لاشك أن المصالح الدوليّة والإقليمية، والدول العربيّة “الدينودنيوية”، باتت تتقاطع بشكل فاضح بعد عقود من السّريّة، وأفرزت مقولات ورؤى جديدة تواكب العصر وتتماشى مع حاجات الإنسان الغربي المتزايدة، وفي سيرها آخذة بالتجديف من فوق بحر من الدماء العربيّة وشركائهم في الأرض والوطن.
ولم تعد فن السّياسة حكرا على الغرب وحدهم، إذ بات التلميذ يلوي ذراع معلمه، فمن كان في الأمس طفلا وراعيا قبليا يتعاطى السّياسة، بات اليوم محترفا سياسيا بامتياز، ومن كان خليل السّجود والركوع وحب الوطن والله، استحال إلى خليل المجد والخلود والفردانية، دائرا دفة الصراع من عربي غربي إلى عربي عربي، من صراع وطني يتوق إلى التحرر والانفتاح العقلي، إلى صراع أخوي يتوق للمجد والسّلطة وفق منطق العصبيّة القبليّة “الديالكتيك الخلدوني” التي تحرّك الصراع العربي العربي، ناهيك عن كونه مندوب المصالح للقوى والشّركات التابعة لدولها وفي خدمة مواطنيها، إذ أن وراء كل “صندويشة” همبرغر أو “فروج” كنتاكي في دول المركز، يختفي خلفها جوع أطفالنا ومعاناتهم وعبوديتنا...
الصراع حالة طبيعيّة بين البشر، قد يتخذ أشكالا متعددة، بيد أن لكل مرحلة صراعها الخاص وفق منطقها ومنظومتها الأخلاقيّة والتكوينية، وتأخذ الصراع أشكاله الطبيعيّة حين يكون في مساره متفقا مع قوانين تطوره وسيره الغائيين. ويفقد الصراع ذاتيته مالم يكن وفق المنطق المتكون منه.
من الصعوبة بمكان أن نفصل الصراع العربي العربي الحالي عن سياقه التاريخي، والتاريخ يفصح عن نفسه ببلاغة. قديما كانت العرب مجموعات قبليّة متصارعة ومتناحرة “وأصعب الأمم انقيادا بعضهم لبعض للغلظة والأنفة... والمنافسة في الرئاسة”1.
إلى أن جاء النبي محمد ( ص ) بالإسلام ووحدهم تحت راية الدين، استطاع الرسول توجيه الصراع العربي إلى الخارج دينيا، نحو الفرس والبيزنطيين والأمم الأخرى، وكان بداية لتأسيس دولة إسلاميّة دنيويّة لتتحول فيما بعد، وبعد وفاة الرسول إلى دولة قبائل وطوائف وأسر، تتصارع من أجل الملك وخلافة الرسول، كان لابد لغاية الحكم أن تكون بحيلة دينيّة لان “العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينيّة من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين” 2، هكذا فهم ابن خلدون المجتمع العربي آنذاك.
إن انقلاب الإنسان العربي على وضعه وواقعه المؤلم والمسلوب منه في الزمن المعاصر، كان فاتحة لصراع حقيقي من أجل نيل حريته وبقائه الطبيعيين، لكنه لم يكن يمتلك مفتاح التصالح مع الذات كي يتصالح مع الآخر، ولم يستطع التجرد من براثن موروثه القومي والديني التاريخيين المزمنين من جهة، وسطوة الحاكم التاريخي المتزامن وجبروته وطموحه وتبعيته اللامتناهيّة من جهة أخرى.
إلا أن محاولته وانقلابه هذه لم يكن إلا إحياء للماضي المسعور بكل صراعاته الدمويّة والوحشيّة، أشبه بنبش في قبر لمومياء محاطة بقوانين السّحر والموت، وكأن القوانين التي تسير المجتمعات العربيّة ليست إلا تلك التي وصفها واستنتجها ابن خلدون عن العصبيّة القبليّة، وعوائد التوحش، وانتهاب ما في أيدي الناس، وان العرب اذا تغلبوا على أوطان أسرع الخراب إليها... الخ، التي تنافي الحضارة والعمران. 3
إنّ ثورة الإنسان العربي الحديثة وصراعه ضد الحاكم الطاغي، هي ثورة رجل مريض، قد أنهكه موروثه وقيمه ومقولاته من جهة، وضياعه واغترابه القومي والدّيني من جهة أخرى، لذلك من الصعوبة لصراعه أن يخرج بقوانين جديدة، سوى تلك التي تنتج نفسها والماضي معا.
