حكاية جاسوس إسرائيل الذي دخل مصر لإجهاض برنامج الصواريخ المصريّة

يحي الشاعر

كبير المؤرخين العسكريين
عضو مميز
إنضم
2 فبراير 2008
المشاركات
1,560
التفاعل
98 0 0
حكاية جاسوس إسرائيل الذي دخل مصر لإجهاض برنامج الصواريخ المصريّة

سبق لي ودونت موضوع الجاسوس الأسرائيلي الذي تمكن من التغلغل في المجتمع المصري ... وفي النهاية ... نجح في مهمته ...
تعطبل المشروع المصري ظ الألماني ظ النمساوي من أجل صناعة الطائرات المقاتلة النفاثة (حلوان 300 ) و الصواريخ .... المصرية
يسعدني أن بدأ الكثير يكتبون عن هذه المشروع ..ز بل لقد أصدر أحد المصريين ، كتاب ، يعتمد فيه علي الصور والموضوع والأحداث التي نشرتهم في الأنترنت ...
أنشر صورته في نهاية المقال ... وكذلك الرابطة لتحميل الكتاب



د. يحي الشاعر
76536_5j_small.jpg


76395_2j_smaller.jpg


76395_1j_smaller.jpg

جاسوس إسرائيل دخل مصر لإجهاض برنامج الصواريخ المصريّة
حصان بن غوريون في القاهرة (1-2)
القاهرة - صلاح الإمام
في 6 يوليو (تموز) عام 1961، احتفلت إسرائيل بإطلاق صاروخها الأول بعيد المدى، وأطلقت عليه «شافيت ـ 2» للإيحاء بأن ثمة {شافيت ـ 1}. لكن بعد عام تقريبا في 21 يوليو(تموز) عام 1962 ولمناسبة العيد العاشر لثورة يوليو، احتفلت مصر بإطلاق أربعة صواريخ بعيدة المدى، اثنين من طراز «الظافر» ومداه 175 ميلا، واثنين من طراز «القاهر» ومداه 350 ميلا. لم يحاول الرئيس جمال عبد الناصر إخفاء الهدف من تلك الصواريخ، وأصبح فخورا بأنها تستطيع إصابة أهدافها حتى مدينة بيروت، وهو ما يعني إمكان وصولها الى أي شبر في إسرائيل.
كان من تداعيات ذلك سيطرة حالة من الخوف والهلع داخل إسرائيل، وكان الرعب سيكون أكبر لو علم الإسرائيليون ما تخفيه عنهم حكومتهم واكتشفته يومها، وهو أن المخابرات الإسرائيلية فوجئت تماما بتلك الخطوة الثورية من قبل مصر وزعامتها المتمثلة في عبد الناصر، اذ لم يكن لدى الموساد أي معلومات مسبقة عن ذلك التطور المذهل داخل مصر.
قال رئيس الوزراء الإسرائيلي لرئيس مخابراته أيسر هاريل معنفًا وموبخًا: «لماذا تنفق إسرائيل تلك الأموال كلها على مخابراتها، إذا كنا سنحصل على معلوماتنا فجأة من خطاب عام يلقيه عبد الناصر؟ كل ما يلزمنا مجرد راديو ترانزستور وليس جهاز مخابرات بتلك الضخامة».
صرخ بن غوريون في وجه رئيس الموساد قائلا: «أريد تعبئة المخابرات الإسرائيلية هنا وحول العالم فورا، كي تمدني بتقرير عاجل عن الصواريخ التي صنعتها مصر وفوجئنا بها، وأريد أن يكون التقرير على مكتبي هنا قبل ثلاثة أشهر كحد أقصى، إنني من الآن لا أنام الليل منذ أعلن عبد الناصر خبر تلك الصواريخ، وسأظل لا أنام الى أن تأتوني بالتقرير, فلا بد من منع مصر بأي ثمن من صناعة الصواريخ».
سرعان ما بدأت المخابرات الإسرائيلية في جمع المعلومات. بدأت القصة كلها في أعقاب الحرب العالمية الثانية، حينما بدأ الضباط السابقون في الجيش الألماني المهزوم يبحثون عن مكان يلجأون إليه، فهرب بعضهم إلى الشرق، وبعضهم الآخر إلى الغرب، بعدما اختار ضباط الفيلق الإفريقي الذي كان يقوده روميل التسلل للعمل كمستشارين ومدربين للجيش المصري. هكذا، عام 1951 وصل إلى مصر الجنرال الألماني السابق ويلهلم فارم باشر مع مجموعة صغيرة من زملائه، عارضين خدماتهم على الحكومة المصرية، وقد أدوا عملهم بنجاح، اذ إنه بعد ثورة يوليو طلبت منهم قيادة الثورة الاستمرار في عملهم.
كان الشخص الأكثر أهمية في مجموعة الضباط الألمان هو الدكتور ويلهام فوس، الذي جاء معه إلى مصر بواحد من آباء صناعة الصواريخ الألمانية وهو رولف أنجل، ووضعه على رأس شركة مصرية اسمها «كيرفا»، أقامتها الحكومة المصرية لتكون مسؤولة عن تصميم الصواريخ التكتيكية وصناعتها، ثم قام أنجل بدوره بإقناع مهندس إلكترونيات ألماني كان يعمل في معمل الأبحاث الألماني السري للصواريخ الموجهة يدعى بول جورك بالذهاب معه الى القاهرة.
لم تجد تلك المجموعة من العقول الألمانية الأجور المجزية التي تحلم بها، فقرر الجنرال فارم باشر الرحيل عن مصر عام 1958، وحذا حذوه زملاؤه، ثم قامت مصر بحل شركة كيرفا.
مواهب ألمانيّة
لكن عام 1959 قرر عبد الناصر أن تعيد مصر المحاولة، واختار اللواء محمود خليل أحد المديرين السابقين للمخابرات العسكرية، كي يصبح مسؤولا عن برنامج عالي السرية ينفذه «مكتب البرامج العسكرية الخاصة»، بهدف إمداد مصر بأحدث الأسلحة، خصوصا الطائرات النفاثة والصواريخ، التي يمكن تصنيعها محليًا، كي لا تستمر مصر في اعتمادها على الدول الأجنبية للحصول على الأسلحة اللازمة لها، وكان السبب المباشر الذي أدى الى التطور في موقف الحكومة المصرية هو التقارير العاجلة التي تلقتها مصر وتفيد بوجود تعاون سري بين إسرائيل وفرنسا لصناعة الصواريخ، ومنذ ذلك الحين أصبح سباق الوقت محمومًا بين مصر وإسرائيل.
