سلسلة أولو الألباب / الدكتور عثمان قدري مكانسي

Nabil

خـــــبراء المنتـــــدى
إنضم
19 أبريل 2008
المشاركات
22,770
التفاعل
17,885 113 0
سلسلة أولو الألباب

الدكتور عثمان قدري مكانسي

القسم الأول​


ذُكِرَ (أولو الألباب) في القرآن الكريم إحدى عشرة مرة . يناديهم الله تعالى منبهاً أو مذكّراً أو مادحاً أو مكلّفاً . فمَنْ أولو الألباب هؤلاء؟ ، جعلنا الله منهم. ونفعنا بهم.

تعالوا نستجلي أمرَهُم .لعلنا نتعلم، فنعمل . أو ننتبه فنتذكّر، فنسرع الخطا إثْرَهم. ونجدُّ وراءهم علنا نبلغ بعض ما بلغوا.فإنما الحياة جِدٌّ وسباق نحو العلا ، واقتداء بالسلف الصالح ، ولعلّ الشاعر الفقيه الشافعي رحمه الله تعالى أحسن حين قال فيهم:

إنّ لـلـه عـبـاداً فـُطَنـاً * طلّقوا الدنيا وعافوا الفِتَنا
نظروا فيها فلمّا عَلِموا * أنهـا لـيســت لحَيٍّ سَـكَناً
جعَلوهـا لُجّةً واتخـذوا * صالح الأعمال فيه سُـفُناً​

يقول الله تعالى في سورة البقرة:
{ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)}.
إنّ الله تعالى شرع القصاص لنا، والقصاصُ قتل القاتل حين يقتل غيره عامداً .فكم من رجل يريد أن يقتل فتمنعه مخافة أن يقتل ، إنَّ القاتل إذا علم أنه يقتل جزاءً وفاقاً توقّف عن صنيعه فكان في ذلك حياة للنفوس وصيانة لها أن تُزهق اعتداءً .

قالت العرب قديماً : القتل أنفى للقتل فجاءت هذه العبارة في القرآن أفصح وأبلغ وأوجز { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } ، فالجملة (القتل أنفى للقتل) ثلاث كلمات ذكر القتل فيها مرّتين ولم يُذكر القتل في القرآن ، إنما ذكر القِصاص تخفيفاً ثم ذُكرت كلمة الحياة، فكان القِصاصُ حياةً، وهو كلامٌ وجيز معناه" لا يقتل بعضكم بعضا".

فإذا أقيم القِصاصُ وتحقق الحكم فيه ازدجر من يريد قتل آخر , مخافة أن يُقتص منه فحييا بذلك معا . وكانت العرب إذا قتل الرجل الآخر حمي قبيلاهما وتقاتلوا ،وكان ذلك داعيا إلى قتل العدد الكثير , فلما شرع الله القصاص قنع الكل به وتركوا الاقتتال , فلهم في ذلك حياة- قالها القرطبيُّ-

قالتِ العلماءُ :لا يجوز لأحد أن يقتص من أحد حقَّه دون السلطان , وليس للناس أن يقتص بعضُهم من بعض , وإنما ذلك للسلطان أو من نصَّبه السلطان لذلك ،ليقبض أيدي الناس بعضهم عن بعض .
فإذا جار السلطانُ نفسُه وتعدى على أحد من رعيته , إذْ هو واحد منهم اقتصَّ من نفسه، فقام قاضيه بالحكم بينه وبين المشتكي ، وإنما له مزية النظر لهم كالوصي والوكيل , وذلك لا يمنع القصاص , وليس بين الحاكم وبين العامة فرق في أحكام الله عز وجل , لقوله جل ذكره : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } ,
وثبت عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال لرجل شكا إليه أن عاملا قطع يده : لئن كنت صادقا لأقيدنك منه , وروى النسائي عن أبي سعيد الخدري قال : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم شيئا إذ أكب عليه رجل , فطعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرجون كان معه ( أبعده) فصاح الرجل , فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :" تعالَ فاستقِدْ" . قال : بل عفوتُ يا رسول الله .
وخطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : ألا من ظلمه أميره فليرفع ذلك إلي أقيده منه ,
فقام عمرو بن العاص فقال : يا أمير المؤمنين , لئن أدَّب رجل منا رجلا من أهل رعيته لتقصَّنه منه ؟
قال : كيف لا أقصه منه وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص من نفسه ,
وفي لفظ لأبي داود : خطبنا عمر بن الخطاب فقال : إني لم أبعث عمالي ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا أموالكم , فمن فعل ذلك به فليرفعه إلي أقصه منه , وذكر الحديث بمعناه .
يكثر التعقيب " لعلكم تعقلون , لعلكم تشكرون , لعلكم تذكرون , لعلكم تهتدون " وهذا دليل على أن أولي الألباب يعقلون ويتذكرون ،ثم يهتدون ويشكرون.
وتفيد " لعلَّ" الترجّي والتوقُّع ، وهذا مع البشر:
كقوله تعالى: { اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)}(طه) قال معناه اذهبا على طمعكما ورجائكما أن يتذكر أو يخشى
وقد تفيد التعليل بمعنى لام كي .فالمعنى لتعقلوا ولتذكروا ولتتقوا – قالها القرطبي رحمه الله-
يقول الشاعر:
وقلتم لنا كفوا الحروب لعلنا * نكف ووثقتم لنا كل موثق
فلما كففنا الحرب كانت عهودكم * كلمع سراب في الملا متألق المعنى​

أما " لعلّ " في كتاب الله تعالى فتأكيدٌ للجواب ، إن وجود القصاص والعمل به يؤدي إلى حياة كريمة يرضى المولى عنها ويبارك فيها.ويُكتب القائمون عليها من الأتقياء، وللتقوى فوز ونجاة.
ومن معنى " تتقون " في هذه الاية الكريمة – أيضاً- أن المجتمع يسلم من منغِّصات الحياة حين يكون عقاب المجرم حاسماً .

أذكر أنّ القتل والسرقة شاعت في مدينة حلب في منتصف السبعينات ، فأراد المحافظ وعلماء المدينة أنْ يحُدّوا من ذلك ، فحُكِم على ثلاثة قتلوا رجلاً وسرقوه بالإعدام ، ونُفِّذ القصاص بهم وعُلّقوا على أعواد المشانق ثلاثة أيام في باب الفرج: منتصف المدينة يراهم الغادون والرائحون، فكاد القتل والسرقة على مدى ستة أشهر ينعدم. خاف المجرمون وتحسسوا أعناقهم.
وربما حوكم سارق الدجاجة بسجن ثلاثة أيام يخرج من السجن وقد نال فيه دورات مكثفة في فنون السرقة ، أو يخرج المسجون بعد سنة من السجن وقد نال شهادة ( الدكتوراه) في فنون الإجرام والفساد.فالسجون في بلادنا بؤرة للفساد وتخريج عتاة المفسدين في الأرض .

يتبع
 
سلسلة أولو الألباب

الدكتور عثمان قدري مكانسي

القسم الثاني *

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ
(197) البقرة.​

لن نخوض في صحة الإحرام بالحج في غير أشهر الحج ولكن ننوه إلى أن الشافعية قالوا به في أشهُرِ الحج فقط ، وجوّزه الأحناف في كل شهور السنة
وأشهُرُ الحج المعلومات شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة غير أن الأشهر الحرم يدخل فيها المحرّم ويخرج منها شوال ، وينفرد رجب.

وقد ثبت عن عمر وعثمان رضي الله عنهما أنهما كانا يحبان الاعتمار في غير أشهر الحج وينهيان عن ذلك في أشهر الحج والله أعلم.

1- فمن أحرم بالحج أو العمرة فليجتنب (الرفث) وهو الجماع كما قال تعالى : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ ...(187)}(البقرة)، ويَحرُم تعاطي دواعيه من المباشرة والتقبيل ونحو ذلك وكذلك التكلم به في حضرة النساء .

وقال عبد الله بن طاوس عن أبيه :سألت ابن عباس عن قول الله عز وجل: { فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ } ، قال : الرفث التعريض بذكر الجماع، وهو أدنى الرفث . وقال عطاء بن أبي رباح : الرفث الجماعُ وما دونه من قول الفحش . وكذا قال عمرو بن دينار. وقال عطاء : كانوا يكرهون (العرابة) وهو التعريض وهو مُحرِمٌ . وقال طاوس : وهو أن يقول للمرأة إذا حللتُ أصبتك . ويدخل فيها القبلة والغمز .

2- أما " الفسوقُ " فعصيان الله صيداً أو غيره ، وهو – كذلك- السبابُ وخصام المسلمين وإيذاؤهم، والتنابز بالألقاب وإتيانُ معاصي الله في الحرم. كما نهى تعالى عن الظلم في الأشهر الحرم وإن كان في جميع السنة منهيّاً عنه إلا أنه في الأشهر الحرم آكد ولهذا قال : {... مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ...(36)}(التوبة) ،
وعصيان أوامر الله وتناسيها ظلم للنفس وبُعدٌ بها عن حياة المسلم الحقِّ. وقال في الحرم : { وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)}(الحج) ،
وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيومَ ولدته أمُّه ) . وقال: ( والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ) أخرجه مسلم وغيره , وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :
( والذي نفسي بيده ما بين السماء والأرض من عمل أفضل من الجهاد في سبيل الله أو حجة مبرورة لا رفث فيها ولا فسوق ولا جدال ) , وقال الفقهاء : الحج المبرور هو الذي لم يُعصَ الله تعالى فيه أثناء أدائه.

3- وللجدال معانٍ ذكرهاالعلماء ، منها:

أ- نسيء الاشهر الحُرم التي كان بعض العرب يفعلونها ، فيُقدِّمون بعض الأشهر الحِلّ ويؤخرون بعضها للغزو أو الرعي ..

ب- جدال الناس من غير الحجاج أيام الحج في حياتهم ،وكأن عليهم أن يشاركوا الحجيج مناسكهم عن بعد، وقد حثّنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نكثر العمل الصالح في الأيام العشر الأولى من ذي الحجة ، فقد روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
" ما من أيامٍ العملُ الصالحُ فيها أحبُّ إلى الله من هذه الأيام - يعني أيام - العشر ،
قالوا يا رسول اللهِ ولا الجهادُ في سبيل الله
قال : ولا الجهادُ في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء ".
وروى أبو قتادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن صوم يوم عرفة فقال:": يُكفِّرُ السَّنةَ الماضيةَ والباقيةَ ، وسُئل عن صومِ يومِ عاشوراءَ فقال : يُكفِّرُ السَّنةَ الماضيةَ ".

