السلام عليكم اخوة الايمان اقتناعا مني بانها تجربة فريدة ورائعة على مستوى العالم الاسلامي اقدم لكم هدا الموضوع للكاتب المغربي رشيد سليماني الذي يتحدث عن الدروس الحسنية في المغرب الشريف وعن نشاتها واتمنى ان يدعمنا الاخوة المغاربة بمعلومات اكثر عن هده الدروس الرائعة وجازاكم الله خيرا
إحدى جلسات الدروس الحسنية
سنة حميدة تفردت بها بلاد المغرب الأقصى من دون سائر بلدان المسلمين، تلك هي الدروس الحسنية الرمضانية التي دأبت رحاب القصر الملكي بالرباط على احتضانها منذ النصف الأول لعقد الستينيات، حيث شكلت إحدى تجليات الهوية الدينية للدولة المغربية، كما أراد لها الملك الراحل الحسن الثاني -رحمه الله- أن تكون.
إنها دروس يكفيها فضلا أن تحفها الفيوضات الرحمانية لشهر الصيام، وأن تشملها الفضائل الربانية لمجالس الذكر، وتكسوها خيرية التفقه في الدين بما تستلزمه من إحاطة واسعة بعلوم شريعة الإسلام السمحة، واستيعاب متبصر لما استجد في أوضاعنا المعاصرة، وما تغير من أحوالنا المعيشية، وصولا إلى المزاوجة المنشودة بين فقه التأصيل وفقه التنزيل؛ الأمر الذي لمسناه بوضوح، ليس فقط في تعدد الموضوعات المطروحة للدرس والتحليل، ولكن أيضا في اختلاف زوايا النظر والمعالجة.
وسنحاول في مقالنا هذا التطرق قدر الإمكان إلى الظروف التي نشأت فيها الدروس الحسنية الرمضانية، وكذا أهم ملامح التطور الذي شهدته على امتداد العقود الأربعة التي انصرمت من عمرها، إضافة إلى الخصائص التي ميزتها وكذا بعض القرارات التاريخية التي واكبتها، مع التطرق إلى مواقف مثيرة تخللتها؛ قبل الحديث عما آلت إليه في العهد الجديد، لنختم بعد ذلك بنظرة استشرافية لمستقبل هذه الدروس الرمضانية في المغرب وخارجه، إذا ما قدر لهذه التجربة الفريدة أن تنتقل لبلدان إسلامية أخرى.
ظهرت الدروس الحسنية الرمضانية لأول مرة في غرة شهر رمضان المبارك من عام 1382 هجرية، الموافق لعام 1963 ميلادية، وتزامن ذلك مع انتخاب أول برلمان مغربي في ظل مخاض سياسي عسير شهدته البلاد في تلك الآونة برغم حداثة عهدها بالاستقلال؛ وهي يومها أحوج ما تكون إلى تحصين مناعتها الحضارية قبالة تدفق موجات الاستلاب الأيديولوجي والتغريب الثقافي العاتية، وكذا إلى الذود عن حياض هويتها الإسلامية التي باتت مهددة بتنامي المد الشيوعي الإلحادي وصعود نجم التيار القومي العلماني.
وهكذا رأت النور ولم يمضِ على تولي مؤسسها الملك الراحل الحسن الثاني مقاليد الحكم سوى عامين، وبعد مرور سنة على إقرار أول دستور عرفه تاريخ المغرب المعاصر، والذي صدرت ديباجته بالتأكيد على إسلامية الدولة المغربية، ونص في فصله السادس على أن الإسلام هو دين الدولة الرسمي، كما جعل الفصول المتعلقة بالدين الحنيف في منأى عن أي تعديل أو تبديل.
وقد كان لإطلاق المشرع الدستوري المغربي لقب أمير المؤمنين على ملك البلاد بالغ الأثر في حمل الراحل الحسن الثاني على محاولة ترجمة بعض من تلك المعاني على أرض الواقع، حيث وجد في الدروس الرمضانية مناسبة لإعادة الاعتبار لمكانة العلماء وتأكيد دورهم التوجيهي داخل المجتمع، وهذا ما ترجمه بالفعل التقليدي الذي جرى اعتماده في ترتيب مشهد هذه الدروس؛ والذي يجعل واحدا من العلماء المدعوين يعتلي المنبر بقصد إلقاء الدرس المقرر بحضرة الملك والأمراء والمستشارين، هذا إلى جانب أعضاء الحكومة يتقدمهم الوزير الأول، وكذلك رئيسا مجلسي النواب والمستشارين، ورؤساء الفرق البرلمانية، وأعضاء الدواوين الوزارية، وكبار ضباط الجيش، فضلا عن العديد من الشخصيات العلمية والثقافية التي عادة ما توجه لها الدعوة لحضور مثل هذه المجالس.
ويجلس أعضاء السلك الدبلوماسي شهودا على هذا الموقف الذي يتمتع فيه صاحب الدرس بالحصانة ضد أي اعتراض أو تعقيب من قبل الحاضرين؛ فالكل مطالب بالإصغاء لما يقوله العالم الذي يكون حرا في اختيار موضوع الدرس. كما أن البث المباشر -عبر أمواج الإذاعة الوطنية ومن خلال شاشة التلفزة- يجعله في حل من مقص الرقابة الذي عادة ما يحد من حرية تعبير العالم عما يود إبلاغه لملايين المشاهدين والمستمعين، خاصة في حضرة ملك البلاد والماسكين بزمام الأمور فيها من أمراء ووزراء وقادة للجيش.
أضف إلى ذلك أن هذا المنبر درجت على اعتلائه نخبة من الراسخين في العلم الذين لا يخشون في الله لومة لائم، نخبة من جهابذة العلماء الذين لم يرتضوا قط الركون إلى الظالمين، ولا لُوِّثت صحيفتهم بمداهنة حاكم أو ممالأة ذي سلطان. وحسبنا أن نذكر من بينهم، على سبيل المثال لا الحصر، الإمام المجدد "أبو الأعلى المودودي"، وشيخ الأزهر السابق جاد الحق علي جاد الحق، والعلامة المجاهد الشيخ عبد الفتاح أبو غدة -رحمهم الله جميعًا- والزعيم الشيعي الإمام موسى الصدر الذي اختفى في ظروف غامضة بالقطر الليبي بعد زيارة قام بها إلى هذا البلد تلبية لدعوة من العقيد القذافي، والعلامة الشيخ يوسف القرضاوي حفظه الله، إلى جانب إخوان لهم من المغرب من مثل العلامة المجاهد علال الفاسي والفقيه الحجة الرحالي الفاروقي، والشيخ عبد الله كنون رحمهم الله تعالى جميعا.
