الحربى الذى يرصد أحوال جيوشها وتطورها والوقائع التى خاضتها والقادة الذين أبلوا فيها، وما إلى ذلك من شئون تتصل بالحياة العسكرية التى تلخص بالضرورة دروسا قومية، يمكن أن يتلقاها الخلف عن السلف، لكننا - للأسف - أهملنا كثيرا دراسة تاريخنا العسكرى، وماتزال بعض حلقاته مفقودة، ولم يتناولها الباحثون عن كثب، لكشف حقيقة المعارك التى خاضها المقاتل المصرى بشرف، رغم أنها فى مجملها تشير إلى أن الجيش الوطنى منذ تكوينه الأول وحتى اليوم، قام بأروع الواجبات - طبقا لوثيقة منذ ستة آلاف سنة - وهذه المدة على وجه التقريب هى أيضا تمثل تاريخ الجيش المصري.
وعلى الرغم من ذلك، يقول الدكتور عبد الرحمن زكي، فى كتابه "الجيش فى مصر القديمة": ليس ثمة من يجهل الجندى المصرى الذى نسج لوادى النيل تاريخا من أزهى وأعرق تواريخ الأمم على الإطلاق، وخلف تراثا سيظل معينا للفخار على مر الأيام، بعد أن حارب المصرى فى آسيا وأفريقية وأوروبا، فوطئت قدماه أرضها، وامتطى ظهر مياهها، وامتزجت دوماؤه بترابها، وخلد ذكرى قلما يدانيها جندى مثله، بينما الأمم كلها كانت تتيه فى بيداء الجهالة.
نعم لقد اقتاد الجيوش رجال من أمثال " مينا وأحمس وتحتمس ورمسيس وبسماتيك وصلاح الدين الأيوبى وقطز وقلاون وعلى الكبير وإبراهيم، مرورا بأحمد عرابى وعبد الناصر والسادات ، وصولا للرئيس السيسي"، وصنعوا أساطير تؤكد أن مصر عاشت أمة مستقلة، ذات سيادة خلال معظم تلك السنين الطوال بفضل زعمائها من رجال الإدارة والجيش، وبجهود شعبها الحي، فعلى عاتق هؤلاء الجنود من أبناء النيل، ومن هذا الوادى الأخضر تدفقت الجيوش المصرية، لا تستحثها رغبة التوسع على حساب الآخرين، ولا تلهبها سياط السوء للاعتداء على المجاورين، لا ، فإن المصريين - فى شتى حروبهم - كانوا دائبى الوصول إلى حدودهم الطبيعية، ليأمنوا غزوات المعتدين أو نقض المتعاقدين أو من أجل الدفاع عن حليف.
ومما يجدر قوله أن الجندية كانت فى مصر القديمة فى طليعة المهن التى تسبغ الشرف على صاحبها، وتمنحه ميزة - إن لم تكن مميزات - على أقرانه، بل أكثر من ذلك أن الجندى حظى بالتقدير والاحترام مثلما حظى الكاهن نفسه، وغنى عن القول أن أعمال الجيش آنذاك، كانت تستهوى فى القلوب موضع الحب، ومثل هذه الحقيقة تتبدى بجلاء حين نشاهد النقوش الأثرية مشتملة صورة الفتية وهم يتنقلون فى صفوف منتظمة، أو فى أفنية التدريب، يعدون أويتلقون دروس الرماية بالقوس والطعن بالحراب، ولما عرفت مصر ميزات الأسلحة المدرعة والسريعة أدخلتها الجيوش ودربت جندها على استخدامها.
فلم يك بدعا أن تموج المدن المصرية فى أيام الفراعنة بالشبيبة المتوقدة حماسة ونشاطا، الزاخرة بالإقدام وحب الجندية، وإننا كلما نتأمل فى تمارين القتال البادية على النقوش الأثرية، كلما تمثلت لنا صورة وضاءة لأمة حربية ألفت الحرب لأنها آمنت بأن العيش السعيد لا يتأتى إلا فى ظل النصر.