ج- وفي قوله سبحانه : { وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ } تنبيه إلى علم الله تعالى بأحوالنا وأعمالنا وتحذيرٌ من مخالفة أمره ، وذكرَ القرآنُ كلمة (الخير) وتجاوزَ عن كلمة (الشر) اختصاراً وتربيةً، وكأنه سبحانه بعدم ذكرها يحضنا أن نكون من أهل الخير ونترك فعل الشر.

د- ويدعونا الله تعالى بقوله: { وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } إلى أكثر من أمر:

أن تكون التقوى معيارَ حياتنا ، والحجُّ من التقوى.فهو من أركان الإسلام.
أن يتزود الرجل في سفره إلى الحج فإن لم يستطع فليس عليه حجٌّ، ولا يعتمد على غيره في زوّادة حجه.
أن يكون الحاجُّ كريماً يطعم إخوانه من الحجاج من أطايب طعامه الذي يحمله معه .ويعين أهل الحرم ( وكان هذا ديدن الحجاج قبل يُسر أهل الحرم).
هـ- والآيات التي سبقت هذه الآية تحدد مناسك الحج ، وتوضحها ، فمن التزمها كان تقياً وصحّ حجُّه ،إن تقوى الله تعالى السبيلُ إلى رضاه ،وما يفعل ذلك إلا أولو الألباب .

* بتصرف بسيط

يتبع​
 
سلسلة أولو الالباب

الدكتور عثمان قدري مكانسي

القسم الثالث

الحكمة رزق كريم، وفضل عميم، من تحلّى بها فقد نال الكرامة في الدنيا وأوصلته مع الإيمان بالله والعمل الصالح إلى جنة عرضها السماوات والأرض، ولا ينالها إلا المحظوظ.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم آتـاه الله الحكمة ليعلمها المسلمين، فينتفعوا :
{ لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ (164)}(آل عمران).

وقال تعالى في الآية الثانية من سورة الجمعة:
{ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (2)} .

وقال تعالى منبهاً إلى الطريقة المثلى في الدعوة إلى الله:
{ ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)}(النحل) .


قال القرطبي في تفسيرها: الحكمة: تلطف ولين دون مخاشنة وتعنيف.
وعيسى عليه السلام آتاه الله الحكمة كذلك:
{ .. وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ ...(110)}(المائدة) .

وأخبرنا عن داوود عليه السلام:
{ وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20)}(ص) .

وقال في حق لقمان الحكيم:
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ ...(12)}(لقمان) .


فما هي الحكمة؟

قال مالك: المعرفةُ بالدين، والفقه بالتأويل، والفهمُ الذي هو سجيّة ونورٌ من الله تعالى.
وقال قتادة: هي السنّة، وبيان الشرائع.
وقيل: هي الحكم والقضاء خاصة.
وقيل: الحكمة شكر الله تعالى.. ألم يقل الله تعالى:
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ }؟!


وأرى أن الحكمة في الدعوة تراعي مقتضى الحال:

1 – فمن كان ذا عقل وبصيرة خوطب بالحجة والبرهان.
2 – ومن كان عالماً بُسِطت له الأدلة ووسائل التدبُّر.
3 – ومن كان لطيفاً مهذباً خوطب بما يناسبه.
4 – ومن كان جاهلاً عُلِّم واعتني به.
5 – ومن سفِه وتطاولَ قُمعَ، ونُهر.

وقال تعالى- [وهنا بيت القصيد في مقالنا هذا]:
{ يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ (269)}(البقرة) .

فلا ينال الحكمة إلا من شاء الله تعالى له المكانة العالية في الدارين ، ولهذا جاء قولُه سبحانه:
{ يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء } ، شرحها ابن عباس رضي الله عنهما:

(المعرفة بالقرآن ناسخِه ومنسوخِه ومحكمِه ومتشابهِه ومقدمِه ومؤخرِه وحلالِه وحرامِه وأمثاله)
وقال الحسنُ البصري رحمه الله تعالى : هي الوَرَعُ
وقال مجاهد: (الحكمةُ الإصابة في القول والعلم والفقهُ والقرآن).
وقال أبو العالية : الحكمة خشية الله فإن خشية الله رأس كل حكمة ، وهو قول ابن مسعود رضي الله عنه، وقال بعضهم : السنّة والفهمُ والفقهُ في دين الله
وقال السدي : الحكمة النبوةُ .والصحيح أن الحكمة كما قاله الجمهور لا تختص بالنبوة بل هي أعم منها وأعلاها النبوة والرسالة أخص ،( قالها ابن كثير).
وقال القرطبيُّ في تفسيره: إن الحكمة مصدرٌ من الإحكام ،وهو الإتقان في قولٍ أو فعلٍ , فكل ما ذكر فهو نوع من الحكمة التي هي الجنس , فكتابُ الله حكمة , وسنة نبيه حكمة , وكلُّ ما ذكر من التفضيل فهو حكمة . وأصل الحكمة ما يمتنع به من السفه , فقيل للعلم حكمة لأنه يمتنع به , وبه يعلم الامتناع من السفه وهو كل فعل قبيح , وكذا القرآن والعقل والفهم .

عن ابن مسعود قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول :
( لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها ) رواه البخاري ومسلم والنسائي وغيرهما."


وذكرَ ثابتُ بن عجلان الأنصاري قال : كان يقال : إن الله ليريد العذاب بأهل الأرض فإذا سمع تعليم المعلم الصبيان الحكمة صرف ذلك عنهم . والحكمة ( القرآن)
فمن أوتي هذه الفضائل فقد دخل ابوابَ الخير كلها، وأعطي ما لم يُعطَ غيرُه. ولعلنا نذكر قوله تعالى : { وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (85)}(الإسراء) . فسمى عطاء الحكمة خيراً كثيراً ; وكان العلم إلى جانبها قليلاً ،فكانت الحكمة جوامع الكلم .

وحين أعطى الله بعض أهل الدنيا مالاً كثيراً سمّاه متاعاً ، والمتاع زائل فقال { ... قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (77){(النساء) ، وسمّى الحكمة خيراً كثيراً
وما ينتفع بالموعظة والتذكار إلا من له لبٌّ وعقلٌ يعي به الخطاب ومعنى الكلام .وما يعرف الحكمة وفضلها إلا أولو الألباب ، ولا ينالها سواهم ، فهم وحدهم من يعرف فضلها ،ويعمل بها ، وصاحب اللب ذكي زكي ، أديب اريب...

اللهم ارزقنا الفهم والدراية وحُسن العمل واجعلنا من ( أولي الألباب)

يتبع
 
التعديل الأخير:
سلسة أولو الألباب

الدكتور عثمان قدري مكانسي

القسم الرابع



بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ
(190) (آل عمران).

روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : لما نزلت هذه الآية على النبي قام يصلي , فأتاه بلال يؤذِنه بالصلاة ( يُعلمُه) فرآه يبكي فقال : يا رسول الله , أتبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر !
فقال : ( يا بلال , أفلا أكون عبدا شكورا ولقد أنزل الله عليَّ الليلة آية " إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ " - ثم قال : ( ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها ) .

فمن معاني الآية – كما ذكر ابن كثير رحمه الله تعالى : أنه سبحانه ينبهنا إلى ارتفاع السماء واتساعها وخفض الأرض وكثافتها واتضاعها وما فيهما من الآيات المشاهدة العظيمة من كواكب سيارات وثوابت وبحار وجبال وقفار وأشجار ونبات وزروع وثمار وحيوان ومعادن ومنافع مختلفة الألوان والطعوم والروائح والخواص فهذا الخلق المتناسق العظيم يدل على وجود خالق بديع أوجَدَهما، وأنّ تعاقب الليل والنهار وتقارضهما الطول والقصر . فتارة يطول هذا ويقصر هذا، ثم يعتدلان ثم يأخذ هذا من هذا ،فيطولُ الذي كان قصيرا ، ويقصر الذي كان طويلا بتقدير العزيز العليم " فيه آياتٌ لأصحاب العقول التامة الزكية التي تدرك الأشياء بحقائقها على جلياتها . وليسوا كالصم البكم الذين لا يعقلون ،الذين قال الله فيهم " وكأيّن من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ".
فلا بدّ من التفكر والتدبّر،إذ لا تصدر إلا عن حيٍّ قيوم قدير وقدوس غني عن العالمين حتى يكون إيمانهم مستندا إلى اليقين لا إلى التقليد .( قاله القرطبي رحمه الله). ويقوله معه أهل القلوب الحية والأفئدة الطيبة والعقول الصحيحة الذين يستعملون عقولهم في التأمل والاستدلال.إنهم أولو الألباب.
فما سمات أولي الألباب في الآيات التي تلي هذه الاية الكريمة؟.

1- أول ما نلقاه من سماتهم: ذكرُهم الدائم لله تعالى في قيامهم وقعودهم وتحوّلهم إلى النوم وبعد استيقاظهم، حياتهم كلها لله تعالى ، وألسنتهم رطبة بذكر ربهم تسبيحاً وحمداً واستغفاراً وتهليلاً ، لا يفتأون يذكرون الله ويعظمونه.

2- يتفكرون في ما خلق اللهُ من سماء وأرض ودقة في الصنع وعظمة في الإبداع وحكمة في السبب ، ويعلمون ان الله تعالى ما خلق هذا لعباً – حاشا وكلاّ- إنما خلقه لأمر يريده وهدف ،علينا أن نعمل له ونسعى بين يديه، فمن أحسن فله الثواب ومن أنكر وأساء وتجافى فله العقاب ، فكان دعاء المسلم العاقل:" سبحانك ، فقنا عذاب النار" .فمن سقط في الامتحان ونال العقاب خاب وخسر.

3- من أطاع الرسول صلى الله عليه وسلم وأجاب نداءه فآمن بالله وأطاعه غفر الله ذنوبه وكفّر عنه سيئاته وحشره حين يتوفاه مع الصالحين الأبرار، وما أسعده إذ ذاك وما أكرمه حين ينال رضا ربه، فيقربه ويدخله جنته بعفوه ومنّه وكرمه.

4- قلوبهم معلقة بالله تعالى يسألونه الهدى والتقى والعفاف والغنى ويرجونه أن يكرمهم يوم تبيضُّ وجوه وتسوَدُّ وجوه ‘ إنه يوم القيامة ، يوم الحسرة والندامة ،وهو يوم الجود والكرم لمن كان من عباد الله الصالحين.

