الدكتور خالد القصاب يتحدث عن محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم 1959
يقول: في مساء 7 تشرين الثاني 1959 حين كنت في عيادتي في منطقة البتاوين، سمعت لغطاً واضطرابا في الشارع وصراخا يردد ان قاسما قد قتل، طلبت من مساعدي في العيادة الاسراع في غلقها تحسبا لما سيحدث فيما بعد.. وكنت على وشك ان اغادر العيادة واذا بجرس الهاتف يرن، وكان المتحدث يتكلم بهياج واضطراب، وقال لي ان الزعيم مصاب، وهو الان في مستشفى السلام، اجلب معك قناني دم وتوجه حالا الى مستشفى السلام، لم اتمكن من معرفة من كان يتكلم معي، وهو بالتأكيد لم يكن طبيبا، ولم يكن وزير الصحة الدكتور محمد الشواف لأن طلبه كان غريبا، فكيف لي ان اجلب معي قناني الدم بهذه العجالة؟ وبقي الشخص مجهولا حتى عرفت من هو بعد مرور ما يقرب عن نصف قرن.
لم يكن أحد على علم بان قاسم كان انذاك في مستشفى السلام في السعدون، فعندما تعرض للهجوم بالرشاشات في شارع الرشيد اعتقد مهاجموه انه مات، وكان سائقه قد قتل فتطوع سائق سيارة اجرة لأخذه الى المستشفى وامره عبد الكريم بالذهاب الى مستشفى الرشيد العسكري، ثم امره في الطريق ان يعرج على مستشفى السلام من ملاحقة المهاجمين له اذا ما كانوا قد سمعوه يطلب من السائق التوجه الى مستشفى الرشيد العسكري.
كنت اول من وصل الى المستشفى واجتزت جمعاً كبيراً من الناس كانوا يتباكون ويصرخون، اسرعت الى قاعة العمليات في الطابق العلوي حيث وجدت قاسم تغطيه الدماء، وكان يتكلم بحماسة وشجاعة بين الجماهير، ماذا عملت؟ حررت البلاد من الاستعمار، وانسحبت من الاحلاف العسكرية، وانصفت العامل والفلاح.
وصل وزير الصحة بعدي، ووجه كلامه الى بعض الاطباء السوفييت في القاعة وامرهم بالخروج ثم وجه كلامه الي: انت المسؤول الان افحصه وقدم لي تقريرك عنه، اجبته ان هناك طلقا ناريا في الابط الايسر واخر في العضد الايسر، واخر اجتاز الكتف اليسرى ورابع في جدار الصدر، وحالته العامة مستقرة ولا خطورة فيها. ثم بدأت باجراء العملية لاستخراج الطلقة من الابط تحت المخدر الموضعي، من القواعد السليمة في زرق المخدر هو ان اقوم بالسحب قبل الزرق تفادياً لزرق محلول التخدير في وريد مما قد يؤدي الى موت فجائي. وفي تلك العملية لأول وآخر مرة في حياتي، ادى السحب الى خروج الدم بشكل غزير دلالة على نفاذ ابره الزرق في وريد الابط بحيث كان يودي بحياة مريضي عبد الكريم قاسم. فغيرت الابرة، ونقلت موقعها، وتفاديت غلطا كبيرا. كل هذا وحشود من المرافقين كانت تحدق بي، وتتابعني من الشرفة المحيطة بقاعة العمليات، ان الطب من ادق المهن، يتعامل مع الحياة والموت، وقد تكون السكين او الابرة بين الجراح اداة خير ورحمة، كما قد تكون أداة قاتلة اذا ما اسيء استخدامها ولم تستخدم بالشكل العلمي الصحيح والويل للطبيب اذا ما شذّ من هدفه المقدس الذي اقسم عليه، واتخذ من الطب غطاء لنوايا اخرى، فتلك جريمة لا تغتفر.
بعد الانتهاء من عمليتي للزعيم، ذهبت لاسعاف مرافقه الرئيس قاسم الجنابي الذي كان وجهه ملطخاً بالدم. وكان يردد : "قلنا له لا تعدم الضباط، لكنه لم يسمعنا". كان الجنابي رجلا عالي الخلق، فاضلا.