على رغم مرور سنوات كثيرة على الحرب العالمية الثانية، إلا أن ألمانيا كانت لا تزال أرضا خصبة لالتقاط المواهب العلمية التي بدأ اللواء خليل يبحث عنها، وطبقا لاتفاقيات القوى الأربع المنتصرة في الحرب (أميركا، الاتحاد السوفياتي ـ إنكلترا ـ فرنسا) كانت ألمانيا ممنوعة من صناعة أية صواريخ أو طائرات خاصة بها، فكان أي خبير ألماني في صناعة الأسلحة الجوية مضطرا للبحث عن عمل خارج ألمانيا إذا كان يريد الاستمرار في ممارسة تخصصه.
بسبب تلك الظروف الخاصة، لقي الإعلان الذي نشر في عدد من الصحف الألمانية استجابات عدة، يقول الإعلان: «صناعة جوية في شمال إفريقيا تطلب متخصصين وخبراء»، وجاءت الإستجابات سريعة من علماء ألمان بارزين.
في الوقت نفسه، وقّع اللواء خليل عقدا مع ويلي ميسر شميث لبناء مصنع طائرات، بعدها عثر على الرجل المثالي لإدارة المصنع، وهو فرديناند براندو، مهندس نمساوي بارز كان الروس قبضوا عليه أثناء الحرب وعقدوا معه صفقة، وهي أن يصنع هو وفريقه موتورًا روسيًا متعدد المهام، مقابل السماح له بالعودة الى بلاده، ونجح براندو فعلا في تصميم موتور قوة 12 ألف حصان!! استخدمه الروس في طائرات النقل العملاقة طراز {توبوليف ـ 114}، وسمح له الروس بالعودة إلى بلاده.
مع حلول عام 1960، كانت صناعة الطائرات المصرية أصبحت جاهزة للعمل، وكان مصنع الطائرات الجديد الذي حمل اسم «المصنع 136» أوشك على التمام قرب القاهرة، وبالقرب منه أقيم «المصنع 135» لتصميم الطائرات، وكان ثمة اتجاه كبير في مصر نحو صناعة الصواريخ، خصوصا بعد ورود الأخبار بأن إسرائيل تتعاون مع فرنسا لتصنيع الصواريخ، فأصبح المشروع المصري الجديد الأكثر أهمية وسرية وهو «المصنع 333» لصناعة الصواريخ الذي أنشئ ضمن مشروع الحي السكني الجديد (مدينة نصر)، واتخذت الضوابط كلها لمنع احتمالات اختراقه، فأصبح محصنا تماما ضد أي اختراقات لمخابرات أجنبية، خصوصا المخابرات الإسرائيلية، وكان ذلك أول خطوات النجاح.
وجد اللواء خليل العلماء الألمان الذين يحتاجهم في معهد حكومي «شتوتغارت»، هو معهد يعمل في أبحاث الجو بالأقمار الصناعية وما شابه ذلك، وكان معظم العلماء الألمان يشعرون بخيبة أمل بسبب تخلّف بلادهم الشديد وراء أميركا والاتحاد السوفياتي، في مجال أبحاث ما بعد الحرب، ووجد رئيس المعهد فرصة كبرى أمامه في العرض الذي طرحه عليه اللواء خليل على رغم أن الحكومة الألمانية كانت تمنع المعهد من أداء أي أعمال لحساب دولة أجنبية، لكن عرض مصر كان مغريا، واستطاع الدكتور ايوجين سانجر أن يجند معظم أساتذة المعهد للعمل معه في مصر، ونجح الموساد في الحصول على معلومات مبكرة عن وصول تلك المجموعة من العلماء الألمان إلى مصر، لكن المخابرات الإسرائيلية افترضت أنهم سيعملون في مصنع الطائرات المصري.
كانت مصر تعلن، كغطاء، أن مصنعي 135 و136 يصنعان طائرات التدريب، لكن المخابرات الإسرائيلية حصلت على معلومات مختلفة تفيد بأن مصر تبذل جهدها الأكبر لإنتاج طراز خاص من الطائرات النفاثة ذات الأداء العالي وتصلح للعمل كطائرات مقاتلة، بل وأكدت تقارير الموساد بأن مصر بدأت فعلا تضع نموذجا وتصميما خاصا لتلك الطائرة المقاتلة الجديدة.
عام 1961 أصبح لدى المخابرات الإسرائيلية ما يكفي من المعلومات عن النشاط الذي يجري لحساب مصر، في معهد شتوتغارت في ألمانيا، إلى الدرجة التي جعلت الحكومة الإسرائيلية تتقدم باحتجاج رسمي إلى الحكومة الألمانية، التي ضغضت بدورها على مدير المعهد كي ينهي تعاقده مع الحكومة المصرية، وكان من نتيجة ذلك أن قدم عدد من علماء المعهد استقالاتهم وسافروا الى مصر وتفرغوا تماما للعمل لحسابها.
بدأت الموساد تدريجيا تتوصل إلى معلومات أكثر خطورة، اذ عرفت أن الحكومة المصرية وعدت علماء معهد شتوتغارت بمبلغ مليوني مارك إذا نجحوا في صناعة صاروخ لحسابها، وأن أكثر من ربع المبلغ سيكون من نصيب الدكتور سانجر مدير المعهد، والذي كان تلقى فعلا مبلغا تحت الحساب، ثم توصلت المخابرات الإسرائيلية أيضا إلى معرفة الشركات الوهمية التي أقامتها مصرفي سويسرا لذلك الغرض، ونوع المعدات العلمية التي تشحن إلى مصر بواسطة تلك الشركات.
على رغم ذلك كله لم يكن أحد في الموساد يأخذ محاولات مصر بجدية، ولم تكن الموساد تعرف بعد حينما اكتشفت مهمة الدكتور سانجر أن مصر كانت تختبر فعلا أجهزة الوقود السائل اللازمة للصواريخ الجديدة، التي تزن من أربعة إلى عشرين طنا، وهي طراز وسط بين الصاروخ الألماني القديم V-2 وبين الصاروخ الفرنسي الحديث «فيروتيك». فشلت المخابرات الإسرائيلية تماما في التوصل إلى المعلومات الجوهرية، ونجحت المخابرات المصرية في فرض السرية الكاملة على تفاصيل المشروع الذي كان يخضع لإشراف الرئيس عبد الناصر شخصيًا.
من هنا، كان شعور إسرائيل بالذهول الكامل والمفاجأة المشلة، حين أعلن عبد الناصر نجاح مصر فعلا في إطلاق طرازين جديدين من صاروخي الظافر والقاهر، وشعرت إسرائيل بالغيظ الشديد وهي ترى عبد الناصر يستعرض 20 صاروخا مغطاة بالعلم المصري خلال العرض العسكري للجيش عام 1962، شعرت الحكومة الإسرائيلية بالرعب بسبب تلك المفاجأة ، ومن هنا كانت ثورة بن غوريون على مدير مخابراته بسبب فشلها في الحصول على أية معلومات عن المشروع المذهل.

