علــم المقذوفــات .. وسلــوك المقــذوف التصاعــدي
لا يمكن دراسة أداء مدافع الدبابات وذخيرتها بمعزل عن دراسة علم المقذوفات Ballistics ، وهذا العلم يختص بدراسة التطور المرحلي لسلوك المقذوف projectile والقوي التي تؤثر عليه ، ابتداء من عملية اشتعال المادة الدافعة وانطلاق المقذوف بتسارع وتعجيل من حاوية الخرطوشة ، وحتى وصوله وارتطامه بالهدف . إن فيزياء انطلاق المقذوف من سبطانة المدفع وصولاً حتى هدفه تخضع لعمليات معقدة جداً ، وبالنتيجة فإن علم المقذوفات حتى اليوم يعد أساساً علماً تجريبياً empirical science ، مستند على مقدار كبير من الملاحظات الاختبارية ..هو عرضة للتحليل النظري وكان موضوع علماء الرياضيات والفيزياء والهندسة وشاغلهم لعقود طويلة ، واليوم أصبح هذا العلم أكثر فهماً ووضوحاً في معظم جزئياته . هذا العلم يقسم في حقيقته لثلاثة عناوين رئيسة ، هي (1) علم المقذوفات الداخلي internal الذي يدرس ما يحدث ضمن سبطانة السلاح ، ابتداء من كبس زر الإطلاق واشتعال بادئ الإيقاد/الإشعال ، وحتى خروج المقذوف من فوهة السلاح . الآخر هو (2) علم المقذوفات الخارجي external الذي يتناول سلوك المقذوف من فوهة السلاح ومسار طيرانه باتجاه الهدف . ويتناول هذا العلم صيغ معقدة جداً ، تتناول عوامل عديدة ، مثل شكل المقذوف ، كثافته المقطعية ، الضغط الجوي ، والتأثيرات البيئية الخارجية بشكل عام . أخيراً هناك (3) علم المقذوفات الطرفي أو النهائي terminal الذي يتعامل مع سلوك المقذوف عند ارتطامه بالهدف ، وبالتالي هو يطرح فرضيات الاختراق الجزئي أو الثقب الكلي وغيرها من نتائج وتأثيرات الاصطدام . ويبقى عنوان أخير يطلق عليه علم المقذوفات الوسطي Intermediate Ballistics وهذا ليس بعلم مستقل كما يبدو من أسمه ، بل هو حالة وسطية بين علم المقذوفات الداخلي وعلم المقذوفات الخارجي ، يهتم بدراسة سلوك المقذوف والغازات لحظة انبثاقها وصدورها عن فوهة السلاح .
علـــم المقذوفـــات الداخلـــي (1)
علم المقذوفات الداخلي Internal Ballistics هو العلم الذي يتعرض ويدرس الأداء الداخلي المقذوف ، لدي حركته في سبطانة السلاح وحتى خروجه من الفوهة ، حيث تكون قوة الدفع ، هي القوة الرئيسة المؤثرة على المقذوف . تبدأ سلسلة إطلاق النار عادة مع إيقاد بادئ الإشعال primer بواسطة نبضة كهربائية ، هذه العملية تتسبب في احتراق شحنة البادئ وإنتاجها لغازات ساخنة وجزيئات متوهجة ، تحقن بدورها ومن خلال ثقوب قضيب البادئ في شحنة الدافع propellant المحيطة بها ، وتنتشر هذه على شكل موجة لهب في غرفة الاحتراق مصحوبة بموجة ضغط pressure wave ناتجة عن تدفق الغازات (تعمل موجات الضغط للانعكاس والارتداد عن جوانب حجرة الاحتراق ، لذا هي تعبر ذهاباً وإياباً خلال شحنة الدافع .. هذا السلوك يكشف عادة كتقلبات وتبدلات سريعة في الضغط تكون مفرطة عند مؤخرة وقاعدة المقذوف وهو في الحجرة) حيث تتسبب الغازات الساخنة المتدفقة بين حبيبات الدافع granules ، في إيقاد سطوحها ويؤدي ذلك لإشعال كامل شحنة الدافع خلال أجزاء من الألف جزء من الثانية . وخلال هذه العملية تكون غرفة الاحتراق تكون مغلقة ومختومة عملياً بواسطة خرطوشة القذيفة ، لمنع هروب وتسلل الغازات والطاقة المحررة من بادئ الاحتراق وشحنة الدفع . إن عملية التفاعل بين بادئ الإشعال والشحنة الدافعة يجب أن تدرس بعناية ، فأي تقلبات أو تناقضات في عملية الإيقاد ، ستظهر نفسها على كامل السلسلة البالستية ، كاختلافات مهمة في سرعة الفوهة وحدود الارتداد وبالتالي تخفيضات في مستوى الدقة .