أما بالنسبة للوقت المحدد لإلقاء هذه الدروس فبعيد صلاة العصر، على أن تستغرق مدة الإلقاء ما بين خمسة وأربعين دقيقة وستين دقيقة. وفي حالة ما إذا كان الموضوع طويلاًَ وتطلَّب وقتا أكثر، فإنه يلقى في حصتين، كما كان الأمر دائما مع الفقيه الأصولي الشيخ محمد الأزرق الذي اعتاد أن يخصه الملك الحسن الثاني بيومين.
وجرت العادة بأن يلقي وزير الأوقاف والشئون الإسلامية المغربي الدرس الافتتاحي لهذه السلسلة الرمضانية، على أن يعقبه في اليوم التالي درس لعالم من خارج المغرب، فعالم مغربي،... وهكذا دواليك.
وعقب ختم الملك للمجلس بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، يتقدم العالم المحاضر للسلام عليه، وتكون مناسبة لكي يهديه نسخا من مؤلفاته ورسائله العلمية وغيرها من مصنفاته.
وفي صبيحة اليوم التالي تتم مناقشة ما جاء في الدرس بحضور السادة العلماء والعديد من المهتمين في قاعة مخصصة لذلك بمقر وزارة الأوقاف. وتزداد حدة النقاش بالنظر إلى حساسية موضوع الدرس، كما كان الشأن مع الطرح الذي قدمه الدكتور عبد الصبور شاهين بخصوص استخلاف آدم عليه السلام؛ حيث عرضه لأول مرة في إحدى الأمسيات الحسنية الرمضانية، وقوبل باعتراض شديد من طرف العلماء المشاركين.
وقد كان اختتام سلسلة الدروس الحسنية يتم في اليوم العاشر من شهر رمضان الذي يتزامن وذكرى وفاة الملك محمد الخامس رحمه الله، قبل أن يتم العدول عن ذلك، ويرجأ تاريخ الحفل الختامي إلى ليلة السابع والعشرين من شهر الصيام، التي هي ليلة القدر على الراجح من أقوال العلماء. ويشرع في مراسيم الحفل بعد الانتهاء من صلاة التراويح، بتلاوة آيات بينات من الذكر الحكيم، يتلوها الفائز بالجائزة الملكية في المسابقة الوطنية للحفظ والتجويد، والذي يتسلم الجائزة المذكورة نقدا من يد الملك شخصيا.
بعد ذلك يتقدم أحد العلماء المغاربة الأجلاء بإلقاء درس ختم صحيح الإمام البخاري -رحمه الله - ينهيه بتذكير الحاضرين بالحديث الذي ختم به الجامع الصحيح، والذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم).
إثر ذلك، يقوم أحد العلماء الضيوف، باسم كافة العلماء المشاركين، بإلقاء كلمة شكر وامتنان للملك بالمناسبة. وعادة ما يتخلل هذا الحفل الختامي إلقاء بعض القصائد الشعرية المستلهمة من تلك الأجواء الرمضانية المباركة. أما الختام فيعود للملك الذي غالبا ما يغتنم مثل هذه الفرصة للإعلان عن قرارات مهمة في سائر المجالات.
لعل أول ما يلفت انتباه الناظر في المسار التاريخي للدروس الحسنية الرمضانية هو استقطابها للعديد من العلماء المنحدرين من شتى أنحاء العالم، ممن اختلفت ألسنتهم وألوانهم بينما ائتلفت قلوبهم على عقيدة التوحيد ويمموا جميعا نحو قبلة واحدة. منهم أعلام في فقه الشريعة، وجهابذة في الفكر الإسلامي، ورجال دعوة ذاع صيتهم حتى سارت بذكرهم الركبان.
ماذا عسى المرء أن يقول بشأن سلسلة دروس تناوب على إلقائها نخبة من ورثة الأنبياء الأفاضل من حجم العلامة المجدد أبي الأعلى المودودي، والشيخ أبي الحسن الندوي من الهند، والإمام موسى الصدر من لبنان، والشيخ محمد متولي الشعراوي من مصر، والشيخ محمد سعيد رمضان البوطي من سوريا، والشيخ محمد الحبيب بلخوجة الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي بجدة، والشيخ عبد الله بن عبد المحسن التركي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي، والدكتور عصام البشير من السودان، والدكتور طه جابر العلواني من أمريكا...؟ والقائمة طويلة.
أسماء كفيلة بإثقال ميزان هذه المجالس العلمية وإحلالها المكانة التي تستحقها. حتى إن رئيس دولة المالديف "مأمون عبد القيوم" قد حرص على أن يضم اسمه إلى هذه الكوكبة من العلماء من خلال نيل شرف إلقاء درس في سلسلة الدروس الحسنية حول موضوع "الاجتهاد وضرورته الملحة لمعالجة القضايا المعاصرة" بتاريخ 19 رمضان 1413 هجرية، الموافق لـ13 مارس 1993.
ولعل ما زاد سمة العالمية هذه دلالة أعمق هي انفتاح الدروس على كافة المذاهب الإسلامية المعتبرة، سنية كانت أم شيعية أم إباضية؛ بل إنها شكلت قبلة مفضلة للعديد من مشايخ الطرق الصوفية. الشيء الذي أكسبها أهلية غير عادية للإسهام في لملمة الصف الإسلامي المترهل بفعل عوامل الهدم الكثيرة التي أثخنت جسم الأمة بالجراح، وعملت على إذكاء نزوعات الفرقة والشقاق، ودأبت على نصب الحواجز النفسية بين مكونات الجسد الواحد التي بات بأسها بينها شديدا بعد أن استبدلت لغة الشجار بنهج الحوار.
نقطة أخرى جديرة بالإشادة في هذا الصدد، هي تلكم المتعلقة بالحضور اللافت لممثلي الأقليات الإسلامية في مختلف أنحاء المعمور؛ وهو ما يجعل المناسبة مواتية للاطلاع على أحوالهم والتعرف على حاجياتهم وتبين الظروف التي يمارسون فيها شعائرهم الدينية وكيف هي فرص الدعوة في بلدانهم. وهنا لا بد من الإشارة إلى المبادرة الملكية الطيبة القاضية بترجمة سلسلة الدروس الحسنية إلى اللغات العالمية الرئيسة الثلاث: الإنجليزية والإسبانية والفرنسية، وبالتالي طبعها ونشرها مترجمة إسهاما من الدولة المغربية في إغناء المكتبات الإسلامية في البلاد الغربية بمادة علمية رصينة تشكل ذخيرة دعوية نفيسة.