ربما الإنسان العربي ككائن بيولوجي طبيعي متمدن لم يتعين بعد، فهو مازال ذلك العربي البدوي التفكير، الذي وصفه ابن خلدون بأشد العبارات قسوة. والحاكم العربي نفسه ليس بمنأى عن هذا التفكير بجبلته وتكونه وخلقته، لا يمكنه الخروج عن موروثه التاريخي فهو ابن التراث والثقافة الكميّة المتراكمة، غير قادر على التنازل عن الملك ديمقراطيا أو حقناً للدماء، كون مورثات البداوة المتعلقة بالزعامة، والملك العربيين، متجذرة فيه “فالعرب متنافسون في الرئاسة وقل أن يسلّم أحد منهم الأمر لغيره وإن كان أباه أو أخاه أو كبير عشيرته إلا في الأقل وعلى كره” 4.
هذا الصراع العربي الدموي بين السّلطة الحاكمة والشّعب، وبين الشّعب ذاته، ربما محاولة لأن تأخذ شكلا وصراعا حقيقيا هادفا للمستقبل، أو فاتحة للانفصال عمّا يعيق حركته ونموه، وخلق إنسان عربي ضمن مجتمع متمدن بعيد عن قيم البداوة والتوحش، لكن الروح الجاهليّة البدويّة وانتمائه القبلي تجري في خطواته وسلوكه.
وكأن روح الديالكتيك الخلدوني المذكور في كل حركة أو انعطاف له، لدى مشاهدة ما يجري في العالم العربي وما يسمع من براكين بشرية، تقذف بالحمم الطائفيّة والمذهبيّة والأصولية، من باطن التاريخ نحو الحاضر العربي المغترب والمهترئ والغارق في الماضي، في غياب كامل للعدالة والقانون، متجسدا في تعبير أرسطو أن "الإنسان عندما يكون كاملا هو أفضل الحيوانات، وحين ينفصل عن القانون والعدالة يكون أسوأها 5.
والسّؤال أين تتجه هذه الثورات العربيّة المعارضة اليوم؟ وما هو هدف الثورة والصراع؟
طالما أن هدف الحاكم المتصارع واضح ومختزل في كرسيه وتبعيته للقوى العالميّة التي تسيطر حتى على أحلامنا ونمط عيشنا.
وهل تمتلك المجتمعات العربيّة الإرادة الحرة، والوعي السّياسي المستقل؟ وهل يكون بمقدورها خلق دول ومجتمعات على أسس المواطنة واحترم حقوق الإنسان، واحترام حقوق الأقليات والقوميات غير العربيّة، وقيم المجتمع المدني؟
أولا-القارئ للوضع العربي وأزماته الثورية، لا يمكن أن يغفل عنه خطاب الطرف المعارض الذي لا يقل دهاء وحنكة عن الحاكم، فهو إما قومي للعظم وإما ديني حتّى النخاع، كثيرا ما يخرج الخطاب عن سياقه الصوري ليفصح لنا عما أبدلوه، إنّ مفرداته ومقولاته وتصوراته ومشاريعه ماهي إلا تحايل المكونات والشّعوب التي تشارك العرب في الأرض والتاريخ والوطن، هي تماثل “نظريّة أرسطو حول المجتمع المدني وفي وصفه للمواطنة حين تم استبعاد العبيد والأطفال والنساء والغرباء عن أثينا..” 6.