في تلك الليلة اذاع عبد الكريم قاسم خطابا قصيرا بثه من غرفته، ثم امر الوزير محمد الشواف تشكيل لجنة طبية خاصة برئاسته ، تضم في عضويتها انا والدكتور رشاد عبد الواحد، مدير الامور الطبية في وزارة الدفاع، واقترحت مع الوزير اضافة طبيب اختصاصي بالكسور، فضم الدكتور هادي السباك لعضوية اللجنة ايضا.
امضينا مع عبد الكريم قاسم اكثر من شهر في مستشفى السلام نزوره في جناحه الخاص مرتين كل يوم في الاقل.. ونصدر نشرة طبية بذلك، اتاحت هذه المرة في التعرف الى شخصية الزعيم عن قرب في مرحلة صعبة من تاريخ العراق.. ولم اكن اعرفه من قبل وجدته بغداديا في صفاته، متواضعا، حاد الذكاء، غير طامع بغنى ومحباً للنكتة. وهو لا يتقن اللعبة السياسية ولا يدرك خفاياها. لم يتمكن من خلق قاعدة حزبية قوية له تمكنه من الوقوف امام التيار اليساري او اليميني، فانجرف في متاهات ادت به الى انهيار حكمه، ان التمادي في سرد الاحداث السياسية سيبعدنا من اجوائنا الفنية، وعلي ان انهي هذه الفقرة بخطابات قصيرة، ربما كانت ذات فائدة، قبل ان يطويها النسيان.
في مساء اليوم التالي، وعندما كنا في زيارتنا الطبية، سمعت اصوات طقطقة من ضربات الجزمات العسكرية فوق الارض تتوالى في مدخل المستشفى، دلالة على التحيات العسكرية وقدوم شخص مهم، تطلعت من الشباك، وسالني الزعيم: ماذا ترى؟
اجبت انه الفريق نجيب الربيعي، رئيس مجلس السيادة. لابد انه جاء لزيارتكم، ولدى اقتراب وقع الاقدام من الجناح الخاص اعتذرنا عن البقاء وطلبنا الاذن بالانسحاب بفسح المجال لهذه الزيارة المفاجئة، لكن الزعيم طلب منا البقاء.. وعندما اطل الفريق الربيعي من الباب قال له عبد الكريم معتذرا: عفواً سيدي لدي فحص طبي الان وفي رأي، كان تصرفه ذلك دليلا على انه كان يشك في اشتراك رئيس مجلس السيادة في المؤامرة للقضاء عليه.
كان عبد الكريم يحب التحدث الى لجنته الطبية، ويطيل الكلام شارحاً خطاباته الجماهيرية مفتخرا بصياغة جملها. معيداً علينا فقراتها عدة مرات. وفي احد الايام ارانا مفكرة صغيرة قال انه حصل عليها من جيب السفير البريطاني همفري تريفليان. وهو من المع الدبلوماسيين الانكليز.. هذه قصة تذكرنا بالجاسوس الالماني سيسرو الذي كان خادماً للسفير البريطاني اثناء الحرب العظمى الثانية في انقرة. وسرق منه اسراراً في غاية الاهمية.
بقي السؤال، من كان صاحب الصوت المضطرب الذي دعاني للذهاب الى مستشفى السلام لمعالجة عبد الكريم قاسم؟ لم اجد الجواب الا بعد مرور اربعين عاما.
فقد جاء الى عيادتي عام 1999 رجل تجاوز عمره الثمانين، كان هزيل البنية، خفيف الدم، يضع على رأسه قبعة، قال انه عمل سكرتيرا لمجلس الوزراء وعاصر الكثير من الرؤساء، وكتب عن ذكرياته وانطباعاته منهم من نوري السعيد حتى قاسم ومن تلاه ورفضت وزارة الاعلام نشر مؤلفه. كما ادعى لما فيه من صدق في تقويمه لشخصياتهم وتصرفاتهم. واستمر في ذكرياته ليحدثني عن يوم 7 تشرين الثاني 1959. قال انه كان واقفاً مع المصور ارشاك في محله في شارع الرشيد. وساعد على حمل عبد الكريم الجريح لكي ينقله سائق السيارة الى مستشفى السلام يصاحبه ممدوح ارزوقي (هو ممدوح عبد الرزاق المهداوي، ابن عم فاضل عباس المهداوي.. رفعة) وقال انهم لدى وصولهم المستشفى شاهدوا اللواء عبد الجبار جواد. زوج اخت عبد الكريم قاسم واقفا وبجانبه عبد المجيد جليل مدير الاستخبارات (الامن العامة) يتكلم بالتلفون بصوت عال، طالبا مني القدوم الى المستشفى، اعدم عبد المجيد جليل واختفت قصة استدعائي وبقيت انتظر اربعين عاما.
