البداية نهاية 1971.. وبداية 1972.. أحس السادات، وكان ذكياً جداً، ولديه حاسة سادسة نشطة للغاية، أن بعض المعلومات السياسية والعسكرية الدقيقة جداً كانت تصل إلى إسرائيل بشكل كامل ودقيق، رغم أنها كانت متداولة بين أشخاص معدودين، وفى إحدى المرات استدعى أحمد إسماعيل، رئيس الجهاز، وقال: «هناك شىء غير مضبوط.. بعض أصدقائنا يبلغ معلومات دقيقة عن مصر وجيشها ورئيسها إلى إسرائيل.. وأنا لا تفاصيل إضافية عندى.. لكنى عايز أسمع بأذنى وأرى بعينى حقيقة ما يحدث.. من الآخر أريد أن تضعوا لى كرسياً فى هذه الاجتماعات».
عاد إسماعيل إلى «الجهاز» وطلب الاجتماع مع القيادات.. كنا سبعة تقريباً.. وحكى رواية السادات له.. وأضاف عليها «إن الرئيس لا يملك أى معلومات إضافية.. ولكنه يطلب نتائج سريعة».
طوال الاجتماع الذى استمر ثلاث ساعات بقيت صامتاً.. لم أتكلم على الإطلاق.. وبعدها قلت لإسماعيل: أعطنى شهرين فقط لدراسة الموضوع.. وفى نهاية الفترة وبالفعل كان لدينا الخيط الأول.
اللواء محمد رفعت جبريل
■ وما هو؟
- معلومات متناثرة انطلقت منها.. وهى أن بعض القادة الأوروبيين أو أحدهم، كان صديقاً لعبدالناصر ومن بعده السادات.. وكان هذا الزعيم يظهر دائماً من خلال تصريحاته أنه ضد أمريكا وسياستها فى المنطقة.. وكان كثيراً ما ينتقد إسرائيل، إلا أن قيادات المخابرات فى بلده كانت تنسق مع الموساد.. وكان هذا الزعيم له صلات سرية مع واشنطن.
افترضت فى «الخيط الأول» الذى توصلت إليه أن مخابرات هذه الدولة تتبادل المعلومات مع «الموساد»، وكان الإسرائيليون ماهرين فى هذه المنطقة، خاصة مع الأوروبيين.
قدمت المعلومة لرئيس الجهاز.. الذى استأذن السادات فى استكمال المسيرة.
الرئيس أعطى أوامره بمواصلة عملنا، رغم صداقته مع رئيس هذه الدولة.. وكان «الخيط الثانى» الذى جاءنى فى نفس الفترة من ضابط المخابرات فى إحدى العواصم الأوروبية أن رجال الموساد فى هذه الدولة اتخذوا موقعاً جديداً لاجتماعاتهم.. وبعدها علمنا أنه الموقع المختار للاجتماعات الشهرية بينهم وبين مخابرات الدولة الصديقة لمصر.
كان المكان عبارة عن شقة متوسطة الحجم فى الدور الخامس من عمارة مأهولة بالسكان.. جمعنا المعلومات، ثم قمنا بتأجير محل فى نفس العمارة.. وعلى مدى شهرين كاملين قمت ومعى فريقى بدراسة يوميات العمارة ... وسلوك كل سكانها.. كنت أراقب البواب وزوجته.. واكتشفت أنها تخونه مع آخر، وأنه بمجرد خروجه تستقبل هذا العشيق.. وقمنا بتجنيد هذه السيدة.. أعطيناها أموالاً.. وهددناها بأننا سنبلغ زوجها بأمر عشيقها إن هى أفشت أسرارنا.
كنا قد أوهمناها بأننا لصوص وأننا نخطط لسرقة إحدى الشقق.. وبذلك سهلت لنا دخول العمارة والخروج منها.. وكذلك إلى الشقة التى يتخذها الموساد مقراً لاجتماعاته.
بعد هذه الدراسة المبدئية عدت إلى القاهرة لاختيار الطاقم الفنى الذى سيزرع أجهزة التنصت.. وأتذكر أنه فى أحد الاجتماعات داخل «الجهاز» اقترح أحد الزملاء دخول الفريق الشقة لمدة 5 دقائق فقط وزراعة أجهزة لاسلكى، لكننى رفضت هذا الاقتراح فوراً، وقلت إنهم فى الاجتماع الأول سيكتشفون عملنا هذا وأننا نتجسس عليهم، ثم يغيرون المكان.. وقلت: المطلوب وضع أجهزة سلكية وفى مواقع طبيعية جداً.. ومن خلال وصلات الهاتف والكهرباء.. جمعنا خبراء الاتصالات والضباط بالطبع، وقمنا بإجراء عمليات محاكاة للموقع قبل السفر، أى أننا تدربنا على كل شىء قبل مغادرة القاهرة، ثم دخلنا البلد فرادى.. وجعلت كل واحد يسكن فى منطقة مختلفة عن الآخر، وأتحت لكل واحد منهم فرصة مشاهدة المكان وظروفه.
واخترت ساعة الصفر، وكان يوم إجازة فى هذا البلد، ومعظم سكان العمارة كانوا خارج المدينة.. وأعطيت توقيتات محددة للطاقم.
كان خادم العمارة غير موجود.. وسهلت زوجته لفريق العمل الدخول، وكنت أراقبها بنفسى لأتأكد من دقتها وإخلاصها لنا.