5- وهم الذين هاجروا إلى بلاد الإيمان وهجروا المعاصي ،وهم الذين صبروا على الابتلاءات حين أوذوا في سبيل الله وقاتلوا وقُتِلوا ، وبذلوا الغالي والرخيص في سبيل الله ،وما وهنوا لما أصابهم في سبيله تعالى.
قال العلماء : يستحب لمن انتبه من نومه أن يمسح على وجهه , ويستفتح قيامه بقراءة هذه الآيات العشر اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم , ثبت ذلك في الصحيحين ، ثم يصلي ما كتب له , فيجمع بين التفكر والعمل , وهو أفضل العمل على ما يأتي بيانه في هذه الآية بعد هذا .

اللهم اجعلنا من أولي الألباب. وأدخلنا الجنة مع الأحباب.

يتبع بإذن الله تعالى
 
سلسلة أولو الألباب

الدكتور عثمان قدري مكانسي

القسم الخامس



بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ
(7)(آل عمران)


قالت العرب: اللبُّ = العقل. وإذا تحزّم الرجل وتشمّر فقد تلبّبَن (صار ذا لُبٍّ)

بدأت سورة آل عمران بتوحيد الله تعالى ،فهو الحي القيّوم ، ولمّا كان هو الإلهَ الحقَّ وجبت عبادته فهو الذي أنزل الكتب السماوية على أنبيائه ومنها القرآن ليهتدوا بها فمن جحد وكفَرَ هُدِّد بالعذاب الشديد فالله قادر يفعل ما يشاء.ولا يغيب عن مولانا شيء في الأرض ولا في السماء, يصور الناس كما يشاء .

إن في القرآن { آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ } واضحاتِ الدلالة بينات لا التباس فيها على أحد{ هُنَّ أُمُّ الْكِتَاب } ، وفيه آيات أخرُ فيها اشتباه في الدلالة على كثير من الناس فمن رد ما اشتبه إلى الواضح منه وحكَّم محكمَه على متشابهه عنده فقد اهتدى ،ومن عكس ضلّ ،والمتشابهات تحتمل دلالتها موافقة المحكَم ، وقد تحتمل شيئا آخر من حيث اللفظ والتركيبُ لا من حيث المراد .

وقال العلماءُ:إن المتشابه هو الكلام الذي يكون في سياق واحد والمثاني هو الكلام في شيئين متقابلين كصفة الجنة وصفة النار وذكر حال الأبرار وحال الفجار ونحو ذلك(تفسير القرطبي). وقيل:المتشابه هو الذي يقابل المُحكم ، وقال محمد بن إسحق بن يسار رحمه الله { مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ } فهن حجة الرب وعصمة العباد ودفعُ الخصوم الباطلَ ،ليس لهن تصريف ولا تحريف عما وضعْنَ عليه .

إنّ أهل الضلال والخروج عن الحق يأخذون منه بالمتشابه الذي يمكنهم أن يحرفوه إلى مقاصدهم الفاسدة وينزلوه عليها لاحتمال لفظه لما يصرفونه ،أما المحكم فلا نصيب لهم فيه لأنه دافع لهم وحجة عليهم ، ويُدَلِّس أصحابُ الأهواءِ على المخدوعين بهم إيهاماً لهم أنهم يحتجون على بدعتهم بالقرآن ، وهو حجة عليهم لا لهم، كما لو احتج النصارى أن القرآن ذكر أنَّ عيسى روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ،وتركوا الاحتجاج بقوله : { إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ ... (59)}(الزخرف) وبقوله : { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (59)}(آل عمران) ،
وغير ذلك من الآيات المُحكمة المُصرِّحة بأنه خلقٌ من مخلوقات الله وعبدٌ ورسولٌ من رسل الله .
فعن عائشة رضي الله عنها قالت : تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية { هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ } إلى قوله
{ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ } قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى اللهُ فاحذروهم " رواه البخاري

إنَّ أول بدعة وقعت في الإسلام فتنة الخوارج ،وكان مبدؤهم بسبب الدنيا حين قسم النبي صلى الله عليه وسلم غنائم حنين ،فكأنهم رأوا- وهم مخطئون- أنه صلى الله عليه وسلم لم يعدل في القسمة ففاجأوه بهذه المقالة فقال قائلهم - وهو ذو الخويصرة - :اعدل فإنك لم تعدل .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل، أيأمنني على أهل الأرض ولا تأمنوني "
فلما قفا الرجلُ( انصرف) استأذن عمر بن الخطاب -وفي رواية خالد بن الوليد - في قتله فقال " دعه فإنه يخرج من ضِئضِئِ هذا ـ أي من جنسه ـ قومٌ يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وقراءته مع قراءتهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميَّة،فأينما لقيتموهم فاقتلوهم،فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم"
قال ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى" وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ:..." التفسير على أربعة أنحاء :
1- فتفسيرٌ لا يُعذر أحدٌ في فهمه
2- وتفسيرٌ تعرفه العرب من لغاتها
3- وتفسيرٌ يعلمه الراسخون في العلم
4- وتفسيرٌ لا يعلمه إلا الله .

عن ابن العاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
"إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضُه بعضاُ، فما عرفتم منه فاعملوا به ،وما تشابه منه فآمنوا به" .
يقول تعالى: { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا (82)}(النساء)
إنّ الراسخين في العلم يعلمون ويؤمنون بما أنزل الله لأنهم أولو الألباب، ولهذا قال تعالى :
{ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ } فما يفهم ويعقل ويتدبر المعاني على وجهها إلاّ أولو العقول السليمة والفهوم المستقيمة .
إنّ أنساً وأبا أمامة وأبا الدرداء رضي الله عنهم ذكروا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الراسخين في العلم فقال :
" من برَّتْ يمينه وصدق لسانه واستقام قلبه ومن عف بطنه وفرْجُه ،فذلك من الراسخين في العلم "
وقال العلماءُ: الراسخون في العلم المتواضعون لله المتذللون لله في مرضاته ،لا يتعاظمون على من فوقهم ،ولا يحقرون مَن دونهم .

هؤلاء أولو الألباب :

1- يدعون ربهم قائلين : { رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ (8)}(آل عمران). يسألونه تمام الهداية وثباتهم عليها.
2- يعلنون أنهم مؤمنون بما أنزله الله تعالى عليهم ، ويعملون بما أمرهم.
3- قلوبهم معلقة بالله لا يغفلون عن ذكر الله.
4- يستوهبونه – سبحانه- الرحمة والعفو والغفران .
5- يمدحونه باسمائه الحسنى ومنها (الوهاب) فمن وهبه الله الهداية فقد فاز؟
6- مؤمنون باليوم الآخر ويعملون له ، زادهم التقوى ، ويسرعون إلى ذلك .

سبحانك اللهم ارزقنا الفهم والعمل واجعلنا من ذوي الألباب.

يتبع
 
سلسلة أولو الألباب

الدكتور عثمان قدري مكانسي

القسم السادس*

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُواْ اللّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ​
(100) المائدة.


المسلم العاقل يتجنب الحرام ويدعه ، ويكتفي بالحلال ويقنع به. فعن القاسم أبي أمامة أن ثعلبة ابن حاطب الأنصاري قال : يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا
فقال النبي صلى الله عليه وسلم" قليلٌ تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه " .
فالقليل الحلالُ النافع خير من الكثير الحرام الضارِّ ، وقد جاء في الحديث " ما قلَّ وكفى خيرٌ مما كثر وألهى "

يأمر الله تعالى نبيه المعلّم صلى الله عليه وسلم أن يوضح للمسلمين أنه لا يستوي الخبيث – ولو أعجبتنا كثرتُه - والطيبُ ولو قلَّ فهو الخير والبركة . إنّ الطيّب ينمو ويكبر وأثره إيجابي في حياة الفرد والمجتمع ،
إنَّ كلمة ( قُلْ ) توحي أن على العالم أن يكون نبراساً يهتدي به الناس ، يدلهم على الصراط السوي ، ويصحح مفاهيم الحياة ، فينفي خبَثَها ويُثْبت صالحها ، وينبغي أن نوسع دائرة الكلمة ( قُلْ ) فيعلمَ الأب أولاده والأخ إخوانه ، والجارُ جيرانه والمرأة زائراتها، فينتشر العلم والمعرفة في المجتمع المسلم ، وما أجمل قول الشاعر:

تعلّمْ ، فليس المرء يولد عالماً * وليس أخو جهل كمن هو عالمٌ​

وقد قال تعالى : { ...قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ (9)}(الزمر) ولعلنا نُعرِّج على هذه الآية في وقتها. وفي القرآن الكريم عدة آيات تبدأ بـ ( يَسْأَلُونَكَ ) ويتبعها قوله تعالى : ( قُلْ ) إلا في الأحيرة منها في سورة النازعات . فما ينبغي للمعلم أن يكتم علماً . وفي الأثر: كن عالماً أو متعلماً أو مستمعاً ولا تكن الرابعة فتهلك . والرابعة ( الجهل).

ولن يستوي الخبيثُ ولا الطيب، لا الحلال ولا الحرام ،ولا المؤمن ولا الكافر، ولا المطيع ولا العاصي ،ولا الرديء ولا الجيد ، ولا العالم والجاهل ، ولا البلد الطيب والبلد الخبيث ، قال عز وجل : { وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)}(الأعراف) ، وقد قال تعالى : { أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)}(ص) ، وقوله سبحانه: { أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ (21)}(الجاثية) .

وعاقبة الخبيث الخسرانُ وإن كثر، وعاقبة الطيّب النماءُ ولو قلَّ ، فذاك في أتون النار وهذا في الفردوس الأعلى، يقول القرطبي رحمه الله : فالخبيث لا يساوي الطيِّبَ مقدارا ولا إنفاقا , ولا مكانا ولا ذهابا , فالطيب يأخذ جهة اليمين , والخبيث يأخذ جهة الشمال , والطيب في الجنة , والخبيث في النار، وهذا بيُّن .ويقول رحمه الله في تفسيره الرائع لهذه الآية : [فالخبيث من هذا كله لا يفلح ولا ينجب , ولا تحسن له عاقبة وإن كثر , والطيب وإن قلَّ نافعٌ جميل العاقبة . وحقيقة الاستواء الاستمرار في جهة واحدة , ومثله الاستقامة وضدها الاعوجاج ,].

لن يعجبنا – معشر المسلمين – كثرةُ الخبيث ،لكنّ أكثر الناس تحكمهم شهواتهم ورغباتهم الآنيّة التي يحققها الخبيث دون أساس متين ، فيظهر لأولي العقول القاصرة أنه يحقق مآربهم ويُعجبون به ، فيعميهم عن الحق والعمل الطيب ، فيمتنعون عنه وقد يحاربونه، إن الحقَّ ثمين لا يقدر عليه إلا راغبه وقاصده المجتهد، لا يصبر عليه إلا العالمون ذوو القلوب الشفافة والأفئدة الواعية .

