منذ خمسة وعشرين عامًا، في السابع من أغسطس عام 1990، انضم فريق مشترك بين الوكالات الأمريكية إلى اجتماع عاجل مع الملك فهد في المملكة العربية السعودية، ولا يعرفون ما سيحدث. وقبل ذلك بأسبوع كان العراق قد استولى على الكويت. خاف الأمريكيون من أنّ الجيش العراقي قد يستمر في المضي قُدمًا، ويستولي على حقول النفط السعودية، ونتيجة للقرارات التي اُتخذت في ذلك الاجتماع يوم 7 أغسطس؛ هيمن العراق والإرهاب على السياسة الخارجية الأمريكية على مدى ثلاثة عقود، وما زال يحتل الجزء الأكبر من السياسة الأمريكية حتى الآن.
كان يقود الفريق الأمريكي في ذلك الوقت وزير الدفاع ديك تشيني. وكان يرافقه الجنرال نورم شوارزكوف من القيادة المركزية الأمريكية. كنتُ هناك لتمثيل وزارة الخارجية الأمريكية، حيث كنت أشغل منصب وكيل الوزارة. جلسنا على يمين الملك فهد في مجلسه المغطى بالذهب، وعلى يساره كان العديد من أشقائه الذين كانوا أعضاء بمجلس الوزراء السعودي.
طلب تشيني من الجنرال شوارزكوف إخبار الملك بشأن ما يمكن أن يفعله العراقيون مع القوة العسكرية الكبيرة التي أدخلوها في الكويت. مع خرائط كبيرة وصور عديدة، أظهر الجنرال أنّ الدبابات العراقية يمكن أن تكون في الظهران، المدينة النفطية السعودية، في غضون ساعات. ثم قدّم تشيني عرضًا من الرئيس جورج بوش الأب لنشر الآلاف من قوات الولايات المتحدة للدفاع عن المملكة، على أن تغادر القوات الأمريكية عندما تنتهي الأزمة العراقية أو في أي وقت يريد الملك. وأكّد تشيني للملك فهد “نحن لا نسعى وراء أي وجود عسكري دائم“.
التفت الملك إلى إخوته وطلب رأيهم. كانوا معارضين بالإجماع لفكرة التدخل الأمريكي، ووجود قوات أمريكية على تراب أرض الحرمين الشريفين. لقد كان هناك الكثير من الانتقادات الداخلية إزاء قرار جلب القوات الفرنسية قبل 11 عامًا لاستعادة السيطرة على المسجد الحرام في مكة من الإرهابيين والمتعصبين دينيًا. تبيّن لنا من مناقشة الإخوة أنّ الملك سيرفض العرض الأمريكي.
تحدث الملك فهد مطولًا عن مدى عمله الشاق هو وعائلته لبناء دولة حديثة من مجموعة من القبائل الصحراوية. وكنتُ أتساءل في حوار مع إخوته عندما أنهى النقاش في النهاية، وأخذت نفسًا عميقًا، ثم قال: “أخبر الرئيس بوش أن يرسل القوات. أن يرسل جميع القوات، وبسرعة. أنا أقبل كلمته بأن القوات ستغادر عندما ينتهي الأمر. في الحقيقة، تفاجأت بهذا القرار“.
وبعد لحظات، ونحن في الطريق إلى موكبنا، دعا تشيني إلى حشد الجمهور في مدخل قصر الملك. وقال: “هناك كاميرات وصحفيون ينظرون لمعرفة تعابير وجوهنا، وما إذا قد وافق الملك على نشر القوات الأمريكية. لكنني سأعطيك وجهًا بلا أي تعابير“. وعندما خرجنا في الهواء الرطب، تراكم التراب على النظارات وعانينا لإيجاد طريقنا إلى السيارات. بعيدًا عن الوجوه الجامدة، بدا علينا الارتباك.
بمجرد وصولنا إلى قصر الضيافة، حاول تشيني مهاتفة الرئيس بوش. عانى مساعده العسكري للحصول على هاتف لإجراء المكالمة. وفي النهاية، تمكّن مساعده من الاتصال بالبيت الأبيض. قيل له إنّ الرئيس في اجتماع. غضب تشيني، الذي عادة ما يكون هادئًا في الخارج، وقال: “نحن على وشك الدخول في حرب، يجب أن أتحدث مع الرئيس“.
كان حديثهما وجيزًا. وعندما انتهى، اتجه تشيني إلى شوارزكوف وقال له ابدأ بتحريك القوات. كانت القيادة المركزية الأمريكية تمتلك خطة، ولكنّ قائدها لم يكن متأكدًا من أنّ الجيش الأمريكي قادر على تنفيذ تلك الخطة مع القليل من الاستعدادات. وفي غضون ساعات، كان هناك 82 من الحاملات الجوية في طريقها، وكذلك مئات من القاذفات المقاتلة التابعة للقوات الجوية الأمريكية. قال لنا شوارزكوف إنّ هناك وحدة من البنادق المحمولة جوًا في طريقها إلى مدينة الظهران ستكون مجرد “مطبات” إذا خرجت الدبابات العراقية على طول الساحل. وفي اليوم التالي سافرتُ إلى عُمان والإمارات العربية المتحدة والبحرين للحصول على موافقتهم على نشر مئات الطائرات الأمريكية الإضافية، والتي غادر بعضها بالفعل من القواعد الأمريكية.