وللأمانة التاريخية، فإن سر نجاح هذه العملية وبشكل باهر كان العمال والفنيين المصريين، وأتذكر أننى كتبت فى تقرير «الفنيون الذين شاركوا فى العملية كانوا عيال فراودة»، فلو أنهم ارتكبوا أى خطأ لكانت فشلت العملية.
دخلنا المكان، وزرعنا فى الحوائط خطاً سلكياً عن طريق شبكة الكهرباء الموجودة بالحائط.. وجرى تقفيل المكان ودهان الحائط بنفس اللون الأصلى للشقة.. ومددنا السلك إلى منور العمارة، وبطول أربعة أدوار ولنوصله بحائط المحل الذى كنا قد استأجرناه من قبل، وكنت أدرب اثنين من الفنيين للقيام بمهام فنى واحد.
وأتذكر أنه خلال هذه العملية كان علينا إخفاء الأسلاك وإنزالها إلى الأسفل.. وكان مدخل العمارة مفتوحاً والأسانسير يعمل.. وخرج اثنان من الفنيين للقيام بهذه المهمة.. ولأن الاثنين كانا متحمسين جداً وتدربا على ذلك جرى بينهما نقاش حاد وبصوت عال.. وانزعجت من الصوت، واستدعيتهما على الفور، وصفعت كل واحد منهما على وجهه.. وأمرت الذى رفع صوته أكثر أن يقوم هو بالمهمة.
كانت العملية دقيقة وجريئة ومكشوفة.. وكنا نعلم أننا إذا انكشف أمرنا فلن يساعدنا أحد.. فهذه طبيعة عملنا.. والأخطر أن الدولة التى تمت فيها عملية التنصت كانت تطبق عقوبة الإعدام على من يستخدم أراضيها للتجسس.
انتهينا من عملنا الفنى.. لكننا دخلنا فى دوامة من الشك.. فمن يضمن أن تكون الأجهزة التى زرعناها دقيقة فى تسجيل الاجتماعات وبدون شوشرة.. وعشنا أسبوعين من القلق، إلى أن جاء موعد اجتماع الموساد وأصدقائه.. كنا قد أغلقنا المحل علينا.. ودخلنا فى نوبة من الصمت والقلق الذى لا يقطعه إلا الدعاء والرجاء إلى الله بإنجاح عملنا.
وفى الموعد المحدد تماماً.. حصلنا على صوت نقى ومسموع.. كان الصوت واضحاً لدرجة أذهلتنا جميعاً.. وأخذنا نبكى.. ونسجد لله شكراً.. وعدنا لعملنا لنحقق للسادات ما أراده «وضعنا له كرسياً فى اجتماعات المتآمرين ضد مصر».
ولم أعد إلى القاهرة إلا وبحوزتى شرائط تسجيل لـ4 جلسات كاملة.. وسلمتها على الفور لأحمد إسماعيل، رئيس الجهاز، وبعد سماعه لها طلب مقابلة الرئيس السادات فى الصباح الباكر وأسمعها له.
وأعيد وأؤكد أن السادات كان ثعلباً حقيقياً، فقد استخدم هذه الدولة ورئيسها بشكل رائع فى إيصال معلومات بعينها إلى الموساد.. أى أنه استخدمهم فى عملية الخداع الاستراتيجى للحرب.. والمضحك أن الذى كان يقوله السادات لرئيس هذه الدولة كنا نسمعه فى الاجتماع التالى على لسان رئيس مخابراتهم أو من يمثله وهو ينقلها لرجال الموساد، وسجلنا عشرات الجلسات لهذه الاجتماعات التى استمرت حتى نهاية الحرب، ولأن سر نجاح هذه العملية تمثل فى كفاءة الفنيين المشاركين فيها فقد طلبت لهم من أحمد إسماعيل مكافآت استثنائية تتجاوز لائحة المكافآت الزهيدة فى هذا الوقت.. والتى اقترحها المسؤولون الإداريون فى الجهاز.
الرئيس الراحل محمد أنور السادات
■ وأنت.. على ماذا حصلت؟
- مكافأة.. لا أتذكر قيمتها.. والأهم وسام من الرئيس السادات.
■ أى أنك حصلت على وسامين من السادات، أحدهما بعد عملية هبة سليم.. والثانى بسبب التنصت على الموساد، والتى سميت بسببها فيما بعد «الثعلب»!
- بالفعل.. ولكن عبدالناصر كرمنى قبل ذلك.. كما حصلت على تكريم خاص من الرئيس مبارك.. ولى صور عديدة معه.
■ بالمناسبة.. تردد أن دولاً عربية شاركت فى توصيل معلومات بعينها عن الحرب وموعدها إلى إسرائيل.. هل رصدتم وجوداً لهذه الدول فى العاصمة الأوروبية التى تحدثتم عنها؟
- الاجتماع.. كان يتم بين ممثلين عن «الموساد» وقيادات من مخابرات الدولة الأوروبية التى كانت تدعى الصداقة لمصر.
■ هذه الدولة كانت من مؤسسى حركة عدم الانحياز إلى جانب مصر والهند؟
- لن أعلق على كلامك.. قلت لك لن أبوح باسم هذه الدولة أبداً!!
http://www.almasryalyoum.com/news/details/533238
http://www.almasryalyoum.com/news/details/533238