ومنها أيضا قراره التاريخي الذي أعلن عنه في ختام درس ألقاه في النصف الثاني من عقد الستينيات، والمتعلق بإجبارية الصلاة في المدارس الابتدائية والثانوية والعليا، وكذلك قراره بالمحافظة على اللغة العربية والحضارة الإسلامية من خلال إدخال مادة الحضارة والفكر الإسلاميين في برنامج ومناهج التعليم العالي، واعتبارها مادة أساسية يتوقف نجاح الطالب على نجاحه فيها؛ بيد أننا ما زلنا نجهل الأسباب والدواعي التي أملت التوقف عن تطبيقهما.
وفي خضم الاستظلال بنفحات هذه الدروس الرمضانية، رأت المسيرة القرآنية النور بقرار من الملك الحسن الثاني الذي أعطى تعليماته بختم القرآن الكريم خلال شهر رمضان عبر موجات الإذاعة ومن خلال شاشة التلفزة. حيث يتم كل سنة تسجيل تلاوة آي الذكر الحكيم بصوت أحد المقرئين المتمكنين، وطبعا برواية ورش المعتمدة في بلاد المغرب. وسجلت الختمة الأولى بصوت القارئ الشيخ عبد الحميد إحساين -رحمه الله- أما الثانية فبصوت القارئ الشهير الشيخ عبد الباسط عبد الصمد -رحمه الله- في الثمانينيات.
ومن يُمن هذه السنة الحسنة أنها تمكن العديد من المواطنين الذين لم يتسن لهم الإلمام بالقراءة والكتابة، من فرصة نيل ثواب ختم القرآن الكريم خلال شهر الصيام عبر الاستماع إلى أصوات جميلة وهي تتغنى بالوحي المنزل.
وحدث يوم الجمعة 15 رمضان 1409 الموافق 21 إبريل 1989م، أن ألقى العالم الأمريكي الأستاذ خالد عبد الهادي يحيى، أستاذ الدين والتاريخ بجامعة بوسطن بالولايات المتحدة الأمريكية، درسا في موضوع "الهدف من الوجود" انطلاقا من قوله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} (الذاريات: 156). وكانت قبل ذلك أسماع الحاضرين قد شنفت بتلاوة طيبة مباركة لآي من الذكر الحكيم بصوت أخاذ لشاب مسلم قدم من إحدى جمهوريات الاتحاد السوفيتي آنذاك، وقد دفعت هذه الواقعة المستغربة، في ظل استمرار أجواء الحرب الباردة، الملك الحسن الثاني إلى التعليق بقوله: "قبل الختم أريد أن أشير إلى ظاهرة لم تكن في الحسبان ولم تكن من جملة مخططاتنا، ذلك أن موسم رمضان، شهر القرآن، شهر الوحي، أراد الله سبحانه وتعالى أن يجتمع هنا أشخاص من قارات مختلفة، ولغات مختلفة، وألوان مختلفة. وأراد الله أن نسمع في يوم واحد مقرئا محترما جيدا طيبا من الاتحاد السوفيتي، وأن ننصت إلى محاضر شاب غيور كله حماس من الولايات المتحدة. أظن أن هذا التواجد سيجعلنا نعطي للديانة الإسلامية وللدين الحنيف وسنة النبي صلى الله عليه وسلم تعريفا آخر، وهو أن نقول: إن الإسلام أصبح مدرسة سلوك سياسي، ولا أقول تعايش، لأن التعايش فيه شيء من الإرغام، وشيء من المضض. الإنسان يتعايش لأنه لا يمكنه أن يفعل شيئا آخر". [الدروس الحسنية لعام 1409، ص: 5].
وبعد ذلك التاريخ بثلاثة أيام، وبالضبط يوم الإثنين 18 رمضان 1409هـ/ 24 إبريل 1989م، ألقى الشيخ الحسن بن الصديق، من علماء المغرب، درسا في موضوع "الدين بين الاتباع والابتداع"، حيث تناول فيه بعض نماذج البدع المنهي عنها والتي استشرت في عصرنا الحالي، ومن ضمنها العقود التي تبرم وقت صلاة الجمعة، مذكرا بقوله تعالى في سورة الجمعة (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع)، إذ قال معلقا: "فإذا تشاغل عنها مسلم ببيع، أو بأي شيء من الأشياء، كان ذلك العقد وذلك البيع باطلا ولاغيا ولا يترتب عليه أثره، وهكذا". حينها تدخل الملك مغاضبا: "أتمم الآية يا فقيه"، فتلا الشيخ قوله تعالى: (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله، واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون). فعاود الملك المقاطعة على غير عادته، منبها الشيخ إلى أنه مطالب بإتمام الدرس في غضون خمس دقائق ليس إلا!.
وقد قدر لي أن أتابع لحظات هذا المشهد المثير مباشرة عبر التلفزيون؛ والواقع أن حضور البديهة الذي كان يتمتع به الملك الراحل هو الذي جعله يفطن -في غفلة من باقي المسئولين- إلى أن الشيخ الحسن بن الصديق كان يلمح إلى بطلان معاهدة اتحاد المغرب العربي التي أبرمت في 17 فبراير من السنة نفسها بمدينة مراكش، بالنظر إلى أن مراسيم التوقيع عليها تمت في وقت صلاة الجمعة التي لم يؤدِّها قادة البلدان الخمس إلا قبيل أذان العصر بنصف ساعة أو يزيد قليلا.
وكان من نتيجة ذلك أن مُنع الشيخ لاحقا من الإجابة عن استفسارات المواطنين عن أمور دينهم في برنامج "ركن المفتي" الذي كان يُبَث مساء كل جمعة على شاشة التلفزة المغربية. مما اضطره إلى الهجرة إلى الديار البلجيكية، قبل أن يصفح عنه الملك ويدعوه مجددا لإلقاء الدروس سنوات بعد ذلك.
فضيلة العلامة محمد طه الصابونجي، مفتي طرابلس، يقول في حق هذه الدروس الرمضانية: "هي سنة حسنة، وموسم من مواسم الخير، الذي تفيض فيه بركات رمضان، وتشملنا الفيوضات الرحمانية بكريم العطاء والاصطفاء، فجزى الله من دعا إليها، وخط خطتها، جلالة الملك الحسن الثاني".
ويقول فضيلة الشيخ الحاج أحمد فودوفاديكا من علماء غينيا: "هذه الدروس الحسنية التي تكون في هذا الشهر، أكبر مدرسة على وجه الأرض تفجر ينابيع العلوم، وتتيح للعلماء بمختلف أقطار المعمور أن يلتقوا في صفاء ومودة، ويتعارفوا، ويتبادلوا الآراء. ولا يغيب عن بال أحد ما ينتج عن ذلك من النفع الكبير، لازدهار الإسلام في العالم".
