هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسواق المدينة وأزقتها، يراقب المسلمين في حياتهم اليومية من بيع وشراء ومعاملات، ويتابع ما يفعلونه، فيقرُّ هذا على ما يفعل، وينهى ذاك عن خطأ وقع فيه، وينبه الآخر ليمين بدر منه، فلا حاجة للقسم، فكثير الحلف كذابٌ، ويمدّ أصبعه في سلة تمْرٍ فيراها مبتلّة من أسفل فيقول لصاحبها:
( من غشنا فليس منا ).
إنه معلم، وقائد.. يصنع مجتمعاً صالحاً، ويبني دولة قوامها العدل والإنصاف، لم يكن معه – كعادة الحكام – جند وحرس يحمونه، فحبُّ الناس سياج، والسعي في خدمتهم وإسعادهم أفضل طريق للأمن والأمان، ولكنْ لا بد من هَنة من هذا أو ذاك يتلافاها بالحكمة واللطف.
قال أنس: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفقده أمور المسلمين كعادته، وعليه برد غليظ الحاشية من نسج نجران من اليمن، فتقدم منه أعرابي مسرعاً – والأعراب جفاة فيهم رعونة وإن لم يقصدوها – فشدّ بُردة النبي صلى الله عليه وسلم شداً عنيفاً حتى رأيت طرفها العلوي يضغط – بحدّه الغليظ – على عنق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ضغطاً أثّر فيه، فهممت بدفع هذا الأعرابي السيء الأدب، فمنعني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونظر للأعرابي فسمعه يقول له: يا محمد دون أن يلقبه بـ: يا رسول الله، فهمَمْت بضربه لولا أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد منعني، وأردف الأعرابيُّ وهو ما يزال يجذب النبي صلى الله عليه وسلم من بردته: مُرْ لي من مال الله الذي عندك، فإنك لا تحمل من مالك ولا مال أبيك.
فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال – بأبي هو وأمي ما أحلمه وما أعظمه - :
( المال مال الله، وأنا عبده )، ثم ضحك في وجهه وقال: أرسلني يا أعرابي،
وأمر له ببعيرين، يحمل الأول شعيراً، والثاني تمراً – وقال للأعرابي:
( أيكفيك ما أعطيتك من مال الله الذي عندي؟)،
قال الأعرابي: نعم، ولم يزد – لجفائه – على هذه الكلمة.
قلت: يا رسول الله، رجلٌ قليل الأدب، يخاطبك بجفوة، ويشدُّ بردتك فيؤثر في عنقك – ويخاطبك برعونة – فتأمر له بصلة؟
! قال الرسول الكريم البرُّ الرحيم: ( يا أنس، أمِرت أن أخاطب الناس على قدر عقولهم ).
( يا أنس: يقول الله تعالى: { وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }).
( يا أنس: المسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم ).
قال أنسٌ: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد اشترى من يهودي سلعة على أن ينقده ثمنها وقت الحصاد .. هكذا كان الاتفاق.
لكن اليهودي جاءه قبل الميعاد، وأمسك ببردة النبي صلى الله عليه وسلم من ناحية عنقه وجذبها جذبة شديدة حتى تغيّر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم من شدتها، وقال: يا محمد أعطني حقي، فوالله إنكم يا آل عبد المطلب لقوم مُطلٌ (تسوفون في دفع الحقوق وتماطلون).
رأى عمر رضي الله عنه ما فعل اليهودي فغضب ورفع السيف في وجهه، واستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضرب عنقه لسوء أدبه وتصرفه، وخاف اليهودي، فترك رسول الله صلى الله عليه وسلم وظهر الهلع على وجهه، فما كان من النبي صلى الله عليه وسلم الحليم ذي الخلق العظيم إلا أن التفت إلى عمر قائلاً:
( كان أولى بك يا عمر أن تأمرني بحُسْن القضاء، وأن تأمره بحسن الاقتضاء ).
( يا عمر، ليس الشديد بالصُّرَعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ).
( يا عمر، أعطه حقه وزد له ).
قال عمر: أعطيه حقّه يا رسول الله، فما بال الزيادة؟
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الزيادة يا عمر لإخافتك إياه ).
قال عمر: إننا لا نغضب لأنفسنا إلا أن تُنتَهكَ محارم الله.
يا عمر: إن موسى أخذ برأس أخيه يجرّه إليه حين صنع السامري عجلاً جسداً له خوار، فلم يفعل هارون شيئاً، وكان عليه أن يبطش بهذا السامري الذي افترى على الله، واتخذ له ولضعفاء اليهود إلهاً غير الله.
يا عمر: الحلم والصبر واللين في مواقعهما أشد نفعاً.. والصلابة، والغضب والقيام بالحق في مواقعها أجدى وأنفع وهذا حسن الخلق يا عمر.
قالت عائشة رضي الله عنها: إن امرأة من بني مخزوم من قريش سرقت يوم فتَحَ المسلمون بقيادة نبيهم الكريم مكة المكرمة، ووصل خبر السرقة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأمَر بقطع يدها، فعزّ على بني مخزوم، وهم سادة قريش، أن تقطع يدٌ منهم، إنها لفضيحة الدهر وخزي الزمان، لو أن امرأة من عامة الناس سرقت لهان الأمر!! ولكنّها امرأة من مخزوم وهم سدّة قريش عدداً ومالاً، يا للعار، ويا للشنار.. إنَّ هذا لا يكون، لا يكون أبداً، وبدأوا يقلبون الأمور، ويبحثون عمَّن يجرؤ على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والشفاعة لها، فما وجدوا إلا الفتى ابنَ السادسة عشرة أسامة بن زيد (الحِبَّ بن الحِبّ).
والعجيب أنهم ما كانوا يلقون إلى هذا بالاً، ولا يهتمون به. أتدرون لماذا؟ لأن أباه – وإن كان يوماً ربيب النبي صلى الله عليه وسلم ، ويطلق عليه زيد بن محمد قبل تحريم التبني – كان عبداً للسيدة خديجة رضي الله عنها، اشترته بحرّ مالها، وأهدته رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عندما تزوجها، فأعتقه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وتبناه، وزوجّه من أم أيمن بركة الحبشية حاضنته رضي الله عنهما، فولدت له أسامة، وورث أسامةُ عنها لونها الأسود.
ما كان الناس يرضون زيداً قائداً لهم، فتأففوا حين جعله النبي الكريم أول قادة جيش المسلمين في مؤتة، فاستشهد رضي الله عنه، وجعل الرسول الكريم ابنه أسامة قبل لحوقه صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى قائد جيش المسلمين إلى بلاد الشام. فتأفف الناس لذلك وتشفعوا بالصحابة الكرام أن يعزله الرسول الكريم عن قيادة الجيش فغضب، وأبى ذلك وقال:
( إنكم أبيتم أباه وإنه لجديرٌ بالقيادة، وأبيتموه، وإنه لحقيق بها )... – وعلى الرغم من ذلك – ولمكانته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قصدوه ليشفع في هذه السارقة المخزومية.
لم يكن الأمر يسيراً، فالحدّ حين يرفع إلى الحاكم ويصل إليه، لا تجوز فيه الشفاعة، ولكنْ ما على أسامة إن كلم النبي صلى الله عليه وسلم في أمرها؟!..
استجمع قوته وجاء إلى الرسول الكريم فكلمه على استحياء في العفو عنها. ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينصت إليه حتى فرغ من حديثه، قال: ( أتشفع في حد من حدود الله تعالى؟)
وهل يجوز تعطيل الحدود؟!
إذاً لا تستقيم الأمور، ولا يحيا المجتمع الحياة الطبيعية الآمنة، ويعتاد الناس الخطأ والشفاعةَ فيه، فتختل الموازين وتضطرب المعايير .. ينبغي على المسلم أن يقف عند حدود الله، ويلتزم بها، فالقوي والضعيف، والغني والفقير، والكبير والصغير .. متساوون في ميزان الله وشرعه القويم.
وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً في الناس يقول لهم:
( إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه – لشرفه ووجاهته -، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد – لخموله بينهم وضعف مكانته -).
إن مجتمعاً تسود فيه هذه القيم المنحرفة لجدير أن يزول ويمحى، وأن يتلاشى ويندثر، ثم أطلق الحاكم العادل تلك الصيحة المدوية التي ملأت الدنيا حقاً وعدلاً، وتصميماً على إقامة حدود الله:
( وايمُ الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ).