ومن ثم واصلت الشخصية المصرية عطاءها فى العصر الحديث بفضل دعم أبناء جيشها, لتعطى نماذج جديدة يهتدى بها العالم فى الصمود والعزيمة، والدفاع عن الحقوق والحريات, فقد قامت ثورة 1881م وشارك فيها جميع فئات الشعب, لتطالب بتأسيس مجلس نيابى يدافع عن حقوق ومطالب الشعب, ونجحت فى تأسيس دستور جديد سمى بـ"دستور الثورة فى فبراير 1882م"، ثم تفجرت ثورة 1919م التى شارك فيها الفلاحون والعمال والطلبة والنساء, والمسلمون والأقباط من أجل الاستقلال عن بريطانيا, ليقدموا نموذجا فريدا فى الوحدة الوطنية، وبعد أكثر من ثلاثين عاما وتحديدا يوم 23 يوليو 1952 م ثار المصريون من جديد تحت قيادة الجيش المصرى, ليطالبوا بتحقيق العدالة الاجتماعية وإقامة النظام الجمهورى وتطبيق الديمقراطية، ورغم هزيمة 1967م انتصر المصريون بعد ذلك على الجيش الاسرائيلى، الذى كان يدعى أنه لا يقهر فى عام 1973م , ليتعلم العالم منهم الكثير عن أصول الحرب والسلام.
ولقد جاءت ثورة "25يناير 2011م" ليصنع المصريون التاريخ كعادتهم من جديد، ومع الجيش كتفا بكتف استطاعوا يغيروا بلدهم إلى الأفضل, ويطالبوا بالقضاء على الفساد والاستبداد , ويقدموا نموذجا حضاريا فريدا يرقى لمستوى الأسطورة فى 30 يونيو 2013م، فى كيفية المطالبة بالديمقراطية ودعم الحريات، ووضع خارطة طريق لمستقبل آمن، وبفضل قيادة المشير عبدالفتاح السيسى أعاد المصريون الأمل وجددوا فى 3 يوليو 2013 عهدا وشرفا للجندية المصرية، أمكن من خلاله استحضار ذات المجد القديم على ضفاف النهر العظيم.
والآن دعونا نحاول أن نعرض طيفا من تاريخنا الحربى المعطر بدماء الشهداء الذين يظللون حياتنا بأرواحهم التى ترفرف من حولنا دوما ، وفى خلال السطور القادمة نبحر قليلا فى عمق التاريخ ، علنا نستطيع أن نوضح وبتلخيص غير مخل : كيف تكون جيش مصر؟، وكيف التحم مع الشعب؟، وكيف كان ومازال الجيش يمثل حائط الصد والدرع الواقي؟، وفوق كل ذلك كيف بقى العمود الفقرى فى الحياة المصرية على مر التاريخ؟.
تذكر المصادر التاريخية أن أول وأقدم جيش نظامى فى العالم تأسس قبل 7 آلاف سنة كان فى مصر، بل إن البعض يقول إن تأسيس الجيش سبق نشوء الدولة المصرية الحديثة، فقد كانت مصر منذ أكثر من سبعة آلاف عام - بحسب تلك المصادر التاريخية - مقسمة إلى عدد من المقاطعات التى كانت تدخل مع بعضها فى حروب تارة، أو فى وحدة تارة أخرى، حتى فرضت المصلحة المشتركة للشعب المصرى - وقتها - أن تتحد تلك المقاطعات مع بعضها فى وحدة واحدة أكبر تشمل ممالك تغطى كلا من الدلتا والصعيد، ولما كان مصدر الحياة الوحيد هو نهر النيل والرزق الذى يجنيه الناس من تنظيم مياه النيل رزقا مشتركا، كان ضروريا أن تتعاون كل أجزاء الوطن، إلى أن انتظمت الحياة بجهود أبناء مصر فى مجال الزراعة وضبط مياه النيل واتباع التقويم الشمسي الذى قسم السنة إلى 12 شهرا، والشهر إلى 30 يوما.