معلومات خطيرة
خلال فترة قصيرة عبأت فيها المخابرات الإسرائيلية أجهزتها كافة، وقعت في أيديها وثيقة مهمة للغاية، إنها رسالة من البروفسور بيلز، الذي تولى العمل بعد الدكتور سانجر المشرف على المشروع ، موجهة إلى كامل عزب مدير المصنع 333، ومؤرخة في 24 مارس (آذار) 1962، يطلب فيها بيلز من عزب مبلغ ثلاثة ملايين وسبعمائة ألف فرنك سويسري، لشراء أجهزة لخمسمائة صاروخ من طراز 2، وأربعمائة صاروخ من طراز 5.
أسرع رئيس الموساد الإسرائيلي بالمعلومات الخطيرة إلى رئيس حكومته بن غوريون، وهنا وقع خلاف بين أيسر هاريل رئيس الموساد ومائير أميت رئيس المخابرات العسكرية، الذي قدم تقريره إلى شيمون بيريز نائب وزير الدفاع، فأسرع الأخير بدوره يحمله إلى بن غوريون.
لم يكن ثمة خلاف على خطورة التطور المصري في صناعة الصواريخ، ولا خلاف على ضرورة أن تعمل إسرائيل بالطرق كلها على منع مصر من الاستمرار في بحوثها لإنتاج صواريخ خاصة بها تواجه بها صواريخ إسرائيل، التي أطلقتها قبل عام، واستعانت بفرنسا في صناعتها، لكن الخلاف الرئيس بين الموساد والمخابرات العسكرية أصبح يكمن في الوقت المتاح لمنع مصر من صناعة صواريخها الخاصة بها، كان الموساد يرى أنه لا يوجد وقت متاح وأن تلك الصواريخ تمثل خطرا ملحا عاجلا، أما المخابرات العسكرية فكانت ترى أن مصر ما زال أمامها سنوات عدة قبل أن تحل مشكلة أجهزة التوجيه اللازمة للصواريخ، وبالتالي فإسرائيل تملك وقتا كافيا للتفكير في وسائل ناجحة لحرمان مصر من تحقيق النجاح في تلك المهمة الشاقة.
بناء على وجهة نظر الموساد، طلب رئيسها من بن غوريون أن يثير الأمر بنفسه وعلى وجه السرعة مع كونراد اديناور مستشار ألمانيا الغربية، وأن يوجه إليه إنذارا علنيا بسحب كل المواطنين الألمان الذين يعملون في مشروع الصواريخ المصرية فورا، وإلا فستتأثر العلاقات الإسرائيلية الألمانية تماما، إذا استمر هؤلاء العلماء الألمان في عملهم بمصر.
لكن المشكلة كانت: ماذا إذا لم تنجح تلك الوسيلة في إخراج العلماء الألمان من مصر؟ المهم هو إيقاف مشروع الصواريخ المصري وليس إساءة العلاقات مع ألمانيا، فاستقر رأي الحكومة الإسرائيلية على أن تجرب أولا أسلوبا آخر للضغط على ألمانيا الغربية، فكتب شيمون بيريز رسالة إلى فرانك جوزيف شتراوس، وزير الدفاع الألماني، يبلغه فيها بخطورة وجود العلماء الألمان في مصر، ويعبر عن اقتناعه بأن الحكومة الألمانية لا بد من تتصرف بحزم حينما تعرف أن ألمانيا إذا سمحت بوجود علمائها في مصر إنما تساعد الإتحاد السوفياتي ومصر في تدمير إسرائيل.