رياض الصالحين: باب الغضب إذا انتهكت حرمات المسلمين
روى معاوية بن الحكم السلميُّ قال : كنت قريب عهد بالإسلام أعرف أركانه، ولكنني أجهل كيف أؤدي الصلاة والزكاة، وما إلى ذلك.أمّنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة أحد الفروض، فقرأ الفاتحة وسورة ثم ركع وسجد، ونحن نتابعه في صلاته، فنفعل ما يفعل، فعطس رجل إلى جانبي، ولكنه لم يحمد الله، فقلت في نفسي: عجباً لهذا الرجل أما علم أن عليه أن يحمد الله بصوت مسموع كي نشمِّته؟! هكذا أمرنا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم ، ولعله يجهل هذه السنة فلأبادرْ بتشميته فأنالَ ثواب الله تعالى، فبادرته قائلاً: يرحمك الله، فكأن القوم رمَوني بأبصارهم شزراً وإنكاراً لما فعلت، وأحسست أن كل واحد منهم يؤنبني وكأنني أتيت كبيرة، ففاض ما في نفسي وصِحت: واثكل أمياه، هلكت إذاً والله، لماذا تنظرون إليَّ هكذا؟ فأخذ المصلون يضربون على أفخاذهم ضربة أو ضربتين وكأنهم بهذا يريدونني أن أصمت،وغضبت لما يفعلون لجهلي بأن هذا يبطل الصلاة، فامتثلت لأمرهم وسكتُّ إلى أن انتهت الصلاة،وأنا أفكر هيّاباً مما قد يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بي.
بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لَمْ تنظر إليّ مؤنباً ولم تعبَس بوجهي ولا أسمعتني ما أكره، لقد كنت معلماً غاية في اللطف والحكمة. قلت مخاطباً الجميع دون أن تخصني بالنصح فأخجلَ من نفسي (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي التسبيح، والتكبير، وقراءة القرآن))، ولم تأمرني أن أعيد الصلاة لقلة كلامي فيها ولأنني أجهل ما يُبطلها.
وهنا تجرأت وسألت النبي صلى الله عليه وسلم ،فقلت: يا رسول الله إني حديثُ عهد بجاهلية، وقد جاء الله تعالى بالإسلام فلا تغضب مني إن سألتك أموراً أجهل حكمها، قال الرسول الكريم: ( لا تثريب عليك، سل يا معاوية أجِبْك )، قلت: يا رسول الله إن منا رجالاً يقصدون الكهان ممن يدعون معرفة الضمائر وما تخفى النفوس ويخبرون عن المستقبل وما غمض من الماضي.
قال: ( هم كذابون يستعينون بالجن ويتقوّلون فلا تأتهم، فالغيب يعلمه الله سبحانه وحده ).
قلت: وهناك رجال يؤمنون بالطيَرَة، فإذا أرادوا فعل شيء رمَوا طيراً، فإن ذهب يميناً مضَوا في أمرهم، وإن ذهب شمالاً امتنعوا عن هذا الأمر.
قال صلى الله عليه وسلم : ( إن الطيرة وهمٌ في النفوس لا مبرر له، فلا تأبه له يا معاوية، وامض فيما عزمت عليه، فالخير كله عاجلُه وآجله من الله تعالى، واستخِرِ الله وتوكلْ عليه، وعلى الله فليتوكل المؤمنون ).
والله لأتوضَّأنّ وضوءاً كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولأصليَّن ركعتين أدعو الله إثرهما أن يجعلني من أهل الفردوس الأعلى مع النبي الحبيب ، ثم أذهب إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فألزمه يومي هذا فإني أحسُّ أن الدنيا والعمل لها يكاد يجذبني إليها، هكذا حدَّث أبو موسى الأشعري – رضي الله عنه – نفسه، فقام فتوضأ، ثم صلى، ثم انطلق إلى المسجد النبوي يحث الخُطا إليه، ورأى في طريقه بعض أصحابه فسلّم عليهم، فدعَوه إلى الجلوس بينهم، فلم يكترث، إنما جدَّ السير إلى غايته، فلما وصل رأى بعض أهل الصفّة فسألهم عن رسول الله ، فقالوا: انطلقَ الساعة في اتجاه الغرب، بقضي حاجته في غائط بئر اريس.
انطلق أبو موسى إلى ذلك المكان، فرأى عن بعدٍ طيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجلس عند الباب ينتظر رسول الله، فلما انتهى صلى الله عليه وسلم ، وتوضأ من البئر جلس على حافته ومدّ رجليه إلى الماء يبترد، فدخل عليه أبو موسى وسلّم عليه بتحية الإسلام قائلاً: السلام عليك يا رسول الله ورحمة منك وبركاته، صلى عليك وعلى آلك وأصحابه الطيبين الطاهرين، فردَّ عليه النبي التحية بأحسن منها وسأله عن حاله ودعا له، فَسُرَّ أبو موسى لهذا الدعاء الطيّب من فم طاهر طيّب، وأحسَّ أنه نال اليوم خيراً كثيراً، فانصرف إلى باب الحائط وقال: لأكوننَّ بوّابَ رسول الله اليوم، أمنع مَن يقطع خلوته إلا بإذنه، فناداه رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( يا أبا موسى املِك عليّ الباب، فلا يدخلَّن عليّ أحد إلا إذا أذنتُ له ).
قال أبو موسى: سمعاً وطاعةً يا رسول الله.
فلزمَ البابَ ينظر منه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويملأ عينيه من طلعته البهية، فجاء أبو بكر رضي الله عنه فدفع الباب، فقال أبو موسى مستفسراً: من أنت؟
قال الصدِّيق: أنا أبو بكر، (ولعله سأل عن رسول الله كما سأل أبو موسى فتبعه كما تبعه هذا؟ أو اتفق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلتقيه في ذلك المكان بعد صلاة العصر فجاء على ميعاد).
قال أبو موسى: تمهل أيها الصدِّيق حتى أستأذن لك على رسول الله .
قال الصدّيق: نعم يا أبا موسى فاستأذن لي عليه.
قال أبو موسى: فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له: يا رسول الله، هذا أبو بكر جاء يستأذن أن تسمح له بالدخول عليك.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ايذن له بالدخول، وبشره بالجنّة )،..
يا الله، مقام الصدّيق رضي الله عنه عظيم، يبشّره الرسول الكريم بالجنّة، ذلك المكان الذي يسعى إليه المسلمون يرجون رضاء الله تعالى وفضله! .. ومن أولى بالجنّة ممن شارك الرسول الكريم، ودفع عنه أذى المشركين وبذل له ماله وحياته، وقدّمه على نفسه وآله، صدّقه حين كذّبه الناس، وأجابه إلى الإسلام مسرعأً دون تلكؤ وانتظار، فهنيئاً لك يا أبا بكر أيها الصديق هذه البشرى العظيمة.
قال أبو موسى: فعدت إلى الباب فقلت للصدِّيق ادخل، ورسول الله يبشرك بالجنّة، فنِعمَتْ هذه البشرى ولنعم دار المتقين.
قال الصدّيق: الحمد لله رب العالمين، وله المنّة والنعماء لا نحصي ثناءً عليه، اللهم لك الشكر، يا واهب الخير، يا ذا الفضل الكريم.
السلام عليك يا رسول الله ورحمته وبركاته.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( وعليك السلام يا أبا بكر ورحمة الله ومغفرته ورضوانه ).
وجلس الصدّيق عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم ومدّ رجليه إلى الماء يفعل ما يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم ، وابتسم كلّ إلى صاحبه، يتجاذبان أطراف الحديث، والرَّوح والريحان يعبق المكان، والمَلَك تملؤه أنساً ونشوةً بسيّد الرسل الكرام وصاحبه الصدّيق رضوان الله عليه.
قال أبو موسى في نفسه: ليهنك أيها الصديق مقامك من النبي الكريم، ورجع إلى الباب يحرس المكان، فتذكرَّ أخاه عامراً وتمنّى لو جاء إلى البئر يستأذن على رسول الله فيأذن له ويبشره بالجنّة كما بشّر الصدّيق، ويغنم الخلوَةَ بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لقد تأخر عن المجيء فلقد تركته يتوضأ، وقال: إنه سيلحقني فما الذي به؟! إن يرِدِ الله به خيراً يأت به .. هذا البابُ يتحرك، فلعله أخي عامرٌ قد وصَل، فناديت من أنت.