خرج الزعيم عبد الكريم قاسم من المستشفى معافى، وفي 15 كانون الاول 1959 افتتح المؤتمر الطبي السنوى الاول للجمعية الطبية العراقية ومؤتمر الطب واعتلى المنبر يتكلم. فبدأ خطابه بتوجيه عبارة لي. وكنت واقفا في الممر القريب من المسرح، قال: انني مدين للاطباء في حياتي..
ذكريات اخرى عن عبد الكريم قاسم والفن:
كان عبد الكريم قاسم لم يزل راقداً في المستشفى عندما تسلم من جواد، وهو في فلورنسا التخطيطات الاولى لنصب الحرية، ورأيته يفتح الورقة الطويلة امامنا، حدق فيها حائراً ووجهه يخلو من اي تعبير ينم عن فهم ما يراه، إلا انه قال: الثورة تثق بالفنان العراقي فقط ليصمم النصب لها.
في وقت آخر اخذ يشرح لنا شعار الجمهورية الذي صممه جواد سليم ايضا، كان قلب الشعار مستلاً من تكوين مسلة (نرام سين)، يحتوي على شمس صفراء في المركز تحيط بها سيوف اسلامية وداخلها نجمة مثمنة. قال الزعيم شارحا الشعار ولافتا انظارنا الى لون النجمة المثمنة: "هذا ليس لون احمر، بل هو بني محروق، وهذا يعني ان لنا لوننا الخاص من الاشتراكية يختلف تماما عن اشتراكية الاتحاد السوفيتي".
تلقيت مكالمة هاتفية من وزارة الدفاع يوما يخبرني فيها ان الزعيم بحاجة الى لجنة لطبية كان ذلك في الخامسة مساء وتحسبا لما سيتطلبه هذا الامر كما توقعنا. من وقت طويل ولأطالته في الحديث، وجدت من الافضل حذف مواعيدي في العيادة وغلقها في ذلك اليوم.. وصلت الوزارة في الساعة الخامسة والنصف مساء واجتمعت مع زملائي اعضاء اللجنة في غرفة المرافقين جاسم العزاوي وقاسم الجنابي وحافظ، نشاهد التلفزيون في انتظار زيارة مريضنا.
أُدخلنا في الساعة الثامنة الى صالة كبيرة تتوسطها منضدة مستطيلة حيث يجتمع مجلس الوزراء، وفي ركن من الغرفة عرض قميص الزعيم الملطخ بالدم. كان عبد الكريم لطيفا في لقائه وبسيطا في تصرفاته وبما عرف عن طبائعه البغدادية بتقديم الشاي الثقيل المركز المشبع بالسكر و(الشلغم) اللفت المسلوق الذي يأتي به من منطقة الميدان.. وبعد ان قمنا بالفحص الطبي، انطلق الزعيم بالحديث عن منجزات الثورة عن قائممقام الكويت وغير ذلك. وكنت انا واثقا انه مهما اطال الزعيم في حديثه، فعليه ان يتركنا وشاننا في تمام الساعة التاسعة مساء موعد اجتماعه بمجلس الوزراء. ولكنه في تمام التاسعة قال لي: هل تريد ان تعرف ما نفعله للمنظمات الاجتماعية؟ تعال لأريك..
ترك قاعة المجلس وسرنا خلفه، والتقينا في طريقنا الوزيرين ابراهيم كبة وطلعت الشيباني يحملان حقيبتيهما الوزارية. التفت الى الدكتور محمد الشواف وسألته الى اين نحن ذاهبون، فقال: ليش اني اعرف.
