بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إلى كل من يعشق الطيارين تفضل
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إلى كل من يعشق الطيارين تفضل
1-
المعلق:لم يكن العالم العربي المسلم "عباس بن فرناس" أخر إنسان جرب التحليق في الجو متشبهًا بالطير، ففي السادس من فبراير عام 1912 ومن على حافة المستوى الأول من برج "إيفل" في "باريس" قفز النمساوي "ريتشارد" الحالم بأن يكون أول رجل طائر، وفي ظرف دقائق تحطم الحلم حين ارتطم بالأرض محدثًا ثقبًا عمقه أربعة عشر سنتيمترًا.
أصبح الشاب "ألن ديفين" بطل الطيران الحر.. "إيكار" الجديد تيمنًا بـ"إيكار" الذي صار أسطورة التحليق منذ زمن بعيد، حين فكر مع والده بالهرب من سجن أحد معسكرات "بالي" المحصنة، وذلك بتثبيت أجنحة من الريش على سواعدهما بواسطة الشمع والهرب تحليقًا في الجو.
"إيكار" المسكون بفرحة التحليق في الجو سقط في البحر؛ حيث أذابت الشمس الشمع المثبت للجناحين، أما والده "جيبال" فقد عدل عن الفكرة ونال حريته بعد سنوات، وكانت هذه قصة "إيكار" الذي يعتبره البعض الضحية الأولى للطيران.
إن سر البطولة في فكرة الطيران هو حلم التحليق.. تحليق الإنسان الثقيل وهو على الأرض، وظلت الأفكار تدور حول تقليد الطائر، كل المحاولات الأولى والابتكارات كانت زاخرة بالغرابة، فالمخترعون منهم من وُصف بالمخبول، ومنهم من طال ذكره، ومنهم من لفه النسيان.
سجل التاريخ محاولات وأفكار الرسام الكبير "ليوناردو دافنشي" صاحب الخيال الفذ؛ حيث رسم جسمًا غريبًا طيارًا بعد دراسته لطائر الخفاش، رسومات "دافنشي" ومجسماته حُفظت في متحف "كلاوس لوس" يحدثنا عنها "جان سان بلو".
جان سان بلو:
إنها آلة غريبة لاحظوا الأجنحة. إنها مستوحاة من طائر الخفاش، إنه نظام الطيران بواسطة الأجنحة الخفاقة، فقد قال "دافنشي": يرفرف الطائر بأجنحته فيطير، فلماذا لا يفعل الإنسان ذلك؟!! في هذه الآلة ينبطح الرجل على بطنه، ويحرك بيديه مجموعة بكرات متصلة بأحزمة بدورها ترفع الأجنحة وبضربة من القدم فإن الأجنحة تهبط.
المعلق:
قام أحد الحرفيين الانجليز بإعادة تصنيع تلك الآلة المصممة عام 1495 كانت النتيجة أن "ليوناردو دافنشي" لم يجد الحل.
جان سان لو:
جرت بعد ذلك ثلاث محاولات مدهشة: الأولى: قام بها أحد الرهبان؛ حيث ابتكر مركبًا بأربع كرات من النحاس متصورًا أنه بإفراغ الكرات من الهواء سيرتفع المركب ذو الشراع والمجاديف، كان يأمل بالنجاح معتمدًا على أن وزن المركب سيكون أخف من الهواء.
المعلق:
"لويس السادس عشر" وفي قصر "فيرساي" حضر عرضًا لآلة جديدة كليًا، كثيرون شككوا بنجاحها؛ لأنها مصنوعة من الورق، أما أصحاب التجربة فهم الإخوة "ميلكو ليفييه"، والآلة هي "المنطاد".
جان سان لو:
كان المنطاد شيئًا غير مألوف كرة من أسفلها نسخن الهواء الذي بداخلها، والهواء الساخن أقل وزنًا من الهواء البارد، وبالتالي يرتفع المنطاد.
المعلق:
فضل الإخوة "ميلكو ليفييه" أن يرسلوا في الرحلة الأولى خروفًا وبطة وديكًا، ولما نجحت التجربة فكروا أن تتم بإرسال إنسان.
جان سان لو:
المتطوعان لأول رحلة جوية عبر التاريخ كانا "بلاترو دي توريزييه" و"ماركيز أريندا". وصل الجميع إلى منطقة قصر "ديلومايات". المنطاد جاهز وحالة الفرح تعم الجميع، حملا معهما ما يحتاجان من قش وصوف؛ وذلك لعملية الاحتراق. صعدا إلى المنطاد كما أفعل أنا الآن.
أشعلا جهاز احتراق الغاز واستمرا في وضع القش، فارتفع المنطاد منطلقًا في سماء "باريس"، والناس تسمروا في أماكنهم ذعرًا ودهشة فيما تساءل "ماركيز أريندا" لماذا هم كذلك؟! أخرج منديله الأبيض ولوح به فتحركت الجماهير. نظرات الذهول الصادرة عن "بلاترو" و"ماركيز أريندا" وهما أول من شاهد الأرض من عال ستتحقق للآلاف من ملاحي الجو بعدهم، لكن الذي وُلد الآن شيء آخر، إنها قصة البالونات.. المناطيد، إنها فكرة الشيء الأقل وزنًا من الهواء.
المعلق:
القرن التاسع عشر فُتن بقصة "الخمسة أسابيع في المنطاد"، بينما السيد "جول بارن" كان يحلم بالشيء الأثقل من الهواء، "الوابور الفاتح" سيطر على العالم بواسطة السفينة الطائرة.
شهد القرن التاسع عشر جهودًا كبيرة في التحليق، وكان الجهد منصبًا على الآلة الأثقل من الهواء. إنه عصر الآلات والآلة المطلوبة هي الطائرة، جميع الأبحاث والدراسات حُفظت في متحف الطيران في "باريس" حتى تلك المجسمات والنماذج القديمة والغريبة، من هذه النماذج "أريان" للانجليزي "ويليام هانسون" الذي طور الأفكار حول البنية والشكل واهتم بالزخرفة عام 1847.
دراسات حول الأجنحة قام بها عديدون الفرنسي "فليكس دي دومييه" عام 1857، والروسي "تير شاف" 1867، والضابط "رونارد" الذي تصور بأن زيادة الأجنحة أفضل وأثبتت التجارب لاحقًا أن هذه النظرية ليست صحيحة، مآسيً كثيرة سببتها هذه التجارب. "ألفونس بينو" وجد الحل في مروحية على شكل قطار مموه لم يسمع له أحد، فانتحر وهو في الثلاثين من عمره عام 1880.
إذًا من كان أول من حلق؟! الروس يؤكدون أنه "جاسكي" عام 1884 بآلة صنعها بنفسه، بالنسبة للفرنسيين كان "إيدار" أول من حلق عام 1890.
جان سان لو:
إنها أول طائرة نجحت في الإقلاع عن الأرض وعلى متنها طيار.
المعلق:
أمتأكد؟
جان سان لو:
نعم لا شك.
المعلق:
أكد لنا هذا أحد الرجال القدامى، مدير متحف "باريس" للطيران الجنرال "لي ساراك".