طوارئ في الموساد
لكن تلك الخطوة لم تهدئ من هلع رئيس الموساد، والمشكلة أن بن غوريون ومعه مجموعة من الضباط تلاميذه مثل شيمون بيريز وموشي ديان ورئيس المخابرات العسكرية، كانوا يريدون انتهاز الفرصة للحصول على مساعدة أوروبا لإسرائيل في برنامجها النووي، ومن ثم لم يريدوا أن تؤدي أزمة الصواريخ المصرية إلى قطيعة كاملة مع ألمانيا الغربية، التي تملك الكثير لتساعد به إسرائيل، وأصبح الموساد معبأ بكامل أجهزته في حالة طوارئ مستمرة، لجمع أكبر قدر ممكن من المعلومات عن البرنامج المصري لصناعة الصواريخ، وكان ما يريده أيسر هاريل رئيس الموساد هو دليل مباشر كي يقنع المخابرات العسكرية بخطورة السماح لمصر بالمضي في برنامجها لصناعة الصواريخ، وفي شهر سبتمبر (أيلول) عام 1962 حصل رئيس الموساد على ما اعتقد أنه يكفيه.
استطاع أحد عملاء الموساد أن يأتي إليها بمعلومات جديدة عن البرنامج المصري، وهو الأمر الذي زاد على الهيستريا التي أصيبت بها أجهزة إسرائيل كلها بسبب برنامج الصواريخ المصري، اذ بدأت المخابرات المركزية الأميركية تتعاون مع الموساد في كشف أكبر قدر ممكن من المعلومات عن الصواريخ المصرية، وهكذا أصبح عملاء المخابرات المركزية الأميركية داخل مصر يجمعون المعلومات عن الصواريخ المصرية لحساب إسرائيل، بل وبدأت الحكومة الأميركية تحاول الضغط على مصر للسماح لها بالتفتيش على صناعتها العسكرية المتطورة، بعدها اقترح أيسر هاريل حلا جذريا، قال إنه على ضوء فشل الحكومة الألمانية في إرغام رعاياها من العلماء العاملين في برنامج الصواريخ المصري على الرحيل من مصر، فلا بد من إرغامهم على ذلك بالقوة وبالإرهاب وبأية وسيلة !! وأضاف: «لا بد من أن يعرف أولئك العلماء الألمان أن رحلتهم إلى القاهرة معناها بالنسبة إلينا رحيلهم إلى الجبهة الأمامية ضدنا... رحلة إلى خط النار».
كان معنى كلام رئيس الموساد وضع خطة شاملة للاغتيالات في مصر، تقوم المخابرات العسكرية بدراسة كل تفاصيلها والتحضير لها بمنتهى العناية، وأصبح اسم تلك الخطة «عملية داموكليس»، وهدفها إعلان الحرب على برنامج الصواريخ المصري كي لا ينجح أبدا.
كانت المعلومات الأساسية لإسرائيل عن برنامج الصواريخ المصرية تأتي من أهم عميل للمخابرات الإسرائيلية داخل مصر ذاتها، وهو وولف غانغ لوتز، أرسلته المخابرات الإسرائيلية إلى مصر عام 1960 تحت غطاء أنه خبير وتاجر خيول عربية، وتأكيدا لذلك كان لا بد من أن تكون له مزرعته الخاصة به وفيها إسطبل للخيول العربية، وكان الدور الذي رسمته له المخابرات الإسرائيلية وتولت تدريبه عليه طويلا في تل أبيب هو أن يتصرف كرجل ثري من ألمانيا يعشق الخيول العربية وينفق عليها ببذخ.
لوتز هذا يهودي ألماني ولد عام 1921، هاجر مع أمه إلى فلسطين عام 1933، وعند نشوب الحرب العالمية الثانية تطوع في الجيش البريطاني، حيث قضى معظم خدمته في مصر وشمال أفريقيا، وبالتالي أجاد الحديث بالعربية إلى جانب العبرية والإنكليزية، ثم انضم الى الجيش الإسرائيلي وحارب معه ضد مصر عام 1956، ووصل إلى رتبة ميجور, وبعدها أصبح عضوا في المخابرات الإسرائيلية، ودخل القاهرة عام 1960، قادمًا من ألمانيا بجواز سفر ألماني صحيح، ليكون واحدا من العملاء السريين للموساد في مصر.
نجح لوتز فورًا في تدبير من يقدمه إلى نادي الفروسية المصري بالجزيرة في قلب القاهرة، ووقتها كان الرئيس الفخرى للنادي اللواء يوسف علي غراب، الضابط المسؤول عن قوة الشرطة المصرية كلها، ومن ثم كان يتمتع بتأثير ونفوذ كبيرين.
بعدها بستة أشهر، استدعت المخابرات الإسرائيلية لوتز الذي أصبح اسمه الحركي في أرشيفها «الحصان»، فسافر إلى أوروبا كي يقدم تقريرا عن مدى تقدمه إلى رئيس الموساد، الذي سافر بنفسه للقائه كأهم عميل له في مصر.