ولكن سرعان ما دبت النزاعات السياسية والدينية بين هذه الممالك حتى أدت فى النهاية إلى تكوين مملكتين قويتين مستقلتين، هما مملكة شمالية فى الدلتا ، كانت عاصمتها «قر» بدسوق الحالية، وبالقرب منها عاصمة دينية عبدت فيها الإلهة «واجيت» التى مثلت على هيئة ثعبان الكوبرا، وانتسب إليها ملوك الدلتا الذين لبسو تيجانا حمراء، ورمزوا لمملكتهم بزهرة البردي، وممكلة جنوبية فى الصعيد كانت عاصمتها بالقرب من قرية» الكوم الأحمر» شمالي «إدفو «وتقابلها عاصمة دينية عبدت فيها الإلهة «نخبت» التى رمز إليها بطائر «الرخمة «وانتسب إليها ملوك الصعيد الذين لبسو تيجانا بيضاء قمعية الشكل، ورمزو لمملكتهم بزهرة اللوتس.
وفى حوالي 3200 ق .م ظهرت أسرة قوية فى مدينة «طيبة» استطاع أحد ملوكها» مينا نارمر نعرمر» توحيد مصر نهائيا، مؤسسا بذلك الأسرة الفرعونية الأولى، وبدأت بذلك ملامح النظام الإدارى تتضح، وأصبح هناك على رأس الدولة «ملك» تتبعه مجموعة من الأجهزة والإدارات، وأدرك ملوك مصر من الوهلة الأولى أن من بين أسباب تحقيق الاستقرار الداخلى ضرورة تأمين حدود البلاد، بعدما بدأ يظهر فى الأفق بعض المتسللين على حدود مصر الشرقية والغربية والجنوبية، ومن هنا بدأت فكرة تكوين قوات حراسة وحاميات صغيرة لتأمين هذه الحدود .
جيش الدولة القديمة
بدأت بواكير الجيش المصري النظامى تظهر فى أثناء حكم الأسرة الخامسة، ثم أصبح الأمر أكثر وضوحا منذ الأسرة السادسة، وخصوصا فى عهد أشهر ملوكها «بيبي الأول»، ففى عهده قام البدو القاطنون على الحدود الشرقية بإحدى غاراتهم على الدلتا، ولما كانوا أكثر من أن تستطيع فرق المقاطعات الواقعة على الحدود مواجهتهم فقد قرر الملك «بيبى الأول «استدعاء جميع الفرق العسكرية لتعمل تحت إمرة أحد كبار رجال عهده هو «وني»، وقد روى لنا هذا القائد أخبار هذه الحملة من خلال سيرته الذاتية على جدران مقبرته بمعبد «أبيدوس» مركز البلينا محافظة سوهاج .
وهكذا خاض الجيش المصري أول معركة حقيقية فى هذه الفترة المبكرة من تاريخ مصر القديم ــ وكتب له فيها النصر على سكان فلسطين، وبدا واضحا بعد ذلك أن مصر أصبحت فى حاجة إلى جيش قوى يحمى أرضها ويحقق لها الأمان والاستقرار، ولقد كان الملك «سنوسرت الثالث» أحد أشهر العسكريين فى تاريخ مصر القديمة عندما توجه على رأس جيشه أكثر من مرة للحرب جنوبا.
مطاردة الهكسوس
فى عصر الانتقال الثانى الذى تلا سقوط الدولة الوسطى، والذى صادف غزو الهكسوس لمصر، والذين أذاقوا أهلها مرارة الاحتلال، وحد المصريون صفوفهم وتسلحوا بأقوى العتاد، وتحمل عبء هذا النضال ثلاثة من حكام طيبة «الأقصر حاليا» هم «سقنن رع»، وابناه «كامس وأحمس»، وأتى الأول فى المعركة وهو يقود جيشه دفاعا عن شرف مصر، وحمل الراية من بعده ابنه «كامس» الذى ورد فى أحد النصوص المصرية القديمة على لسانه مخاطبا شعبه: «سأقاتل الهكسوس حتى يقسم كل مصرى باسمي، إننى أريد أن يتحدث كل منهم عني، قائلا : ها هو «كامس» محرر مصر»، وبالفعل حقق «كامس» نصرا مؤزرا على جيش الهكسوس بالقرب من الأشمونين .