قال عمر من وراء الباب: أنا عمر بن الخطاب.
قال أبو موسى: فالزم مكانك ريثما أستأذن النبي صلى الله عليه وسلم .
قال عمر: فافعل ما بدا لك، أنا واقف هنا.
فجاء أبو موسى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليك يا رسول الله، هذا عمر بالباب واقفاً يستأذن في الدخول إليك.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ائذن له وبشِّره بالجنة )،
يارب، ما أعظم حظ السابقين؟! لهم الجنّةُ، الفردوس الأعلى، وهذا الفاروق أوّل من يأخذ كتابه بيمينه يوم القيامة، فطوبى له هذا المقام العالي والمكانة الرفيعة، ألم يكن أوّل من جهر بالإسلام وتحدى المشركين ونادى بكلمة التوحيد حين آمن بها وصدّق، فأعز الله به الإسلام؟ طوبى له، ولنعم دار المتقين.
قال أبو موسى: فعدت إلى الباب، فقلت له: ادخل يا أبا حفص، لقد أذن لك رسول الله بالدخول، وأمرني أن أبشّرك بالجنة، فهنيئاً لك هذه البشرى وهنيئاً لك الفردوس الأعلى.
قال عمر: الحمد لله، فهو وليُّ الحمد، وله المنّة والفضل، لا أحصي ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه، وجزى الله نبيه خيراً، فهو سبب كلّ هذه النعماء، صلى الله عليه وعلى آله وسلم ..
السلام عليك يا رسول الله ورحمة منه وبركات، السلام عليك أيها الصدّيق
قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( وعليك السلام يا عمر ورحمة الله وبركاته ومغفرته ورضوانه ).
ورد الصدّيق بمثل سلام الفاروق أو خيرٍ منه.
فجلس الفاروق إلى يسار المصطفى عليه الصلاةُ والسلامُ ودلّى ساقيه في الماء يفعل كما يفعل صاحباه، وابتسم إلى النبي وإلى صاحبه الصدِّيق فابتسما له، وحفتهم الملائكة طيبين ترفرف أجنحتها رضى بهم، فهم نبيّ كريم ووزيراه الكريمان.
قال أبو موسى متلّهفاً: أين أنت يا عامر لترى الخير العميم، ولتحظى بما حظي به العمَران من مقام عالٍ ودعوة مستجابة، إن يُرِد الله بك خيراً يأتِ بك، فتحرك الباب، فقلت في نفسي كن عامراً، ثم ناديت من بالباب؟
قال عثمان من ورائه: أنا عثمان بن عفان، أرسول الله صلى الله عليه وسلم هنا؟
قال أبو موسى: نعم إنه هنا وصاحباه الصديق وعمر، فانتظر قليلاً كي أستأذن لك عليه.
فذهب أبو موسى إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذن لعثمان بالدخول إليه.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ائذن له، وبشره بالجنّة )، وسكت هنيهة، ثم قال: ( على بلوى تصيبه ).
قلت في نفسي بشرى بالجنة، وبلوى تصيبه، يرفع الله بها مقامه ويمتحنه في صبره، فليصبرْ، إن الله مع الصابرين.
قال أبو موسى: فعدت إليه فقلت له: يقول لك الرسول صلى الله عليه وسلم ادخل، ويبشّرك بالجنة على بلوى تصيبك.
قال عثمان: الحمد لله، هو الذي يقدّر الأمور، وهو الذي يعيننا على بلوانا، اللهم ألهمني الصبر واكتب ليَ الخيرَ حيث كان، أنت وليي في الدنيا والآخرة.
السلام عليك يا رسول الله ورحمته وبركاته، السلام عليكما أيها الصدّيقان.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( وعليك السلام يا عثمان ورحمته وبركاته ومغفرته ورضوانه ).
وردّ الصدّيق والفاروق السلام بمثله أو بخير منه.
كان المكان حول البئر لا يتسع لأكثر من ثلاثة، رسول الله وأبو بكر، وعمر، فجلس عثمان قبالتهم، وابتسم لهم، وابتسموا له، كانت الأنسام تداعب المكان، والأنس حولهم ينشر المحبة والوئام، وكانت جلسة كريمة تجمع نبياً كريماً، وصديقاً رفيقاً، وشهيدين عظيمين.
رياض الصالحين: باب استحباب التبشير والتهنئة بالخير
1- توفي خنيس بن حذافة السهمي في المدينة المنورة، من جراحة أصابته في غزوة أحد، فترك وراءه زوجته الشابة حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلم يشأ الفاروق أن تبقى ابنته دون رجل يبني بها، وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه قد ماتت زوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعثمان، وما أدراك ما عثمان الرجل العفّ المؤمن، من السابقين إلى الإسلام. وهل يرى عمر خيراً منه حرزاً حصيناً لحفصة؟.. هذا ما دار بخلد عمر الفاروق،
ولكن كيف يعرض الرجل ابنته على الناس؟
إن من العادة أن يخطِب الرجال النساء، لا أن يخطب الرجل لابنته رجلاً!! ولكن أليست الفتاة فلذة الكبد كما الفتى سواء بسواء،
فلماذا يخطب لابنه ولا يخطب لابنته؟
من السهل أن يتزوج الرجل المرأة فيكره منها أموراً فيطلقها ليتزوج غيرها، ومن الصعب أن تتزوج المرأة الرجل فترى فيه ما يرغبه عنه فتستطيع منه فكاكاً، فلا عيب إذاً أن يختار الرجل لابنته الزوج الكفء الصالح، بل عليه أن يسعى إلى ذلك قبل أن يبحث عن زوجةٍ لولده.
وهكذا فعل عمر رضي الله عنه، فلقي عثمان، فعرض عليه ابنته حفصة قائلاً: إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر، وأنت تعرفها وتعرف أباها.
قال عثمان: بارك الله فيك يا أبا عبد الله، سأفكر فيما عرضت عليّ، فنعم الرجل أنت، ونعم من هو بعض منك يا أخي.
قال عمر: فلبث عثمان ليالي ثم لقيني فقال: أنا شاكرٌ لك ثقتك فيّ، لكنني لا أرغب هذه الأيام في الزواج.
قال عمر: فلقيت أبا بكر الصدِّيق رضي الله عنه فقلت له مثل ما قلت لعثمان: إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر يا أبا بكر، فصمت أبو بكر الصدِّيق رضي الله عنه، ولم يجبه بشيء من قبول أو إعراض، تصريحاً ولا تعريضاً، فغضبت منه أكثر من غضبي من عثمان، لأن الثاني أجابني مبدياً عما في نفسه، أما الصدِّيق فأعرض عن إجابتي وكأنه لم يسمع قالتي.
فلبثت ليالي، فلقيني الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: (( يا عمر )).
قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك.
قال: (( أخطب إليك ابنتك حفصة أفتزوجُنيها؟)).
قلت: يا رسول الله هذا فضل منك ومنّةٌ، وما أسعدني وأسعدها بك، وصلتني بالله تعالى وجعلتني لك صاحباً، وأكرمتني إذ طلبت حفصة زوجة لك، جزاك الله عني كل خير يا رسول الله.
وتزوج النبي صلى الله عليه وسلم ابنة الفاروق، وانضمت إلى عقد أمهات المؤمنين.
قال الصدِّيق لعمر: يا أخي لعلك غضبت مني حين عرضتَ عليَّ ابنتك فلم أعطك جواباً؟
قال عمر: لعمري إن ما قلته صحيح يا أبا بكر.
قال الصدِّيق: إنّي لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت عليّ إلا أنني كنت أعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر لي أنه يرغب في الزواج منها ولم يكن معنا أحد، فقلت: هذا سرّ لا ينبغي لي أن أفشيه، فلزمت الصمت إلى أن طلبها إليك بنفسه ، ولو تركها النبي صلى الله عليه وسلم لقبلتها يا عمر.
قال عمر: الآن ارتاحت نفسي، حفظك الله يا صدّيق ورضي عنك
. وتزوج عثمان رضي الله عنه أم كلثوم بنت النبي صلى الله عليه وسلم فلقِّب ذا النورين.
وقال النبي : (( لقد تزوج عثمان خيراً من حفصة، وتزوجت حفصة خيراً من عثمان )).