فإذا توقفنا عند قوله تعالى " لعلّكم" وجدناها تتوضح في قوله سبحانه ( لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون ، لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون ، لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُون ، لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون ، لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون ، لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون ، لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ) فهي في غير كتاب الله ترجٍّ وفي كتاب الله وعدٌ وانتهاء الغاية (وصول إلى الهدف) ، ومن لا يودُّ تحقيق هدفه والوصول إلى مأربه؟!.وقد تكون (لعلّ) تعليلاً كقولنا : اتق الله لعلك تنجو ، والمعنى : لتنجوَ، فتبقى في نطاق الهدف الأول .
ومن صفات أولي الألباب في هذه الاية الكريمة:

1- وعي الأمور وإدراكها : بحيث يعلمون أن الخير والشر متناقضان لا يستويان .
2- البعد عما يضرُّ والقرب مما ينفع: والخبيث ضار والطيب نافع.
3- واجب أولي الألباب في النصح والتوجيه وتعليم الناس الخير.
4- التحلّي بالتقوى فإنها أسُّ الحياة والنجاة .ولا فلاح إلا بها.والفلاح نجاة من النار وفوز بالجنّة، وقبل ذلك نجاة من غضب الجبار ، وفوز برضاه سبحانه.

أولو الألباب يقرؤون صفحات الحياة واضحة جليّة ، فيأخذون ما ينفعهم في الوصول إلى الهدف المرجوّ ، ويسيرون في دربهم مطمئنين إلى سلامته من كل اعوجاج وانحراف ، فهم على نور من ربهم .....

* بتصرف بسيط جدا

يتبع

 
التعديل الأخير:
سلسلة أولو الألباب

الدكتور عثمان قدري مكانسي

القسم السابع


بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
(111) يوسف.

ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم إلا ما أخبره الوحي به ، فبعد بَسْط قصة يوسف عليه السلام تأتي الآية الكريمة : { ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102)} (يوسف) ،وأكد هذا الأمرَ قولُه تعالى في سورة هود ختامَ قصة نوح عليه السلام : { تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)} .

وما أخبرنا الله تعالى به حدَثٌ صحيحٌ في الأيام الخوالي ( مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى ) ، بيدَ أنَّ عميد الأدب العربي ( طه حسين) ذكر في كتابه " في الأدب الجاهليّ" أن هذه القصص التي وردت في القرآن الكريم ليس شرطاً أن تكون قد حصلتْ، لكنها ذُكرتْ في القرآن الكريم للعظة والعِبرة، ثم تراجع عمّا قال حين أنكر العلماء عليه مقولته . ويذكر الدكتور محمد محمد حسين في كتابه " الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر" أن هذا الرجل اعتنى به الغرب ليكون خادماً للماسونية في الثقافة العربيّة .

وهل تجد في القرآن افتراء، وهو كلام الله تعالى الذي أنزله على نبيه الصادق الأمين! حاشا وكلاّ، لقد كان القرآن الكريم يحدثنا في الآيات السابقة عن عاقبة الأمم التي عتت عن أمر ربها ، كما نبهنا إلى وجوب الصبر على قضاء الله وعدم اليأس من نصر الله لعباده في الوقت المناسب وأن بأس الله لا يُرَدُّ عن القوم المجرمين.

وتؤكد هذه الاية الكريمة أن القرآن الكريم يصدّق ما بقي من الصحيح في الكتب السابقة التي نزلت على الأنبياء السابقين صلوات الله عليهم ، وينفي ما وقع فيها من تحريف وتغيير بيد كهنتهم وأحبارهم، ورؤوس ملتهم على مرّ الدهور .

وفي القرآن الكريم تفصيلُ كل شيء تحليلاً وتحريماً ،وطاعات وواجبات ومستحبات والنهي عن المحرمات وما شاكلها من المكروهات وذكر لنا بعض الأمور الغيبية وجلّى أسماء الله تعالى وصفاته ، ونزهه – سبحانه- عن مماثلة مخلوقاته. فكانت آيات القرآن الكريم " هدى ورحمة لقوم يؤمنون " تهتدي به قلوبهم من الغي إلى الرشاد ومن الضلال إلى السداد ويبتغون بها الرحمة من رب العباد في هذه الحياة الدنيا ويوم المعاد فنسأل الله العظيم أن يجعلنا منهم في الدنيا والآخرة يوم يفوز بالربح ذوو الوجوه البيضاء الناضرة ،ويرجع المسودة وجوهُهم بالصفقة الخاسرة آخر تفسير سورة يوسف عليه السلام ولله الحمد والمنة وبه المستعان( قالها القرطبيُّ رحمه الله تعالى- بتصرُّف).

وألو الألباب في هذه الآية :
1- يؤمنون بما جاء في القرآن الكريم من قصص تعلُّم الناس وتزكيهم.
2- يعتبرون بما جرى للأمم السابقة فيؤمنون إيماناً صادقاً ، ويسعون إلى مرضاة الله تعالى .
3- يؤمنون بما أنزل على أنبياء الأمم السابقة : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)}(البقرة).
4- يعتقدون أن الله تعالى حافظٌ كتابه : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)}(الحجر) ففيه الخير للعباد من أوامر ومنهيّات وتعاليم ترتفع بمستوى المسلم إلى رضا الله تعالى .
5- وأن الله تعالى ما ارسل رسوله صلى الله عليه وسلم بهذا الدين العظيم إلا رحمة للعالمين وهدى للمؤمنين .
هذه بعض سمات أولي الألباب ...

جعلنا الله منهم وأحيانا على سنتهم.

يتبع

 


سلسلة أولو الألباب

الدكتور عثمان قدري مكانسي

القسم الثامن

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ
(19) الرعد

في سورة الرعد آيات سبقت هذه الاية الكريمة تؤكد أن الله تعالى ربُّ السماوات والأرض وأن الآلهة المزعومة لا تملك لنفسها نفعاً ولا ضرّاً ، فلا تستحق العبادة.والعاقل الذكي يعلم بديع صنع الله وقدرتَه ،وأن شرع الله هو الحق الذي يفيد الناس ،وأن ما عداه زبدٌ يعلو،فيظنه الجاهل خيراً،ثم ينكشف هباء ويبقى الحقُّ قوياً ثابتاً متمكناً في الارض ينفعها بناءً ورفعة .

إن العاقل ذا اللب يستجيب إلى نداء ربه فيكرمه خالداً في الجنان منعَّماً ، أما الكافر الذي يأبى الهداية فمأواه جهنم وبئس المصير ، يخسر كل شيء نفسَه وماله واهله ، لاينجو من العذاب { يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ (13) وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) }(المعارج) ثم نجد الآية الكريمة التي نحن بصددها :

{ أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ (19)}(الرعد) ، توضح أنّ العالِمَ بما أنزله الله على نبيّه ،العاملَ بشرع الله طالبَ هداهُ،وملتزًمَ أمره لا يستوي ومن غاب عن الحقيقة فتاه في الضلالة ،وخاب في مسعاه،إن من لا يرى الضياء حوله أعمى ولو كانت له عينان ، لا يهتدي إلى خير ولا يفهمه ولو فهمه ما انقاد له ولا صدقه ولا اتبعه كقوله تعالى : { لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)}(الحشر) ، فالعمى الحقيقي عمى القلب .
إنَّ أولي الألباب في هذه السورة يتسمون بصفات الكمال :

1- يتذكرون ، وما يتذكر إلا أصحاب القلوب الناصعة والأفئدة السليمة والعقول الواعية.
2- يوفون بعهد الله الذي أخذه عليهم يوم كانت البشرية في عالم الغيب : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172)}(الأعراف).هذه هي الفطرة التي فطر اللهُ الناسَ عليها.

3- ثابتون على عهدهم لا ينقضونه، وهل ينقض العاقل ذو اللبِّ عهدَ ربِّه.
4- يصلون الرحم ويبرون الاباء، ويعينون جيرانهم وأهل مدينتهم ومجتمعهم..
5- يخافون الله،غضبَه وعذابَه،والخشيةُ ( خوف وحبّ) بآن.هكذا ينبغي أن نكون مع الله تعالى.
6- أهل شفافية،وحساسية تجعلهم يحسبون ليوم الدين حسابه،نسأل الله تعالى حين يعرض علينا أعمالنا أن يرحمنا ويقينا سوء الحساب.
7- يصبرون على الحياة بحلوها ومُرِّها ويرضون بما كتب الله ابتغاء مرضاته سبحانه.
8- يتقربون إلى الله بالصلاة فيقيمونها على الوجه الصحيح ،فهي لقاء رائع بين الخالق والمخلوق،إن الصلاة صِلة ،فلتَكنْ هذه الصلة طيبة على الوجه الذي يرضي من نتصل به ونقف بين يديه راغبين راجين.
9- ذو اللبِّ سخيٌّ وكريم يؤدي حق العباد في أمواله- بل هي رزق الله ساقه إلينا بفضله ومنّه- ويتقرب إلى مولاه بالصدقات ، فالصدقة تطفئ غضب الربِّ ، وهي من أسباب الشفاء ( داووا مرضاكم بالصدقة ). يستحسنُ أن تكون الصدقة سراً ،كما أن صدقة العلن تشجع الآخرين على الصدقة.

10- ضعف الإنسان يجعله يصيب ويخطئ لأنه خُلقَ من عجل، و( كل ابن آدم خطّاء وخير الخطّائين التوّابون ) وذوو الألباب يعلمون ما قاله المصطفى صلى الله عليه وسلم ( وأتْبِع السيئة الحسنةَ تمحُها ) يصلحون أخطاءهم بالتوبة والعمل الصالح.

ثواب أولو الألباب النجاحُ والخلود في ...
{ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ (23)}(الرعد)


......جعلنا الله تعالى منهم .....

يتبع


 
سلسلة أولو الألباب

الدكتور عثمان قدري مكانسي

القسم التاسع


بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
هَٰذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)(إبراهيم)​

تقول: نذرت بالشيء أنذر إذا علمتَ به فاستعددْتَ له , ولم يستعملوا منه مصدرا كما لم يستعملوا من عسى وليس , وكأنهم استغنَوا بـ(أنْ) والفعل كقولك : سرني أنْ نذرتُ بالشيء .( قاله القرطبي).