أما العلامة طلعت تاج الدين، من علماء روسيا، فقد عبر عن انطباعه بالقول: "أول مرة في حياتي وحياة زميلي، اشتركنا في الدروس الحسنية وأول ما أعجبنا المظهر النوراني والرباني، حيث يجلس العالم المحاضر على المنبر، ويجلس جلالة الملك، أمير المؤمنين، على بساط أخضر وحوله أهل الحل والعقد بالمملكة المغربية، ويستمعون في إجلال وخشوع".
وبالنسبة لسماحة الشيخ عبد الله غوشة، قاضي القضاة ورئيس الهيئة العلمية الإسلامية بالقدس، فيقول: "السنة التي نهجها جلالة الملك الحسن الثاني في استماعه للأحاديث الدينية، خلال أيام شهر رمضان الفضيل سنة حميدة -هي سنة آبائه وأجداده- تعيد إلينا ذكرى المجالس العلمية التي كانت تعقد في أيام المسلمين الأولى، بحضور الخلفاء، والملوك والأمراء".
وبحسب العلامة حمد عبيد الكبيسي، من علماء العراق: "هي فرصة ميمونة لرؤية التاريخ المكتوب تاريخا ماثلا للعيان، فإن لهذا اللقاء الذي استنه صاحب الجلالة الحسن الثاني معنى كبيرا لا يند عن خاطر ولا يلتوي على ذهن، ذلك أن المنبر الذي يذكر عليه اسم الله في المسجد لا يزال هو المكان الذي ينصع فيه وجه المجد في قصور الملوك. وأن المحراب الذي يقوم فيه الدين في بيوت الله لا يزال هو الركن الذي يسطع منه نور الحق في بيوت الخلفاء، وأن الإسلام الذي ألف بين قلوب لا تأتلف في أول الأمر لا يزال هو المنهج الذي يجمع الشمل ويوحد الكلمة. فلصاحب الجلالة الحسن الثاني أجر هذه السنة الحسنة التي تعيد إلى الأذهان عز القرون الماضية، يوم كانت مجالس الخلفاء في الصدر الأول والأوسط تحفل بالعلم أكثر مما تحتفي بالسياسة، وتوسع للأدب أكثر مما تتسع للحكم، يوم كان الخليفة يعتمد في قيادة الأمة على سلطان الدين وشرف النسب لا على سطوة القوة وأسباب العصف، يصل علمه بعلم العلماء، ويتصل أدبه بأدب الأدباء".
ونختم بشهادة قيمة أدلى بها العلامة الشيخ عبد الفتاح أبوغدة بحضرة الملك الراحل الحسن الثاني، حيث خاطبه بقوله: "لقد تفردتم في هذا العصر، من بين الملوك والرؤساء، بهذه السنة السنية وهذا الفضل الفريد؛ وتفردتم أيضا بأنكم حين تجمعون العلماء تجمعونهم لإعزازهم ورفع مقامهم وإعلاء شأنهم، تجمعونهم وتجلسون بين أيديهم متواضعين مصغين مجلين معتقدين بقداسة ما يقولون من كتاب وسنة وفكر إسلامي صحيح، سلفي أو خلفي، فأنتم بينهم في مقام الشهود لهم بصدق ما ينقلون وحق ما يقولون، وقد تنكر من تنكر للكتاب والسنة ممن أرى ذكرهم في هذا المجلس الطاهر من باب ذكر المنكر، وقد حفظت عنه مجالسكم المنيفة ومسامعكم الشريفة، فليس فضلكم مقصورا على جمع العلماء من أقطار الأرض فقط بل جمعهم من أقطار الأرض وبمشاركتكم لهم بالاعتقاد بالكتاب والسنة كما يعتقدون".
خيرا فعل الملك محمد السادس عندما أبدى تشبثه بسنة الدروس الحسنية وعمل على ضمان استمراريتها؛ ولعل أهم ما أضافه العهد الجديد لهذه المجالس الرمضانية هو انفتاحه لأول مرة على رموز الحركة الإسلامية بالمغرب، حيث دعا بداية الدكتور أحمد الريسوني، وقت كان رئيسا لحركة التوحيد والإصلاح، لإلقاء الدرس بين يدي الملك الشاب. كما سنحت الفرصة في وقت لاحق أمام الدكتور فريد الأنصاري للإدلاء بدلوه في هذه السلسلة الرمضانية.
ويبقى أهم تحول شهدته الدروس الحسنية في هذا العهد هو ذاك المتمثل في إشراك العنصر النسوي في سابقة هي الأولى من نوعها على امتداد تاريخ هذه الدروس، حيث انبرت الدكتورة رجاء الناجي المكاوي، الأستاذة بكلية الحقوق التابعة لجامعة محمد الخامس، لإلقاء درس قيم حول النظام الأسري الإسلامي مقارنة بما عليه الوضع الأسري في المجتمعات الغربية.
ومع ذلك، فقد عرفت الدروس الحسنية في ظل العهد الجديد تراجعا ملحوظا، إن على مستوى عدد الدروس الذي لم يتجاوز في السنة الماضية ستة دروس، أو على مستوى المكانة العلمية لبعض المحاضرين غير المؤهلين أصلا لاعتلاء منبر بذلك الزخم التاريخي الكبير
سنة حميدة تفردت بها بلاد المغرب الأقصى من دون سائر بلدان المسلمين، تلك هي الدروس الحسنية الرمضانية التي دأبت رحاب القصر الملكي بالرباط على احتضانها منذ النصف الأول لعقد الستينيات، حيث شكلت إحدى تجليات الهوية الدينية للدولة المغربية، كما أراد لها الملك الراحل الحسن الثاني -رحمه الله- أن تكون.
إنها دروس يكفيها فضلا أن تحفها الفيوضات الرحمانية لشهر الصيام، وأن تشملها الفضائل الربانية لمجالس الذكر، وتكسوها خيرية التفقه في الدين بما تستلزمه من إحاطة واسعة بعلوم شريعة الإسلام السمحة، واستيعاب متبصر لما استجد في أوضاعنا المعاصرة، وما تغير من أحوالنا المعيشية، وصولا إلى المزاوجة المنشودة بين فقه التأصيل وفقه التنزيل؛ الأمر الذي لمسناه بوضوح، ليس فقط في تعدد الموضوعات المطروحة للدرس والتحليل، ولكن أيضا في اختلاف زوايا النظر والمعالجة.