وعلى شجاعته وإقدامه فقد سقط «كامس «فى إحدى المعارك ليحمل الراية من بعده شقيقه» أحمس» الذى واجه الهكسوس حيثما وجدوا، وتبقى أعظم انتصاراته التى خلدها التاريخ هى تلك التى نجح فيها بجيشه البرى وبأسطوله البحرى فى غزو عاصمة الهكسوس «أواريس» المعروفة حاليا بـ«تل الضبعة» مركز فاقوس ــ محافظة الشرقية، حين اجتاح الجيش المصرى المدينة واضطر الهكسوس إلى الانسحاب ، ثم تحصنو في حصن «شاروهين» في جنوب غزة، وظل الجيش المصرى يحاصرهم ثلاث سنوات، حتى سقط الحصن وقضى الجيش نهائيا على الهكسوس، ولم تقم لهم بعد ذلك قائمة، ليكتب الخلود للملك «أحمس» إلى الأبد.
وعلى عهدة المؤرخين، فقد خرجت مصر من حرب الهكسوس بمجموعة من الدروس المستفادة :
إنه لا إمكانية لتحقيق أمن البلاد وازدهارها إلا بتكوين جيش قوى يصون لها كرامتها ويشعر جيرانها بقوته.
أن الحكام والقادة العسكريين أدركوا أن الهجوم هو خير وسيلة للدفاع ، وبنوا سياستهم على أساس تأمين الحدود.
استوعب المصريون سلاح الهكسوس وهو العجلة الحربية، وكيفية تصنيعها فى مصر وبهذا السلاح نفسه انطلقت الجيوش المصرية لتكوين واحدة من أضخم إمبراطوريات العالم القديم .
وتلك الدروس، كما يشير الدكتور أحمد قدرى فى كتابه « المؤسسة العسكرية المصرية فى عصر الامبراطورية 1570 -1087 ق م « جعلت الجيش يلعب دورا رئيسيا فى حكم مصر بعد طرد الهكسوس، فلقد اكتسب المصريون موعظة بعد أول احتلال لبلادهم، فبدأوا فى تكوين جيش عامل كبير ومنظم، وبهذا الجيش العظيم تكونت إمبراطورية ضخمة من أوائل الامبراطوريات التى عرفها التاريخ، ضمت إلى مصر أرض السودان وفلسطين وسوريا وبعض بلاد النهرين، أى امتدت على حد تعبير المصريين القدماء «من قرن الرض حتى أطراف المياه المعكوسة « أى من وراء الجندل الرابع فى السودان إلى منعرج نهر الفرات فى أطراف سوريا الشمالية الشرقية.
ازدهار صناعة السلاح
ترجع البداية الحقيقية لتطور وازدهار صناعة السلاح فى مصر إلى ما بعد أن هزم الملك رمسيس الثانى الحيثيين فى معركة «قادش «والذى واكب عصر الامبراطورية، وأصبحت «طيبة» عاصمة مصر والامبراطورية، حيث انطلقت الجيوش وأقيمت الحاميات والمعسكرات للجند فى شرق البلاد وغربها وجنوبها، وازداد الجندى المصرى خبرة ومهارة، وهكذا بدأت مصر أعظم فترة عسكرية فى تاريخها، وأصبح لمصر جيش واحد، حتى صار هذا العصر ذا طابع عسكري، وآية ذلك أن جدران المعابد وغيرها تزخر بأخبار الانتصارات والفتوحات هنا وهناك، كما كان ملوك مصر يقدمون الأوسمة والنياشين للقادة العسكريين ، فنجد الملك «أحمس الأول» يمنح القائد «أحمس بن أبانا» نوط «ذهب الشجاعة» خمس دفعات تقديرا لبسالته فى المعارك، ووضعت الخطط للجيوش فى معاركها حسب نوعية العدو وعدد أفراد جيشه وطبيعة الأرض وموقع المعركة.