2- قالت عائشة رضي الله عنها: كنّ أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عنده، فأقبلت فاطمة رضي الله عنها تمشي، ما تخطئ مشيتها من مشية الرسول ، (فهي تشبهه حتى في مشيته) فلما رآها رحبّ بها وقال: (( مرحباً يا ابنتي )) ثم أجلسها عن يمينه، فحدّثها وبشّ لها، ثم مال إليها، فأسرَّ لها حديثاً، فبكت بكاء شديداً، فلما رأى جزعها أسرّ لها حديثاً آخر فضحكت، فتعجبتُ لبكائها وضحكها))،فقلت لها: خصّكِ رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين نسائه بالسرار ثم أنت تبكين!
فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم سألتها: ما قال لك رسول الله ؟
قالت: ما كنت لأفشي على رسول الله صلى الله عليه وسلم سرّه.
فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لها: أقسمت عليك بالحب بيننا والمودة الصادقة التي تجمعنا أن تحدثيني بما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت: أما الآن فنعم، سوف أحدثك.
أما في المرة الأولى فأخبرني: أن جبريل عليه السلام كان يعرض عليه القرآن كل سنة مرة، يقرأ النبي صلى الله عليه وسلم ويعيده جبريل ليثبت في قلب المصطفى عليه الصلاة والسلام. أما في هذه السنة فقد قرأه الرسول الكريم مرتين وكرره عليه جبريل مرتين، فأحسَّ الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أن هذه دلالة على دنو الأجل، وأمرني بالتقوى والصبر على الفراق، فإن شرف السلف يعدل ما قد يبدو من ألم الفراق، وأنا نعم السلفُ لك، فبكيت بكائي الذي رأيته وسمعته.
وأما في المرة الثانية فإنه عليه الصلاة والسلام قال: (( يا فاطمة أما ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين وأفضلهن في الجنة ))، فأحسست بفضل الله الكبير عليّ ومكانتي في عليين فضحكت ضحكي الذي رأيته وسمعته.
قال عثمان: يا أبت إنّ ذكر الله في كلِّ الأمور أمر رائع، وسمةٌ من سمات المسلمين يجب أن تلازمهم، ولكنني أراك تحرص على ذكر اسم الله تعالى في أمرين اثنين أكثر من غيرهما.
قال الأب: ذكر الله يا بني تجعلك في ذمته ورعايته، وهذا دأب المسلمين، وعنوان المؤمنين، ولكن ما الأمران اللذان تقصدهما يا عثمان؟
قال عثمان: أقصد ذكر الله تعالى حين تدخل البيتَ وحين تتناول الطعام.
قال الأب: أحسنت يا ولدي في ملاحظتك هذه، فالرسول الكريم عليه الصلاة والسلام يحضّنا على ذلك، فقد روى جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله:
( إذا دخل الرجل بيته، فذكر الله تعالى عند دخوله، وعند طعامه، قال الشيطان لأصحابه لا مبيت لكم ولا عَشاء، وإذا دخل، فلم يذكر الله تعالى عند دخوله قال الشيطان: أدركتم المبيت، وإذا لم يذكر الله تعالى عند طعامه قال: أدركتم المبيت والعشاء )
فهل عرفت يا عثمان لماذا أذكر اسم الله في الدخول إلى البيت وتناولِ الطعام؟
قال عثمان: نعم يا والدي، حفظك الله مربياً ومرشداً.
قال الأب: سأقص عليك يا ولدي موقفين اثنين للنبي صلى الله عليه وسلم يوضحان ما يجب أن تفعله إذا أكلت.
قال عثمان: أشكرك على ذلك يا أبتِ سلفاً فما هما؟
قال الأب: روى حذيفة بن اليمان صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان قد حضر مع رسول الله طعاماً، ولا يجوز – كما تعلم – أن يبدأ أحد الطعام إلا إذا بدأه الكبير فيهم، والوجيهُ بينهم، وهذا نوع من أنواع الأدب، فلم يمدَّ أحدٌ يده، فهم ينتظرون الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أن يضع يده، فيفعلوا ذلك بعده، وقبل أن يمد الرسول صلى اللهُ عليه وسلم يده امتدت إلى الطعام يد فتاة صغيرة فلم تذكر اسم الله، فأخذ رسول الله يدها فأبعدها عنه.
ودفع أعرابي يده إلى الطعام مسرعاً دون أن يسمّي الله، فلتقّفها الرسول الكريم مانعاً يده أن تصل إليه، فلما نظرا إليه مستنكرين ما فعله قال النبي صلى الله عليه وسلم إذ ذاك: ( إن الشيطان يستحل الطعام أنْ لا يُذكرَ اسم الله تعالى عليه، وإن هذه الجارية حين مدَّت يدها مدَّ يده معها، وإن هذا الأعرابي حين مدَّ يده مدّ الشيطان يده مع يده، وقد منعت شيطانيهما أن يأكلا حين رددت يديهما، فالآن اذكروا اسم الله تعالى وكلوا ). ففعلنا.
قال عثمان: ألا يكفي أن يسمي واحد ممن يجلسون إلى الطعام، فتهرب الشياطين؟
قال الأب: ينبغي أن يسمّي كل واحدٍ، فإن لكلٍّ شيطاناً.
أما الموقف الثاني يا ولدي فإذا نسيت أن تذكر الله تعالى أوّل الطعام، فاذكره متى تذكرتَه، فقد روى أمية بن مخشِيٍّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك ذات مرة، فقال له أصحابه: ما الذي أضحكك يا رسول الله؟ قال:
( ألا ترون إلى هذا الرجل الذي يأكل الآن؟ لم يذكر اسم الله تعالى فشاركه الشيطان طعامه، حتى لم يبق من طعامه إلا لقمة، فتذكر فقال: بسم الله أوله وآخره ورفع اللقمة إلى فمه، فلما سمع الشيطان ذكر الله استقاء ما في بطنه ).
يا بُنيَّ ؛احمدِ الله على رزقه وفضله تكن على خطا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم ، فقد كان يقول حين ترفع إليه مائدته: ( الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه )، وكان يقول: ( من أكل طعاماً فقال: الحمد لله الذي أطعمني هذا ورزقنيه من غير حولٍ مني ولا قوةٍ غفر له ما تقدم من ذنبه ).
رياض الصالحين
كتاب آداب الطعام: باب التسمية في أوله والحمد في آخره
روى أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غاب عنه فتى من اليهود كان يخدمه، فسأل عنه النبي صلى الله عليه وسلم ، فأخبروه أنه مريض، فما كان من البرِّ الرحيم صلى الله عليه وسلم إلا أن ذهب إلى بيت الفتى يعوده، ويدعو له بالشفاء، فلما وصل إلى بيته ورآه يحتضر قعد عند رأسه، وقال:
( يا غلام، أنت ذاهب إلى دار أخرى، ومنزل يختلف عن منزلك هذا، وأنا أرجو لك الخير، فلا تقابل الله إلا وأنت مسلم ).
كان الفتى محباً للنبي صلى الله عليه وسلم ، عارفاً صدقه، موقناً بنبوّته، ولكنْ كيف ينطق بالشهادة دون استئذانٍ من أبيه؟
صحيح أن برّ الأبناء آباءَهم فرضٌ فرضه الله تعالى علينا، لكن الحقَّ أحقُّ أن يتبع، والتزام الدين الصحيح أولى من البقاء على الكفر، ولعله كان يريد الإسلام في هذه اللحظة لكنه وجِلَ أن يراه أبوه يسلمُ دون إذنه، خواطر مرّت في ذهنه فما استطاع أن يحزم أمره، وهو على حافة قبره، فنظر إلى أبيه كأنّه يستشيره أو يرجوه أن يسمح له بالدخول في هذا الدين الجديد.
ورأى الأب في وجه ابنه علامة الرغبة في ذلك، ورأى فيه الاستعطاف في أن يوافق النبيَّ صلى الله عليه وسلم، ولعلّه أيضاً لم يشأ أن يخالف النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيته يعود ابنه، ولعله أيضاً كان يعرف في قرارة نفسه أن الكبر سيضرُّ ابنه إلى أبد الآبدين، فليسمح له باعتناق هذا الدين الجديد، وليكنْ ما يكون.
هذا ما قد يكون دار بخلَد اليهودي الأب فقال لابنه: أطع أبا القاسم.