وكنت متوقعا انه سيذهب بنا الى غرفة مجاورة ليرينا بعض المشاريع، لكنه نزل سلم وزارة الدفاع الضخم، وجزمات الجنود تصفق بتحياتهم العسكرية، استقل عبد الكريم سيارة عسكرية، وذهبنا في سيارة جيب اخرى، اخذنا اولا الى سدة ناظم باشا في الباب الشرقي، ووجه اضوية السيارات الى الاكواخ الطينية المبنية على حافة (المسين)، ومجاري المياه الوسخة. كانت السماء تمطر انذاك. نزل من سيارته وقال: دكتور شعبك يعيش هكذا..
حتى انتهى من الجولة وقرر الرجوع. التفت نحونا وقال:
لماذا تتركوني وحدي في سيارتي؟ اريد اخذكم معي".
ووقع خيار زملائي عليّ، فذهبت معه لاحظت انه كان حذرا جدا، ويجلس على حافة المقعد الخلفي ويراقب الارصفة يمينا وشمالاً، ويأمر السائق بالانعطاف في سيره من شارع لآخر، كان متوترا، ولابد ، نتيجة المحاولة السابقة لاغتياله.
كنت اجلس بجانبه، ورأيت ان الوقت مناسبا لكسر هذا الصمت والتوتر، فافتح موضوعاً جديداً.. بدأت اتكلم عن جواد سليم وما نكن له من احترام كبير. سمعني ولكنه لم يعلق باي شيء، وبقي صامتاً، شعرت عندئذ انه كان منزعجاً من جواد، ربما بسبب ما شاع انذاك عن انه طلب من جواد ان ينحت وجهه ويضعه في نصب الحرية، لكن جواد رفض ذلك.
رجعنا الى وزارة الدفاع والساعة تشير الى الثانية صباحا، تسع ساعات منذ بداية جولتنا، وسألت نفسي ماذا حدث لاجتماع الوزارة الذي كان مقرراً اذ ينعقد في التاسعة مساءاً؟
مقتطعة من مقالة على موقع الكاردينيا (توجد ملاحظات)
http://www.algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/fereboaliraq/16288-1959.html
يقول: في مساء 7 تشرين الثاني 1959 حين كنت في عيادتي في منطقة البتاوين، سمعت لغطاً واضطرابا في الشارع وصراخا يردد ان قاسما قد قتل، طلبت من مساعدي في العيادة الاسراع في غلقها تحسبا لما سيحدث فيما بعد.. وكنت على وشك ان اغادر العيادة واذا بجرس الهاتف يرن، وكان المتحدث يتكلم بهياج واضطراب، وقال لي ان الزعيم مصاب، وهو الان في مستشفى السلام، اجلب معك قناني دم وتوجه حالا الى مستشفى السلام، لم اتمكن من معرفة من كان يتكلم معي، وهو بالتأكيد لم يكن طبيبا، ولم يكن وزير الصحة الدكتور محمد الشواف لأن طلبه كان غريبا، فكيف لي ان اجلب معي قناني الدم بهذه العجالة؟ وبقي الشخص مجهولا حتى عرفت من هو بعد مرور ما يقرب عن نصف قرن.
لم يكن أحد على علم بان قاسم كان انذاك في مستشفى السلام في السعدون، فعندما تعرض للهجوم بالرشاشات في شارع الرشيد اعتقد مهاجموه انه مات، وكان سائقه قد قتل فتطوع سائق سيارة اجرة لأخذه الى المستشفى وامره عبد الكريم بالذهاب الى مستشفى الرشيد العسكري، ثم امره في الطريق ان يعرج على مستشفى السلام من ملاحقة المهاجمين له اذا ما كانوا قد سمعوه يطلب من السائق التوجه الى مستشفى الرشيد العسكري.
كنت اول من وصل الى المستشفى واجتزت جمعاً كبيراً من الناس كانوا يتباكون ويصرخون، اسرعت الى قاعة العمليات في الطابق العلوي حيث وجدت قاسم تغطيه الدماء، وكان يتكلم بحماسة وشجاعة بين الجماهير، ماذا عملت؟ حررت البلاد من الاستعمار، وانسحبت من الاحلاف العسكرية، وانصفت العامل والفلاح.