لي ساراك:
لقد اختار الشكل المقارب للخفاش، ولا أعرف السبب، تلاحظون هنا شكلاً يشبه أصابع اليد، أربعة مع الإبهام، مثني هنا إلى الداخل في الخلف هناك شيء يشبه الكتف، هذا الجزء قريب من متوازي الأضلاع قابل للثني.
المعلق:
هل كان هذا جديًا أم لا؟ على كل "إيدار" كان مهندسًا ميكانيكيًا مميزًا. "كليمان أيدار" مخترع عبقري تذكروه عندما ترفعون سماعة الهاتف، فاختراعها يعود له، كان مبدعًا بخيال خلاق، هذا جسم الآلة الوطواط أعده المهندس "شامسونج" والتي جُربت في قصر "أرماند دي ليه" في التاسع من أكتوبر عام 1890 قرب "باريس".
لم يكن المحرك العادي قد عُرف فقام "إيدار" بصنع محرك بخاري صغير رباعي الاسطوانات وبقوة عشرين حصانًا وهيكل مقاوم للصدمات، قام "إيدار" وأمام المشاهدين بالإقلاع بآلته لمسافة خمسين مترًا ولارتفاع سنتيمترات عن الأرض، ولم تكن التجربة ناجحة.
بعد سبع سنوات من العمل المتواصل قدم "إيدار" آلته الطموحة بمحركين وجهازين بخاريين بقوة عشرين حصانًا، عرضها ستة عشر مترًا، ووزنها أربع مائة كيلو جرام فقط.
في الرابع عشر من أكتوبر عام 1897 في معسكر "ساتوري" قام "إيدار" بعرض آلته على الجيش الفرنسي، كانت هذه التجربة آخر فرصة له لتمويل مشروعه من الجيش الفرنسي، حيث قال: سيكون سيد العالم من سيكون سيد الطيران؟
شغل المحرك البخاري والمراوح التي تشبه ريش طائر غريب، خلال لحظات من بدء التجربة في الخامسة والربع فشلت تجربته؛ إذ أقلع لمسافة ثلاثمائة متر، وبالطبع رفضت وزارة الدفاع المشروع.
مجسم تلك الآلة الوطواط موجود في مركز العلوم بمعهد الفنون والمهن، ووجوده ليس مربوطًا بنجاحه أو عدم نجاحه؛ إذ يعتبر محاولة لدفع الأمور بطريقة خاصة، اتضحت بتدشينه آلته بنفسه وهذا شيء رائع.
بعد "إيدار" وفي نهاية القرن التاسع عشر، أتت الطائرات الشراعية على يد السيد "أوتي ليليان تال" الذي وصفه "ألان أيفينيج": بأنه الجد الأول لكل الرجال الذين طاروا.
ألان أيفينينج:
إن أول من راودته الفكرة العبقرية في طرح السؤال الوجيه: لا تسأل كيف تطير الطيور، بل لماذا تطير الطيور؟ هو "أوتي ليليان تال" والذي كان قد صنع عام 1891 آلة تشبه إلى حد بعيد هذه الآلة بمساحة عشرين مترًا وعلى شكل دلتا، صنعها بعد دراسات مضنية وبعد أن طرح سؤاله الذكي: لماذا تطير الطيور؟ لقد وجد الجواب على سؤاله حين قد راقب الطيور.
طائرات الألماني "ليليان تال" الشراعية، وطائرات الفرنسي "يوبان".. وضعت التصور الذي سيُستخدم لاحقًا في الطيران. إنه تقدم نوعي في نفس الوقت الذي حصل فيه تقدم في صناعة المحرك بطاقة الاحتراق، فمع هذين الاكتشافين ظهر الطيران إلى الوجود.
الأمريكي "صامويل لانكلي" أول من وضع محركًا بطاقة الاحتراق على آلة بهيكل جديد عام 1902 بعدها جرب آلته ذات المحرك بقوة خمسين حصانًا وبخمس اسطوانات.
الان ايفينينج:
قام بتجربة آلة تشبه الطائرة القاذفة وضعها على شيء يشبه الزورق، وعلى سطح مياه النهر، كانت فكرة غريبة لاعتقاده بأن الخسائر تكون أقل في حالة السقوط في الماء، انطلق فوق نهر "بوتوما" وسقط، وهذا لا يعتبر طيرانًا أبدًا.
المعلق:
أصبحنا قاب قوسين من الهدف، ففي "أمريكا" وهنا على شاطئ الأطلسي أقام اثنان من رواد الطيران هما الأخوان "رايت"، اختارا قرية الصيادين هذه "كيتي هوك" شمال "كارولينا"؛ حيث المناطق الحرجية، والأرض الرملية المنحدرة، والرياح القوية. أجل المخترعان النشطان مشروعهما لاختراع الدراجة الهوائية إلى الشتاء وعسكرا في هذا الكوخ الصغير.
لم يتغير شيء منذ عام 1903 جاءا للإقامة هنا، ولم تكن الحياة مريحة، عملا بجد دون كلل، كانا محاصرين بالمجهول وبمشاكل كثيرة تتطلب الحل تحت ضغط هاجس الخوف أن يصل غيرهما إلى الحل فيقعان في مشاكل كبيرة مع الصحف العالمية التي زوداها بمعلومات عن هذا المشروع. يريدان السبق أن يكونا أول من يطير بطائرة حقيقية بمحرك حقيقي داخل شيء مميز صغير في طريقه إلى الوجود لم يشاهد من قبل، إنه شيء جديد.
نحن الآن في ديسمبر 1903 إنهما ذاهبان لتجربة آلتهما. "ويلبر رايت" ستة وثلاثون عامًا وهو الأكبر يشارك أخاه "أوريفال" ذا الاثنين وثلاثين عامًا في كل شيء وهو ذو مستوى تقني هندسي مميز.
لنستمع إلى "أوريفال" على لسان الأمريكي "هابر هارد" الذي سخر حياته لدراسة ذكريات عائلة "رايت"، ارتدى بزة "أوريفال" وسيحدثنا عن الذي قاله "أوريفال" شخصيًا.
هابر هارد:
أنجزنا آلتنا عام 1903 في شهر ديسمبر، ستشاهدونها كيف كانت، هذه هي.. الشكل العام هو نفسه منذ ذلك العام، الجديد الذي طرأ عليها هو المحرك ذو الأربع اسطوانات، وبقوة اثني عشر حصانًا، ويزن ثمانين كيلو جرامًا، لم يكن محركًا جيدًا، ولم يزودنا أحد بأفضل منه؛ لذا قمنا بتصنيعه بأنفسنا. "الرادياتير" يسكب الماء لتبريد المحرك، لم تكن وسيلة ناجحة، وكاحتياط وضعنا خزان وقود إضافيًا وتلك الاسطوانة تحتوي على لترين من البترول؛ لزيادة وقت الطيران. المراوح في مؤخرة الطائرة تدور باتجاهات متعاكسة لاعتقادنا بأن هذا يساعد في جعل الطائرة مستقرة، تلاحظون تلك السلسلة. إنها تحول حركة المراوح إلى حركة معكوسة.
