مرت 48 سنة، وكأنها لحظات، فشريط أحداث هذا اليوم لا زالت ماثلة في ذاكرة باحث الآثار الفلسطيني وليد العقاد، الذي كان شاهدا على بسالة الجيش المصري أثناء العدوان على قطاع غزة عام 67، مع صغر سنه أنذاك الذي لم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره.
يقول العقاد لـ«المصري اليوم» مع بدء الغزو الإسرائيلي لقطاع غزة واشتداده، بدأنا بمغادرة منازلنا هربا من القذائف الاسرائيلية، وكان قد تم في حينه تشكيل قوات مصرية فلسطينية مشتركة للدفاع عن قطاع غزة، توجهنا لمنطقة الوادي في مدينة خانيونس وهي منطقة منخفضة عن سطح الارض، واختبأنا فيها، وبالقرب منا كانت قوة مصرية فلسطينية مشتركة يرأسها ضابط مصري، أذكر جيدا ان والدي طلب من الضابط ان ينزل وجنوده إلى الوادي للاحتماء من القذائف الاسرائيلية فرد عليه قائلا «احنا كويسين يا حج ما تخافش علينا المهم انتو خليكم مكانكم».
ويتابع العقاد :«فجأة ظهر جيب عسكري اسرائيلي معه قوة مدججة بالسلاح، على الفور بدأت القوة المشتركة باطلاق النار باتجاههم، فقتل ضابط اسرائيلي وجندي، وتقدم حينها الضابط المصري مع الجنود الفلسطينيين واخذوا خرائط عسكرية كانت في الجيب وفي طريق عودتهم، اذ بقذيفة تسقط على هذه القوة العسكرية، وتصيب الضابط المصري اصابة مباشرة.
يواصل العقاد: «حينها زحف والدي وبعض الاخوة وسحبوه نحو الوادي ،لم يلبث قليلا حتى ارتقى شهيدا وثغره مبتسما كباقة ورد تفتحت أوراقها للتو، فدفن في مكانه.
العقاد الذي كان شاهدا على بطولة الضابط المصري ودفاعه عن أرض فلسطين قال «قمنا بدفنه، بملابسه العسكرية وخوذته، واحتفظنا ببطاقته وساعته خمس سنوات إلى ان بدأ الصليب الاحمر بالسؤال عن ضباط مصريين مفقودين قمنا بتسليم البطاقة والساعة لكي يتم تبليغ ذويه في حينها.
ويتابع الأثري الغزاوي الذي أقام شاهد للشهيد دون قبر له في متحفه الصغير، لتبقى ذكراه خالدة أمامه، ولتصبح «حدوتته» البطولية، روايةً لكل زائر يأتي إليه ليرجع إلى الماضي، بحواضر ما جمع من تحف ونقوش وأعمدة وحتى ثياب للقدماء، فالشهيد الضابط المصري، أساس متحف العقاد وأصل من أصوله.
يقول :«بعد الأربعين سنة من تلك الحادثة قررت بلدية خانيونس ( جنوب قطاع غزة ) ان تفتح شارعاً في المنطقة التي تم دفن الضابط فيها، وكان لا بد من نقل جثمانه، وحين فتحنا القبر وجدنا متعلقات الضابط الشهيد ما زالت تحتفظ برائحتها الزكية، بقايا»البسطار «الخوذة، القايش ،»الشرابات «المشبعة بالدماء، بقع تقرأ البسالة في ضابط جاء من وسط القاهرة، ليدفع القهر عن شعب بأكمله، حاصره احتلاله حتى أوجعه في مقتله، وفتح له الدنيا للمنفى، والهجرة».
ويزيد العقاد في روايته عن انتشال جثمان الشهيد الذي احتفظ بمتعلقات الشهيد «أذكر أنني شاهدت هيكله العظمي كان واضحا تماما، ودمائه الزكية لا زالت تلتصق بما تبقى من ملابسه، وابتسامته في وجهه جلية وأن تلاشت شفتاه».
العقاد توج متحفه البيتي بخوذة الضابط المصري الشهيد محمد فتحي فرغلي ابن المحلة الكبرى، التي نسجت بدماء واحدٍ من أبنائها البواسل، وحدة المصير بين الشعبين المصري والفلسطيني، وكل ما يتمناه العقاد العثور على أهل الشهيد لترتفع فيهم الهامة، وتزدان صدورهم أوسمة الشرف العالي، بإستشهاد ابنهم محمد في حاضرة الجرح المفتوح، قطاع غزة.