وسنحاول في مقالنا هذا التطرق قدر الإمكان إلى الظروف التي نشأت فيها الدروس الحسنية الرمضانية، وكذا أهم ملامح التطور الذي شهدته على امتداد العقود الأربعة التي انصرمت من عمرها، إضافة إلى الخصائص التي ميزتها وكذا بعض القرارات التاريخية التي واكبتها، مع التطرق إلى مواقف مثيرة تخللتها؛ قبل الحديث عما آلت إليه في العهد الجديد، لنختم بعد ذلك بنظرة استشرافية لمستقبل هذه الدروس الرمضانية في المغرب وخارجه، إذا ما قدر لهذه التجربة الفريدة أن تنتقل لبلدان إسلامية أخرى.
- ظروف النشأة
- النظام المعمول به في الدروس الحسنية
- عالمية الدروس الحسنية
- قرارات تاريخية اتخذت في أجواء الدروس الحسنية
- مواقف مثيرة شهدتها الدروس الحسنية
- قالوا عن الدروس الحسنية الرمضانية
- الدروس الحسنية في العهد الجديد
- استشرافا لمستقبل أفضل
ظروف النشأة
الملك الحسن الثاني
الملك الحسن الثاني
ظهرت الدروس الحسنية الرمضانية لأول مرة في غرة شهر رمضان المبارك من عام 1382 هجرية، الموافق لعام 1963 ميلادية، وتزامن ذلك مع انتخاب أول برلمان مغربي في ظل مخاض سياسي عسير شهدته البلاد في تلك الآونة برغم حداثة عهدها بالاستقلال؛ وهي يومها أحوج ما تكون إلى تحصين مناعتها الحضارية قبالة تدفق موجات الاستلاب الأيديولوجي والتغريب الثقافي العاتية، وكذا إلى الذود عن حياض هويتها الإسلامية التي باتت مهددة بتنامي المد الشيوعي الإلحادي وصعود نجم التيار القومي العلماني.
وهكذا رأت النور ولم يمضِ على تولي مؤسسها الملك الراحل الحسن الثاني مقاليد الحكم سوى عامين، وبعد مرور سنة على إقرار أول دستور عرفه تاريخ المغرب المعاصر، والذي صدرت ديباجته بالتأكيد على إسلامية الدولة المغربية، ونص في فصله السادس على أن الإسلام هو دين الدولة الرسمي، كما جعل الفصول المتعلقة بالدين الحنيف في منأى عن أي تعديل أو تبديل.
وقد كان لإطلاق المشرع الدستوري المغربي لقب أمير المؤمنين على ملك البلاد بالغ الأثر في حمل الراحل الحسن الثاني على محاولة ترجمة بعض من تلك المعاني على أرض الواقع، حيث وجد في الدروس الرمضانية مناسبة لإعادة الاعتبار لمكانة العلماء وتأكيد دورهم التوجيهي داخل المجتمع، وهذا ما ترجمه بالفعل التقليدي الذي جرى اعتماده في ترتيب مشهد هذه الدروس؛ والذي يجعل واحدا من العلماء المدعوين يعتلي المنبر بقصد إلقاء الدرس المقرر بحضرة الملك والأمراء والمستشارين، هذا إلى جانب أعضاء الحكومة يتقدمهم الوزير الأول، وكذلك رئيسا مجلسي النواب والمستشارين، ورؤساء الفرق البرلمانية، وأعضاء الدواوين الوزارية، وكبار ضباط الجيش، فضلا عن العديد من الشخصيات العلمية والثقافية التي عادة ما توجه لها الدعوة لحضور مثل هذه المجالس.
ويجلس أعضاء السلك الدبلوماسي شهودا على هذا الموقف الذي يتمتع فيه صاحب الدرس بالحصانة ضد أي اعتراض أو تعقيب من قبل الحاضرين؛ فالكل مطالب بالإصغاء لما يقوله العالم الذي يكون حرا في اختيار موضوع الدرس. كما أن البث المباشر -عبر أمواج الإذاعة الوطنية ومن خلال شاشة التلفزة- يجعله في حل من مقص الرقابة الذي عادة ما يحد من حرية تعبير العالم عما يود إبلاغه لملايين المشاهدين والمستمعين، خاصة في حضرة ملك البلاد والماسكين بزمام الأمور فيها من أمراء ووزراء وقادة للجيش.
الشيخ عبد الفتاح أبو غدة
أضف إلى ذلك أن هذا المنبر درجت على اعتلائه نخبة من الراسخين في العلم الذين لا يخشون في الله لومة لائم، نخبة من جهابذة العلماء الذين لم يرتضوا قط الركون إلى الظالمين، ولا لُوِّثت صحيفتهم بمداهنة حاكم أو ممالأة ذي سلطان. وحسبنا أن نذكر من بينهم، على سبيل المثال لا الحصر، الإمام المجدد "أبو الأعلى المودودي"، وشيخ الأزهر السابق جاد الحق علي جاد الحق، والعلامة المجاهد الشيخ عبد الفتاح أبو غدة -رحمهم الله جميعًا- والزعيم الشيعي الإمام موسى الصدر الذي اختفى في ظروف غامضة بالقطر الليبي بعد زيارة قام بها إلى هذا البلد تلبية لدعوة من العقيد القذافي، والعلامة الشيخ يوسف القرضاوي حفظه الله، إلى جانب إخوان لهم من المغرب من مثل العلامة المجاهد علال الفاسي والفقيه الحجة الرحالي الفاروقي، والشيخ عبد الله كنون رحمهم الله تعالى جميعا.
النظام المعمول به في الدروس الحسنية
جرى العمل على عهد الملك الراحل الحسن الثاني بأن تلقى الدروس الحسنية طيلة شهر رمضان المبارك، مع تمكين العلماء الأفاضل من بعض أيام الراحة التي عادة ما يغتنمونها لأجل القيام بزيارة بعض المعالم التاريخية أو تفقد بعض المنشآت الثقافية، كما تكون المناسبة مواتية أمامهم لإلقاء دروس أو محاضرات في المساجد أو الجامعات أو بعض القاعات العمومية، سواء بالعاصمة الرباط أم خارجها. هذا إضافة إلى البرامج التي تستضيفهم في الإذاعة أو التلفزيون.أما بالنسبة للوقت المحدد لإلقاء هذه الدروس فبعيد صلاة العصر، على أن تستغرق مدة الإلقاء ما بين خمسة وأربعين دقيقة وستين دقيقة. وفي حالة ما إذا كان الموضوع طويلاًَ وتطلَّب وقتا أكثر، فإنه يلقى في حصتين، كما كان الأمر دائما مع الفقيه الأصولي الشيخ محمد الأزرق الذي اعتاد أن يخصه الملك الحسن الثاني بيومين.