وحين نقرأ قوله تعالى : { هَٰذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)}(إبراهيم) .
نعلم أن الله تعالى أنزل القرآن بلاغاً للناس ، والبلاغُ قد يكون للتعليم ،وقد يكون للحضِّ، وقد يكون للإنذار ، والبلاغُ غير الوصول ،
فـ (البلاغُ) يعني التوطُّنَ والامتزاجَ ليكون عنصراً أساسياً في التكوين وجزءاً فاعلاً في الحياة ، و(الوصول) لا يؤدي ذلك المعنى الذي يؤديه البلاغ . وبهذا نفهم قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الحاكم في مستدركه عن تميم الداريّ" ليبلُغنَّ هذا الأمرُ مبلغَ اللَّيلِ والنَّهارِ، ولا يترُكُ اللَّهُ بيتَ مدرٍ ولا وبرٍ إلَّا أدخلَهُ هذا الدِّينَ بعزِّ عزيزٍ أو بذُلِّ ذليلٍ، يُعَزُّ بعِزِّ اللَّهِ في الإسلامِ، ويذلَّ بِهِ في الكفر "
وَكانَ تميمٌ الدَّاريُّ رضيَ اللَّهُ عنهُ، يقولُ: قد عَرفتُ ذلِكَ في أَهْلِ بيتي ،لقد أصابَ مَن أسلمَ منهمُ الخيرَ والشَّرفَ والعِزَّ، ولقد أصابَ مَن كانَ كافرًا الذُّلَّ والصَّغارَ والجِزيةَ... ولم يقل (ليصلَنَّ).
والبلاغ للناس جميعاً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة { لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ } فهو بلاغ – كذلك- للإنس والجنّ، وقد أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نبلّغ هذا الدين فقال " بلِّغوا عني ولو آية ...فلرب مبلّغ أوعى من سامع.."وقد قال تعالى في أول هذه السورة ( إبراهيم) : { الر ۚ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَىٰ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1)}
وقال :{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28)}(سبأ) وما الإنذارُ إلا للعبرة والعظة " فإذا اتعظوا وعرفوا الحق واتَّبعوه علموا أن الله تعالى واحد لا شريك له، وعرفوا قدْرَه سبحانه { وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ } واستدلوا بما فيه من الحجج والدلالات على وحدانيته وألوهيته ،فتذكّروا ، وما يتذكر إلا أولو الألباب وذوو العقول النيّرة الواعية { وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ } .
رُوِيَ أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه . وسئل بعضُهم: هل لكتاب الله عنوان ؟
فقال : نعم ;
قيل : وأين هو ؟
قال قوله تعالى : { هَٰذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ }

قد علم أولو الالباب – والتذكُّر يؤدي إلى العلم بل يقوّيه ويجلّيه – أنهم ملاقو الله تعالى ، لا شك في ذلك،ولنعد إلى الآيات السابقة { فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ } والعاقل يحذف هذا الحُسبان من حسابه لأنه يعيش حياته التي لها ابتداء وانتهاء، لم يأت إلى هذه الدنيا بإرادته إنما بقَدَر من خالقه سبحانه ، وهو سبحانه أخبرنا : ( إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47))، وكما يسَّر الله تعالى لنا الحياة على هذه الأرض إنه لقادرٌعلى تبديلها وتبديل كل شيء { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48)} فماذا بعدُ؟

إنه وصفٌ مخيف لنهاية من كفر : { وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ (50)} .
إنك ترى رأي العين مَن كفر بالله وحارب عبادَه وبغى في الأرض مقيّدين بعضُهم إلى بعض، جهَّزَتهُم الزبانية ليكونوا وقوداً للنيران وطُعمة لها، إن النار لتشوي اللحم سريعاً حين يدنو منها ، فكيف وقد طُليَت أبدانُهم بالقَطِران، بل صار القَطِرانُ ثيابهُم؟! فإذا ما اُقحِمُوا فيها أحاطتهم من كل جانب وأكلت وجوههم وأجسادهم! ..موقف تنخلع منه القلوب وتستعيذ منه النفس المؤمنة ، وتقشعِرُّ له الأبدان.

اللهم رحمتَك وعفوَك ..
نجِّنا من غضبك ومن النار وارزقنا الفهم واجعلنا من أولي الألباب .

يتبع
 
سلسلة أولو الألباب

الدكتور عثمان قدري مكانسي

القسم العاشر

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ (29)(ص)


التعظيم:أسلوب من أساليب التربية يدل على الاحترام والتقديس ، وكتاب الله كلامه -سبحانه - وما يصدر عن العظيمِ عظيمٌ ، ولذلك تعبّدَنا اللهُ بتلاوته وتدبّره والعملِ به. قال تعالى في تعظيم كتابه:
{ ألم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2)}(البقرة) ، ويعظمه الله تعالى في سورة يوسف: { ... تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)} . وجاء بأسلوب النكرة المبهم للتفخيم ( كتاب) .

أنزَل الله تعالى الكتاب على النبيّ وأنزله إليه،يُفيد حرف الجر (على) الاستعلاء على ما عداه من الكتب والشرائع والقوانين،أنزله الله تعالى ليكون الكتاب الوحيد وليكون شرعُه الشرعَ النافذ ، ورحم الله الشاعر القائل:
الـلـه أكـبـرُ، إن ديـن محمد ...... وكتـابَـه أقـوى وأقـومُ قيـلا
لا تُذكر الكتبُ السوالف قبله .......طلع الصباحُ فأطفئِ القنديلاً​

أما حرف الجرِّ (إلى) فيفيد انتهاء الغاية إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليكون بين يديه الضياء الساطع في درب البشرية يقودها إلى الهدف القويم المَرْجوّ – معرفةِ الله تعالى وعبادته وكسب رضاه- فتعيش في بحبوحة السنا والمجد السامق . لقد بُسط القرآن بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكون المنهاجَ الواضح والدستورَ الحاكمَ في حياة الإنسانية الكريمة.

لا شك أن الشرع الذي يحمي الإنسان من الظلم والظلمات ويحفظه من أهواء الطغاة والطغيان وينقذه من أحابيل الشيطان ووساوسه ويرشده إلى سُبُل الأمن والأمان يحملُ البركة لأنه مبارَك، فإذا انتشرت البركة في المجتمع سادت الحياة الطيبة وخمدت الأهواء وخنس إبليسُ،وعلا الحقُّ وقويت ركائزه،فكان بماء الحياة قائماً على دعائم قوية لا تحرِّكه أعاصير الباطل ولا عواصفُ الفساد مهما اشتدّتْ.

كتاب الحياة هذا نور من الله يبسط شريعة سمحاء يتدبرها العقلاء ويسعى بها الدعاة وينتظرها المصلحون ليُقَوِّموا اعوجاجَ الأهواء والتواءَ النفوس.وآياتُ الله تعالى قبسٌ من نوره الذي ملأ الكون فاستمدّ منه الوجودَ
{ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ..(35)}(النور)، لم يُنزِّلِ الله تعالى هذا القرآن ليُقرأ في مناسبات رسمية أو عزاء أو فرح ثم يُطوى كأنه لم يكن إلا قشرة لم تنفذ إلى قلوب الناس ولم تتجلّ في حياتهم إلا ببصيصٍ ضعيفٍ تحت ستارٍ أصمَّ يمنع نورَه أن يملأ الدنيا حركة وأملاً ونشاطاً .

قال تعالى : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44)}(الزخرف). هذا ما أفهمه من هذه الآية إضافة إلى التذكر والتدبّر ، فليس يتذكر المرءُ إلا ما يرفع ذِكرَه وقَدرَه، ويُعلي شأنه ، وما يفعل هذا إلا أصحاب العقول السليمة والقلوب الحية الواعية .

ويعجبني قولُ الإمام ؛ الحسن البصري ( والله ما تدبره المرءُ بحفظ حروفه وإضاعة حدوده حتى إن أحدهم ليقول قرأت القرآن كله ما يُرى له القرآنُ في خلق ولا عمل ) رواه ابن أبي حاتم .

يقول عثمان قدري:
ما يقرأ ( القرآنَ) في إسهابٍ
وفهمِ ما فيه مع استيعابٍ
إلا الأولى كانوا على صوابٍ
يا ربِّ فاجعلنا "أولى الألبابِ"

يتبع
 
سلسلة أولو الألباب

الدكتور عثمان قدري مكانسي

القسم الحادي عشر

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ (43)}(ص)

يعرضُ ابنُ كثير رحمه الله تعالى في سورة (ص) قصة النبي الصابر أيوب عليه الصلاة والسلام ، فيقول:" يذكر تبارك وتعالى عبده ورسوله أيوب عليه الصلاة والسلام وما كان ابتلاه تعالى به من الضر في جسده وماله وولده حتى لم يبق من جسده مغرز إبرة سليما سوى قلبه ولم يبق له من الدنيا شيء يستعين به على مرضه وما هو فيه غيرَ أن زوجته حفظت ودَّه لإيمانها بالله تعالى ورسوله فكانت تخدم الناس بالأجرة وتطعمه وتخدمه نحواً من ثماني عشرة سنة وقد كان قبل ذلك في مال جزيل وأولادٍ وسعة طائلة من الدنيا، فسلب جميع ذلك حتى آل به الحال إلى أن رفضه القريب والبعيد سوى زوجته رضي الله عنها فإنها كانت لا تفارقه صباحاً ومساءً إلا بسبب خدمة الناس ثم تعود إليه قريبا فلما طال المطالُ واشتد الحال وانتهى القدر وتم الأجل المقدَّرُ تضرع إلى رب العالمين وإله المرسلين فقال { وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83)}(الأنبياء). انتهى قول ابن كثير.
في سورة الأنبياء ذكر أيوب عليه السلامُ أن الضُّر مسَه ، وسأل اللهَ تعالى رحمته، فاستجاب له وكشف عنه الضرَّ،وأعاد إليه أهله ، ومثلَهم معهم ، لقد استجاب الرحيم نداءه وتوسُّلَه، فكشف ضُرّه ،وشمله في الصالحين وجعله مثلاً ( للعابدين ). { فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84)}(الأنبياء).