سأصعد إلى الآلة؛ لأشرح لكم عن بعض الأجهزة، عمومًا هو النظام نفسه الذي استنبطاه من الطائرة الشراعية، التحرك صعب بسبب هذه الأسلاك، كما تشاهدون لم يكن هناك مقعد على طائرتنا الأولى، بل يتم الطيران والجسم في حالة انبطاح، العتلات في هذه الوضعية بحركة صغيرة نغير وضعية الأجنحة ونحرك المقود الموجود خلفي.
حان الإقلاع.. هذا هو المدرج الذي ستقلع الطائرة منه في جو من الهواء، الذي يهب قويًا من الشمال الشرقي. الطقس بارد طبقة من الجليد تغطي الأرض. فكرنا بتأجيل المحاولة إلى وقت آخر، بانتظار تحسن الأحوال الجوية، لكننا في السابع عشر من ديسمبر والأعياد على الأبواب ولا بد من العودة إلى "بيتوك" لقضاء العطلة مع العائلة.
أخرجنا الطائرة، وفحصنا كل شيء، وأجرينا قرعة لتحديد من منا سيطير أولاً، كنت أنا أول من يطير. تشاهدون الآن الآلة على المدرج ستقلع بهذا الاتجاه، هذا أنا وتأكدت من كل شيء قبل الصعود، هنا أخي "والبر" الذي وضع الطائرة في الوضعية الصحيحة. قام بمساعدتنا بعض الأشخاص الذين يعملون في محطة الإنقاذ البحري، ومن بينهم السيد "دوف" والسيد "جوني مور"، وأحد أصدقائي السيد "جون دانييل" الذي تشاهدونه يحمل آلة التصوير خاصتي.
هذه الصورة التقطها حين كانت الطائرة تقلع ثم أسرع حيث المكان الذي وضع فيه هذا التذكار المنحوت من الصوان، حيث أقلعت الطائرة في ذلك الوقت.
المعلق:
كانت المرة الأولى في تاريخ العالم التي تستطيع فيها آلة وزنها أثقل من الهواء بمحرك وطيار أن ترتفع عن الأرض أن تطير، تاريخ الطيران بدأ عندها.
أول تحليق للطائرة كان في السابع عشر من ديسمبر عام 1903 ولم يدم هذا التحليق التاريخي إلا اثنتي عشرة ثانية لمسافة ستة وثلاثين مترًا، بعد عشرين دقيقة قام "ويلبر" بمحاولة قطع فيها ثلاثة وخمسين مترًا، المحاولة الثالثة نفذها "أوريفال" وتجاوزت ستين مترًا، وعند الظهيرة قام "ويلبر" بمحاولة استمرت تسع وخمسين ثانية، قطع خلالها مائتين وستين مترًا. وهذا كان كل شي لهذه الطائرة التي صنعها الأخوان "رايت"، واستحقت اسم "فلاير"، لكنها لم تحلق أكثر من سبع وتسعين ثانية إجمالاً.
في السنوات الخمس التالية عمل الأخوان "رايت" بلا كلل على تحسين آلاتهما؛ حيث توصلا إلى الطراز الأحدث وأسمياه "فلاير 3" كان طرازًا عمليًا متقنًا، لكن الأمريكيين لم يكترثوا لهما، فتوجها إلى الدولة التي سيصبحان فيها الأكثر شهرة.. "فرنسا".
عام 1908 وفي معسكر "أفور" قرب "مانس" قام "ويلبر" بعروض للطائرة "فلير 3"، الفرنسيون استهوتهم الآلة، وراقبوا أدق تفاصيل التحضير بدءًا من وصول الآلة إلى تجهيز المدرج وتثبيتها في حالة توازن، الشيء الجديد الذي ميز هذه التجربة هو السقالة التي تساعد الطائرة على الإقلاع.
قام "ويلبر" بأول طلعة حقق من خلالها ولأول مرة ارتفاع مائة متر، في السنة التالية قام ملك إيطاليا "فيكتور إيمانويل" بحضور العرض الذي أقامه "ويلبر رايت" قرب "روما"، شيء جديد حدث أيضًا لأول مرة، إنه صعود مصور صحفي على متن الطائرة، موضوع نادر يحصل لأول مرة التقاط صورة من الجو تظهر العمق السحيق وتظهر الأرض من السماء.
بعدها تلقى الأخوان "رايت" نبأ وفاة واحد من أكبر ممهدي الطريق للطيران، إنه الكابتن "فيرناند فيربر" صديقهما. لا نستطيع قول ما يكفي عما قدمه "فيربر" للطيران، فهو كما الأخوان "رايت" من تلاميذ "ليليان تال" و"شانوت".
المزيد عن الطيران والتحليق، وعن "فيربر"؛ سنعرفه في الحلقة القادمة بإذن الله..
__________________________________-
2-
المعلق:
توقفنا في الحلقة السابقة عند "فيرناند فيربار" صديق الأخوان "رايت"، وتلميذ "ليليان تال" و"شانوت".. خريج مدرسة الهندسة والمدفعية، وهو صاحب أسلوب علمي ميز به بدايات الطيران. طار على متن الطائرات الشراعية منذ عام 1901 متنقلاً من طراز إلى آخر، أقلع للمرة الأولى من أوروبا على متن طائرة بمحرك عام 1905.
وكانت تجاربه ارتبطت بإحدى الشخصيات المدهشة من الأغنياء البرازيليين المقيمين في "فرنسا" والمدعو "سانتوس دومو"، وهو ابن ملك القهوة. توصل عام 1906 إلى الآلة الأثقل من الهواء، وبما أنه شخصية مميزة فلن يقدم إلا الشيء المميز؛ لهذا لم تكن طائرته كبقية الطائرات.
سانتوس دومو:
الطائرة التي تشاهدونها هنا تسير باتجاهنا، المؤخرة هناك حيث المراوح هذا يعني أن المحرك ذو دفع أمامي، موقع الملاح في المقعد الذي يشبه السلة هناك. إنها حجرة التحكم بالآلة والطيار في داخلها.
المعلق:
حقق "سانتوس" هدفه في الثالث والعشرين من أكتوبر عام 1906 وحقق في الثاني عشر من نوفمبر ثلاثة أرقام قياسية مجتمعة، المسافة مائتان وعشرون مترًا، المدة إحدى وعشرون ثانية، والسرعة واحد وأربعون كيلو مترًا في الساعة، لكن الطائرة لم تكن ثابتة وبالتالي لم تكن الحل الأمثل.
لم يُحبط "سانتوس" أكثر عندما تأكد أن الأمور لن تسير على ما يرام، بل أوقف العمل في تلك الطائرة نهائيًا، لكنه أخذ محركها وصنع آلة أخرى مختلفة كليًا، وكل الاعتقاد بأنه توصل إلى نتائج أفضل.
إنها طائرة "دي موازيل" صغيرة ومسطحة بعرض خمسة أمتار، وطول ثمانية أمتار، وبقوة خمسة وثلاثين حصانًا. أفكار "سانتوس" أُخذت في الحسبان رغم غرابتها في عالم الطيران، نجحت الطائرة إلى حد ما، والبرهان على ذلك طيرانها المستمر المنتظم بواسطة الأجنحة التي زودت بها.
