الأربعاء 7 نوفمبر عام 1956
على الرغم من قرار وقف إطلاق النار إلا أن القوات الفرنسية والبريطانية طوقت مدينة بورسعيد فحاصرت الدبابات المناطق الآهلة بالمدنيين وبدأت في ضربها .. وتصدى العدو لرجال البوليس وجمع منهم السلاح .. مما جعل قوات المقاومة الشعبية تنظم صفوفها برئاسة الصاغ مصطفى كمال الصياد وذلك داخل عشر مجموعات وكان اليوزباشي محمد سامي خضير محافظ بورسعيد السابق فيما بعد يقود المجموعة الثامنة ببسالة لمقاومة العدوان .. وقد أديرت عمليات المقاومة الشعبية من حجرة ضابط المباحث بالدور العلوي لبوليس العرب .. كما قامت القوات البريطانية بجمع أجهزة الراديو من المنازل والمحال حتى لا يسمع الأهالي نشرات الأخبار .. كما كانت تشغل جهاز بحديقة فيلا طيرة بطرح البحر للشوشرة على الإذاعة المصرية أثناء إذاعة نشرات الأخبار .
خلت المدينة من الطعام اللهم إلا من البطاطس والأرز المخزون في جمرك بورسعيد حيث تم توزيعها على الأهالي .. وفي هذا اليوم قامت قيادة المقاومة بطبع أول منشور لها بعنوان سنقاتل سنقاتل في مطبعة محمد شاكر مخلوف وقد تخصص في كتابة تلك المنشورات عبد اللطيف بدر وأحمد قورة والساعي والعصفوري والدسوقي ومختار وذلك تحت مجموعتين أطلق عليهما الهتاشاما وإمتد طبع المنشورات إلى مطبعة السيد المغربي وكانت هناك منشورات باللغة الإنجليزية والفرنسية توزع داخل معسكراتهم بمعرفة الفدائيين أو افراد منظمة أيوكا القبرصية من العاملين معهم .
بدأ كمال الصياد قائد المقاومة الشعبية بالإستعداد للأيام القادمة كيف بنقل الأسلحة والذخائر والمعدات إلى داخل المدينة والحصار الشديد طوق المدينة من جميع جهاتها ؟!..
فهداه تفكيره إلى بحيرة المنزلة المترامية الأطراف من الحد الغربي للمدينة ، وإتجهت أنظاره إلى صيادي الأسماك المنتشرين في جميع جهاتها ، لكن أيهم يتحمل هذا العبيء وتلك الأمانة الوطنية التي تحتاج إلى دقة وحذق ومهارة لأن فشل تنفيذها أو إكتشاف سرها سيمنع من وصول الذخائر والأسلحة والفدائيين إلى بورسعيد ، جميع الصيادين كان الحماس يملأهم والوطنية في دمائهم الكل يرغب في التضحية والفداء من أجل مصر ، وإنتهى الرأي على إختيار الريس محمد زكي عبد المنعم وأشقائه للقيام بتلك المهمة وقد لعبوا دورا هاما وكبيرا في الأيام التي تلت ذلك في مد الفدائيين وقوات المقاومة الشعبية بالأسلحة والذخائر التي يخفونها أسفل الأسماك التي يصيدونها من بحيرة المنزلة .
وفي منتصف الليل أصدرت الأمم المتحدة نداء للقوات المعتدية بوقف القتال فورا وعدم التقدم عن الأماكن المحتلة ، فوافقت القيادة البريطانية والفرنسية –
الجنرال إستكويل قائد قوات الغزو والجنرال كيتلي قائد الحملة المشتركة وهو ضابط تربى في ظل الإستعمار البريطاني في كينيا ونقل إلى مصر عام 1951 لقمع عمليات الفدائيين في منطقة القناة وخطط في الهجوم على مصر عام 1956 والجنرال بارجو قائد القوات البحرية الفرنسية- ببورسعيد على قرار الأمم المتحدة السابق صدوره في الثاني من نوفمبر عام 1956 وتم وقف إطلاق النار إلا أن القوات المعتدية لم تلتزم بهذا القرار وكما سيأتي ذكره من خلال أيام المعركة التالية .