كانت المخابرات الإسرائيلية تنفق على لوتز ببذخ شديد نظرا الى أهميته الضخمة لخطة إسرائيل المضادة للصواريخ المصرية، أصبح أمل إسرائيل الوحيد في الحصول على معلومات عن برنامج الصواريخ المصري وتحطيمه. كانت عملية «داموكليس» السرية التي خططتها المخابرات الإسرائيلية تتركز على إرغام العلماء الألمان في مصر على الرحيل بأقصى سرعة، لأن تلك هي الطريقة الوحيدة لإيقاف البرنامج المصري لصناعة الصواريخ، وفي سبيل ذلك كانت الخطة تتضمن استخدام الأسلحة كافة بما في ذلك الاغتيال، وكان على لوتز أو «الحصان» أن يقدم إلى المخابرات الإسرائيلية المعلومات الأساسية عن العلماء الألمان الموجودين في مصر: من هم، أين يسكنون، بمن يختلطون، ماذا يفعلون تحديداً؟ وما هي المرحلة التي بلغوها من البرنامج المصري؟
حكاية التاجر الألماني الذي دخل مصر لإجهاض برنامج الصواريخ المصريّة
حصان بن غوريون في القاهرة (2-2)
القاهرة - صلاح الإمام
أصبح رئيس الوزراء الإسرائيلي ديفيد بن غوريون يتابع بنفسه أولا بأول أخبار وولف غانغ لوتز، أهم وأخطر جاسوس إسرائيلي في القاهرة نظرًا إلى المهمة التي جاء من أجلها، ولم تكن أهميته لدى المخابرات الإسرائيلية لأنه المفتاح لمنع مصر من المضي في برنامج الصواريخ، لكن أيضا لأن وجوده في القاهرة يكلف إسرائيل مئات الألوف من الدولارات، كي ينفق ببذخ يتناسب مع الوضع الذي يظهر به فيها.
جاء لوتز إلى القاهرة مصطحبًا زوجته باعتباره تاجر خيول ألمانياً، وفورًا تمكن من التعرف الى شخصيات عدة في نادي الفروسية المصري، كذلك طلبت منه المخابرات الإسرائيلية أن يركز علاقاته الاجتماعية على نادي الجزيرة الرياضي في القاهرة، لأنه من خلال مظاهر البذخ والثراء التي يبديها، والسهرات التي يقيمها كل ليلة، يستطيع أن يعرف آخر الأخبار والحكايات والإشاعات، وأيضا يستطيع أن يمسك بالخيوط التي تقوده إلى معرفة عناوين العلماء الألمان الذين تستخدمهم مصر في صناعة صواريخها الخاصة.
أصبحت الخطوة الأولى لمنع مصر من المضي في مشروعها، توجيه تحذير عملي إلى العلماء الألمان الذين تستخدمهم مصر ويعيشون في القاهرة، كي يفهموا بوضوح أن بقاءهم في مصر يشكل خطراً حقيقيا وملحًا على حياتهم، وأصبح لا بد من أن يتم ذلك أولا من خلال رسائل بريدية تُرسل إليهم من القاهرة وعليها طوابع بريد مصرية.
لم يكن هناك لإنجاز المهمة سوى رجل الموساد في القاهرة لوتز «الحصان»، فهو لا يثير أية شبهات حوله، لأنه يقضي أيامه مستمتعا بحياته كتاجر خيول وبعلاقاته الاجتماعية في نادي الجزيرة الرياضي في القاهرة، ومثل ذلك النمط من الحياة لا يتوقع أن تكون له أية ميول أو أهواء سياسية، وفعلا بدأ لوتز يباشر مهامه التي جاء من أجلها، فبدأ يرسل الخطابات التي أعدتها المخابرات الإسرائيلية وصاغتها، إلى العلماء الألمان العاملين في برنامج الصواريخ المصري، ووصل عدد ما أرسله إليهم حوالي خمسين خطابا، يتم في كل منها تحذير كل عالم بأن ثمة خطراً على حياته إذا استمر في مصر يؤدي مهامه لحساب عبد الناصر.
حرصت المخابرات الإسرائيلية على ألا تكون الرسائل كلها متماثلة في صياغتها، لكن التحذير كان واضحا تماما في كل رسالة. وصلت الرسائل الى العاملين الألمان على اختلاف مستوياتهم، فتغيرت حياتهم وعيّنت حراسات قوية عليهم السلطات المصرية، وحمل كل منهم مسدسًا.
سرعان ما جاءت خطوة أخرى من المخابرات الإسرائيلية، وهي أن حسان كامل، وهو رجل أعمال مصري، كان يصدر معدات الى برنامج الصواريخ المصرية من سويسرا، حجز لنفسه طائرة تشارتر لتقلع به من جزيرة سيليت في الدانمارك إلى دوسلدورف في ألمانيا، وفي اللحظة الأخيرة أجّل رحلته، وترك زوجته الألمانية تواصل الرحلة بدلا منه، وفجأة تحطمت الطائرة ولقي الطيار وزوجة رجل الأعمال مصرعهما في الحال، وكانت تلك هي بداية خطة الاغتيالات الكبرى التي بدأ الموساد تنفيذها لوقف مشروع الصواريخ المصرية وإجهاضه.
خطّة الإغتيالات الكبرى