كما بدأ الجيش يتكون من مقدمة وقلب وميمنة وميسرة، بالإضافة إلى العناصر المساعدة في المقدمة وفي المؤخرة واتبع الجيش المصرى الكثير من الخطط العسكرية التى كان من بينها «الحرب المفاجئة» ثم هناك «التراجع التكتيكي» لإعادة تنظيم الصفوف و»التمويه والخداع» و»فرق الاستطلاع الحربي»، وكلها مصطلحات عسكرية معروفة ضمن أبجديات عمل الجيش حتى وقتنا الحالي، ولعل من أشهر المعارك التى خلدت هذا الجيش هى معركة «مجدو» التى جرت أحداثها فى عهد الملك «تحتمس الثالث»، وليس هناك شك أن أعمال «تحتمس الثالث» العسكرية فى هذه المعركة تعد مفخرة يعتز بها التاريخ الحربى فى العالم القديم ، فهو أول من نظم الجيوش وقسمها إلى قلب وجناحين ،وأول من درس ساحة القتال قبل أن يخوض المعركة، وأول من نفذ «الحرب الخاطفة المفاجئة»، وبفضل براعة «تحتمس الثالث» بدأ المصريون مبكرا فى تطبيق الأفكار الحربية الاستراتيجية، وقد لعبت «المناورات» الاستراتيجية التى تجريها الفرق والجيوش المصرية دورا حاسما فى كسب المعارك فى ميادين القتال، وذلك بفضل التدريب المستمر والمناورات العملية التى كان يشترك فيها «المشاة» متعاونين مع راكبى الخيول من الفرسان، وراكبى المركبات الحربية من الرماة، مع التدريب على جميع الحركات التكتيكية بين هذه الوحدات وبعضها، بشكل يجعلها قادرة على إحراز النصر بصفة مؤكدة فى أية معركة تدخلها مع العدو، مهما كان شكلها.
وجاء من بعده «أمنحتب الثاني» الذى كان هو الآخر محاربا من طراز رفيع، فاتخذ من والده «تحتمس الثالث «القدوة والمثل، ومن ثم فقد حقق لمصر كثيرا من الانتصارات، كما تحمل إلينا الأسرة التاسعة عشرة أسماء لامعة فى مجال العسكرية المصرية وعلى رأسهم الملك «سيتى الأول»، الذى تربى فى رحاب العسكرية المصرية، ونال من الخبرة ما أهله لكى يصبح قائدا من الطراز الأول، وبتوليه العرش وضع نصب عينيه تقوية دعائم الامبراطورية المصرية التى كانت قد تعرضت لبعض الهزات فى النصف الثانى من عصر الأسرة الثامنة عشرة، غير أن نجاح «سيتى الأول» فى كسر شوكة «مملكة خيتا» فى آسيا الصغري، من خلال المعارك التى خاضها ضدها بالقرب من» قادش «وخلفه على العرش ابنه «رمسيس الثاني «أحد أعظم ملوك العالم القديم، وصاحب العلامات البارزة للعسكرية المصرية، وصاحب أكبر المنشات عددا على أرض مصر. فقد نجح فى مواجهة أطماع ملك الحيثيين فى معركة «قادش» التى تعد بمثابة بوابة سوريا الشمالية، وكانت المعركة سجالا بين جيشين قويين، سجلت أخبارها علي جدران معابد «الكرنك والأقصر والرامسيوم وأبو سمبل» ، ولقد ذكر رمسيس فى سجلات هذه المعركة أن ملك الحيثيين قد طلب العفو حتى لا يفنى ما تبقى من رعاياه .