وبعد بضعة أشهر، كان يوجد نصف مليون جندي أمريكي في منطقة الخليج. بعد أسابيع من القصف الجوي للقوات العراقية، هزم التحالف الذي قادته الولايات المتحدة الجيش العراقي في أربعة أيام من المعارك البرية. كان هناك خيار الانتقال إلى بغداد للإطاحة بصدام حسين، لكنّ الرئيس بوش ومستشاريه، بمن فيهم وزير الدفاع تشيني، رفضوا ذلك. وفي مناقشاتهم، اتفقوا أنّ الإطاحة بصدام حسين من منصبه يمكن أن تؤدي إلى تفكك العراق إلى فصائل ومناطق مختلفة.
في حين أنّ معظم القوات الأمريكية أُعيد إرسالها مرة أخرى إلى الولايات المتحدة، حيث تم تسريح العديد منهم، لكنّ بعض القوات ظلت في المملكة العربية السعودية. استمرار وجود “الكفار” في المملكة حفز أسامة بن لادن لإنشاء حركة إرهابية ضد أمريكا والملك السعودي. هاجمت تلك الحركة، تنظيم القاعدة، أمريكا في 11/ 9 بعد عقد من الزمن.
كجزء من اتفاق الاستسلام العراقي عام 1991، انتقل فريق الأمم المتحدة إلى العراق لتدمير أسلحة الدمار الشامل وضمان أنه لن يتم إعادة البدء في هذه البرامج مرة أخرى. وعلى الرغم من تدمير أسلحة الدمار الشامل العراقية، لكنّ الرقابة المستمرة كانت مصدرًا للاحتكاك المستمر الذي تسبب في هجوم الولايات المتحدة على المنشآت العراقية. وفي نهاية المطاف، اختارت الإدارة الأمريكية حينها الخوف من أسلحة الدمار الشامل العراقية كمبرر للحرب التي تقودها الولايات المتحدة ضد العراق، وهي الكارثة التي راح ضحيتها الآلاف من الأمريكان. تسببت تلك الحرب العراقية الثانية في تفكيك العراق وسيطرة الإرهابيين المتعصبين دينيًا على المدن الكبرى في البلاد.
بعد وقت قصير من حرب العراق الأولى، بدأت حكومة صدام حسين في قمع الأكراد في شمال البلاد. وهددت الولايات المتحدة بإعادة بدء الأعمال العدائية ما لم يترك صدام الأكراد وشأنهم، وفصل الشمال عن بقية العراق.
صعود تنظيم القاعدة في تسعينيات القرن المنصرم، والغزو الأمريكي لأفغانستان والحرب الأمريكية الثانية ضد العراق، وصعود تنظيم الدولة الإسلامية؛ جاء كل هذا بعد قرار أغسطس عام 1990 بإرسال قوات أمريكية كبيرة إلى الخليج. هناك العديد من الضغوط الاجتماعية والسياسية التي ساهمت في الاضطرابات في العالم العربي والإسلامي، ولكن استمرار الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة، والطريقة التي تم بها استخدام هذه القوات الأمريكية، كان من المساهمين الرئيسين في الفوضى التي اجتاحت الشرق الأوسط. ساهمت تلك السلسلة من الأحداث أيضًا في ثورات الربيع العربي، وخلقت دولًا فاشلة في العراق واليمن وليبيا وسوريا. كما تسببت هذه الأحداث في وفاة مئات الآلاف، وتحويل الملايين من شعوب المنطقة إلى لاجئين، وإنفاق تريليونات الدولارات.
إذن؛ هل كان قرار إرسال القوات الأمريكية إلى الخليج في عام 1990 خطأ؟ لا أعتقد ذلك. كان الرئيس جورج بوش الأب محقًا في التحرك؛ لمنع التهام دولة لأخرى، وكان محقًا أيضًا في إجبار العراق على إنهاء برامج أسلحة الدمار الشامل. لكنّ الأخطاء التي ارتكبتها أمريكا والآخرون لم تكن كامنة في قرارات شنّ حرب الخليج الأولى. لم يكن من المفترض، على سبيل المثال، أن تترك أمريكا بعض قواتها في المملكة العربية السعودية. وبالتأكيد، لم يكن ينبغي غزو العراق في عام 2003.
التساؤل عن كيف كان سيكون التاريخ مختلفًا لو تم التعامل مع تلك الأمور بطرق أخرى يبدو مثيرًا، لكننا لا نستطيع إعادة التاريخ. ومع ذلك، التفكير في التاريخ الحديث يمكن أن يقدم لنا منظورًا مختلفًا لفهم ما نحن فيه الآن وما القرارات التي يجب أن نتخذها في المستقبل القريب. وبالتالي؛ فمن الجدير بالذكر أنه قبل ثلاثة عقود كان هناك عدد قليل من القوات الأمريكية في الشرق الأوسط، ونادرًا ما شاركت أمريكا في القتال هناك. كل ذلك تغير في 7 أغسطس، منذ 25 عامًا، مع قرار بسيط في جدة.
(معهد الشرق الأوسط – التقرير)