ومن مذكرات محمد رياض عن هذا اليوم ذكر ما يلي :
في الساعة الرابعة من مساء يوم 7 نوفمبر فوجئت بثلاثة من كبار الجيش البريطاني يدخلون مكتبي وتصدى لي أحدهم – وقد عرفت فيما بعد أنه مدير المخابرات – بالحديث وأبلغني أنه قد جاء وزميلاه لإصطحابي إلى الجنرال إستوكويل ولم أستطع أن أخفي دهشتي من هذا الطلب فرددت عليه بأنني أرغب في أن أتحدث معه على إنفراد فكان رده أنه قد حضر ومعه زميلاه فيجب أن يكون الحديث أمامهما ولكني أصررت على أن يكون حديثنا على إنفراد نظرا لدقته وعرضت أن ينسحب زملائي من الغرفة وأن يسحب زميليه بدورهما إلى غرفة مجاورة ، وتم فعلا وسألت مدير المخابرات عن المقصود من إصطحابي إلى الجنرال فأجاب أنه يرغب في أن يبحث معي بعض الشئون قلت ولماذا لا يحضر لي ، فأجاب بأن الجنرال مشغول جدا ولا يستطيع الحضور وأنه يريد أن يعرض مساعداته لتموين أهل المدينة بالطعام وأنني بوصفي محافظا للمدينة يهمني مساعدة أهلها ، فأجبت أن في المدينة من التموين ما يكفيها وإذا كان الجنرال مشغولا اليوم فليحضر غدا أو في أي يوم يلائمه ولن أقبل الذهاب إليه ، فأجاب أنها دعوة ، وكان ردي أنه عندما حضر مستر هيد وزير الدفاع البريطاني إلى بورسعيد منذ شهور مضت قبل الجلاء أرسل قائد القوات البريطانية في ذلك الوقت يستأذنني في زيارة الوزير لي ، فإبتسم الرجل قائلا الوضع مختلف الآن قلت له في حزم وإصرار إن القتال مازال ناشبا وإنني لم أسلم المدينة ولا أزال الحاكم الشرعي لها على إني أود أن أفهم بأي صفة يريد الجنرال مقابلتي .. إن كان بصفتي محافظ المدينة فللمحافظ وضع ينبغي أن يراعيه الجنرال وكان رده أن الجنرال مشغول جدا ولا يستطيع النزول في الوقت الحاضر وأنه يوجه إلي دعوة لبحث شئون هامة يترتب على تأخير بحثها إلحاق الضرر بالمدينة ، قلت له أني أقدر أهمية المقابلة ولكني لن أذهب معكم بأي حال وسأعتبر حضورك مع زميليك زيارة تستحق أن أردها لكم ولا مانع أن ألتقي خلال رد الزيارة بالجنرال إستكويل بشرط أن يفهم الجنرال صراحة أنني لم أحضر لمقابلته ولا لزيارته وإنما ردا لزيارتكم وزميليك وطلبت إليه الإنصراف مع زميليه ووعدته برد الزيارة بعد نصف ساعة بفندق الكازينو وبعد إنصرافهم جميعا علمت من زملائي الذين إنتقلوا إلى غرفة مجاورة مع الضابطين المرافقين لمدير المخابرات أنهما إستخلصوا من طول المقابلة أنني أرفض مقابلة الجنرال فقالا أنه إذا رفض المحافظ مصاحبتنا إلى الجنرال فسنأخذه بالقوة ..