سيف الطبيب «سنوحي»
وهنا قصة تستحق أن تحكى فى ضرب المثل على تفاعل أبناء الشعب المصرى مع جيشه فى وقت الأزمات، فحتى ولو كان المصرى غريبا عن أرضه لا تتقطع أوصاله أبدا عن هذا التراب المقدس، والقصة تحكى أن الملك أمنمحات الأول» قد كبر فى السن، وبدأ الصراع الخفى بين اثنين من أبنائه على وراثة الحكم، كما يحكيها «سنوحى» الذى نشأ فى قرية «أتيت أواى» التى كانت عاصمة لمصر فى هذا الوقت، وكان أبوه طبيبا من أثرياء هذه المنطقة فى عصر الملك أمنمحات الأول» كما فى مذكراته: إنه سمع ذات ليلة أثناء سيره فى الطريق حديثاً خافتاً بين رجلين، واستشعر أنهما يدبران شيئاً خطيراً، فاقترب وسمع حديثهما، وعرف أن أحدهما هو سنوسرت الأول»، أحد أبناء الملك «أمنمحات»، وكانا يرتبان خطة قتل الملك.
أعتقد سنوحى أن أحد الرجلين قد لاحظ وجوده وسماعه لحديثهما، ففر مسرعاً وهو فى حيرة بين أمرين: أن يبلغ الملك لينقذه، أو أن يهرب بما عرفه من سر خطير ليحافظ على حياته، وفى النهاية قرر الفرار بعد أن حمل معه بعض أدواته الطبية التى كان يستعملها وهو يعمل مع أبيه الطبيب، وهرب سنوحى إلى بلاد «تنو العليا» وسط بلاد الشام، و التى كان «موتلي» ملكها، وعمل طبيباً للفقراء فى بادئ الأمر حتى ذاع صيته بكنية «سنوحى المصرى»، فطلبه الملك «موتلي» حين مرض يوماً، وتمكن سنوحى من علاجه فأحبه وجعله طبيبه الخاص المقرب منه، ومستشاره لاحقاً.
كانت علاقة «موتلي» بملك مصر سيئة للغاية، وكان يعد جيشه لهجوم كبير ضد مصر، وتمكن من تجهيز الجيش بسيوف معدنية، وكانت السيوف آنذاك تصنع من الخشب، وحيث اعتبروا هذا السيف المعدنى تطوراً وتقدماً نوعياً سيضمن لهم النصر على الجيش المصرى الذى يمتلك أسلحة تقليدية خشبية، تمكن سنوحى من الحصول على واحد من هذه السيوف، وأرسل رسالة إلى ملك مصر يطلب منه فيها الأمان ليعود لمصر ويقابله لأمر مهم، وأمنه الملك المصرى على حياته فعاد سنوحى إلى مصر ومعه السلاح الجديد، أمر الملك «سنوسرت الأول» بتسليح الجيش المصرى بنفس السلاح، وتأتى الحرب، ويتمكن الجيش المصرى من صد الغارة وملاحقة جيش العدو لخارج الحدود المصرية.
جيش مصر الإسلامية
فى كتابه « الجيش المصرى فى العصر الإسلامى من الفتح العربى إلى معركة المنصورة ، من عين جالوت إلى رشيد» يسرد لنا «الدكتور عبدالرحمن زكي» ملامح انتصارات وانكسارات عديدة، منذ الفتح العربى إلى معركة «المنصورة - م1250» ، والتى حكم مصر فيها ولاة وفدوا من المدينة أو دمشق، أو بغداد ، ثم من بعدهم الطولونيون والفاطميون وأسرة الأيوبيين التى أسسها صلاح الدين الأيوبي، وكلها مراحل تاريخية تشهد على براعة الجيش بعناصره وأسلحته ومعاركه التى خاضها ضد المعتدين على مصر.
وهنالك سير تروى عن كفاءة الجندى المصرى فى صد البيزنطيين»الروم» أعداء الدولة العربية عامة، والصليبيين الذين احتلوا القدس وساحل فلسطين، وفى عهد الفاطميين كانت مصر دولة كبرى تتزعم المنطقة بنفوذها البرى والبحري، كما تنافس بغداد فى الشرق، وقرطبة فى الغرب، بفضل نظم الجيش وأسلحته ومعاركه الظافرة على أيام السلطان صلاح الدين ، ومنها معركة حطين الحاسمة ، وتحرير القدس بعد إنزال الهزيمة الساحقة بالصليبيين.