وكانت النجاة من النار من نصيب الفتى، وأدركته رحمة الله سبحانه وتعالى قبل أن يلفظ أنفاسه، ونطق كلمةَ الفوز قبل أن يسلم الروح، وما أعظمه من فوز، وكلمةَ الصدق، وأعظم بها من كلمة صادقة أنقذته من الجحيم وحملته إلى ربض الجنة، شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأسلم النفس إلى بارئها، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم مرتاحاً لإسلام الفتى، منبسط الأسارير لخاتمة حياته، ما أسعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد أنقذ به الله تعالى هذا الفتى من النار، فله الحمد وله الشكر.
{ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)}(التوبة)
روت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، قالت:
شهد أبو سلمة – زوجها – معركة أحد في شوال من السنة الثالثة للهجرة، فجُرح فيها جرحاً، فاندمل دون أن يبرأ، ثم انتقض هذا الجرح بعد مدّة يسيرة، وبدأ الألم يزداد حتى قضى عليه بعد ستة أشهر في جمادى من السنة الرابعة، فأتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، إن أبا سلمة قد مات.
فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبي سلمة فرآه شاخص البصر فأغمض عينيه وقال: ( إن الروح إذا قبضَ تبعه البصر )،
فلما تأكد أهلُ أبي سلمة من موته علت أصواتهم بالبكاء وضجوا بالعويل، وبدأ بعضهم يدعو على نفسه ويرجو أن يلحقه أو يكون مكانه.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير، فالملائكة موجودة تسمع دعاءكم، وهي مجابة الدعوة، وتؤمِّن على ما تقولون ).
فلما هدأت نفوسهم قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( اللهم اغفر لأبي سلمة، وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا ربّ العالمين، وأفسح له في قبره، ونوّر له فيه ).
قالت أم سلمة: فلما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأى الانكسار في وجهي، قال لي:
( قولي: اللهم اغفر لي وله، وأعقبني منه عقبى حسنة، اللهم اؤجُرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها ).
فقلت في نفسي: أيُّ المسلمين خيرٌ من أبي سلمة؟ أوّلُ بيت هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟! ثم إني قلتُ مؤمنة بمقال النبي صلى الله عليه وسلم ، فجاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد انقضاء عدّتي يطلبني لنفسه، فقلت له: يا رسول الله إنني امرأة قد أسنّت ولي عيال كثيرون، وأخاف أن لا أكون حسَنة التبعُّل.
قال النبي صلى الله عليه وسلم :
( إن رسول الله أسنُّ منكِ، أما عيالك فأنا وليُّ أمرهم، ويعينك الله على حسن التبعُّل ).
فتزوجها رضي الله عنها وكانت ذا رأي سديد، وفكر صائب، وكان أولادها في رعاية خير الأنام، محمد عليه الصلاة والسلام، وقد روت كثيراً من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان ابنها سلمة أحد رواة الحديث، وكان من أشهر ما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( يا غلام سمِّ اللهَ وكل بيمينك، وكل مما يليك ).
وقد كان أبو سلمة رضي الله عنه أخاً للنبي صلى الله عليه وسلم في الرضاع وكان حمزة رضي الله عنه أخاهما فيه كذلك
حفظك الله أبا أيمن، وبارك فيك، وجعلك من خاصته، وأهل طاعته.
هكذا استقبل أبو حسان أخاه أبا أيمن حين رآه قادماً من المسجد في حرِّ الرمضاء وقد أدى صلاة الظهر في المسجد جماعة، لا يثنيه عن ذلك بعد المسجد، ولا ظلمة الليل، ولا هجير الظهر، وشدة الرطوبة التي يلفح حرُّها وجهه المشرق بالإيمان، ثم قال له: ما الذي يشدك إلى الجامع على الرغم من هذا الطقس الذي يُحيل حرُّه الجسمَ عرقاً، ولهيبه الرملَ جمراً؟
قال أبو أيمن: قولُ رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من غدا إلى المسجد أو راح أعدَّ الله له في الجنة نُزُلاً كلما غدا أو راح))، وسكت قليلاً يمسح العرق عن جبينه ثم قال: وقولُ رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من تطهَّر، ثم مضى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله كانت خطواته إحداهما تحطُّ خطيئة، والأخرى ترفع درجة)).
ألا ترى يا أخي أننا كثيرو الذنوب والآثام؟ وليس لنا من العمل الصالح إلا القليل؟ وكثرة خطانا إلى المساجد، ومنها، تمحوها وتكسبنا الحسنات دون عناءٍ يذكر.
قال أبو حسان: كتب الله لك العافية وجمّلَكَ بالصبر، أفلا استأجرت سيارة إلى المسجد، أو انتظرتني لآخذك في طريقي إليه؟
قال أبو أيمن: إذاً فاستمع إلى هذه القصِّة لتدرك زهدي فيما رَمَيتَ إليه:
كان رجل من الأنصار، لا أحد أبعدُ من المسجد منه، وكانت لا تخطئه صلاة، فقيل له: لو اشتريت حماراً تركبه في الظلماء، وفي الرمضاء إلى المسجد؟
قال: ما يسرُّني أنّ منزلي إلى جنب المسجد؛ إني أريد أن يُكتب لي ممشاي إلى المسجد ورجوعي إذا رجعتُ إلى أهلي.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً يسمع إلى حديثه فقال له: ((قد جمع الله لك ذلك كله)). وأنا مثله أرجو هذا الثواب يا أخي.
قال أبو حسان: صدقت يا أخي، متعك الله بالصحة، وكتب لنا ولك الأجر العميم، فقد روى جابر رضي الله عنه فقال:
خلت البقاع حول المسجد، فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا قرب المسجد، فبلغ ذلك النبيَّ صلى الله عليه وسلم ، فقال لهم: ((بلغني أنكم تريدون أن تنقلوا قرب المسجد؟)) قالوا: نعم يا رسول الله، قد أردنا ذلك.
فقال: ((بني سلمة!! ديارَكم تُكتبْ آثارُكُم، ديارَكم تُكْتب آثارُكم)).
فقالوا: ما يسرُّنا أنّا كنّا تحوّلنا.
قال أبو أيمن: أما المسير في ظلمة الليل إلى العشاء، وصلاة الصبح فأجره عظيم جداً، نورٌ في البصر والبصيرة، وأمان على الصراط ويوم الحشر، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((بشّروا المشّائين في الظلم إلى المساجد بالنور التامِّ يوم القيامة)).أفرأيت أحسنَ من هذا يا أخي؟
قال أبو حسان: لا والله، تبذل الجهد القصير في هذه الدنيا الفانية، فتنال الأجر الدائم، والثوابَ القائم في الدار الباقية.
فهنيئاً لك يا أخي الحبيب ممشاكَ إلى المسجد في الأوقات كلها.
وهنيئاً لك صلاة الجماعة ذات الأجر المضاعف.
وهنيئاً لك رضا الله سبحانه وبشرى نبيّه الكريم.
دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بستاناً لأحد الأنصار، وكان هذا البستان واسعاً مُسوَّراً يكثر فيه النخيل، وكانت الظلال الوارفة تطرد الحَرَّ وتهيئ لمن جلس فيها أنساماً باردة تداعبه وتغريه بالبقاء فترة من الزمن يتمنّى كل لحظة أن تطول، وكان خرير الجداول المنبثة بين الأشجار عزفاً لطيفاً يملأ المكان أنساً ولطافة يغريان بالصمت، ويشدان الآذان إلى التحليق في أجواء موسيقى طبيعية حلوة.
وإلى جانب السور جمل بدا كله ملتصقاً بالأرض، ساكناً، يحرك عنقه بين الفينة والأخرى، يمضغ بعض الأشواك، ويرسل رغاءً خفيفاً بين الحين والآخر، فلما رأى الجمل رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إليه بعينين سالت مدامُعها وبدأ صوته يتوالى، ومد رأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
لقد عرف فيه إنساناً رؤوفاً رحيماً، ونبياً عطوفاً كريماً، لا تعجب! فالحيوانات كلها كانت من جند سليمان عليه السلامُ تعرف مقداره ومكانته وتقرُّ له بالنبوة والطاعة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ذو المكانة الأرفع والمقدار الأسمى له من الآيات الدالة على محادثته الحيوان القصصُ الكثيرة، بل إن الجذع حنَّ إليه، ومال نحوه، وأصدر أنيناً حزيناً حين فارقه الرسول صلى الله عليه وسلم على منبره، فترك رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر، وخطا إليه يمسح عليه ليسكت، ويعدُه أن يكون من شجر المدينة إن صبر.
جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى الجمل فمسح سنامه ورأسه وأذنيه بيده الرحيمة، وربتّ على رقبته، فسكن الجمل واستكان إليه. هذا الحيوان الأعجم هدأ حين وضع الرسول العظيم يده الحانية عليه وشعر بالأمان والاطمنان، وعلم أنه بين يدي أكرم الخلق على الله سبحانه، وعلم أنه وصل إلى من ينصفه، ويدفع عنه الظلم، فأسلم قياده إليه، واعتمد في رفع ظُلامته عليه، لقد آوى إلى ركن ركين، وملاذٍ أمين.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((من صاحب هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟))
فانطلق أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يلتمس صاحبه ويبحث عنه، فلما عرفه، دعاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلما جاء مسرعاً قال له النبي صلى الله عليه وسلم : ((ما شأن جملك هذا؟ وماذا كلّفتَه؟)).
قال الأنصاري صاحب الجمل: لا أدري ما شأنه يا رسول الله، ولكنْ حملنا عليه أثقالاً كثيرة، ثم ربطناه إلى الساقية يدور حولها ليرتفع الماء فنسقي النخيل والأشجار، فبذل جهده، ثم توقف وقد ظهر العجز عليه، وهذا أمرٌ لم نكن نعهده فيه، فاتفقنا على نحره، وأكل لحمه، فقد أسنّ ولم يعد للعمل صالحاً.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ((لا تفعل ذلك، وأرِحه، وأكثر عَلَفه، ولا تكلفه إلا ما يُطيق، واتق الله فيما ملّكك من البهائم، ليبقى عليك فضله، ويزيدك من رزقه. فإن هذا الجمل شكا إليَّ أنك تجيعه، وتتعبه في العمل فلا تقابل نعمة الله بمعصيته، بل بالشكر والإحسان ليدوم لك الامتنان)).
رياض الصالحين
باب آداب السير، وأمر من قصّر في حق الدابة بالقيام بحقّها
مرَّ رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بشعبِ جبل لا يقصده أحد، فرأى فيه عين ماء عذب، فأعجبته، فقال: وددت لو اعتزلت الناس في هذا المكان المنقطع أعبد الله تعالى، فلا تقع مني إساءة لأحد، ولا يسيء أحد إليَّ فألقى ربي خفيفاً نظيفاً ليس لأحد عليَّ مظلمةٌ، ولن أفعل ذلك حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فلما جاءه وأخبره بالشعب وعُيَيْنة الماء ورغبته في اعتزال الناس هناك، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لا تفعل، فإن مُقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاته في بيته سبعين عاماً، ألا تحبون أن يغفر الله لكم، ويدخلكم الجنة؟!) قال الحاضرون: بلى،
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (اغزوا في سبيل الله)، ثم أردف عليه الصلاة والسلام قائلاً: (والذي نفس محمد بيده لوددت أن أغزو في سبيل الله فأُقتل، ثم أغزو فأُقتل، ثم أغزوَ فأُقتل). صمت الناس، وهم بين متعجب من فضل الجهاد ومفكِّرٍ في ما يعادله من الثواب.
قال رجل: يا رسول اله، فما جزاء من قاتل في سبيل الله؟
قال صلى الله عليه وسلم : (الجنّة، من قاتل في سبيل الله من رجل مسلم فُواقَ ناقة – الفواق ما بين الحلبتين من الزمن – وجبت له الجنّة، ومن جرح جرحاً في سبيل الله أو نُكبَ نكبةً فإنها تجيء يوم القيامة كأغزر ما كانت، لونها الزعفران وريحها كالمسك). قال رجل: ما الذي يعدل الجهاد يا رسول الله؟
قال صلى الله عليه وسلم : (لا تستطيعونه)، فكرَّرَ عليه السؤال، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تستطيعونه)، فلما تعجبوا قال عليه الصلاة والسلام: (مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم، القائم، القانت بآيات الله، لا يفتُر من صلاة ولا صيام حتى يرجع المجاهد في سبيل الله). قال الحاضرون: مَنْ يستطيع ذلك؟! لن تجد إلا الملائكة يستطيعون ذلك.
ثم إن فتى جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني أريد الغزو، وليس معي ما أتجهز به. قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم : (ائت فلاناً، فإنه كان قد تجهّز للحرب، فمرض، فأقرئه السلام وخذ ما تجهّز به). فذهب الفتى إلى الرجل المريض، فسلّم عليه، ثم قال له: رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرئك السلام ويقول: أعطني الذي تجهّزت به.
قال الرجل: سمعاً وطاعة لرسول الله، ثم التفت إلى امرأته فقال: يا فلانة أعطيه الذي كنت تجهّزتُ به، ولا تحبسي عنه شيئاً، فوالله لا تحبسين منه شيئاً فيباركَ الله لك فيه، فأدّته إليه كاملاً.
وجاء رجل مدجج بالسلاح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أتأمرني أن أسلم ثم أقاتل أم أقاتل ثم أسلم؟
قال صلى الله عليه وسلم : ((لا يقبل الله العمل إلا بعد الإيمان، فأسلم ثم قاتل)). فحين أسلم الرجل ثم قاتل، َقُتِل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (عَمِلَ قليلاً وأُجِر كثيراً).
قال رجل: فما فضل الشهادة يا رسول الله؟
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ما أحدٌ يدخل الجنة يجب أن يرجع إلى الدنيا، وله ما على الأرض من شيء إلا الشهيد، يتمنّى أن يرجع إلى الدنيا، فيُقتل عشرَ مرات، لِما يرى من الكرامة).
والتقى المسلمون في غزوة بدر بالمشركين، وصفّ الرسول الكريم صل الله عليه وسلم المسلمين ثم قال: (لا يباشرْ أحد منكم بالقتال إلا إذا أذنت لكم)، فقالوا: سمعاً وطاعةً، ثم إنّ المشركين هاجموا المسلمين، فلما وصلوا إلى مرمى سهامهم أمرهم القائد الفذُّ صلى الله عليه وسلم فرشقوهم بالسهام، فلما دنوا أمرهم أن يرموهم بالرماح، فلما تلاحموا بدأ الطعن والضرب بالسيوف، ونادى رسول الله صلى الله عليه وسلم : (قوموا إلى جنّة عرضها السماوات والأرض) ، فقال عمير بن الحمام الأنصاري، رضي الله عنه: يا رسول الله؛ جنّة عرضها السماوات والأرض؟ قال: (نعم). فقال عمير: بخٍ بخٍ متعجباً، مفخماً ما سمعه،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما الذي دعاك إلى قول بخٍ بخٍ؟) قال عمير: يا رسول الله رجاء أن أكون من أهلها، قال الرسول صلى الله عليه وسلم : (فأنت من أهلها). وأخرج عميرٌ تمرات من جَعبته، فجعل يأكل منهن ثم حنَّ إلى القتال، فقال: لئن أنا حييت حتى أكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، إنها لحياة طويلة، لا أريدها، فأنا أصبو إلى حياة دائمة تمنعني عنها هذه التمرات، فرمى ما كان معه من تمرات، ثم قاتل المشركين، يضرب هنا وهناك حتى قتل، فدخل الجنّة فهو في حوصلة طير أخضر يأكل من ثمار الجنّة، ثم يأوي إلى عرش الرحمن آمناً مطمئناً.
في السنة الرابعة للهجرة قَدِم أبو براء بن عازب بن مالك، ملاعبُ الأسنّة، وهو سيّد قومه بني عامر بن صعصعة، على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مدينته الطيبة، وأهدى النبيَّ صلى الله عليه وسلم هديةً لم يقبلها، وقال: (يا براء، لا أقبل هدية مشرك)، ثم عرضَ عليه الإسلام، وبما أن الزعماء يكبر عليهم أن تُردَّ هديتهم لأنها عنوان سيادتهم، فقد قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إن أمْرك هذا حسنٌ – ولم يسلم – فلو بعثتَ رجلاً من أصحابك إلى أهل نجد يدعوهم إلى دينك لرجوت أن يستجيبوا لك.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أخشى عليهم أهل نجد ففيهم غدر ). قال أبو براء: أنا جار لهم.