وصل وزير الصحة بعدي، ووجه كلامه الى بعض الاطباء السوفييت في القاعة وامرهم بالخروج ثم وجه كلامه الي: انت المسؤول الان افحصه وقدم لي تقريرك عنه، اجبته ان هناك طلقا ناريا في الابط الايسر واخر في العضد الايسر، واخر اجتاز الكتف اليسرى ورابع في جدار الصدر، وحالته العامة مستقرة ولا خطورة فيها. ثم بدأت باجراء العملية لاستخراج الطلقة من الابط تحت المخدر الموضعي، من القواعد السليمة في زرق المخدر هو ان اقوم بالسحب قبل الزرق تفادياً لزرق محلول التخدير في وريد مما قد يؤدي الى موت فجائي. وفي تلك العملية لأول وآخر مرة في حياتي، ادى السحب الى خروج الدم بشكل غزير دلالة على نفاذ ابره الزرق في وريد الابط بحيث كان يودي بحياة مريضي عبد الكريم قاسم. فغيرت الابرة، ونقلت موقعها، وتفاديت غلطا كبيرا. كل هذا وحشود من المرافقين كانت تحدق بي، وتتابعني من الشرفة المحيطة بقاعة العمليات، ان الطب من ادق المهن، يتعامل مع الحياة والموت، وقد تكون السكين او الابرة بين الجراح اداة خير ورحمة، كما قد تكون أداة قاتلة اذا ما اسيء استخدامها ولم تستخدم بالشكل العلمي الصحيح والويل للطبيب اذا ما شذّ من هدفه المقدس الذي اقسم عليه، واتخذ من الطب غطاء لنوايا اخرى، فتلك جريمة لا تغتفر.
بعد الانتهاء من عمليتي للزعيم، ذهبت لاسعاف مرافقه الرئيس قاسم الجنابي الذي كان وجهه ملطخاً بالدم. وكان يردد : "قلنا له لا تعدم الضباط، لكنه لم يسمعنا". كان الجنابي رجلا عالي الخلق، فاضلا.
في تلك الليلة اذاع عبد الكريم قاسم خطابا قصيرا بثه من غرفته، ثم امر الوزير محمد الشواف تشكيل لجنة طبية خاصة برئاسته ، تضم في عضويتها انا والدكتور رشاد عبد الواحد، مدير الامور الطبية في وزارة الدفاع، واقترحت مع الوزير اضافة طبيب اختصاصي بالكسور، فضم الدكتور هادي السباك لعضوية اللجنة ايضا.
امضينا مع عبد الكريم قاسم اكثر من شهر في مستشفى السلام نزوره في جناحه الخاص مرتين كل يوم في الاقل.. ونصدر نشرة طبية بذلك، اتاحت هذه المرة في التعرف الى شخصية الزعيم عن قرب في مرحلة صعبة من تاريخ العراق.. ولم اكن اعرفه من قبل وجدته بغداديا في صفاته، متواضعا، حاد الذكاء، غير طامع بغنى ومحباً للنكتة. وهو لا يتقن اللعبة السياسية ولا يدرك خفاياها. لم يتمكن من خلق قاعدة حزبية قوية له تمكنه من الوقوف امام التيار اليساري او اليميني، فانجرف في متاهات ادت به الى انهيار حكمه، ان التمادي في سرد الاحداث السياسية سيبعدنا من اجوائنا الفنية، وعلي ان انهي هذه الفقرة بخطابات قصيرة، ربما كانت ذات فائدة، قبل ان يطويها النسيان.
في مساء اليوم التالي، وعندما كنا في زيارتنا الطبية، سمعت اصوات طقطقة من ضربات الجزمات العسكرية فوق الارض تتوالى في مدخل المستشفى، دلالة على التحيات العسكرية وقدوم شخص مهم، تطلعت من الشباك، وسالني الزعيم: ماذا ترى؟
اجبت انه الفريق نجيب الربيعي، رئيس مجلس السيادة. لابد انه جاء لزيارتكم، ولدى اقتراب وقع الاقدام من الجناح الخاص اعتذرنا عن البقاء وطلبنا الاذن بالانسحاب بفسح المجال لهذه الزيارة المفاجئة، لكن الزعيم طلب منا البقاء.. وعندما اطل الفريق الربيعي من الباب قال له عبد الكريم معتذرا: عفواً سيدي لدي فحص طبي الان وفي رأي، كان تصرفه ذلك دليلا على انه كان يشك في اشتراك رئيس مجلس السيادة في المؤامرة للقضاء عليه.