بالإضافة إلى صراعه وثورته؛ التي تختزل في الملك والسّلطة والقيادة، متحاشيا بقصد كل الذوات المختلفة عنه والتي تتألف منها الدولة والمجتمع، بما فيها الشّكل الاقتصادي والسّياسي والاجتماعي الذي سيكون عليه الإنسان في الدولة التي سيديرها. أن القراءة الجوهريّة لسياسة ومشاريع الحكام العرب ومعارضيهم لا تتجاوز سقف “الحفاظ على البقاء البيولوجي للمواطن العربي” على حد تعبير جاد الجباعي. 7
ثانيا-المجتمعات العربيّة لم ترتقي بعد إلى مفهوم المجتمع المدني الذي يتجسد في الإرادة الحرة للأفراد والجماعات، وساحة الفعل السّياسي والاقتصادي الديمقراطي الحر، والمتعدد وفق صيغ المواطنة، التي تتناولها الفلسفة وعلم السّياسة والاجتماع، كونها كانت في حالة حجز وعجز وإقصاء ومنهكة في الصراعات التاريخيّة الأبوية.
وحالة التمدن بمفهومها السّياسي في المجتمعات العربيّة لا تخرج من حيز الفكر القومي الديني أو الديني السّياسي، وهما أعلى سقف لهذا المفهوم في وعيها، ولا مكان للفرد والجزئيّة في كلتا الحالتين حيث يذوب في مصلحة الجماعة والكلية. هذه المجتمعات شموليّة الرؤيّة والعمل، كونها ذات طابع ديني وقبلي متأصل مستهلك لا ينتج إلا نفسها.
والأسرة البطريركيّة هي نموذج مصغر للمجتمع والدولة التي يتكون منها، حيث لا مكان لخصوصيّة الفرد فيها حيث نجد الأب يبني عرشه وزعامته ودولته الجزئيّة داخل الأسرة على حساب حريّة وحقوق أفراد العائلة، محاكيا بذلك الدولة والعائلة الكبيرة، محققا القانون الذكوري الجمعي، وبذلك تنفي عن إنسان المجتمع العربي صفة المواطنة كونه لاوجود للفرد والحريّة الفرديّة، لاغيا في الوقت ذاته كل شروط الانتماء إلى المواطنة والمدنية، وتغدو كل المفاهيم مسائل عامّة واجتماعيّة بما فيها الدّين الذي هو مسألة خاصّة، ليغدو شأنا من شؤون الدّولة، وتبقى مسألة فصل الدّين عن الدولة ضربا من الخيال . وهنا يغيب الوعي السّياسي بكل أشكاله لينحصر دوره في ميدان القيم الأخلاقيّة والمواعظ والتراتيل الدينية...
إن الذين يقودون الثورات العربيّة يسيرون على نهج حكامهم، الصراع على الملك، إنتاج ماهو منتج مسبقا، الهيمنة المطلقة مقابل تعليف المواطن، تلك الهويّة ما قبل الاجتماعيّة، الانتقال من السّياج القومي إلى السّياج الديني الطائفي وهكذا دواليك تختزل الحياة في البلاد العربية، غير مدركين أن الدولة تبنى على نظام الحاجات أو تلبيّة للمتطلبات المجتمعيّة وفق إرادة الشّعب، وهي تجسيد لرغبات الأفراد الأجزاء، التي يتكون منها المجتمع المدني، الذين تنازلوا عن جزء من حرياتهم للدولة مقابل مصالحهم وأمن حياتهم وعملهم وضمان حرياتهم الباقيّة في العقد الاجتماعي على حد تعبير جون لوك.
هكذا يفهم طبيعة الصراع والسّلطة والحكم داخل المجتمعات العربيّة، وتدار عجلتها من الخارج، والمدنيّة السّياسيّة التي يسحرنا بها أقنعة الحكام ورموز سلطاتها وإعلامها، ماهي إلا أشكالا من الخداع والزيف المرئي والسّمعي، وليس ببعيد أن يكون نشاط المجتمعات العربيّة له قواعده وميدانه الخاص، لم يفهم ويكتشف بعد، رغم محاولات ابن خلدون الخجولة والقاسية.
الهوامش:
1-مقدمة ابن خلدون، الفصل السّابع والعشرون.
2-نفس المصدر الفصل السّابع والعشرون.
3-نفس المصدر الفصل السّادس والعشرون.
4-نفس المصدر الفصل السّادس والعشرون.
5-جون إهرنبرغ، المجتمع المدني التاريخ النقدي للفكرة، المنظمة العربيّة للترجمة، ترجمة د علي حاكم صالح .
6-نفس المرجع السّابق.
7-جاد عبد الكريم الجباعي، المجتمع المدني، هويّة الاختلاف.
http://www.alawan.org/article12143.html