وحالما تبدأ عملية الاشتعال في حجرة الاحتراق ، فإن الطاقة الكيميائية المشتعلة للدوافع تتحول لطاقة حرارية ، تنشأ عنها غازات ساخنة جداً . هذه الغازات تتطور عن سطح كل قطعة منفصلة من حبيبات الدافع وتستمر في تعزيز الضغط في حجرة الاحتراق ، بذلك تزيد نسبة الاحتراق في الوقت الذي تتطور معه الغازات أكثر فأكثر بسرعة . تتسبب هذه الغازات في توليد ضغوط شديدة جداً في غرفة الاحتراق chamber ، تؤدي بدورها لتركيز هذه الضغوط المتصاعدة على قاعدة المقذوف (في المدافع محلزنة التجويف ، يواجه المقذوف مباشرة مع بداية تحركه الأخاديد اللولبية ، فيميل للتباطؤ أو التوقف حتى يتزايد الضغط بما فيه الكفاية لدفعه للأمام) ودفعه بسرعة عالية من حاوية الخرطوشة باتجاه فوهة السلاح ، وهذا سبب كون منطقة الاشتعال ونسبياً مقدمة الفوهة ، من أثخن المناطق في السبطانة . ويساهم عاملان رئيسان في توليد هذه الضغوط بالغة الذروة Peak Pressure ، العامل الأول هو التحرير السريع للغازات النشيطة energetic gases خلال المراحل الأولى من تسلسل الإطلاق ، والناتج عن وضع مقدار أكبر من حبيبات المادة الدافعة ، التي توفر قيمة عالية من الدفع المستمر ، وسرعة احتراق أعلى burning rate . العامل الثاني هو كتلة المقذوف ، والتي تميل مع تزايدها لتحقيق مقاومة أكثر للتعجيل ، وبالتالي التحكم بحجم المساحة التي ستتمدد وتتوسع خلالها الغازات ، وبذلك يتزايد الضغط ويبلغ ذروته (مع وجوب ملاحظة مستوى الإجهاد stresses الأقصى الذي يمكن للسبطانة تحمله تجاه ضغوط الغازات المرتفعة) . ويتم التأكيد على تناسب معدل احتراق شحنة الدافع مع الضغط المتولد ، حيث تكون الزيادة في الضغط مرتبطة ومصحوبة فعلياً بزيادة الغازات المنتجة .
إن عملية احتراق الدافع تتسبب في إصدار كمية كبيرة من الطاقة على شكل غازات ساخنة ، وبينما تسلسل عملية الإطلاق يتقدم ويتواصل ، فإن نسبة كبيرة من هذه الطاقة الناتجة عن احتراق الدافع موزعة ومتحولة لأشكال أخرى ، حيث يكون التوزيع النهائي لتسلسل الإطلاق : 32% حركة القذيفة +3% حركة الغازات الدافعة +3% خسارة احتكاك +20% خسارة حرارة للسبطانة والمقذوف +42% حرارة محجوزة ومحتفظ بها من قبل غازات الدافع = 100% هي مجمل الطاقة المحررة liberated من قبل الدافع (يتم فقدان بعض الطاقة الحركية نتيجة حركة ارتداد السلاح recoil motion أثناء الإطلاق ، هذه تقدر بنحو 0.5% من الطاقة الإجمالية المتوفرة) .
وبينما يبدأ المقذوف في التحرك للأمام ، فإن حجم غازات الدفع يبدأ في التزايد ، لأن الدافع يستمر في الاحتراق لفترة أطول ، وبالنتيجة فان قمة الضغوط تبلغ المقذوف بعد انتقاله لمسافة قصيرة من السبطانة ، تبلغ نحو عُشر الطول الكلي لسبطانة المدفع ، تكون عندها مادة الدافع قد احترقت بالكامل ، ويكون معها المقذوف قد تجاوز مسافة أبعد خلال السبطانة (مع ملاحظة أن هناك قوتان متعارضتان opposing forces يتصرف وفقها المقذوف وهو في السبطانة ، هما قوة الدفع الناتجة عن ضغوط غازات الدفع على قاعدة المقذوف ، وقوة الاحتكاك frictional force النسبية المعيقة لحركة المقذوف مع جدار السبطانة ، ويتفاوت تأثير هذه بين السبطانات محلزنة التجويف والأخرى الملساء) . ومع تعجيل المقذوف في تجويف السبطانة باتجاه الأمام ، فإنه يترك خلفه مساحة أكبر حجماً ، لكي تملأ بغازات الدفع عالية الضغط ، ولذلك يبدأ ضغط الغاز gas pressure بالانخفاض والتهاوي مع اقتراب المقذوف من فوهة السلاح ، نتيجة حالة التمدد والتوسع expansion الذي يتعرض لها . ومع ذلك لا يزال هناك ضغوط شديدة على طول السبطانة ، تساهم في تسارع وتعجيل accelerate المقذوف حتى خروجه من فوهة المدفع .