وجرت العادة بأن يلقي وزير الأوقاف والشئون الإسلامية المغربي الدرس الافتتاحي لهذه السلسلة الرمضانية، على أن يعقبه في اليوم التالي درس لعالم من خارج المغرب، فعالم مغربي،... وهكذا دواليك.
وعقب ختم الملك للمجلس بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، يتقدم العالم المحاضر للسلام عليه، وتكون مناسبة لكي يهديه نسخا من مؤلفاته ورسائله العلمية وغيرها من مصنفاته.
وفي صبيحة اليوم التالي تتم مناقشة ما جاء في الدرس بحضور السادة العلماء والعديد من المهتمين في قاعة مخصصة لذلك بمقر وزارة الأوقاف. وتزداد حدة النقاش بالنظر إلى حساسية موضوع الدرس، كما كان الشأن مع الطرح الذي قدمه الدكتور عبد الصبور شاهين بخصوص استخلاف آدم عليه السلام؛ حيث عرضه لأول مرة في إحدى الأمسيات الحسنية الرمضانية، وقوبل باعتراض شديد من طرف العلماء المشاركين.
وقد كان اختتام سلسلة الدروس الحسنية يتم في اليوم العاشر من شهر رمضان الذي يتزامن وذكرى وفاة الملك محمد الخامس رحمه الله، قبل أن يتم العدول عن ذلك، ويرجأ تاريخ الحفل الختامي إلى ليلة السابع والعشرين من شهر الصيام، التي هي ليلة القدر على الراجح من أقوال العلماء. ويشرع في مراسيم الحفل بعد الانتهاء من صلاة التراويح، بتلاوة آيات بينات من الذكر الحكيم، يتلوها الفائز بالجائزة الملكية في المسابقة الوطنية للحفظ والتجويد، والذي يتسلم الجائزة المذكورة نقدا من يد الملك شخصيا.
بعد ذلك يتقدم أحد العلماء المغاربة الأجلاء بإلقاء درس ختم صحيح الإمام البخاري -رحمه الله - ينهيه بتذكير الحاضرين بالحديث الذي ختم به الجامع الصحيح، والذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم).
إثر ذلك، يقوم أحد العلماء الضيوف، باسم كافة العلماء المشاركين، بإلقاء كلمة شكر وامتنان للملك بالمناسبة. وعادة ما يتخلل هذا الحفل الختامي إلقاء بعض القصائد الشعرية المستلهمة من تلك الأجواء الرمضانية المباركة. أما الختام فيعود للملك الذي غالبا ما يغتنم مثل هذه الفرصة للإعلان عن قرارات مهمة في سائر المجالات.
عالمية الدروس الحسنية
الشيخ أبو الحسن الندوي
الشيخ أبو الحسن الندوي
لعل أول ما يلفت انتباه الناظر في المسار التاريخي للدروس الحسنية الرمضانية هو استقطابها للعديد من العلماء المنحدرين من شتى أنحاء العالم، ممن اختلفت ألسنتهم وألوانهم بينما ائتلفت قلوبهم على عقيدة التوحيد ويمموا جميعا نحو قبلة واحدة. منهم أعلام في فقه الشريعة، وجهابذة في الفكر الإسلامي، ورجال دعوة ذاع صيتهم حتى سارت بذكرهم الركبان.
ماذا عسى المرء أن يقول بشأن سلسلة دروس تناوب على إلقائها نخبة من ورثة الأنبياء الأفاضل من حجم العلامة المجدد أبي الأعلى المودودي، والشيخ أبي الحسن الندوي من الهند، والإمام موسى الصدر من لبنان، والشيخ محمد متولي الشعراوي من مصر، والشيخ محمد سعيد رمضان البوطي من سوريا، والشيخ محمد الحبيب بلخوجة الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي بجدة، والشيخ عبد الله بن عبد المحسن التركي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي، والدكتور عصام البشير من السودان، والدكتور طه جابر العلواني من أمريكا...؟ والقائمة طويلة.
أسماء كفيلة بإثقال ميزان هذه المجالس العلمية وإحلالها المكانة التي تستحقها. حتى إن رئيس دولة المالديف "مأمون عبد القيوم" قد حرص على أن يضم اسمه إلى هذه الكوكبة من العلماء من خلال نيل شرف إلقاء درس في سلسلة الدروس الحسنية حول موضوع "الاجتهاد وضرورته الملحة لمعالجة القضايا المعاصرة" بتاريخ 19 رمضان 1413 هجرية، الموافق لـ13 مارس 1993.
ولعل ما زاد سمة العالمية هذه دلالة أعمق هي انفتاح الدروس على كافة المذاهب الإسلامية المعتبرة، سنية كانت أم شيعية أم إباضية؛ بل إنها شكلت قبلة مفضلة للعديد من مشايخ الطرق الصوفية. الشيء الذي أكسبها أهلية غير عادية للإسهام في لملمة الصف الإسلامي المترهل بفعل عوامل الهدم الكثيرة التي أثخنت جسم الأمة بالجراح، وعملت على إذكاء نزوعات الفرقة والشقاق، ودأبت على نصب الحواجز النفسية بين مكونات الجسد الواحد التي بات بأسها بينها شديدا بعد أن استبدلت لغة الشجار بنهج الحوار.
نقطة أخرى جديرة بالإشادة في هذا الصدد، هي تلكم المتعلقة بالحضور اللافت لممثلي الأقليات الإسلامية في مختلف أنحاء المعمور؛ وهو ما يجعل المناسبة مواتية للاطلاع على أحوالهم والتعرف على حاجياتهم وتبين الظروف التي يمارسون فيها شعائرهم الدينية وكيف هي فرص الدعوة في بلدانهم. وهنا لا بد من الإشارة إلى المبادرة الملكية الطيبة القاضية بترجمة سلسلة الدروس الحسنية إلى اللغات العالمية الرئيسة الثلاث: الإنجليزية والإسبانية والفرنسية، وبالتالي طبعها ونشرها مترجمة إسهاما من الدولة المغربية في إغناء المكتبات الإسلامية في البلاد الغربية بمادة علمية رصينة تشكل ذخيرة دعوية نفيسة.
قرارات تاريخية اتخذت في أجواء الدروس الحسنية
عديدة هي القرارات التي خرجت من رحم الدروس الحسنية، ونالت حظها من فيوضاتها الربانية، وحسبنا الإشارة في هذا المقام إلى بعض من أهم تلك القرارات. حيث نجد في مقدمتها قرار الملك الراحل بإنشاء دار الحديث الحسنية سنة 1964، وهي المؤسسة التي أريد لها أن تضطلع بمهمة تخريج علماء مقتدرين في كافة العلوم الشرعية.ومنها أيضا قراره التاريخي الذي أعلن عنه في ختام درس ألقاه في النصف الثاني من عقد الستينيات، والمتعلق بإجبارية الصلاة في المدارس الابتدائية والثانوية والعليا، وكذلك قراره بالمحافظة على اللغة العربية والحضارة الإسلامية من خلال إدخال مادة الحضارة والفكر الإسلاميين في برنامج ومناهج التعليم العالي، واعتبارها مادة أساسية يتوقف نجاح الطالب على نجاحه فيها؛ بيد أننا ما زلنا نجهل الأسباب والدواعي التي أملت التوقف عن تطبيقهما.