في سبتمبر (أيلول) 1962، أصدرت الحكومة الإسرائيلية أوامرها إلى أيسر هاريل رئيس المخابرات بأن يمضي في تنفيذ المراحل الأخيرة من العملية السرية «داموكليس»، وهكذا بدأت سلسلة الاغتيالات... في العاشرة والنصف من صباح 11 سبتمبر(أيلول) 1962، دخل رجل أسود إلى مكاتب «أنترا» وهي وكالة المشتريات الرئيسة لبرنامج الصواريخ المصري في ميونيخ في ألمانيا الغربية، ثم انصرف بعد قليل بصحبة مدير الوكالة الدكتور هينز كروغ، وبعد أن مضت 24 ساعة على خروج الأخير اتصلت زوجته بالشرطة للإبلاغ عن اختفاء زوجها، وبعدها بيومين عُثر على سيارته، ثم تلقى البوليس مكالمة من مجهول تفيد بمقتله!
في صباح 27 نوفمبر (تشرين الثاني) 1962، فتحت سكرتيرة الدكتور بيلز، كبير العلماء الألمان في مصنع 333 الحربي لصناعة الصواريخ، طردا كبيرا مرسلا إلى الدكتور بيلز من محام كبير ومعروف في هامبورغ، كما تشير بيانات الطرد، لكن بمجرد أن فتحته انفجر في التو، فأصيبت بجراح شديدة ونقلت إلى المستشفى.
في اليوم التالي، وصل طرد آخر موجه إلى الإدارة العامة في مصنع 333 الحربي، قادمًا من هامبورغ ومكتوب عليه «مواد متخصصة»، وبمجرد أن فتح موظف مصري في المصنع الطرد انفجر في وجهه، ما أدى إلى مقتل خمسة أشخاص، واكتشفت سلطات التحقيق أن العنوان المرسل منه الطرد غير صحيح ولا وجود له.
في اليوم الثالث، وصل طردان آخران من شتوتغارت في ألمانيا إلى المصنع 333، لكن سلطات الأمن كانت تنبهت للأمر، ففحصت الطرد وكان فعلا يحتوي على متفجرات، فأبطلتها.
في 23 فبراير (شباط) 1963، توقفت سيارة أمام منزل الدكتور هانز كلينواتشر، خبير الإلكترونيات الألماني الذي يعمل في أجهزة التوجيه الخاصة بالصواريخ المصرية، في منطقة لوراش في ألمانيا الغربية، وفيها ثلاثة أشخاص، وطبقا لرواية هانز أمام الشرطة الألمانية في ما بعد، فإن أحد الأشخاص الثلاثة نزل من السيارة وسأله عن شخص يدعى شينكر، وقبل أن يرد عليه بأنه لا يوجد أحد بهذا الإسم، سحب الرجل الغريب من جيبه مسدسا كاتما للصوت، وأطلقه على الفور في صدر هانز الذي كان واقفا في النافذة، لكن لحسن حظه اصطدمت الرصاصة بحاجز النافذة مما خفف من انطلاقها وسرعتها فأدت إلى إصابته من دون مقتله.
دخلت حرب المخابرات بين مصر وإسرائيل مرحلة دامية، وفي كل يوم كان رئيس الوزراء الإسرائيلي يهنئ رئيس الموساد على كل جريمة قتل جديدة، ويشجعه قائلا: استمروا في الخطة بكل قسوة، فلا بد من منع عبد الناصر من صناعة تلك الصواريخ مهما كان الثمن.. مضت أشهر عدة وإسرائيل مستمرة في خطتها بتصفية الفريق الألماني الذي يعمل في برنامج الصواريخ المصرية، لكن تلك الخطة على رغم قسوتها وخستها لم تؤد إلى إخراج العلماء الألمان من مصر، وبدا مؤكدا لإسرائيل أن مصر لم توقف برنامجها، ولم يغادر العلماء الألمان مصر أو يتوقفوا عن العمل، ومع ذلك أمر بن غوريون رئيس الموساد بالاستمرار في الخطة، لأن مصر لو كانت نجحت في تصنيع صواريخها الخاصة فعلا بغير أن تنجح إسرائيل في منعها، فإنه لا يزال أمام مصر وقت لتصنيع أجهزة التوجيه الخاصة بها، وهو الأمر الذي يتيح لإسرائيل فرصة لمنع عبد الناصر من المضي في برنامجه، وقررت المخابرات الإسرائيلية أن تجرب وسيلة أخرى.
اتصل أيسر هاريل رئيس الموساد بصديق له في النمسا، وهو في الوقت نفسه عميل للموساد يدعى أتوغو كليك، وكلفه بمهمة جديدة، وهي أن يمارس الضغط على عدد من العلماء الألمان وفي مقدمهم البروفيسور بول غورك، كبير العلماء الألمان في مصنع 333 الحربي في القاهرة. أفادت المعلومات التي وصلت إليها المخابرات الإسرائيلية أن غورك له ابنة اسمها هايدي، محامية في مدينة فريبيرغ على الحدود السويسرية، وذات يوم بينما كانت هايدي في طريق عودتها الى منزلها ظهر أمامها فجأة أتوغو كليك، وبعد أن همس في أذنها ببضع كلمات تهديدية بدأت تسير معه في الشارع وليس أمامها مفر من ذلك، لقد أخبرها بهدوء أن والدها يعمل في برنامج صناعة الصواريخ لحساب مصر، والمخابرات الإسرائيلية تعرف عن والدها كل شيء، ومصممة على منع البرنامج مهما كان الثمن، حتى لو قُتل كل من يعمل فيه وأسروا أيضا!