وفي سورة(ص) يصرح النبيُّ الصابر أيوب النبي أن الشيطان مسَّه بالأذى ، فأذن الله تعالى بشفائه وعلمه كيف يتخلص من الأذى ووهب له أهله وزاده مثلهم وجعله مثالاً وعِبرةً لأولى الالباب والعقول:{ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ (43)}(ص).
إنَّ الله بيده مقاليد الأمور يفعل ما يشاء وقتَ يشاءُ، يبتلي عباده الصالحين فيرفع بابتلائهم مقامهم.ويجزيهم على صبرهم من خيره العميم ما يُنسيهم ما كانوا فيه،ويُعلي ذَكرَهم.
وفي هذه الآية الكريمة نَسَب الضُّرَّ إلى الشيطان ،ونسب الخير إلى الله تعالى ،فهو عليه السلامُ يعلمنا أن نتأدب مع المولى ، ومثال التأدُّب معه سبحانه في القرآن كثير ، من ذلك قوله تعالى في سورة الجنِّ : { وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10)} ؛ فالشرَّ ذكَرَه بصيغة المبني للمجهول ، ونسبَ الخير إلى الله تعالى، وعُد إلى قصة الرجل الصالح وموسى عليهما السلام في سورة الكهف تجدْ مثالاً واضحاً للتأدب مع الله تعالى _ ذكرتُ هذا في كتابي من أساليب التربية في القرآن الكريم- .
شكا إلى الله وحده الذي يرفع البلاءَ ما أصابه فاستجاب له أرحم الراحمين وأمره أن يقوم من مقامه وأن يلمس بقدمه الارضَ بقوة، ففعل، فنَبَعَتْ عينٌ، فاغتسل منها فأذهبت جميعَ ما كان في بدنه من الأذى بإذن الله،ثم أمره فرَكَضَها مرّة أخرى في مكان آخرَ، فتفجَّرتْ عينٌ ثانيةٌ ،فشرب منها ،فذهب جميع ما كان في باطنه من السوء وتكاملت العافية ظاهرا وباطنا

فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
( إن نبي الله أيوب عليه الصلاة والسلام لبث به بلاؤه ثماني عشرة سنة ،فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين كانا من أخص إخوانه به كانا يغدُوان إليه ويروحان فقال أحدهما لصاحبه تعلمُ –والله- لقد أذنب أيوب ذنبا ما أذنبه أحد من العالمين قال له صاحبه وما ذاك ؟ قال منذ ثماني عشرة سنة لم يرحمه الله تعالى فيكشف ما به، فلما راحا إليه لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له ،فقال أيوب عليه الصلاة والسلام :لا أدري ما تقول ،غير أن الله عز وجل يعلم أني كنت أمُرُّ على الرجلين يتنازعان فيذكران الله تعالى فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما كراهية أن يُذكرَ الله تعالى إلا في حق ،وقال وكان يخرج إلى حاجته فإذا قضاها أمسكت امرأته بيده حتى يبلغ، فلما كان ذات يوم أبطأ عليها فأوحى الله تبارك وتعالى إلى أيوب عليه الصلاة والسلام أن " ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ " فاستبطأته فالتفتت تنظر فأقبل عليها قد أذهب الله ما به من البلاء وهو على أحسن ما كان، فلما رأته قالت أي بارك الله فيك ،هل رأيت نبي الله هذا المبتلى ؟ فوالله القديرُ على ذلك ما رأيت رجلا أشبهَ به منك إذ كان صحيحا. قال فإني أنا هو ).

وروى هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
بينما أيوب يغتسل عُريانا خرَّ عليه جرادٌ من ذهبٍ، فجعل أيوب عليه الصلاة والسلام يحثو في ثوبه ،فناداه ربه عز وجل :يا أيوبُ؛ ألم أكن أغنيتك عما ترى قال عليه الصلاة والسلام بلى -يا رب -ولكن لا غنى بي عن بركتك " رواه البخاري .وأحيا الله أبناءَه بأعيانهم وزادهم مثلهم معهم رحمة على صبره وثباته ،فكان مثالاً لذوي العقول ليعلموا أنَّ عاقبة الصبر الفرج .

قيل لأيوب صلى الله عليه وسلم : قد آتيناك أهلك في الجنة فإن شئت تركناهم لك في الجنة وإن شئت آتيناكهم في الدنيا . قال مجاهد : فتركهم الله عز وجل له في الجنة وأعطاه مثلهم في الدنيا .
وقال عبد الله بن مسعود كان أهل أيوب قد ماتوا إلا امرأته فأحياهم الله عز وجل في أقل من طرف البصر , وآتاه مثلهم معهم . وقاله ابن عباس ، ولعلهم – كما قال القرطبيُّ: ماتوا ابتلاء قبل آجالهم،ونشأت سحابةٌ على قدْرِ قواعد داره ،فأمطرت ثلاثه أيام بلياليها جراداً من ذهب . فقال له جبريل : أشبِعتَ ؟
فقال : ومن يشبع من فضل الله . فأوحى الله إليه : قد أثنيت عليك بالصبر قبل وقوعك في البلاء وبعده , ولولا أني وضعت تحت كل شعرة منك صبراً ما صبرتَ .

إن من صفات أولي الألباب:
1- أنهم يصبرون ، والأنبياءُ سادةُ إولي الألباب.
2- وهو يظنون بالله الخير فهو سبحانه ربُّ الخير وأصلُه.
3- أنعم مبتلَونَ :أشد الناسِ بلاءً الأنبياءُ، ثم الأمثلُ فالامثلُ .
4- أنهم يلجأون إلى الله وحده ، فخلاصُهم ونجاتُهم بيده سبحانه.
5- ومن شفافيتهم ذكرُهم ابتلاءاتِ الأنبياء والصالحين ،فيجتهدون أن يكونوا مثلهم.

يتبع
 

سلسلة أولو الألباب

الدكتور عثمان قدري مكانسي

القسم الثاني عشر

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ (9) الزمر​


في الآيات الأولى من سورة الزمرينبهنا المولى عز شأنه إلى الوهيته ،فهو يريدنا عباداً مخلصين له :
{...فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ..(3)}(الزمر).فمن اشرك بالله أو ادّعى أن له ولداً فهو " ..كذوبٌ كفّارٌ" الزمر 3.ثم يُدلل على قدرته سبحانه بتتابع الليل والنهار وتسخير الشمس والقمر بنظام وترتيب يدل على قدرته وبديع صنعه سبحانه.فهو العزيز يفعل ما يشاء ، وهو الغفور يرحم عباده المؤمنين بوحدانيته. وإنه الخلاق العظيم أوجدنا من نفس واحدة هي أبونا آدم عليه السلام ،ونبَّه إلى الظلمات الثلاث التي نكون فيها في بطون أمهاتنا مما يدل على صنعه الباهر الرائع- سبحانه-

فمن آمن فقد نفع نفسه وأدخلها رحمة الله ومن كفر عوقب بكفره جزاءً وفاقاً ،والله تعالى الغني عن عبادة الناس إياه : { إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ .. (7)}(الزمر) .
إنَّ من سمات الإنسان أنه ضعيف يتذلل وقت حاجته ويتضرّع إلى ربه ليكشف عنه الغم ويؤتيه الخير ، فإن حازه نسي فضل الله تعالى ونسب الخير إلى نفسه أو إلى آلهة مزعومة متخففاً من التكاليف الربانية،يتبع هواه مبتعداً عن الحق وتبعاته، فيقال له توبيخاً وتهديداً : { ...قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8)}(الزمر). فمهما عاش الإنسان في الدنيا إن مصيره إلى الخلود في عذاب جهنّم إن كان مشركاً أو كافراً جزاء وفاقاً.

وتأتي المقارنة بين هذا الكافر الذي التصق بالدنيا وجعلها أكبر همّه وبين المؤمن الصادق الذي جعل مخافة الله ورضاه بين عينيه فطلب الآخرة وزهد في الدنيا ونال شرف قيام الليل يسأل الله عفوه ومغفرته ،وهل يفعل هذا إلا أولو الألباب وأصحاب القلوب الحية؟

{ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ (9)}(الزمر).

إن من سمات أولي الألباب:
1- القنوت ،وهو الخشوع في الصلاة ،قال ابن مسعود رضي الله عنه: القانت المطيع لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى :{ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)}(المؤمنون) . وقال بعضُهم: كل قنوت في القرآن طاعة لله عز وجل، وروي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل أي الصلاة أفضل ؟ فقال : ( طول القنوت ). وعن ابن عمر رضي الله عنهما:سئل عن القنوت فقال : ما أعرف القنوت إلا طولَ القيام , وقراءةَ القرآن . وقال مجاهد : مِن القنوت طولُ الركوع وغضُّ البصر . وكان العلماء إذا وقفوا في الصلاة غضوا أبصارهم , وخضعوا ولم يلتفتوا في صلاتهم , ولم يعبثوا ولم يذكروا شيئا من أمر الدنيا إلا ناسين . قال النحاس : أصلُ هذا أن القنوت الطاعة
ومن جميل ما قراتُ أن نافعاً مولى ابن عمر روى أن عبد الله بن عمر قال له: قم فصل . قال:فقمت أصلي وكان عليَّ ثوب خلق , فدعاني فقال لي : أرأيت لو وجَّهتـُك في حاجة أكنت تمضي هكذا ؟ فقلت : كنت أتزيَّن قال : فالله أحقُّ أن تتزين له .

2- و آناء الليل جوفه في قول،و بين المغرب والعشاء في قول آخر،و أوله وأوسطه وآخره في قول ثالث. قال ابن عباس : من أحب أن يُهوِّنَ الله عليه الوقوف يوم القيامة , فليرَه الله ُ في ظلمة الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة , ويرجو رحمة ربه . فأولو الألباب في ذكر لله دائم ( وأين نحن من هذا ، نسأل الله العفو والعافية وحُسنَ الختام).

3- وذو اللب والقلب السليم { يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ } خائفٌ راجٍ في حياته كلها ،فإذا حضره الموتُ فليكن الرجاءُ هو الغالبَ ،فعن أنس رضي الله عنه قال دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل وهو في الموت فقال له " كيف تجدك ؟ "
فقال له أرجو وأخاف .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله عز وجل الذي يرجو وأمنه الذي يخافه ). قال ابن عمر ذاك عثمان بن عفان رضي الله عنه، وإنما قال ابن عمر رضي الله عنهما ذلك لكثرة صلاة أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه بالليل وقراءته .وعن تميم الداري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من قرأ بمئة آية في ليلة كتب له قنوتُ ليلة ).
ولن يأخذ هذا القيام من ليل أحدنا أكثر من نصف ساعة مصلياً مفكراً متدبراً ، فيُكتب عند الله متهجداً .وما شرف المؤمن إلا قيامُ الليل ، ينير الله تعالى به وجوهَ عباده ، فيصبحون ينظرُ الناس إليهم مشرقةً وجوهُهم طافحة بالبشر والسرور ، فقد كانوا في ضيافة العظيم سبحانه.