لم تكن الطائرة التي صُنعت في "أمريكا" عام 1907 سيئة أبدًا، كذلك استطاع السيد "آل هامر" في "الدنمارك" أن يطور آلته بعد جهد مضني، وقد لوحظ تأثير "سانتوس" في الطائرة التي صنعها الألماني "أندي كرافت" والتي تشبه إلى حد كبير الطائرة "دي موازيل".
عام 1907 و1908 كانا عامرين بأبحاث الطيران في العالم، ففي الولايات المتحدة ظهرت طائرة "جون بوب"، وطائرة "هانتون" والتي كانت باكورة إنتاج منظمة التجارب الأمريكية التي أسستها مجموعة من تجار "نيويورك"؛ لنزع احتكار عائلة "رايت" في هذا المجال، فاستعانوا بمهندس شاب يُدعى "كلينت كاردس" لتأسيس صناعة كبيرة، لكن التجربة الأولى كانت متوسطة النتائج. تعقيدات طائرة "هانتون" جعلت الطيارين يترددون في قيادتهم.
كلينت كارديس:
يجب تحريك هذا المقود إلى الأمام أو سحبه للخلف؛ لجعل الطائرة تصعد وتهبط، وحتى لتحريك الدفة في مؤخرة الطائرة ولجعل الطائرة تجنح إلى اليمين أو إلى اليسار يجب تحريك الأجنحة هكذا، إنها طريقة أطراف الأجنحة، طريقة بدائية.
المعلق:
أنستطيع الطيران بهذه المحركات؟
كلينت كارديس:
سأحاول، الطقس ليس ملائمًا هذا اليوم، الرياح قوية وقد لا أستطيع الارتفاع، ولكنني سأحاول، الطائرة ليست متوازنة تمامًا، وليس من السهل السيطرة عليها.
المعلق:
سميت "هانتون"؛ لأنها كالحشرة تتحرك في كل الاتجاهات، كانت حركة القيادة معقدة، وأول من صوب تلك الحركات هو الفرنسي "روبرت أسنوت بارتوري" جمعها في مقود واحد، وهو عصا القيادة، الذي يحرك الطائرة إلى الأمام والخلف والجانبين، هذا الاكتشاف الجوهري وضعه "أسنوت" على طائرته "هوري" الطائرة أحادية السطح على الخطوط الجديدة.
لم يتقدم الجميع في الاتجاه نفسه، فقد شغل الإقلاع العمودي الباحثين. المهندس "لويس بريكيت" البالغ من العمر ثمانية وعشرين عامًا تمكن في "فرنسا" من الإقلاع بطائرته المسماة "جيرو كلاف" والتي كانت أقرب إلى دراسة الحصيد منها إلى الهيلكوبتر.
حاول شاب آخر من الرواد الأوائل يُدعى "هنري فابير" من مدينة "مارسي" الطيران على الماء، وذلك باختراعه طائرة مائية تشبه البعوضة وضعها على عوامات.
جرت على نهر السين عام 1905 أول محاولة طيران لطائرة ذات سطحين لها عوامات وبها وسائد بمحرك صنعها شاب فرنسي من مدينة "ليون" مقدام ومبدع، لم توقفه العقبات، يُدعى "كابريان فوزان" كان عمره خمسة وعشرين عامًا.. يتذكر لنا حياة مخترع عبر التاريخ.
كابريان فوزان:
مرت علينا أوقات عصيبة عرفنا فيها طعم الجوع، وكنا إذًا لم نتلق طرود الطعام من إحدى أخواتي -والتي تسكن منطقة "بيري"- كنا نعاني الجوع، استنتجت أنا وأخي بأنه عندما تكون المعدة خاوية، فإن العمل يصبح صعبًا، والحركة تتباطأ، وأعتقد بأن الأعمال الجيدة لا تتم عندما تكون المعدة خاوية؛ لذلك علينا أن نأكل.
المعلق:
لم يمنعه هذا من استمرار العمل مع أخيه "تشارل" وتحقيق أول طلعة إلى مدينة "باكاتيل" في السادس عشر من مارس عام 1907، بعدها حصل الأخوان "فوزان" على دعم مالي لتصنيع طائرة "الهنري فارمان" بطل الدراجات الهوائية وسباق السيارات.
بنظرة العامل المجد، وابتسامته، وحضوره الأكثر رصانة من كل رجال الكاوبوي؛ قام "فارمان" في يناير 1908 وعلى متن طائرته التي صنعها الأخوان "فوزان" لتحقيق دورة كاملة مقفلة في الجو لمسافة كيلو متر.
كابريان فوزان:
أعتقد أننا تعانقنا طويلاً، ولم نعتقد حينها أن نحقق شيئًا غير متوقع.
المعلق:
كانت انطلاقة قوية للأخوين "فوزان"، بعدها قاما بصناعة الطائرة لأحد هواة الطيران الانجليز اللورد "برابازون" والذي سماها الطير المهاجر. ربح "برابازون" جائزة إحدى كبريات الصحف البريطانية "ديلي ميل" والبالغة ألف جنيه في ذلك العصر، والتي خُصصت لمن يقطع أول ميل في دائرة مقفلة.
بعدها أصبحت الجوائز مطمح الجميع، فقد قرر أحد أبطال سباقات السيارات المشهورين ويُدعى "موريس تابوتو" شراء الطائرة. "تابوتو" سجل حديثه حول تلك التجربة بعد أن بلغ من السن مبلغه.
موريس تابوتو:
لا أشعر بالأسى؛ لأنني عاصرت مرحلتين: مرحلة غزو الجو، ومرحلة غزو الفضاء، وهذا حظ ممتاز وتوفيق من الله -تعالى-. هناك اختلافات كبيرة بين غزو الجو وغزو الفضاء، غزو الجو كلف حياة الناس غاليًا، ونال العاملون فيه مالاً وفيرًا، وغزو الفضاء لم يتح فرصًا كثيرة لكسب المال، من حصلوا عليه كانوا قلة، كان أقل تأثيرًا في الناس من غزو الجو، الذين كانوا ينتظرونه منذ أيام "ريكار".
كنا أقرب لرجل الشارع الذي يحلم بالطيران، ولهذا أُنفق المال الوفير، فالجميع مهتم بالطيران، "إنني أريد أن أطير" هذه العبارة نسمعها منذ ألفي عام، لذلك في الواقع كان هناك فرق بين غزو الفضاء وغزو الجو.
المعلق:
نشاهد آلات غريبة كهذه الطائرة التي تُدعى "بريستول بوكسكيت" تحلق فوق السهول الانجليزية ويملكها "فارمان"، الرجل هنا يعرف كيف يحلق ويهبط، يتحرك في الهواء، ويدور حول البنايات.
"تابوتو" حدثنا عن النقود، بينما "ديزمون بيل روز" ملاح تلك الآلة لا يبغي إلا السعادة.