وجدير بالملاحظة أن سياسة مصر العسكرية منذ القدم وهى سياستها التقليدية حتى يومنا هذا كانت سياسة دفاعية وليست هجومية ، وينبغى القول هنا بأن مصر وسورية كانتا فى معظم العصور الإسلامية تؤلفان وحدة سياسية، باستثناء بعض الفترات القصيرة، وهو ما يؤكد ضرورة التأكيد على هذا المصير المشترك فى الظرف الحالي.
معارك الشرف والفداء
كثيرة هى المعارك التى برهن المقاتل المصرى على الشرف والفداء ضمن جيوش المسلمين، وربما شكلت «معركة حطين» نقطة التحول الأولى والبارزة فى تاريخ الحروب للناصر صلاح الدين الإثيوبى، وكانت معركة فاصلة بين الجيوش الإسلامية وجيوش الصليبيين، وهو ما يؤكد أن العسكرية المصرية كانت تقف بكل أصالتها خلف هذا النصر. وقعت معركة «حطين» عام 1178، وكانت القوات الصليبية تحتل جزءا من المناطق الساحلية بفلسطين، وكانت تحصيناتهم تعتمد على الصراع القوى فى الدفاع والهجوم، وقد حشد الصليبيون عشية «حطين» جيشا يتألف من 50- 70 ألفا من الفرسان والمشاة، وبعد أن عقد الناصر صلاح الدين اجتماعا حربيا مع كبار قادته، حضره أخوه الملك العادل، استقر الرأى على الدخول فورا فى معركة فاصلة ضد قوات الصليبيين، ونبذ أسلوب الدفاع حتى لا تتزعزع ثقة الجند، وعرض صلاح الدين خطة الهجوم وقاد بنفسه جيوش المسلمين يوم الجمعة 25 ربيع أول هـ الموافق 3 يوليو 1178 م فى اتجاه «طبرية» ، وفى فجر السبت 4 يوليو 1178 التحم مع فرسان «جي» ملك الصليبيين، وتقدم وحطم محاولات الصليبيين ونجح فى عزل مؤخرتهم عن بقية الجيش، وبعد معارك طاحنة بين الجيش الاسلامى ضد الصليبيين أصيبت قوات الملك «جي» بخسائر فادحة انسحب على أثرها من جميع المواقع، وتم النصر المؤزر على الصليبيين فى معركة حطين الخالدة .
وتأتى «معركة المنصورة» كثانى الحروب التى تعبر عن تضامن الجيش المصرى مع الشعب فى الدفاع عن دمياط، فبعد هزيمة الصليبيين فى «حطين» جاءوا مدعومين بالفرسان والمدافع والآلات ليهاجموا مصر ويستوطنوا فيها، إلا أن قوى الشعب وقفت بالمرصاد ولقنوا هذه الحملة درساً فى مدينتى المنصورة ودمياط، ليتم القضاء نهائياً على تلك الحملات ، وعاد من تبقى منها عقب القضاء عليها إلى بلادهم. وقد انكسرت القوة الضاربة للجيوش الصليبية بعد معركة المنصورة فى فبراير 1250 م.
وهكذا كسرت مصر الروح الصليبية التى سادت القرن الثالث عشر الميلادى ، ذلك أن المملكة الصليبية فى الشام وبيت المقدس ما لبثت بعد فترة وجيزة من تلك المعركة الفاصلة أن تقلص ظلها ثم زالت، فلم يكد يمر واحد وأربعون عاما على انتهاء معركة المنصورة الخالدة حتى قام سلطان مصر باحتلال عكا فى 18 مايو 1291 م، وبذلك قضت مصر على البقية الباقية من الوجود الاستعمارى فى بيت المقدس .