وفي خضم الاستظلال بنفحات هذه الدروس الرمضانية، رأت المسيرة القرآنية النور بقرار من الملك الحسن الثاني الذي أعطى تعليماته بختم القرآن الكريم خلال شهر رمضان عبر موجات الإذاعة ومن خلال شاشة التلفزة. حيث يتم كل سنة تسجيل تلاوة آي الذكر الحكيم بصوت أحد المقرئين المتمكنين، وطبعا برواية ورش المعتمدة في بلاد المغرب. وسجلت الختمة الأولى بصوت القارئ الشيخ عبد الحميد إحساين -رحمه الله- أما الثانية فبصوت القارئ الشهير الشيخ عبد الباسط عبد الصمد -رحمه الله- في الثمانينيات.
ومن يُمن هذه السنة الحسنة أنها تمكن العديد من المواطنين الذين لم يتسن لهم الإلمام بالقراءة والكتابة، من فرصة نيل ثواب ختم القرآن الكريم خلال شهر الصيام عبر الاستماع إلى أصوات جميلة وهي تتغنى بالوحي المنزل.
مواقف مثيرة شهدتها الدروس الحسنية
ما أزال أذكر ما قاله العلامة الشهيد الدكتور صبحي الصالح، في ختام أحد دروسه الرمضانية، موصيا الملك الحسن الثاني، وقد نزل ضيفا عنده في قلب القصر الفاخر وبشهود جموع الحشم والخدم وأمام ملايين المشاهدين عبر الشاشة والمستمعين من خلال أثير الإذاعة، بعبارة: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)، وهي نفسها الوصية التي أوصى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.وحدث يوم الجمعة 15 رمضان 1409 الموافق 21 إبريل 1989م، أن ألقى العالم الأمريكي الأستاذ خالد عبد الهادي يحيى، أستاذ الدين والتاريخ بجامعة بوسطن بالولايات المتحدة الأمريكية، درسا في موضوع "الهدف من الوجود" انطلاقا من قوله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} (الذاريات: 156). وكانت قبل ذلك أسماع الحاضرين قد شنفت بتلاوة طيبة مباركة لآي من الذكر الحكيم بصوت أخاذ لشاب مسلم قدم من إحدى جمهوريات الاتحاد السوفيتي آنذاك، وقد دفعت هذه الواقعة المستغربة، في ظل استمرار أجواء الحرب الباردة، الملك الحسن الثاني إلى التعليق بقوله: "قبل الختم أريد أن أشير إلى ظاهرة لم تكن في الحسبان ولم تكن من جملة مخططاتنا، ذلك أن موسم رمضان، شهر القرآن، شهر الوحي، أراد الله سبحانه وتعالى أن يجتمع هنا أشخاص من قارات مختلفة، ولغات مختلفة، وألوان مختلفة. وأراد الله أن نسمع في يوم واحد مقرئا محترما جيدا طيبا من الاتحاد السوفيتي، وأن ننصت إلى محاضر شاب غيور كله حماس من الولايات المتحدة. أظن أن هذا التواجد سيجعلنا نعطي للديانة الإسلامية وللدين الحنيف وسنة النبي صلى الله عليه وسلم تعريفا آخر، وهو أن نقول: إن الإسلام أصبح مدرسة سلوك سياسي، ولا أقول تعايش، لأن التعايش فيه شيء من الإرغام، وشيء من المضض. الإنسان يتعايش لأنه لا يمكنه أن يفعل شيئا آخر". [الدروس الحسنية لعام 1409، ص: 5].
وبعد ذلك التاريخ بثلاثة أيام، وبالضبط يوم الإثنين 18 رمضان 1409هـ/ 24 إبريل 1989م، ألقى الشيخ الحسن بن الصديق، من علماء المغرب، درسا في موضوع "الدين بين الاتباع والابتداع"، حيث تناول فيه بعض نماذج البدع المنهي عنها والتي استشرت في عصرنا الحالي، ومن ضمنها العقود التي تبرم وقت صلاة الجمعة، مذكرا بقوله تعالى في سورة الجمعة (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع)، إذ قال معلقا: "فإذا تشاغل عنها مسلم ببيع، أو بأي شيء من الأشياء، كان ذلك العقد وذلك البيع باطلا ولاغيا ولا يترتب عليه أثره، وهكذا". حينها تدخل الملك مغاضبا: "أتمم الآية يا فقيه"، فتلا الشيخ قوله تعالى: (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله، واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون). فعاود الملك المقاطعة على غير عادته، منبها الشيخ إلى أنه مطالب بإتمام الدرس في غضون خمس دقائق ليس إلا!.
وقد قدر لي أن أتابع لحظات هذا المشهد المثير مباشرة عبر التلفزيون؛ والواقع أن حضور البديهة الذي كان يتمتع به الملك الراحل هو الذي جعله يفطن -في غفلة من باقي المسئولين- إلى أن الشيخ الحسن بن الصديق كان يلمح إلى بطلان معاهدة اتحاد المغرب العربي التي أبرمت في 17 فبراير من السنة نفسها بمدينة مراكش، بالنظر إلى أن مراسيم التوقيع عليها تمت في وقت صلاة الجمعة التي لم يؤدِّها قادة البلدان الخمس إلا قبيل أذان العصر بنصف ساعة أو يزيد قليلا.
وكان من نتيجة ذلك أن مُنع الشيخ لاحقا من الإجابة عن استفسارات المواطنين عن أمور دينهم في برنامج "ركن المفتي" الذي كان يُبَث مساء كل جمعة على شاشة التلفزة المغربية. مما اضطره إلى الهجرة إلى الديار البلجيكية، قبل أن يصفح عنه الملك ويدعوه مجددا لإلقاء الدروس سنوات بعد ذلك.