ديزمون بيل روز:
إن التحليق في الجو شيء خلاب. إنه تحليق حقيقي؛ لأن الطيار يطير في الهواء الطلق على سرعة خمسين كيلو مترًا في الساعة، حيث يلتحم بالطبيعة ومع الطيور. في الحقيقة كان ينتابني دائمًا قليل من الخوف، لم يمنع هذا من أن البعض مات، كان أولهم في مجال الطيران الملازم "سالبري" عام 1908 في "أمريكا"، وبعده توفي ثلاثة عام 1909، وتسعة وعشرون شخصًا عام 1910.. التقدم يكلف غاليًا، خاصة عندما تلوح في الأفق فائدة، بدأت المصانع الصغيرة تظهر مجموعات حرفيين وعمال ذوي خبرات متعددة، خاصة في فرنسا، حيث ظهر الآلاف من المشدودين إلى مجال الميكانيكا.
قسم كبير من صناعة الطيران نشأ في منطقة "بورت مالوت"، و"بيلا ريت" كان يبيع المصابيح في شارع "دورات"، "كاروس" كان يبيع السيارات في شارع "جراند أرمي"، "فارمان هنري" كان يفعل نفس الشيء وشقيقه يبيع السيارات، ولكن في جادة "باريان"، "موران" يبيع السيارات المستعملة هناك أيضًا، "نيو بول" يبيع سيارات مستعملة، جميع هؤلاء نشأوا في "بورت مالوت".
***************************************************
المعلق:في "أمريكا" نال "كلينت كيرتيس" المرتبة المميزة مع مجموعة من محبي الطيران، قام بصناعة طائرة جديدة أسماها "كيرتيس بوشير"، ذات محرك دفع أمامي، كعادته قادها بنفسه في أول طلعة، سيقودها اليوم بدلاً منه المزارع "دالي كريكاس" من "ويسكانسون"، وهو الذي سهر الليالي ليصنع من جديد تلك الآلة التي قادها دون صعوبة.
كان "كيرتس" قلقًا من كيفية الإثبات للأوربيين من أنه يستطيع أن يقدم الأفضل، حلم باختبار العصر، وهو أن يقطع بحر "المانش"؛ حيث قدمت "الديلي ميل" جائزة بقيمة خمسة وعشرين ألف فرانك ذهب، المنافس الأخطر كان السيد "لاتان" بطائرته "أنطوانيت" ويبلغ من العمر خمسة وعشرين عامًا، وهو وسيم وغني.
دخل معظم السباقات العنيفة بشكل مجنون، كسب من السيارات، وصيد الحيوانات المتوحشة، والطيران. حصل على مساندة قوية من "يولني باباسور" أحد المصنعين العباقرة والذي وضع في الخدمة أول محرك فرنسي هو المحرك "أنطوانيت" بقوة خمسين حصانًا، "أنطوانيت" هو اسم ابنة ممول المشروع السيد "كاستين كيرت".
كان "لاتان" في الأول من يوليو 1909 جاهزًا ليقوم بمحاولته قرب منطقة "كالي" برفقة بعض الفضوليين، أقلع في السابع عشر من يوليو عند الفجر على متن "أنطوانيت" فوق بحر "المانش"، وبعد عشر دقائق كان "لاتان" وآماله في البحر وتم التقاطه. توفي "لاتان" بعد سنوات متأثرًا بجروح في بطنه أصابه بها جاموس بري؛ وذلك أثناء رحلة صيد في "الكونغو".
تعلقت أمال الفرنسيين بـ"لويس بلاريوت" صانع مصابيح السيارات، كانت آماله شفافة، ابن السبعة والثلاثين عامًا شاهدوه وهو يجرب آلته المبنية من الخشب والورق والتي تُدعى "بلاريوت". نجح في الارتفاع إلى ستين مترًا في العاشر من أغسطس عام 1907 وفي السابع عشر من سبتمبر حقق مائة وأربعة وثمانين مترًا، وفي نوفمبر تحطم، لكنه صعد على عكازيه إلى طائرته يوم الواحد والعشرين من يوليو 1909 في منطقة "كالي".
"جان ساليس" وصديقه "مارسيل" أمامكم، "جان ساليس" الذي على يمين شاشتكم سخر حياته لصنع الطائرات الأكثر شهرة، وليصنع سرب الذكريات أعاد هنا الطائرة "بلاريوت 6" إلى مزرعة "كرينو" قرب "كالي" أي في نفس المكان الذي كان فيه "بلاريوت".
"بلاريوت" الابن "جان" يحدثنا عن تلك المخاطرة، حيث قام بالعودة إلى المكان الذي يحلم به منذ الطفولة.
بلاريوت الابن:
هذا المكان يعود بي في الذاكرة إلى أيام والدي، ويجمعني بمن عايشوا عائلتي، المزارع "كرينو" هو الذي آوى في ذلك العصر هذا المخبول من عائلتي مع معداته، ولكنني لا أدري كيف جرت الأمور في العائلة، مع التفكير بأنه مخبول، وهو لم يكن يسمح لنا باعتباره كذلك. كنا نعتقد أنه في النهاية سينجح، صحيح أنه لم يحالفه التوفيق في بادئ الأمر؛ حيث تحطمت بعض الطائرات، لكن العائلة قامت بدعمه ماديًا؛ لأنها تعرف بأنه مثابر وواثق من نفسه.
بساطة لوحة التحكم شيء مذهل، بالأحرى لم تكن هناك لوحة تحكم، كان الطيار يطير على سجيته، الشيء الوحيد الذي يأخذه في الاعتبار هو إلهامه أثناء الطيران أولاً، ثانيًا: إلمامه بقواعد الطيران، وثالثًا: إمكانية الطائرة.
سأشرح قليلاً عن تلك الطائرة، هذا محرك الأجنحة، لكي تنحرف الطائرة يمينًا أو يسارًا؛ يجب الضغط على هذا الجهاز في هذا الاتجاه أو ذاك، مثلاً عند الضغط هنا يتحرك الجناح ويجعل الطائرة تستدير إلى اليسار. في الطائرات الحالية أطراف الأجنحة هي التي تتحرك، بينما في السابق الجناح كله يتحرك، تمامًا كما اتضح قبل قليل، إذًا بشرح بسيط كان يمكن معرفة طريقة السيطرة على الطائرة.
المعلق:
الثالثة وخمسون دقيقة، كل شيء جاهز، هذا هو مخطط الرحلة مكتوب بخط "بلاريوت"، الإقلاع المتوقع في الرابعة وخمس وثلاثين دقيقة، في مكان يُدعى "لابراد"، وعلى بعد ثلاثة كيلو مترات من "كالي" توجد في البحر نسافة وسفينة خفر لمتابعة الطائرة ونجدتها في حالة الضرورة، تحضيرات الرحلة جاهزة، تخوف "بلاريوت" من المسافة التي سيقطعها فوق البحر، لكنه في الطرف الانجليزي سيحاول بطائرته ذات الخمسة وعشرين حصانًا أن يعبر فوق الشواطئ الصخرية لمنطقة "هوفر" ورياحها.
لويس بلاريوت:
هذا ما سأحاول القيام به بشكل عام.