يتبع
 
سلسلة أولو الألباب

الدكتور عثمان قدري مكانسي

القسم الثالث عشر


بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ (18)(الزمر)
يتكرر فعل الأمر ( قلْ ) في الآيات 10-11-13-14-15 في سورة الزمر:
{ قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)}
{ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ (11)}
{ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13)}
{ قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي (14)
{ ... قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ... (15)}

فلا بدّ من التبليغ كي لا يبقى لأحد حجة في دين الله.وليصل التشريع من أمر ونهي إلى الجميع،فمن أطاع نجا ومن عصا عوقبَ

فللمؤمنين المتقين الذين أحسنوا القولَ والعملَ في هذه الدنيا الخيرُ الواسع، فإن وجدوا مشقة وعَنَتاً في مكان انتقلوا إلى غيره يقيمون فيه شرع الله ، إن الأرض كلها لله ، ومن كانت الأرضُ له أقام شرعه وفرض فيها ما يريد.فإن منع الظالمون بأرضٍ إقامة شرع الله ولم يتغير عنها القادرون على التحوُّل عنها عوقب هؤلاء نارَ جهنّمَ برضاهم البقاءَ في أرض الفساد وسمّاهم القرآنُ ظالمي أنفسهم ، قال تعالى:
{ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا (97)}(النساء). وقليلاً ما يرضى الناس الانتقال من بلدهم إلى آخر لضعف في الإيمان ورغبةٍ في مكاسب دنيوية قد يخسرونها ، ونسُوا أو تناسَوا أن خسارة النفس يوم القيامة أكبرُ الخسران.

ولا يكون الإخلاص في العبادة بغير بذل الجهد ودفع الثمن،فسلعة الله غالية،وسلعة الله رضاه والجنّة،وجزاء من عصى ربه أن يكون وقودَ النار والعياذُ بالله.، قد يخسر المرء أولادَه وأمواله وبيته وزوجَتَه فيعوّض ما خسره ،أما أن يخسر نفسه في سواء الجحيم إنها لَلخسارةُ العظمى التي لا تُعَوَّض أبداً. وأمعِنِ النظرَ في التصوير المخيف للعيش في جهنّم ،فظُلَلُ النار من فوقهم وظُلَلُ النار مِن تحتهم تشوي كل موضع في أجسادهم وتحرقهم، وهم يتضاغون ويبكون ويصيحون، ولا صريخ لهم.!

ويأتي النداء العُلْويُّ من بعيد وقريب { يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16)}(الزمر) فيجيب المؤمنون : سمعاً وطاعة يا ربَّنا ، لبيك وسعدَيك والخيرُ كلُّه بيديك.

فإذا استجاب ذوو القلوب المؤمنة والعقول الصافية بشرهم الله تعالى برضاه والجنة
{ ..فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ (18)}(الزمر).


إن من بعضِ سمات أولي الألباب -هنا - مايلي :

1- يعبدون الله تعالى مخلصين له الدينَ،ولا يشركون به سبحانه من إله واحد. ( وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ )، والطاغوت ما طغى وتجبر.

2- يصبرون على أمر الله وعبادته، فيجزيهم الله تعالى أجرهم بغير حساب.وهذا من روائع الكرمِ الإلهيّ.
3- سئل أحدهم كيف وصلتَ إلى ما أنت عليه ؟ قال: (الخوفُ من الجبار ، وعملُ النهار والاستغفارُ في الأسحار).
4- الإنابة إلى المولى والتوبة الدائمة والإحسانُ ( أن تعبد الله كأنك تراه،فإن لم تكن تراه فإنه يراك ).

5- يستمعون القولّ فيتَّبعون أحسنَه . فإن سأل أحدُهم كيف يتبع أحسنَه؟ فالجوابُ :

أ- (يفهمونه ويعملون بما فيه كقوله تبارك وتعالى لموسى عليه الصلاة والسلام حين آتاه التوراة : { ... فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا ...(145)}(الأعراف) ، بأحسن ما يقدرون من العمل الصالح.

ب- قال ابن عباس : هو الرجل يسمع الحسَنَ والقبيح فيتحدثُ بالحسن وينكُفُ عن القبيح ،فلا يتحدث به .
ج- وقالوا : يستمعون القرآن وغيره فيتبعون القرآن .
د- وقيل : يستمعون القرآن وأقوالَ الرسول فيتبعون مُحكمَه فيعملون به .
هـ- وقالوا بعض العلماء : يستمعون عزما وترخيصا فيأخذون بالعزم دون الترخيص .
و- وقال عبد الرحمن بن زيد : نزلت في زيد بن عمرو بن نفيل وأبي ذر الغفاري وسلمان الفارسي , اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها في جاهليتهم , واتبعوا أحسن ما صار من القول إليهم .

اللهم ارزقنا مكانة أولي الألباب واجعل عاقبتنا كعاقبتهم .

يتبع
 
التعديل الأخير:
سلسلة أولو الألباب

الدكتور عثمان قدري مكانسي

القسم الرابع عشر



بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ (21) الزمر.


ألم ترّ : دعوة إلى التفكر والتدبُّرِ، فما يعقل الحياة ويفهمها إلا من سَبَحتْ أفكارُه في ملكوت الله يستلهم العظات والعبر، ويتساءل تساؤل الواعي عن الحياة وأسبابها والوجودِ وعوامله.
وما كل من نظر رأى، لا بد للنظر من قلب واع مستنير يرى ما حوله بعين الفاحص الخبير،فيجد النظام في الكون كبيرِه وصغيره ، دقِّه وجليلِه. ويتعرف على بديع الصنع ودقة العمل ،فيعلم أن الله تعالى خلق كل شيء بقَدر، وهيّأ له جوّه المناسب ، فيزداد إيماناً بالله وحباً له سبحانه.
ذكر بعض علماء الطبيعة أنهم اكتشفوا غيمة في السماء تحوي من الماء ستين ضعفَ ما في الأرض من محيطات وبحار وأنهار.وأن الماء نزل من السماء إلى الأرض حين اراد الله تعالى أن تكون سكناً لآدم عليه السلام وذرّيته.وقد كانت الأرض صعيداً جُرزاً، وسوف تعود كذلك بعد أن تقوم بدورها كاملاً في احتضان البشر : { وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8)}(الكهف).

فأصل الماء في الأرض من السماء كما قال عز وجل : { ..وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا (48)}(الفرقان)، فإذا أنزل اللهُ الماء من السماء توزّعَ في الأرض، ثم يصرفه تعالى في أجزائها كما يشاء ،ثم يُخرجه عيونا مختلفة القوة والحجم بحسب الحاجة إليها، قال تبارك وتعالى : { فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ } . أقرأ هذه الاية فأرى بعينَي قلبي الماءَ العذبَ يتسلسل في أنابيب أرضية مخترقاً ماء البحار دون أن يذوب فيها ويختلط ،ويشقُّ الأرض الصلبة فيحيي به الله مواتَ الارض من زرع وأشجار مختلفة الطعم والمنظر والأحجام والأشكال، بين حلو وحامض ومالح ، وبين رائحة ولون، فتنطق جوارحي بكلام الله تعالى: { هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (11)}(لقمان).

وتستمر دورة الحياة فنرى الزرع والشجر (يهيجُ) بعد نضارته وشبابه ويكتهل ، فتراه مصفرا قد خالطه اليبس ثم ييبس تماماً فيتهشّم ، هكذا الحياة،تبدأ بُرعُماً غضاً، ثم يكبر هذا البرعم ويشتدُّ فيحمل الخير إلى المخلوقات، فإذا ما انتهت مَهمَّتُه دبَّت الشيخوخةُ فيه فأسلمته إلى الضعف والهرم، ثم إلى الفناء ، هكذا نحن معشر البشر – أيها العقلاء ، يا أصحاب القلوب الذكية والأفئدة المتدبّرة "إنَّ الدنيا هكذا تكون خضرة نضرة حسناء ،ثم تعود عجوزا شوهاء والشاب يعود شيخا هرما كبيرا ضعيفا ، وبعد ذلك كله (الموت ) الذي لا بُدَّ منه ،

يقول ابن كثير رحمه الله: فالسعيد من كان حاله بعده إلى خير وكثيرا ما يضرب الله تعالى مثـَلَ الحياة الدنيا بما ينزل الله من السماء من ماء،فينبت به زروعا وثمارا ،ثم يكون بعد ذلك حطاماً، ألم يضرِبِ الله تعالى الأمثالَ لنعي ونتفكر ونتدبّر؟ { وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا (45)}(الكهف).

عن ابن مسعود قال : قلنا يا رسول الله يقولُ تعالى : { أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ .. (22)}(الزمر) كيف انشرح صدرُه ؟
قال : ( إذا دخل النور القلب انشرح وانفتح )
قلنا : يا رسول الله وما علامة ذلك ؟ .
قال: ( الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعدادُ للموت قبل نزوله).

وعن ابن عمر : أن رجلا قال يا رسول الله أي المؤمنين أكيَسُ ؟
قال: ( أكثرهم للموت ذكرا وأحسنُهم له استعدادا وإذا دخل النور في القلب انفسح واستوسع )
قالوا : فما آية ذلك يا نبي الله ؟
قال : ( الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزول الموت ) فذكر صلى الله عليه وسلم خصالا ثلاثة , ولا شك أن من كانت فيه هذه الخصال فهو الكامل الإيمان , فإن الإنابة إنما هي أعمال البر ; لأن دار الخلود إنما وضعت جزاءً لأعمال البر , ألا ترى كيف ذكره الله في مواضع في تنزيله. ثم قال بعقب ذلك : { جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24)}(الواقعة) ، فالجنة جزاء الأعمال ; فإذا انكمش العبد في أعمال البر فهو إنابته إلى دار الخلود , وإذا خمد حرصه عن الدنيا , ولها عن طلبها , وأقبل على ما يغنيه منها فاكتفى به وقنع , فقد تجافى عن دار الغرور . وإذا أحكم أموره بالتقوى فكان ناظرا في كل أمر, واقفا متأدبا متثبتا حذرا يتورع عما يريبه إلى ما لا يريبه , فقد استعد للموت . فهذه علامتهم في الظاهر . وإنما صار هكذا لرؤية الموت , ورؤية صرف الآخرة عن الدنيا , ورؤية الدنيا أنها دار الغرور , وإنما صارت له هذه الرؤية بالنور الذي ولج القلب(تفسيرالقرطبي).

وما أروع هذا التعليل لقوله تعالى: { ..فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22)}(الزمر) ، إذ روى ابو سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( قال الله تعالى : اطلبوا الحوائج من السُّمَحاء ،فإني جعلت فيهم رحمتي. ولا تطلبوها من القاسية قلوبهم، فإني جعلت فيهم سخطي ) .
وقال مالك بن دينار : ما ضُرب عبدٌ بعقوبة أعظمَ من قسوة قلب , وما غضب الله على قوم إلا نزع الرحمة من قلوبهم .

من سمات أولى الالباب في هذه الآيات:

1- أنهم يتفكرون ويتدبّرون ، وقلوبهم ترى الواقع بعين البصيرالواعي.
2- صدورهم ممتلئة بنور الله يصدرون عنه أقوالاً وأعمالاً.
3- ما يدخل النور قلباً إلا حين يتمكن نور الإيمان فيه.
4- يكثرون من ذكر الله وقلوبهم متعلقة بخالقها.