الشاهد من التاريخ جيش مصر أظهر شجاعة نادرة فى الانتصار فى معركة «عين جالوت»، كان «جنكيزخان» قائد المغول قد بسط سلطانه على المحيط الهادى شرقا وحتى قلب أوروبا وعواصم الشام غربا، ومن بعده «مكوفان» حفيده الذى تولى عرش التتار واستدعى أخاه «هولاكو» ليقود الجيوش وأصدر تعليماته ليتقدم إلى ويجتاح إيران مروراً بالعراق، وفى تلك اللحظات التاريخية التى لم يهزم فيها التتار توجهوا للأمة الاسلامية فى الجزيرة والعراق وبلاد الشام ومصر ومملكة الصليبيين فى فلسطين.
وبعد سقوط بغداد فى يد التتار قاموا بالزحف الى سوريا، لتسقط «نصيبين وحمص وحراه والرها والبيرة وحلب»، توجه الجيش التتارى بعدها لغزة واستولوا عليها دون مقاومة، وهكذا أصبح الجيش التترى على بوابة مصر الشرقية، وبعد تولى السلطان «قطز» عرش مصر جاءته رسالة «هولاكو» بتسليم البلاد دون مقاومة ، ولكنه رفض بإباء وشمم، وبذل قصارى جهده من أجل جمع كلمة المسلمين للقضاء عليهم، فعمل على إعداد الجيش واستكمل عدده وعتاده وانتصر فى معركة «عين جالوت» فى 25 رمضان سنة 658 هـ.
وعلى عهدة الدكتور عبد الرحمن زكي، فإن سير معركة عين جالوت أظهر الجندى المصرى كفاءة خاصة على مستوى القتال والتكتيك العسكري، فعندما التقى الفريقان فى المكان المعروف باسم «عين جالوت» فى فلسطين فى 25 رمضان 658 هـ الموافق 3 سبتمبر 1260 م ، حين قام «سيف الدين قطز» بتقسيم جيشه لمقدمة بقيادة «بيبرس» وبقية الجيش يختبئ بين التلال وفى الوديان المجاورة كقوات دعم أو لتنفيذ هجوم مضاد أو معاكس، وبأسلوب الخداع الاستراتيجى قامت مقدمة الجيش بقيادة «بيبرس» بهجوم سريع ثم انسحبت متظاهرة بانهزام مزيف هدفه سحب خيالة المغول إلى الكمين، فى حين كان «قطز» قد حشد جيشه استعدادا لهجوم مضاد كاسح، ومعه قوات الخيالة الفرسان الكامنين فوق الوادي.
وانطلت الحيلة على «كتبغا» فحمل بكل قواه على مقدمة جيش المسلمين واخترقه وبدأت المقدمة فى التراجع إلى داخل الكمين، وفى تلك الأثناء خرج «قطز» وبقية مشاة وفرسان الجيش وعملوا على تطويق ومحاصرة قوات «كتبغا»، حيث كانت جيوش المسلمين تنزل من فوق تلال الجليل، والمغول يصعدون إليهم، ثم هجم «كتبغا» بعنف شديد إلى درجة أن مقدمة جيش المسلمين أزيحت جانبا، فاستبسل «كتبغا» فى القتال، فاندحر جناح ميسرة عسكر المسلمين وإن ثبت الصدر والميمنة، وعندئذ ألقى السلطان «قطز» خوذته عن رأسه إلى الأرض وصرخ بأعلى صوته «وإسلاماه»، وحمل بنفسه وبمن معه حتى استطاعوا أن يشقوا طريقهم داخل الجيوش المغولية، مما أصابها بالاضطراب والتفكك، ولم يمض كثيرا من الوقت حتى هزم الجيش المغولى ونصح بعض القادة «كتبغا» بالفرار فأبى الهوان والذل وقتل بعض أصحابه، وجرت بينه وبين رجل يدعى العرينان مبارزة حيث لم يمض وقت طويل عليها حتى سقط كتبغا صريعا مجندلا على الأرض وكان انتصاراً كبيراً للجيش المصرى.
يتبع ..