ماذا يفعل رجل واحد مع رجال قلوبهم قدَّت من صخر، وسكن الشيطان في صدورهم، وفرَّخ فيها؟
لأبعثنَّ لهم رجالاً صدقوا الله ما عاهدوه عليه، حياتهم للقرآن، يتدارسونه كل وقتهم، ولْيكونوا من الأنصار الذين آمنوا بي ونصروني، وأعزَّ الله بهم وبمدينتهم الإسلام، وهبُوا حياتهم لمولاهم، وقرآنه محفوظ في عقولهم وأفئدتهم، أسميتهم القرّاء، يتدارسونه في الليل، ويخدمون إخوانهم في النار، فيجيؤون بالماء إلى المسجد لينتفع به المحتاجون شرباً ووضوءاً، وينطلقون إلى أحراش المدينة، فيحتطبون ويبيعون الحطب، فيشترون لأهل الصفّة من الفقراء والمحتاجين طعاماً.
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نجد سبعين رجلاً من القرّاء، فيهم حرام بن ملحان، خال أنس بن مالك، وعامر بن فُهيرة، وساروا حتى نزلوا بئر معونة، من أرض بني عامر فلما نزلوها أرسلوا حرام بن ملحان بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى شيخ قبائلهم عامر بن الطفيل، فلما أتاه لم ينظر في كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يَرْعَ حرمة رسوله، فعدا عليه فطعنه وقتله، فقال حرام وهو يلفظ أنفاسه: فزت وربِّ الكعبة، .. فاز بالجنّة، عرضها السماوات والأرض، وفاز برضوان الله تعالى، فحياتُه، وعمله، وأمله أن يصل إلى هذا، ووصل لأنه كان صادقاً يسعى بكل ما أوتي إلى لقاء الله، فلقيه، فأحسن الله وفادته.
واستصرخ عامر بن الطفيل بني عامر لقتل القرّاء، فقالوا: لن نخفر أبا براء، فقد أجارهم، لكنهم تخاذلوا عن نصرة المسلمين القادمين إليهم ليعلّموهم ويفقهوهم، حين استصرخ بقية القبائل من بني سليم وعصيّة، ورعل، وذكوان، فأجابوه وخرجوا إلى المسلمين وأحاطوا بهم حتى قتلوهم عن آخرهم.
هكذا أعداء الله، لا يرعَون في مؤمن إلّاً ولا ذمّة، ولا عهداً، ولا ميثاقاً، فهم لا يريدون لراية الإسلام أن تعلو خفاقةً، ولا لضياء الحقِّ أن ينير الدنيا خيراً وعدلاً، يقتلون الدعاة ويكممون الأفواه، ويفترون عليهم أسوأ الصفات، ويزعمونهم خارجين على الأمة إرهابيين متخلفين! وهم هكذا في كل زمان ومكان، يريدون أن يطفئوا نور الله، ولكن هيهات هيهات، فما للمخلوق قِبَلٌ للخالق، ولا الضعيف بالقوي طاعة.
قال القرّاء وهم يرون مصارعهم حين أحاط بهم الأعداء، فُزنا وربّ الكعبة كما فاز حرام بن ملحان، وانتضوا سيوفهم وقارعوا عدوهم وجأروا إلى الله بالدعاء: اللهم بلّغ عنّا نبينا أنا قد لقيناك، فرضينا بك ربّاً وبشرعك ديناً، وبنبيّك رسولاً، وأنك رضيت عنا فأدخلتنا الجنة وشملتنا برحمتك وغفرانك.
وأمر الله تعالى سفيره الكريم جبريل عليه السلام فأوصل ما قالوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال للمسلمين: ( إن إخوانكم قد قتلوا، وإنهم قالوا: اللهم بلّغ عنا نبيك أنا قد لقيناك فرضينا عنك ورضيت عنا ) وصلى رسول الله والمسلمون معه على هؤلاء الشهداء صلاة الغائب، وحزن عليهم، وكيف لا يحزن المسلمُ على إخوانه، وهم قد بذلوا أرواحهم وحياتهم لله، وقال صلى الله عليه وسلم : (هذا من عمل أبي براء، لم يدافع عنهم) ، فبلغه ما قال النبي الكريم، فحملته النخوة العربية والخوف من العار إلى أن طعن عامر بن الطفيل فخَرَّ عن فرسه، ودميَ، وعرف الأخير أنه أساء لعمّه فقال: إن مِتُّ فلا تنالوه بسوء، دمي حلال له، لكنّه لم يمت.
رحم الله قتلى بئر معونة، ورحم الدعاة في كل أرض وكلّ زمن، فإن إيذاءهم يترى، والتضييق عليهم يستمر، ورغم كل هذا فهم على طريق الهدى سائرون.
{ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ العَزِيزِ الْحَمِيدِ (8)}(البروج)
رياض الصالحين / باب الجهاد في سبيل الله
1- حين فتح المسلمون العراق بقيادة المثنى بن حارثة، ثم أتمها خالد بن الوليد رضي الله عنه جهز الفرس جيشاً عرمرم بقيادة رستم، وانطلقوا من فارس يريدون دحر المسلمين واسترجاع ما سُلب منهم.
كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب قد جهز جيشاً قوياً يحارب به هؤلاء، وحدثته نفسه أن يقوده بنفسه، فمنعه أصحابه قائلين: إن المسلمين بحاجة إليك، وأصحابُك فيهم القادة العظام، المجرّبون في الحرب القادرون على إحراز النصر بإذن الله، نزل الفاروق على رأيهم، واستشارهم فيمن يوليّ، فوقع الاتفاق على أحدِ العشرة المبشرين بالجنة، سعد بن أبي وقاص، أول رام بسهم في الإسلام، والوحيد الذي فداه الرسول الكريم بأمه وأبيه حين قال له في غزوة أحد:
(( ارم يا سعد ارم، فداك أبي وأمي ))، لم يتخلف عن غزوات الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، كان مستجاب الدعوة رضي الله عنه.
عيّنه الفاروق أميراً على الجيوش الإسلامية، وكانت الرسل بينهما تتوالى يومياً، وكان أمير المؤمنين، يزوّد سعداً بالمؤن والذخائر والجنود، ويطلّع على مجريات المعركة، ويسدّدها، وعنه تصدر التعليمات، فكأنه القائدَ الفعليَّ للمعركة، وانتصر المسلمون في موقعة القادسية على الفرس نصراً مؤزراً، وصار سعدٌ والي العراق، ومقرّه الكوفة، يحكم بالعدل، يواسي الفقير، ويأخذ على أيدي الظالم، ويقسِمُ بالسويّة، ولكنَّ أهل السوء – في موسم الحج – شكَوه إلى أمير المؤمنين، ووصفوه بغير ما هو أهل له، فعزله، ليس تصديقاً لهم، إنما يريده مستشاراً له، واستعمل عليهم عمار بن ياسر رضي الله عنه، ثم إنهم حين رأوا عمر عزله اشتطوا فقالوا: إنه لا يحسنُ الصلاة.
أصاحبُ رسول الله صلى الله عليه وسلم المبشر بالجنّة، الذي استعمله رسول الله على غزواتٍ ومدحه وفداه بأمه وأبيه لا يحسن الصلاة؟!! هذا افتراء وبهتان،
احتد سعدٌ وقال: أما أنا فوالله كنت أصلي بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا أخرم عنها، أقرأ في الركعتين الأوليين من صلاة العشاء فأطوّل وأخفف في الثالثة والرابعة كما يفعل رسول الله صلى الله عليه سلم .
قال عمر: صدقت يا أبا إسحاق فوالله لأنت الصادق وهم الكاذبون.
ولكي يطيّبَ الفاروق خاطر سعد أرسل معه وفداً إلى الكوفة، يمرون معه على مساجدها، ويسألون الناس عن سعدٍ وسيرته فيهم حين كان أميراً، فلم يدَعوا مسجداً إلا سألوا المصلين فيه عن سعدٍ رضي الله عنه، والناس يذكرونه بالخير، ويثنون عليه، ويفيضون في مدحه.
حتى إذا وصل إلى مسجد لبني عبس ذكره الناس فيه كالعادة بالفضل وسموّ الأخلاق، والعدل، فقام رجل منهم ضاقت نفسه لمدحه وكان ممن فسَدوا عليه، واغتابوه، يقال له أسامة بن قتادة ويكنى أبا سعدة، فقال: إن كنتم تطلبون الصدق في سعد فإليكم حقيقة الأمر:
فإنه كان يرسل الجيش للقتال ولا يخرج معه.
وإذا قسم بين الناس الأموال كانت قسمته ضيزى، ليس فيها مساواة.