يتبع​
 
سلسلة أولو الألباب

الدكتور عثمان قدري مكانسي

القسم الخامس عشر


بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54)غافر

يؤكد القرآن القاعدة الثابتة في نصرة الدعوة والدعاة في سورة غافر حين يورد قصة مؤمن آل فرعون الذي بذل جهده في نصرة موسى عليه السلام وفي دعوة قومه إلى الإسلام – وكان ابنَ عمِّ فرعون- فهدده فرعونُ بالعقاب الشديد يُنزله به حين يعود من متابعة موسى وقومه الذين انطلقوا هاربين إلى بلاد الشام ، فتبعهم فرعون بجنوده، فأغرقهم الله تعالى جميعاً في البحر، وكان الداعية (مؤمن آل فرعون) ممن نجا مع موسى عليه السلام وقومه { فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45)}.

يصوّرُ القرآن عذاب فرعون وجنودِه في نار البرزخ قبل نار الآخرة : { النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)} ، ويقول العلماء بناء على هذا : إن هناك عذاباً شديداً للكفار قبل يوم القيامة.وعذاب ُ القبر ثابت في الأحاديث الشريفة ولعله جزءٌ من العذاب الذي يلقاه الكفرة والمخطئون قبل يوم القيامة .

واسمعْ وانظرِ الحوارَ بين المستكبرين وأشياعهم في النار وهم يتعذَبون فيقول الضعفاء الذين باعوا آخرتهم بدنيا غيرهم فخسروا الدنيا والآخرة { وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النَّارِ (47)} ، يطلبون إليهم أن يتحمّلوا عنهم بعض العذاب ، وهم مثلهم في العذاب وأشدّ.فيردُّ المستكبرون الطغاة وقد ذلّوا وانكسروا معترفين مقرّين بما صاروا إليه من الذلِّ والهوان: { قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48)} ،

وحين يرى أهلُ النار أنها مأواهم وقد طال عذابهم المستمر يلتفتون إلى زبانية النار الموكّلين بعذابهم يرجونهم أن يستعطفوا ربهم ليخفف عنهم يوماً من العذاب ،- نعم يوماً واحداً -بعد أن أيقنوا بالخلود في النار- وما أشدّ بؤسهم وهم يرجون مَنْ يعذّبهم أن يشفع لهم – { وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِّنَ الْعَذَابِ (49)} ، فيقرّعونهم بسؤال يعلمُ المجرمون جوابَه ولا ينكرونه، يسألونهم ، { قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ } فلا يملكون سوى الإقرار بالذنب والاعتراف أنهم ضيّعوا الفرصة فباءوا بالخسران الدائم المبين{ قَالُوا بَلَى } فتُسمعُهم الزبانية ما أنكروه في الدنيا وأقرّوا به في النار أنِ ادعوا أنتم ربّكم ، ولن يُجيبكم إلى ما تريدون ، فقد عشتم ومتُّم كفاراً { ققَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50)}(غافر) والضلالُ هنا :الإهمال والنبذُ والاحتقار.ولن ينفعهم اعتذارُهم { يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52)}.

ونصْرُ الله لعباده المؤمنين في الدنيا – حين يلتزمون غرزَه ويعملون بشريعته.وفي الآخرة حين يعفو الله تعالى عنهم ويقبل اجتهادهم في القربى منه والمنافسة في إرضائه : { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51)}،ثم نجد الآيتين الكريمتين :

{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54)} ، توضِّحان أن المولى سبحانه يبعث الرسُل بالبينات والهدى والنور، ومثالهم في هاتين الآيتين موسى عليه السلامُ ،إذ بعثه الله سبحانه داعياً إلى توحيده والعمل بهديِه وجعل العاقبة لهم وأورثهم بلادَ فرعون وأمواله وكنوزه حين صبروا على طاعة الله واتباعِ رسوله موسى عليه السلام ، فمن عمل بكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم كان من اصحاب العقول السليمة والإدراك الواعي ولا شكَّ أن ورثة الأنبياء من ساروا بعدهم على منوالهم وحملوا ثابتين راغبين في الأجر رسالاتهم،

وما أروع الوصية التي وصّى الحقُّ بها نبيّه في الآية التالية إذ كانت تلخيصاً للفكرة وتتويجاً للمعنى، يقول الله تعالى :
1- { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ
2- وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ
3- وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55)}.

إنه الصبر والثباتُ والاستغفار واللجوء إلى الله وتسبيحه وتنزيهه عُدّةُ المسلم المجاهد في سبيله سبحانه ...ولعلنا نكون منهم إن شاء الله .

يتبع القسم الأخير
 
سلسلة أولو الألباب

الدكتور عثمان قدري مكانسي

القسم السادس عشر والأخير​



بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) الطلاق


خلق الله تعالى الأمم ولم يتركها تعيش في ظلام الكفر وتعاسة الضلال . لقد أرسل إليها أنبياءه على مر الدهور وكرِّ العصور، يهدونهم إلى السعادة ويأخذون بأيديهم إلى سبيل الكرامة وعز الحياة .سنّ لهم قواعد الحياة وشرَع لهم ما يحييهم ، وبيّن لهم الحلال والحرام ، ورغَّبهم برضاه والجنّة ورهّبهم من سخطه والنار، ولعل بعض الامم – لفسادها وكِبْرها وصدّها عن سبيل الله تعالى – عجَّل اللهُ لها العقوبة في الدنيا :
{ وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُّكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9)}(الطلاق). كان الحساب شديداً والعذابُ وبيلاً.ولعل كلمة ( ذاقتْ) تدل على الاستغراق في العذاب الأليم والإحساس العميق به في كل جانحة من جوانح الإنسان .كما أن كلمة ( العاقبة) تدلُّ على الخسارة الفادحة التي لا تُعوّض.إنَّ العاقبة تعني النهاية التي لا رجعة بعدها.

ما مِن أمة إلا خلا فيها نذير .فإن استكبرتْ وأبتِ السير على هدى الله عاجلها العقوبة المدمّرة: { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58)}(القصص).إني لأعجب ممن يستكبر ويأبى الهداية وهو يعلم ضعفَه ، ويحارب الحقَّ ويهوى الضلالة ويحارب لأجلها ،ولا يعتبر بمصير الأمم السالفة ، وآثارُها تحكي نهاية فسادها.
(كم)هنا و(كأيّن) في الآية السابقة تدُلاّن على كثرة من حاد عن الطريق فعوقب جزاءً وِفاقاً ، وكانت نهايتُه مأساويّة،بيدَ أن المولى سبحانه لا يظلم الناس شيئاً ، فقد أرسل إلى البشريّة الهداة المصلحين والأنبياء المنذرين : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59)}(القصص). وهذا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُبعث في أم القرى ( مكة) فتصل دعوتُه إلى آفاق الجزيرة وبلاد الشام وفارس . وقد نجد أكثر من نبيٍّ يرسلهم الله تعالى في مدينة واحدة: { وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ (14)}(يس).

إن (إعدادَ) العذاب يوحي بالغضب الشديد على كل من عصى وتجَبَّر، وحارب الله تعالى، وبارزه بالخصومة وحارب دينه، (الإعداد) يعني الخلود في الهوان والذلِّ المقيم .
{ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَّسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11)}(الطلاق).
إن أولي الألباب يتقون الله تعالى ويخافون عذابه ويسعَون إلى مرضاته، ألم يرفع الله قدرهم حين أنزل إليهم ذكراً؟
بلى والله لقد أكرمنا بذلك حين قال: { لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10)}(الأنبياء)
والذكرُ تكريمٌ ورفعٌ للدرجات ،لقد جعل الله تعالى القرآن للنبي وللمسلمين شرَفاً وتعظيماً : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44)}(الزخرف).
إنَّ أولي الألباب ذوو أفهام مستقيمة وأعمال سليمة لن يُصيبهم ما أصاب غيرهم من عذاب ،فهم ليسوا مثلَهم، لقد آمنوا بالله واتّبعوا نبيّه صلى الله عليه وسلم.وصدّقوا كتابه الذي حفظه وأكّد على بقائه نقياً لاتُغيّره الظروف ولا تُبّدِّله الأهواء : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)}(الحجر).

وكما يتلو الرسول صلى الله عليه وسلم آيات الله بيّنات فيكون قد بلّغ رسالة ربه ووفّى فالدعاةُ ورثَةُ الأنبياء يسيرون على خطاهم ويدعون إلى الله على بصيرة وهدى، ويمشون على خطا نبيهم لا يخافون في الله أحداً .
إن أولي الألباب مؤمنون،والمؤمن يعمل الصالحات ويدعو إليها ، ومن عمل صالحاً أدخله الله تعالى في رحمته ورزقه جنات تجري من تحتها الانهار أبَدَ الآبدين.
وهل هناك ثواب أعظم من أن يخلد المرء في جنات عرضها السماوات والأرض خالداً لا يبغي عنها حِوَلاً في جوار رب كريم يتنعم بحياة لا تفنى وملك لا يبلى ، ورزق حَسَنٍ يتجدد وصحبة الأنبياء والأبرار والشهداء والصالحين ؟

...لمثل هذا فليعمل العاملون.


 
قصيدة أولو الألباب

الدكتور عثمان قدري مكانسي



إن لـلألبـاب دوراً رائـداً * في حياة الناس ريّانَ النّدى

(يا أولي الألباب) نادى ربُّنا * (فالفؤادُ) الحيُّ نبعٌ للهدى

يدفع العقل إلى درب السنا * في رضا المولى بنورٍ أرشدا

إن ذا الـلـبِّ تـَقيٌّ سَـمْتُـهُ * طابَ أخلاقاً وأصفى مورِداً

شعّ في قلبٍ وعقلٍ وانثنى * يُصلح الدنيا ويجتازُ المَدى

حاملاً نهجـاً قويمـاً للدُّنـا * يجعل المسـلمَ فيهـا سـيّـداً

أنتَ يا ذا اللبِّ(بانٍ)ناصحٌ * قاد ركبَ الناسِ حُرّاً ماجدا

فاصدَعَنْ بالحق قولاً واحداً * واملأ الدنيـا نشـيداً خالـداً

(إنـّمـا الـلـه إلـهٌ واحدٌ) .... * أرسلَ المختارَ فينا (أحمدا)

*****

ربَّنا ؛كنّا وما زلنا على * شرعك السامي العِبادَ السُّعَدا

ثابتي الخطوَ، وإنـّا دائمـاً * للعُـلا جُنـْدٌ ،، ورمزٌ للفـِدا




 
عودة
أعلى