المعلق:
سيحاول "جان ساليس" اليوم وبواسطة "بلاريوت 6" القيام بنفس الرحلة التي قام بها "بلاريوت".. الساعة الرابعة وعشر دقائق، أدار "بلاريوت" المحرك وترك الحرارة ترتفع، في الرابعة وخمس وعشرين دقيقة تأكد من كل شيء.
ولما ظهرت الشمس في الأفق حان موعد الإقلاع المحدد من قبل "الديلي ميل"، أقلع "بلاريوت" وأقلع "ساليس" في نفس الوقت، أعطى مراقب البحرية على الشاطئ إشارة لسفينة الخفر للانطلاق.
على متن الدراسة تتابع السيدة "بلاريوت" بقلق زوجها وقالت: انتابني الخوف الشديد وارتعدت فرائسي. أطلق القبطان الدراسة بأقصى سرعتها عبرت الطائرة فوقنا، وتساءلت في نفسي: وأنا أجهش بالبكاء، ما الذي سيحدث إذا سقط في الماء؟
قال "بلاريوت": "كنت أحلق بهدوء، لم تكن تنتابني أي مشاعر أو أحاسيس حقيقية، كان الهدوء فقط المقطوع بصوت المحرك يزودني بطاقة تجعلني أكثر صلابة في الوقت الذي كانت فيه عيناي مثبتتين على موزع الزيت ومستوى البنزين. لقد نجحت، ثم لاحت لناظري ثلاث سفن فجأة، وفي الوقت الذي كنت أصارع فيه الهواء شاهدت رجل يلوح بعلم مكون من ثلاثة ألوان".
صحافي يُدعى "شارل أونتان" كتب يقول: "أُجهشت بالبكاء كطفل.. هل أنا مخبول؟! هل أنا في حلم؟! إنها آلة طائرة!، وهناك رجل على متنها". قال "بلاريوت": "انتابني سرور عارم فلم أكن أقود الطائرة بل كنت مشدودًا إلى تلك الأرض".
كتب مراسل "الديلي أكسبريس" مقالاً بعنوان:"لم تعد بريطانيا جزيرة"، بينما صحيفة "المورنينج بوست" كتبت في صحفتها الأولى: "سيغير هذا بشكل جذري نظريات الحرب، وبالتالي سيهدد وسائلنا التقليدية في الدفاع".
إنه أول انتصار كبير للصناعات الفرنسية لانطلاقة كبيرة والتي بقيت لعشر سنوات وكانت الأولى في العالم، ما يقارب عشرين طائرة من "بلاريوت 6" مازالت موجودة وعاملة في العالم، منها تلك التي تحمل الرقم "56" وهو الرقم التسلسلي لخروجها من المصنع.
بلاريوت الابن:
سأريكم شيئًا يثير فضولكم، هذه شهادة "البريفييه" في الطيران الخاصة بوالدي، إنها تحمل الرقم "1".
المعلق:
في الحلقة القادمة نواصل الحديث عن ولادة الطيران..
3-
المعلق:
على مقربة من "نيويورك" سيحاول هذا الرجل واسمه "كول بانان" -أكثر طياري الولايات المتحدة جنونًا، وللمرة الأولى- الطيران بطائرة "يوريو 1910". منذ نصف قرن وهذه الطائرة المصنوعة من شادر وخشب الخيزران وأسلاك حديدية مهجورة في المخازن "كول بانان" قضى في صنعها عامًا بأكمله، وهكذا نجح في تشغيل المحرك القديم ذي الأربعين حصانًا.
الغاية بالطبع الحفاظ على تراث الأمس من أجل متعة الطيران والمغامرة، إنها لحظة الحقيقة، ها هو الفنان يطير دون مظلة للهبوط. وهكذا كانت ولادة الطيران وبدايته بهؤلاء الرجال.. وهذه الطائرات.
في البداية كانت هذه لحظة لقاء بين "رايت" و"بارمان" وزملائهما، مثل "بلير" قاهر "المانش" التقوا جميعهم في أسبوع الطيران في شهر أغسطس عام 1909 كان لقاءً يرفع معنويات هؤلاء الطيارين الرياضيين وأيقظ على الصعيد الآخر اهتمام الحكومة، هذا هو السيد "بالييه" رئيس الجمهورية الفرنسية جاء شخصيًا ليعبر عن مساندته لهذه الصناعة الحديثة، حيث بدأت المنافسة.
ففي "روسيا" جاء الفرنسيون ليعرضوا طائراتهم، وإلى "اليابان" جاء الأمريكيون يعرضون طائراتهم من نوع "كيبت"، للنجاح في بيع الطائرات لا بد من إثارة المشاعر، كالفوز في مسابقات عالمية والنجاح في سباق "باريس-مدريد" عام 1911.
"جول فيدرين" يلعب دور البهلوان في ساحة "سباستيان"، وقام بالدور على ما يرام؛ لأن طائرته متينة من نوع "موران"، وعرف "فيدرين" أنه في الصدارة فطار من الفرح وفاز بالشهرة، فقد أنجز مهامه في أربعة عشر ساعة بسرعة مائة وعشرين كيلو مترًا في الساعة.
كانت الطائرة أسرع من القطار ولا بد من دليل على تفوقها في السرعة وإمكانياتها بالتحليق فوق الجبال، وتمكن "جيو تشافيلز" من الطيران فوق جبال الألب، فالطائرة بمقدورها الربط بين القارات، وتمكن "رونان جاروس" من عبور المتوسط فلا بد من قهر المستحيل.
قفز بالمظلة وتخلى عن طائرته من طراز "بليريو"، ولكن ذلك زوده بفكرة أكثر جنونًا، وهي القيام بمناورات غير مسبوقة، ولم يجد ما يعيق رغبته تلك، وفي طائرة مغلقة فعل ذلك، وقد بلغ عدد المتفرجين عشرة آلاف متفرج، لقد أحس بفرحة عارمة؛ لأن الفوز كان كبيرًا لـ"بليريو" صانع الطائرة ودعاية واسعة لاسمه.. "بليريو للطيران".
كان ذلك عام 1912، أنتج السيد "بليريو" كتيبًا خاصًا له، وكذلك فعل "بارمان"، الذي شرع في تصنيع طائرات يتراوح ثمنها بين عشرة وثلاثين ألف فرانك، ولكي تتمكن من شرائها لا بد من أن تكون ثريًا.
الإيطاليون أول من استخدم الطائرات في الحرب عام 1911 خلال هجومهم على مناطق قريبة من "طرابلس"؛ حيث استخدموا "بليريو" و"ماكيو" و"تورو" وهي طائرات تهدد مواقع خصومهم، واستفاد الألمان من التجربة، ففي عام 1912 شكلوا ثلاثة أسراب للاستطلاع الجوي من طراز "فونج" و"بياتيك".
صنع البحارة الانجليز طائرات في مثل هذا المصنع الذي تم وضعه ضمن متحف السلاح الجوي الملكي في "لندن" الذي أقامه "جون تيلور"، والذي أضاع وقته هدرًا، فالمفروض أن ذلك تم في وقت سابق.
جون تيلور:
في ذلك الوقت كان هناك شعور بالأهمية في مجلس شئون الدفاع، فاعتادوا دائمًا أن يقولوا: دعوهم يتلذذون بطيرانهم ما داموا لا يتجهزون بالعتاد.