أصيبت هايدي بحالة من الرعب، وبكت خوفا على والدها، لكن العميل الإسرائيلي قال لها إنها تستطيع أن تنقذ والدها لو ضغطت عليه وجعلته يترك مصر ومشروع الصواريخ، أما إذا استمر في عمله بمشروع عبد الناصر عدو إسرائيل الأول فتلك قصة أخرى ستنتهي نهاية مأساوية... تركها ثم عاود الاتصال بها بعد أيام قليلة وقال لها: «إذا كنت تحبين والدك فتعالي إلى فندق الملوك الثلاثة في بازل في سويسرا يوم السبت المقبل الثاني من مارس (آذار)، في الرابعة عصرا لأقدمك لأصدقائي الذين حدثتك عنهم».
كان والد هايدي أعطاها رقم هاتف صديق له، وهو ضابط سابق في الجيش الألماني وعمل فترة لحساب الجيش المصري، وبمجرد أن أخبرته بما جرى بادر صديق والدها من ناحيته واتصل فورا بالشرطة، فكثفت الشرطة في كل من ألمانيا وسويسرا تعاونها المشترك للإيقاع بتلك الشبكة السرية من عملاء إسرائيل. لم تكن عمليات الاغتيال السابقة قادت الشرطة الى أي دليل تجاه فاعليها، وبعد البلاغ تعرفت شرطة الحدود في زيورخ على أتوغو كليك، في الوقت نفسه الذي صدرت فيه أوامر بمراقبة أي إسرائيلي يكون على وشك دخول البلاد. في الأول من مارس (آذار) عام 1963، وصل إلى الجانب الإيطالي من الحدود الألمانية مسؤول إسرائيلي مكتوب في جواز سفره أنه يمثل وزارة التعليم الإسرائيلية، واسمه جوزيف بن غال، وكان الغرض غامضًا بشكل لافت من زيارته، ومع ذلك سمحت له الشرطة السويسرية بالدخول، ورُوقب سرا إلى أن وصل إلى فندق الملوك الثلاثة.
في اليوم التالي، ذهبت هايدي إلى موعدها المقرر في الفندق، وهي تصحب معها أخاها الأصغر ورجلا آخر قدمته على أنه صديق لها، وقامت الشرطة السويسرية بتخطيط ترتيبات سابقة لوضع جهاز تسجيل أسفل المائدة التي ستتم عليها المقابلة، بحيث تتابع كل كلمة تدور بين الطرفين داخل الفندق، وكان أفراد من الشرطة السريين يجلسون على الموائد المجاورة، في حين كانت هناك ترتيبات أخرى اتخذتها الشرطة خارج الفندق، بكفاءة عالية، إلى درجة جعلت مسؤول الموساد الذي دخل بجواز سفر يحمل صفة ممثل وزارة التعليم، لا يشعر بأي شكوك حوله، ومضى في حديثه مع هايدي لمدة ساعة كاملة، وقال لها إن الموساد سيتعامل مع العلماء الألمان في مصنع 333 في القاهرة بلا رحمة، وسوف يتركون والدها ولا يؤذونه إذا ترك فورا مصر وعاد الى بلاده، وقال لها إن المخابرات الإسرائيلية تقدم لها تذكرة سفر مجانية كي تسافر الى القاهرة لتقنع والدها بالعودة إلى ألمانيا، كي لا تضطر إسرائيل إلى استخدام وسائل أخرى معه، وتدريجيا تلقى مندوب المخابرات الإسرائيلية وعدًا من هايدي بأنها ستفكر في الأمر، ثم انصرف ورفيقه، وتابعت الشرطة السويسرية خط سيرهما، اذ اتجها الى محطة القطار ومنها إلى زيورخ.
اتخذت الشرطة السويسرية قرارا بحجزهما، فقُبض على اتوغوكليك قرب المحطة، وعلى جوزيف بن غال قرب القنصلية الإسرائيلية، وحرصت الشرطة السويسرية على عدم الإعلان عن الأمر لأسبوعين، فيما أخبرت الشرطة الألمانية فورا، وطلبت الاخيرة تسليمها المقبوض عليهما لأن التهديد وجّه الى هايدي على أرض ألمانيا، ولأن كلا الإسرائيليين مطلوبان باعتبارهما متهمين بمحاولة قتل كلاينواتشر سابقا.
جاء خبر القبض على عميلي الموساد في سويسرا بمثابة صاعقة لجهاز الموساد كله في إسرائيل، فعقدت الحكومة الإسرائيلية اجتماعا طارئا لبحث الموقف، اقترحت فيه وزيرة الخارجية غولدا مائير شن حملة للضغط على الحكومة الألمانية واتهامها بأنها تعرقل ترحيل العلماء الألمان في مصر، استمرارا لمؤامرة النازيين ضد اليهود، وذلك كي تضطر الحكومة الألمانية إلى اتخاذ موقف الدفاع بدلا من المطالبة بتسليم عميلي المخابرات ومحاكمتهما.