ترى هل تم لهم إستخدام هذه القوة وهل نجحوا في إصطحاب المحافظ إلى الجنرال ! وفي الموعد المحدد إنتقلت مع القائمقام حسن رشدي في سيارته الخاصة إلى الكازينو وهناك إستقبلني مدير المخابرات أمام الباب وكانت هناك حركة كبيرة من السيارات والدبابات والمدرعات وقوات عسكرية كبيرة متراصة في الطرقات ثم وجدت القنصل البريطاني واقفا أيضا فأقبل علي للتحية ثم شاهدت الجنرال إستكويل وحوله رهط من كبار ضباطه وكان يصدر تعليماته لهم وإقترب مني ثم مد يده مصافحا وإنتحينا جانبا وبدأنا الحديث – سألني عن حالة التموين وأبدى إستعداده لتموين الأهالي وإقترح أن تخزن المواد التموينية في حوض شريف على أن تكون في حراسة الجمارك فأجبته بأن بالمدينة من التموين ما يكفيها كما أنه لايوجد أحد من حرس الجمارك وسألني عما إذا كنت سأباشر عملي فأجبته بأنني حاكم المدينة وسأباشر عملي لرعاية مصالح المواطنين وعرض علي حراسة بريطانية لمبنى المحافظة فأجبته بأن الحرس سيكون مصريا وسألني عن مكان إقامتي فأجبته بأنني سأقيم في منزل الحكمدار نظرا لإصابة مسكني بالقنابل ثم إنتهت المقابلة لأتبين بعد ذلك أن إقامتي محددة وإستمرت ثلاثة أيام .
نظمت قوات المقاومة الشعبية صفوفها فقامت بطبع المنشورات وتوزيعها وكانت تحث على مقاومة العدو والجهاد في سبيل الوطن .
ونجح المحافظ الأستاذ محمد رياض في بث روح المقاومة السلبية بين صفوف أبناء الشعب البورسعيدي فأغلقت المحال أبوابها في وجه الأعداء ورفضت التعامل مع تلك القوات كما نجح في بث تلك الروح بين العمال الذين رفضوا العمل والتعاون مع الأعداء على الرغم من المحاولات الكثيرة ووسائل الترغيب وكان يعاون المحافظ في ذلك العمل ضباط المباحث وعلى رأسهم محمود عبد الحي صلاح ومنير الألفي ..
ولم ينس المهندس محمد توفيق الديب مدير البلدية يوم أن حضر له الميجور وليامز والكولونيل جرين من قوات المخابرات والميجور كلاين والميجور بولدرنج من سلاح المهندسين ثم أحاطوا به محاولين إرهابه بإتهامه بتحريض العمال على عدم التعاون معهم .
وقامت القوات المعتدية بالشوشرة على الإذاعة المصرية حيث كانت القوات البريطانية تشغل جهازا وضعته في حديقة فيلا طيره التي إحتلتها بطرح البحر للشوشرة كما بثت إرسال إذاعة موجهة من جزيرة قبرص تذيع الأكاذيب والسموم ضد مصر وكفاح الشعب البورسعيدي تحت إسم " صوت مصر الحرة " ولما لمست القوات المعتدية عدم إستجابة الأهالي لسماع تلك السموم قامت بجمع أكثر من 5000 جهاز راديو من الأهالي وقامت بتحطيمها لعدم ربط بورسعيد بالعالم الخارجي فأضيفت مهمة جديدة لرجال المقاومة هو نقل أخبار مصر لداخل بورسعيد ، كما قام الفدائيون بإلقاء الرعب في قلوب القوات المعتدية فقاموا بخطف أسلحتهم فصدرت الأوامر بالسير في جماعات وعدم السير فرادى كما صدرت لهم الأوامر بربط أسلحتهم بأجسامهم ولم يمنع ذلك من نشاط الفدائيين بل أصبحت الدوريات صيدا ثمينا لهم ، وفي هذا اليوم إستمر العدو في ضرب المنازل التي يشك في إختباء الفدائيين فيها وقاموا بالإعتداء على رجال الشرطة المصريين وقاموا بتجريدهم من أسلحتهم وبدأوا في القبض على المواطنين وإستجوابهم لمعرفة أماكن الفدائيين .