المعلق:
في "فرنسا" قال مدير شئون المدرسة الحربية العقيد "بوش": إن كل ذلك مجرد رياضة، وإن الطيران في الحرب لا قيمة له. "جورج بلانجيه" المهندس الشاب لم يكن موافقًا على قوله، وكان من الطيارين الشجعان، ورغم مرور ستين عامًا على ذلك الحديث ما زال عالقًا في ذاكرته، كيف كان من الصعب إقناع من أصروا على رأيهم؟!
جورج بلانجيه:
لقد أحاط الشك بالطيران كأداة استطلاع أولاً، ثم كأداة حربية ثانيًا، بعض الضباط ركزوا على عدم إمكانية تنظيم مسألة الطيران تحديدًا حين استخدام الأسلحة، وتحديد الأهداف مما قد ينجم عنه تحطم الطائرة أو سقوط أجنحتها.
المعلق:
ربما كان بعضهم مصيبًا في فهم تردد العسكريين خاصة عندما نرى طائرة مثل "كوردو روجيه" الذي لا زال يحمل بصمة الذكريات.
كوردو روجيه:
هذه طائرة صنعها الإخوة "كوردو"، حيث كانوا يعملون في مخلفات السيارات والطائرات، تبدو الطائرة هشة مدعمة بقضيبين من الصلب وألواح خشبية، ولم يشأ الطيار حبس نفسه في مقصورة أو قمرة قيادة، الطيار كان يخشى عدم التحكم بالقيادة، وبما يدور حوله.
الشعور أثناء قيادتها طبعًا ليس طبيعيًا، وقد تم تجهيزها بأجهزة زائدة لا تصلح ولا لزوم لها أبدًا، الطيار كان يعتمد على الظروف التقليدية في القيادة، كان يعتمد على الريح مثلاً والضوضاء وقطرات الزيت التي تصب على المحرك بين الحين والآخر.
وكانت هناك نظارات للحماية من رزاز الزيت، وكذلك كانت تُستخدم قطعة قماش لمسح النظارات، وكانت النظارات تُمسح باستمرار وبدونها لا يرى الطيار شيئًا.
المعلق:
إنها أعجوبة لا زالت تطير، على متن هذه الطائرة ذهب طيارو "فرنسا" إلى الحرب في الثاني من أغسطس عام 1914، الكابتن "بلانجيه" على متن طائرته كان يقوم بمهمة استطلاع، اقترب من الأرض ولاحظ حركة مريبة للجيش الألماني؛ فغير اتجاهه وسلك طريقًا إلى الشرق، وبلَّغ قيادة الجيش السادس.
طيارون آخرون سجلوا نفس الملاحظات منهم "لويه برجيه"، والملازم "فاتو" وتم تحويلها إلى الجنرال "جالينييه" ليعلم أن العدو قد حول اتجاهه. تغير مسار الحرب حيث أرسل "جالينييه" القوات، وشن "جافرين" الهجوم المعاكس وكسب المعركة، منذ ذلك التاريخ قدرت قيادة الأركان جهود الطيارين الذين أسهموا بتحقيق الانتصار.
هل كنت من المسئولين عن انتصار معركة مارن؟
بلانجيه:
نعم.. إذا شئت، كانت عمليات الاستطلاع الجوي تحت إمرتي، حيث كان لها الدور الفاعل في سير المعركة، جميع الأطراف المتحاربة كانت تحسب لطائرات الاستطلاع ألف حساب، ولكن كيف تسقط طائرة إذا كانت مسلحة؟! كانت طائرات "بليريو" تلاحقهم، لكنها دون فائدة.
المعلق:
في عام 1914 الطيار النمساوي "روزنبال" طار فوق المناطق المعادية، وأكثر الطيارين شهرة في ذلك الوقت هو "بيوتر ميسروك" كان مشحونًا بالغضب، وأحد ضباط القيصر انقض على طائرة الطيار النمساوي؛ فسقطت الطائرتان، وقُتل الطياران.
بعد ذلك بشهر وفي الخامس من أكتوبر عام 1914 شاهد طيار إحدى طائرات "فوازان" طائرة "فياتيك" كان اسمه "جوزيف فرانس" ويبلغ من العمر أربعة وعشرين عامًا، وهو الذي سيحدثنا عن ذلك.
الطيار جوزيف:
الطائرة كانت هنا، توجهت هكذا أعلى منها بحوالي مائتي متر، وهذا ساعدني في الانقضاض السريع حتى وصلت خلف طائرته، لا أظنه كان قد شاهدني.
المعلق:
رغم عدم السماح بذلك نصب "فرانس" على طائرته رشاشًا سبعة وأربعين طلقة، وهكذا حقق أول انتصار جوي في التاريخ؛ حيث قتل الطيار "شيشتينج" عشرين عامًا، والملازم "فانس جين" أربعة وعشرين عامًا.
الطيار جوزيف:
بعدها هبطنا في الحقول، احتشد الناس وقدمت لي إحدى السيدات باقة من الورود، لقد كنت في غاية الغبطة، لقد كنت بالفعل مسرورًا، فالإنسان في الطيران لا يشاهد القتلى على الأرض.
المعلق:
الآن سيجرب "فرانس" وزميله عملية قصف جوي، فحتى ذلك الوقت لم يكن الطيارون يلقون إلا بأسهم للدلالة على الطريق وأحيانًا بحجارة ذي علامات، مع نهاية عام 1914 بدؤوا بإلقاء القذائف القديمة والقنابل البدائية.
الطيار جوزيف:
كنا نحمل تلك القذائف القديمة لإلقائها على التجمعات المعادية ما أمكن، في تلك الفترة لم يكن سهلاً تحديد الأهداف من عالٍ دون مناظير، حيث يُكلف شخص بإلقاء هذه القذائف على الأهداف بشكل تقريبي.
المعلق:
تزايد نشاط الألمان لمجابهة الخطر الفرنسي، ففي نهاية عام 1915 كانت لدى الألمان حوالي خمسمائة طائرة مقاتلة، أسطول من الطائرات المتجانسة، يقودها شبان متحمسون من بينهم "فانس بيوستن" الذي مازال يذكر تلك الحقبة.
فانس بيوستن:
كانت العملية بالنسبة لنا شيئًا ممتعًا جدًا، وكان لا بد من الالتحاق بالطيران لقيادة الطائرات المقاتلة.
المعلق:
بطائراتهم التي رسموا عليها جماجم الموت خاض الألمان معارك فوق القوات الفرنسية وسيطروا على كل مكان في سماء فرنسا، لكن كل شيء تغير في فرنسا، غيره رجل هو الكولونيل "بايس" الذي حمل على عاتقه مسئولية تشكيل جيش قوي وحقيقي، تم اختيار القائد "بايس" لتنظيم عمليات القصف، وكان اختيارًا موفقًا وقد تمكن في ستة أشهر من تشكيل قوة من ثلاثة أسراب فيها من يلقي بالقنابل ومن يحدد الأهداف وهكذا نُظمت أول غارة على ألمانيا، لتنظيم عمل المقاتلات، اختار "بايس" رجلاً عنيدًا هو العقيد "دوروز" حيث أصبح طيارًا مشهورًا وأبدى حماسًا هائلاً.