قالوا عن الدروس الحسنية الرمضانية
كثيرة هي الشهادات التي قيلت في معرض الإشادة بالدروس الحسنية، بيد أننا سنكتفي بإيراد البعض منها فقط في نطاق ما يمكن أن يفي بالغرض ويحقق المطلوب. خصوصا إذا كانت صادرة عن أناس مشهود لهم بالعلم والفضل والصدع بكلمة الحق، حتى وإن استثقلوا اجتراع مرارتها، أناس وطَّنوا أنفسهم على ازدراء كل أنواع التملق والتزلف، وأبوا عليها إلا الاستنكاف عن قلب حقائق الأمور ونزهوها عن الإدلاء بشهادة الزور.فضيلة العلامة محمد طه الصابونجي، مفتي طرابلس، يقول في حق هذه الدروس الرمضانية: "هي سنة حسنة، وموسم من مواسم الخير، الذي تفيض فيه بركات رمضان، وتشملنا الفيوضات الرحمانية بكريم العطاء والاصطفاء، فجزى الله من دعا إليها، وخط خطتها، جلالة الملك الحسن الثاني".
ويقول فضيلة الشيخ الحاج أحمد فودوفاديكا من علماء غينيا: "هذه الدروس الحسنية التي تكون في هذا الشهر، أكبر مدرسة على وجه الأرض تفجر ينابيع العلوم، وتتيح للعلماء بمختلف أقطار المعمور أن يلتقوا في صفاء ومودة، ويتعارفوا، ويتبادلوا الآراء. ولا يغيب عن بال أحد ما ينتج عن ذلك من النفع الكبير، لازدهار الإسلام في العالم".
الشيخ طلعت تاج الدين
أما العلامة طلعت تاج الدين، من علماء روسيا، فقد عبر عن انطباعه بالقول: "أول مرة في حياتي وحياة زميلي، اشتركنا في الدروس الحسنية وأول ما أعجبنا المظهر النوراني والرباني، حيث يجلس العالم المحاضر على المنبر، ويجلس جلالة الملك، أمير المؤمنين، على بساط أخضر وحوله أهل الحل والعقد بالمملكة المغربية، ويستمعون في إجلال وخشوع".
وبالنسبة لسماحة الشيخ عبد الله غوشة، قاضي القضاة ورئيس الهيئة العلمية الإسلامية بالقدس، فيقول: "السنة التي نهجها جلالة الملك الحسن الثاني في استماعه للأحاديث الدينية، خلال أيام شهر رمضان الفضيل سنة حميدة -هي سنة آبائه وأجداده- تعيد إلينا ذكرى المجالس العلمية التي كانت تعقد في أيام المسلمين الأولى، بحضور الخلفاء، والملوك والأمراء".
وبحسب العلامة حمد عبيد الكبيسي، من علماء العراق: "هي فرصة ميمونة لرؤية التاريخ المكتوب تاريخا ماثلا للعيان، فإن لهذا اللقاء الذي استنه صاحب الجلالة الحسن الثاني معنى كبيرا لا يند عن خاطر ولا يلتوي على ذهن، ذلك أن المنبر الذي يذكر عليه اسم الله في المسجد لا يزال هو المكان الذي ينصع فيه وجه المجد في قصور الملوك. وأن المحراب الذي يقوم فيه الدين في بيوت الله لا يزال هو الركن الذي يسطع منه نور الحق في بيوت الخلفاء، وأن الإسلام الذي ألف بين قلوب لا تأتلف في أول الأمر لا يزال هو المنهج الذي يجمع الشمل ويوحد الكلمة. فلصاحب الجلالة الحسن الثاني أجر هذه السنة الحسنة التي تعيد إلى الأذهان عز القرون الماضية، يوم كانت مجالس الخلفاء في الصدر الأول والأوسط تحفل بالعلم أكثر مما تحتفي بالسياسة، وتوسع للأدب أكثر مما تتسع للحكم، يوم كان الخليفة يعتمد في قيادة الأمة على سلطان الدين وشرف النسب لا على سطوة القوة وأسباب العصف، يصل علمه بعلم العلماء، ويتصل أدبه بأدب الأدباء".
ونختم بشهادة قيمة أدلى بها العلامة الشيخ عبد الفتاح أبوغدة بحضرة الملك الراحل الحسن الثاني، حيث خاطبه بقوله: "لقد تفردتم في هذا العصر، من بين الملوك والرؤساء، بهذه السنة السنية وهذا الفضل الفريد؛ وتفردتم أيضا بأنكم حين تجمعون العلماء تجمعونهم لإعزازهم ورفع مقامهم وإعلاء شأنهم، تجمعونهم وتجلسون بين أيديهم متواضعين مصغين مجلين معتقدين بقداسة ما يقولون من كتاب وسنة وفكر إسلامي صحيح، سلفي أو خلفي، فأنتم بينهم في مقام الشهود لهم بصدق ما ينقلون وحق ما يقولون، وقد تنكر من تنكر للكتاب والسنة ممن أرى ذكرهم في هذا المجلس الطاهر من باب ذكر المنكر، وقد حفظت عنه مجالسكم المنيفة ومسامعكم الشريفة، فليس فضلكم مقصورا على جمع العلماء من أقطار الأرض فقط بل جمعهم من أقطار الأرض وبمشاركتكم لهم بالاعتقاد بالكتاب والسنة كما يعتقدون".
الدروس الحسنية في العهد الجديد
الملك محمد السادس
الملك محمد السادس
خيرا فعل الملك محمد السادس عندما أبدى تشبثه بسنة الدروس الحسنية وعمل على ضمان استمراريتها؛ ولعل أهم ما أضافه العهد الجديد لهذه المجالس الرمضانية هو انفتاحه لأول مرة على رموز الحركة الإسلامية بالمغرب، حيث دعا بداية الدكتور أحمد الريسوني، وقت كان رئيسا لحركة التوحيد والإصلاح، لإلقاء الدرس بين يدي الملك الشاب. كما سنحت الفرصة في وقت لاحق أمام الدكتور فريد الأنصاري للإدلاء بدلوه في هذه السلسلة الرمضانية.
ويبقى أهم تحول شهدته الدروس الحسنية في هذا العهد هو ذاك المتمثل في إشراك العنصر النسوي في سابقة هي الأولى من نوعها على امتداد تاريخ هذه الدروس، حيث انبرت الدكتورة رجاء الناجي المكاوي، الأستاذة بكلية الحقوق التابعة لجامعة محمد الخامس، لإلقاء درس قيم حول النظام الأسري الإسلامي مقارنة بما عليه الوضع الأسري في المجتمعات الغربية.
ومع ذلك، فقد عرفت الدروس الحسنية في ظل العهد الجديد تراجعا ملحوظا، إن على مستوى عدد الدروس الذي لم يتجاوز في السنة الماضية ستة دروس، أو على مستوى المكانة العلمية لبعض المحاضرين غير المؤهلين أصلا لاعتلاء منبر بذلك الزخم التاريخي الكبير