كان عبد الكريم يحب التحدث الى لجنته الطبية، ويطيل الكلام شارحاً خطاباته الجماهيرية مفتخرا بصياغة جملها. معيداً علينا فقراتها عدة مرات. وفي احد الايام ارانا مفكرة صغيرة قال انه حصل عليها من جيب السفير البريطاني همفري تريفليان. وهو من المع الدبلوماسيين الانكليز.. هذه قصة تذكرنا بالجاسوس الالماني سيسرو الذي كان خادماً للسفير البريطاني اثناء الحرب العظمى الثانية في انقرة. وسرق منه اسراراً في غاية الاهمية.
بقي السؤال، من كان صاحب الصوت المضطرب الذي دعاني للذهاب الى مستشفى السلام لمعالجة عبد الكريم قاسم؟ لم اجد الجواب الا بعد مرور اربعين عاما.
فقد جاء الى عيادتي عام 1999 رجل تجاوز عمره الثمانين، كان هزيل البنية، خفيف الدم، يضع على رأسه قبعة، قال انه عمل سكرتيرا لمجلس الوزراء وعاصر الكثير من الرؤساء، وكتب عن ذكرياته وانطباعاته منهم من نوري السعيد حتى قاسم ومن تلاه ورفضت وزارة الاعلام نشر مؤلفه. كما ادعى لما فيه من صدق في تقويمه لشخصياتهم وتصرفاتهم. واستمر في ذكرياته ليحدثني عن يوم 7 تشرين الثاني 1959. قال انه كان واقفاً مع المصور ارشاك في محله في شارع الرشيد. وساعد على حمل عبد الكريم الجريح لكي ينقله سائق السيارة الى مستشفى السلام يصاحبه ممدوح ارزوقي (هو ممدوح عبد الرزاق المهداوي، ابن عم فاضل عباس المهداوي.. رفعة) وقال انهم لدى وصولهم المستشفى شاهدوا اللواء عبد الجبار جواد. زوج اخت عبد الكريم قاسم واقفا وبجانبه عبد المجيد جليل مدير الاستخبارات (الامن العامة) يتكلم بالتلفون بصوت عال، طالبا مني القدوم الى المستشفى، اعدم عبد المجيد جليل واختفت قصة استدعائي وبقيت انتظر اربعين عاما.
خرج الزعيم عبد الكريم قاسم من المستشفى معافى، وفي 15 كانون الاول 1959 افتتح المؤتمر الطبي السنوى الاول للجمعية الطبية العراقية ومؤتمر الطب واعتلى المنبر يتكلم. فبدأ خطابه بتوجيه عبارة لي. وكنت واقفا في الممر القريب من المسرح، قال: انني مدين للاطباء في حياتي..
ذكريات اخرى عن عبد الكريم قاسم والفن:
كان عبد الكريم قاسم لم يزل راقداً في المستشفى عندما تسلم من جواد، وهو في فلورنسا التخطيطات الاولى لنصب الحرية، ورأيته يفتح الورقة الطويلة امامنا، حدق فيها حائراً ووجهه يخلو من اي تعبير ينم عن فهم ما يراه، إلا انه قال: الثورة تثق بالفنان العراقي فقط ليصمم النصب لها.
في وقت آخر اخذ يشرح لنا شعار الجمهورية الذي صممه جواد سليم ايضا، كان قلب الشعار مستلاً من تكوين مسلة (نرام سين)، يحتوي على شمس صفراء في المركز تحيط بها سيوف اسلامية وداخلها نجمة مثمنة. قال الزعيم شارحا الشعار ولافتا انظارنا الى لون النجمة المثمنة: "هذا ليس لون احمر، بل هو بني محروق، وهذا يعني ان لنا لوننا الخاص من الاشتراكية يختلف تماما عن اشتراكية الاتحاد السوفيتي".