كان اهتمامه منصبًا على تدريب الطيارين بكثرة، حتى وصل عددهم آلافًا في المدارس، من بين هؤلاء لمع نجم واحد منهم في بداية عام 1915 هل عرفتموه، إنه الفاكهي "اندريه لوجيه".
اندريه لوجيه:
لقد شدني الحنين إلى الطائرة، التي بدأت تعلم قيادتها بنفسي، وعليها تدرب العديد من الطلبة تحت شعارات الوطنية، كان ذلك هو عنوان الكتاب الذي رسمه "مارسيل جان جان" وكان أفضل من صور تلك اللوحات عن حياة هؤلاء الطيارين، كانت أعمارهم بين تسعة عشر عامًا وعشرين عامًا.
تم استدعائهم للالتحاق بثكناتهم كالآخرين، وأخذ الحماس يحدوهم في انتظار اليوم الذي يحلقون فيه على متن الطائرة، تمكنت من الطيران بسرعة وحينها كان تدريب الطيار يستغرق ثلاثة أشهر فقط، فعند دخولي مدرسة "كونتوا" في مايو تخرجت منها في الحادي والثلاثين من يوليو عام 1915.
قبل تعلم الطيران لا بد من القيادة بشكل مستقيم، وكان التدريب على طائرة ذات الأجنحة لا تسمح بالإقلاع، كنا نبذل جهدًا لمواجهة الرياح، وإذا صادفتنا هبة قوية على دفة الطائرة كنا نقوم بما يُعرف بالحصان الخشبي؛ حيث تدور الطائرة حول نفسها، وإذا لم يتمكن الطيار من إيقاف المحرك فالطائرة عرضة للتحطم، ولكن طائرة "كوردون 3" المكسوة بالقماش كانت تطير بشكل رائع، إنها طائرة خفيفة، قادرة على الطيران إلى أطراف الأرض، لذا كان الطيارون يرددون لمن أراد أن يموت في طائرة "كوردون"؛ ليس عليه إلا أن يحمل مسدسًا.
المعلق:
بعد أن أتقنوا فن الطيران تعلموا إطلاق الرصاص والرماية، المتطوعون.. جنود المدفعية القدامى.. الفرسان وغيرهم يحدوهم الأمل أن يصبحوا طيارين مقاتلين، وهكذا بدءوا بالتعرف على تسليح الطائرات بداية عام 1914 وكان إطلاق النار من الطائرات غير دقيق، خاصة مع طائرة بطيئة.
"بيير ديمو" حاول تركيب رشاش على طائرته بنفس فكرة الطائرة المقاتلة، ثم جرى بعد ذلك تركيب رشاش على الجناح يُطلق نيرانه فوق مجال المروحة، لكن ذلك لم يكن ملائمًا مع قيادة الطائرة، كان الرشاش مثبتًا في الأعلى، وله أداة تحكم سفلية عند الطيار، وليكون إطلاق النار أكثر فاعلية؛ تم تصميم عملية الإطلاق من خلال المروحة نفسها. "رونان جاروس" وضع على طائرته مروحة مدرعة، لكن فاعلية ذلك كانت قليلة.
الحل الحقيقي جاء على يد مهندس بولندي يعمل لدى الألمان، اسمه "انطونيو فوكر" إذ صمم المروحة التي تُخفي داخلها السلاح ويتم التحكم فيه من خلال عملية الدوران بشكل متزامن بين ريش المروحة، وهكذا يمكن إطلاق الرصاص عبر المروحة.
بعد هذا الاختراع جهز الألمان طائراتهم بالرشاشات التي قلما تخطئ أهدافها، هذا جعل الألمان سادة الجو، وعلى ارتفاع خمسة ألاف متر لم يكترثوا بالبرد ونقص الأكسجين، كانوا يبحثون عن طرائدهم الفرنسية.
ظل الألمان يحصدون الانتصارات وأصبحوا نسور الجو، واخترعوا مناورات قتالية جديدة مثل "ماكس ميليان" البالغ من العمر ستة وعشرين عامًا، والذي سجل خمسة عشر انتصارًا، "أوزفلت" الذي سجل عام 1915 أربعين انتصارًا، وكتب معاهدة الطيران المدني عام 1950.
هؤلاء الفرنسيون لا يدرون ماذا ينتظرهم؟!! في عام 1916 ضحى أغلبهم بنفسه في عملية الاستطلاع الجوي، أحدهم نجا بفضل الله، وكان نجمًا قبل الحرب كلاعب ملاكمة "جون كاربينتي" الذي طار في مهمة فوق "دومو".
جون كاربينتي:
كانت المهمة شاقة، والطقس كان غير ملائم، طرنا على ارتفاع منخفض، وعندما عادت كانت الطائرة مثقبة بالرصاص من جميع جوانبها، كنا نطير بشكل منخفض لجمع المعلومات وإبلاغها للقيادة.
المعلق:
هذه صورة من "دومو" وكالعادة دكتها القذائف صورة بشعة وعنيفة، عندما كانوا ينظرون من علٍ ظنوا بأنهم فقط من يُضحي بروحه لصالح الوطن، لكن الخطر يطال الجميع في الجو وعلى الأرض.
فلنستمع إلى شهادة شاهد عيان ممن بقى حيًا، إنه كولونيل "باردو".
الكولونيل باردو:
كيف تكون معنويات رجل نجا من ردم الخنادق، أو أمضى الليل بين الأنقاض، أو عانى من الجوع والعطش عدة أيام؟
المعلق:
مكان فسيح ترك الطيران الفرنسي فيه آثاره، الطائرة الرئيسية من طراز "جي دي نيو بورك" سرعتها تصل مائة وخمسين كيلو مترًا في الساعة بمحرك صغير قوته ثمانون حصانًا، جيدة التسليح، قادرة على المناورة في مواجهة الألمان، وتم تسجيل انتصار جديد للفرنسيين. ليس سهلاً أن يُكتب لك النصر، لكن الطيار "ديبان" غير مقتنع بذلك، ويُصر على إسقاط طائرة الخصم في منطقته.
الطيار ديبان:
كنا عند العودة نرى من لديه رصيد أكثر من الانتصارات؛ كي يقوم بدفع حساب الإفطار.
المعلق:
"جيلبير ساردي" سجل خمسة عشر انتصارًا.
جيلبير ساردي:
في الحرب لا مجال للعواطف، إذا لم تقم بإسقاط الخصم سيسقطك، لكن بعد انتهاء المعركة لا نحمل الكراهية.
المعلق:
الطيار المقاتل "أرماندو ترين" سجل خمسة عشر انتصارًا، لم يكن هؤلاء آخر ضحايا حلم الإنسان بالطيران والسيطرة، ولم تكن هذه المغامرات المجنونة إلا مقدمة لجنون لا محدود لعالم الطيران المعاصر.
تابعونا في الحلقة القادمة ....
************************************
منقول بعد إضافة تعديلات:biggrin::