اقترحت إسرائيل أيضا المبادرة بإرسال مبعوث إسرائيلي خاص إلى المستشار الألماني كونراد اديناور، كي يقنعه بضرورة سحب ألمانيا لطلبها لدى الحكومة السويسرية الخاص بتسليم الإسرائيليين. كان بن غوريون رئيس الوزراء وقتها في إجازة، فذهب إليه رئيس الموساد لينقل له قرار مجلس الوزراء، لكن بن غوريون رفض تحويل الأمر إلى أزمة مع ألمانيا، أولا لأن ذلك سيضع اديناور في موقف من يتدخل في مسار القانون، وثانيًا كانت ألمانيا في تلك الفترة تمد إسرائيل سرا بصفقة أسلحة متطورة وبعشر ثمنها، وثالثا يمكن لحكومة ألمانيا أن تتردد في إغضاب عبد الناصر، فالمسألة لا تتعلق بمصر فحسب بل بعبد الناصر ونفوذه في الوطن العربي كله.
يتجدد الشجار بين بن غوريون ورئيس الموساد بمستوى العنف نفسه قبل سبعة أشهر، حينما علمت إسرائيل بالصواريخ المصرية من خطاب عبد الناصر. فوض بن غوريون رئيس الموساد بأن يجتمع مع رؤساء تحرير الصحف الإسرائيلية ويطلب منهم شن حملة ضد ألمانيا ومحاولة تعبئة الرأي العام في أوروبا والغرب للإفراج عن المسؤولين الإسرائيليين، وأن أولئك الألمان نازيون ومن يدافع عن وجودهم في مصر إنما يدافع عن النازية.
نفذ رئيس الموساد طلبات بن غوريون وبدأت تتوالى القصص في الصحافة الإسرائيلية عن الصواريخ المصرية، وحينما عاد بن غوريون من إجازته بدأ يحاسب رئيس الموساد على تجاوزاته التي يهدف منها الى إرغام الحكومة على اتخاذ موقف عنيف مبكر ضد الصواريخ المصرية، فخرج رئيس الموساد من المقابلة وعاد إلى مكتبه ليكتب استقالته، لكن بن غوريون رفض الاستقالة كي لا تؤدي الأزمة إلى سقوط حكومته، فأبلغ رئيس الموساد استقالته للصحف.
لم يكن من خلاف جذري بين الموساد والحكومة بشأن الصواريخ المصرية، فكلا الطرفين يتفق على خطورتها وضرورة منع عبد الناصر بأي ثمن من المضي في المشروع، لكن الموساد كان يريد ضربة عاجلة، أما الحكومة فكانت تهيئ المناخ الدولي وتمهده لضرب عبد الناصر ضربة تكون أكثر شمولا من مصنع الصواريخ... ضربة تجهض الإمكانات العسكرية المصرية لسنوات عدة وليس مصنع الصواريخ فحسب، خصوصا أن بن غوريون كان يرى أن المصريين ما زال أمامهم بعض الوقت قبل أن ينتهوا من صنع أجهزة التوجيه الى الصواريخ.
قرر بن غوريون أن يجمع مائير أميت بين منصبي المخابرات العسكرية والموساد في إسرائيل، وطوال تلك الفترة لم يكن للمخابرات الإسرائيلية من عمل سوى متابعة مشروع الصواريخ المصرية لحظة بلحظة، بعد أن فشلت أساليب الاغتيال والاختطاف في وقف المشروع، وهنا لم يكن أمام الموساد سوى أخطر جاسوس لهم داخل مصر، إنه لوتز «الحصان»، فمهمته ليست جمع المعلومات عن مصنع 333 فحسب، بل من الآن فصاعدا جمع المعلومات عن كل شيء في مصر، ابتداء من الإشاعات إلى الثرثرة العادية لشاغلي المراكز العليا في الحكومة، وأحوال المعيشة في مصر، والمتاعب التي يواجهها عبد الناصر في بلده.
كان لوتز يرسل بتقاريره من خلال جهاز إرسال لاسلكي متطور، وضعه في مكان خفي في حمام شقته، وتلك كانت غلطة عمره، فقد تمكنت أجهزة المخابرات المصرية أخيرا وبعد أربعة أعوام من التقاط إرساله اليومي وتتبُّعه، وهكذا عاد لوتز في 22 فبراير (شباط) 1965 من رحلة قام بها مع زوجته إلى مرسى مطروح، وفوجئ برجال المخابرات المصرية ينتظرونه داخل شقته ويلقون القبض عليه، لكن بعدما كان نقل لإسرائيل أخطر المعلومات عن كل شيء في مصر، وعلى ضوئها قامت بضربها في 5 يونيو (حزيران) 1967 لإجهاض مشاريع عبد الناصر وبرامجه.
تقدم لوتز للمحاكمة في 27 يوليو (تموز) 1965، فحُكم عليه بالسجن مدى الحياة وعلى زوجته ثلاث سنوات، لكن بعدما نجحت إسرائيل في ضرب مصر، وحان وقت تبادل الأسرى بين الجانبين وكان الطلب الأول هو الإفراج عن «الحصان» أخطر جاسوس لهم داخل مصر. بعدها عرف الجميع أن بن غوريون كان محقا حينما رأى أن الحل الوحيد للقضاء على برنامج الصواريخ المصرية هو توجيه ضربة عسكرية شاملة تجهض كل شيء وتعيد المصريين الى الخلف نصف قرن من الزمان.
76536_1-(4)_smaller.jpg

76536_4j_smaller.jpg

21331146kv1.jpg


[URL="
 
رد: حكاية جاسوس إسرائيل الذي دخل مصر لإجهاض برنامج الصواريخ المصريّة

شكرا اخي على الموضوع
 
عودة
أعلى