تلقيت مكالمة هاتفية من وزارة الدفاع يوما يخبرني فيها ان الزعيم بحاجة الى لجنة لطبية كان ذلك في الخامسة مساء وتحسبا لما سيتطلبه هذا الامر كما توقعنا. من وقت طويل ولأطالته في الحديث، وجدت من الافضل حذف مواعيدي في العيادة وغلقها في ذلك اليوم.. وصلت الوزارة في الساعة الخامسة والنصف مساء واجتمعت مع زملائي اعضاء اللجنة في غرفة المرافقين جاسم العزاوي وقاسم الجنابي وحافظ، نشاهد التلفزيون في انتظار زيارة مريضنا.
أُدخلنا في الساعة الثامنة الى صالة كبيرة تتوسطها منضدة مستطيلة حيث يجتمع مجلس الوزراء، وفي ركن من الغرفة عرض قميص الزعيم الملطخ بالدم. كان عبد الكريم لطيفا في لقائه وبسيطا في تصرفاته وبما عرف عن طبائعه البغدادية بتقديم الشاي الثقيل المركز المشبع بالسكر و(الشلغم) اللفت المسلوق الذي يأتي به من منطقة الميدان.. وبعد ان قمنا بالفحص الطبي، انطلق الزعيم بالحديث عن منجزات الثورة عن قائممقام الكويت وغير ذلك. وكنت انا واثقا انه مهما اطال الزعيم في حديثه، فعليه ان يتركنا وشاننا في تمام الساعة التاسعة مساء موعد اجتماعه بمجلس الوزراء. ولكنه في تمام التاسعة قال لي: هل تريد ان تعرف ما نفعله للمنظمات الاجتماعية؟ تعال لأريك..
ترك قاعة المجلس وسرنا خلفه، والتقينا في طريقنا الوزيرين ابراهيم كبة وطلعت الشيباني يحملان حقيبتيهما الوزارية. التفت الى الدكتور محمد الشواف وسألته الى اين نحن ذاهبون، فقال: ليش اني اعرف.
وكنت متوقعا انه سيذهب بنا الى غرفة مجاورة ليرينا بعض المشاريع، لكنه نزل سلم وزارة الدفاع الضخم، وجزمات الجنود تصفق بتحياتهم العسكرية، استقل عبد الكريم سيارة عسكرية، وذهبنا في سيارة جيب اخرى، اخذنا اولا الى سدة ناظم باشا في الباب الشرقي، ووجه اضوية السيارات الى الاكواخ الطينية المبنية على حافة (المسين)، ومجاري المياه الوسخة. كانت السماء تمطر انذاك. نزل من سيارته وقال: دكتور شعبك يعيش هكذا..
حتى انتهى من الجولة وقرر الرجوع. التفت نحونا وقال:
لماذا تتركوني وحدي في سيارتي؟ اريد اخذكم معي".
ووقع خيار زملائي عليّ، فذهبت معه لاحظت انه كان حذرا جدا، ويجلس على حافة المقعد الخلفي ويراقب الارصفة يمينا وشمالاً، ويأمر السائق بالانعطاف في سيره من شارع لآخر، كان متوترا، ولابد ، نتيجة المحاولة السابقة لاغتياله.
كنت اجلس بجانبه، ورأيت ان الوقت مناسبا لكسر هذا الصمت والتوتر، فافتح موضوعاً جديداً.. بدأت اتكلم عن جواد سليم وما نكن له من احترام كبير. سمعني ولكنه لم يعلق باي شيء، وبقي صامتاً، شعرت عندئذ انه كان منزعجاً من جواد، ربما بسبب ما شاع انذاك عن انه طلب من جواد ان ينحت وجهه ويضعه في نصب الحرية، لكن جواد رفض ذلك.
رجعنا الى وزارة الدفاع والساعة تشير الى الثانية صباحا، تسع ساعات منذ بداية جولتنا، وسألت نفسي ماذا حدث لاجتماع الوزارة الذي كان مقرراً اذ ينعقد في التاسعة مساءاً؟
مقتطعة من مقالة على موقع الكاردينيا (توجد ملاحظات)
http://www.algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/fereboaliraq/16288-1959.html