وإذا حكم بينهم لم يعدِل، إنما دأبه أن يميل إلى ذوي الأموال والأهواء.
وهنا تأثر سعدٌ رضي الله عنه، وكان كما أسلفنا مستجاب الدعوة فقال:
أما وقد قلتَ فإني أدعو عليك دعوات ثلاثاً.
اللهم إن كان عبدك هذا كاذباً، قام رياء وسمعة فأطلْ عمره، وأطل فقره، وعرّضه للفتن.
فكان هذا الشيخ بعد ذلك إذا سئل ما شأنك؟ قال: أصابتني دعوة سعدٍ، فها أنا شيخ كبير مفتون أعمى، عندي عشرُ بنات لا أعرف كيف أصرف عليهن.
وعاش الرجل إلى أن أدرك إحدى الفتن فغاص فيها.
قال جابر بن سمرة: لقد أبصرت هذا المفتون الكذاب قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر، وإنه ليتعرض إلى الفتيات في الطريق فيغمزهن ويمسك بأصابعهن يداعبهن كما يفعل السفيه، فيهربن منه.
2- أما سعيد بن زيد، وهو كذلك أحد العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنه، فقد خاصمته امرأة اسمها أروى بنت أوس إلى مروان بن الحكم، وادّعت أنه أخذ شيئاً من أرضها،
فقال سعيد: أنا آخذ من أرضها شيئاً بعد الذي سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!
قال مروان: ماذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
(( من أخذ شبراً من الأرض ظلماً، طوّقه إلى سبعة أرضين )).
فقال مروان: لا أسألك بعد هذا بيّنة، فأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، شهد لك بالجنّة. قال سعيد: اللهم إن كانت كاذبة فأعمٍ بصرها، واقتلها في أرضها، فما ماتت حتى ذهب بصرها فكان الناس يرونها تلتمس الطريق تقول: أصابتني دعوة سعيد.. وإنها مرّت على بئر في الدار التي خاصمته فيها، فوقعت فيها، فكانت قبرَها.
طعام الاثنين يكفي أربعة، وطعام الأربعة يكفي ثمانية، هكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم ، ويكفي الإنسان بضع لقيمات يُقمن صلبه، فلم يخلقنا الله تعالى للأكل والشرب، وإنما جعلهما وسيلة لغاية سامية، لحياة نكون فيها عباداً لله فننشئ مجتمعاً متراحماً متكافلاً.
إن أصحاب الصفّة كما مرّ معنا كانوا أناساً فقراء، وإن النبي صلى الله عليه وسلم قال مرة:
(( من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث (يأكل معهما)، ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامسٍ، بسادس ))،
وهكذا، فقام أبو بكر إلى ثلاثة من أهل الصفّة، فدعاهم إلى بيته، ثم إنّه قال لابنه عبد الرحمن: هؤلاء أضيافك يا بني، فإني منطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فلي عنده ما يشغلني، فأطعم أضيافك، وأحسِنْ قراهم.
وانطلق الصديق أبو بكر إلى دار النبي صلى الله عليه وسلم فجلس عنده ما شاء الله له أن يجلس، وتعشى عنده مع نفر من أصحابه، ولبث هناك إلى ما بعد صلاة العشاء.
أما عبد الرحمن فقد جاء بطعام إلى أهل الصفّة الذين جاء بهم أبوه الصدّيق رضي الله عنه فقال: اطعَموا،
فقالوا: أين ربّ منزلنا؟
قال: إنه ذهب لبعض شأنه، وأمرني أن أضيفكم،
قالوا: ما نحن بآكلين حتى يجيء والدك، ولن نأكل إلا بوجوده وأن ينال من الطعام معنا.
قال عبد الرحمن: أرجوكم أن تأكلوا، فوالله إنه إن جاء، ولم تطعموا لألقينَّ منه ما يسوء، فلم يقبلوا، فعرفتُ أنه سيغضب مني، واحترت في أمري، فلما جاء بعد العشاء وجدهم جالسين لم يعودوا إلى منزلهم، فعلم أنهم لم يأكلوا، فسألهم عن إبائهم الطعام فقالوا: أنت دعوتنا، فلما ذهبت انتظرناك.
وكنتُ لما رأيته داخلاً اختبأت لئلا أرى منه وأسمع ما لا يسرُّ،
فنادى: أين أنت يا عبد الرحمن؟ كيف تترك أضيافك دون طعام؟ فلما لم أجبه، وكان يعلم أني أسمعه، قال: سألتك بالله أن تجيبني إن كنت تسمعني،
فلم أر بدّاً من إجابته، فجئته على خوف واستحياء، فأسمعني ما كنت أتوقعه، فقلت له: يا أبتِ والله لقد عزمت عليهم أن يطعموا، واعتذرت لهم عن غيابك، فأبوا وقالوا: لسنا بآكلين إلا إذا أكل الصديق، فالتفت إليهم قائلاً: أحقاً ما يقوله هذا؟
قالوا: صدق والله، فكيف نأكل ولست معنا؟! فظهر الغضب على وجهه، أما الآن فليس مني، ولكن منهم فقال مغضباً: كلوا لا هنيئاً ولا مريئاً، فتقبّلوا هذا منه لمكانته عندهم، ولأنهم أغضبوه، فكيف يُدْعون فلا يأكلون؟ وابنه بينهم، وهو منشغل عنهم؟.
لم تمتد أيديهم إلى الطعام، فسألهم ما يمنعكم أن تأكلوا؟ قالوا: أنت صاحب الطعام وصاحب البيت فابدأ أولاً،
قال: انتظرتموني، ثم فرضتم عليَّ الأكل، والله لا ذقته أبداً هذه الليلة،
قالوا: والله لا نطعمه حتى تطعمه.
قال: ويلكم!! ما لكم لا تقبلون عنا قراكم، هات طعامك يا عبد الرحمن، فجاء به إليه، وهو شبعان، قد أكل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوضع يده فقال: بسم الله، لأحنثنّ بقسمي هذا، فهو من الغضب ومن الشيطان، وأخذ الأضياف الثلاثة وعبد الرحمن وأم رومان زوجة الصديق يأكلون، والصدِّيق ينظر إليهم ويبتسمُ، ولكنّه التفت فجأة إلى زوجته فقال لها: يا أم رومان ما الذي أراه، فانتبهت وقالت: سبحان الله، إن الطعام يكثر، ولا يقلُّ، كلما أكل أحدهم لقمة رَبَت من أسفلها أكثر منها حتى علا الطعام في القصعة، وكاد يسقط منها، فلما شبع القوم، بعث الصدِّيق غلامه بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بخبرها، فأكل النبي صلى الله عليه وسلم منها، وتركها عنده إلى الصباح.
وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم اثنا عشر رجلاً، كانوا على موعد معه فخرج بهم إلى ظاهر المدينة، حيث كان في انتظارهم عدد كبير من المسلمين، وهناك قسّم الرسول صلى الله عليه وسلم الناس إلى اثنتي عشرة مجموعة على رأس كلّ واحدة منها رجل ممَّن كانوا عنده في الصباح، ثم قدَّم لهم النبي صلى الله عليه وسلم هذه القصعة فأكل منها الجميع وكفتهم، فقد كانت مباركة، ظهرت بركتها عند الصدِّيق رضي الله عنه، وزادت بركةً في بيت النبي صلى الله عليه وسلم .
كانت ليلة مظلمة من ليالي المدينة، غابت عنها نجومها، وغاب عنها قمرها، لكن الصحابة الأجلاء كانوا يقبسون الأنوار من قمر الهداية، وكوكب العناية الربانية، مَن اصطفاه ربه فأعلى مقامه، وجعله نوراً يهدى به البشرية إلى يوم القيامة.
سمعوا آيات الله تتلى من فم مَن عليه نزل القرآن الكريم، فملأ قلوبهم نوراً وعيونهم ضياءً، وسمعوا كذلك من المصطفى دعاءه:
(( اللهم اجعل من أمامي نوراً، ومن خلفي نوراً، وعن يميني نوراً، وعن شمالي نوراً، ومن فوقي نوراً، ومن تحتي نوراً، اللهم اجعلني نوراً ))،
أو كما قال عليه الصلاة والسلام، فلما أرادوا العودة إلى بيوتهم كانت الأنوار تحفهم من كل جانب، وكأنهم في رابعة النهار.
هذا أُسيد بن حضير وعبادة بن بشر رضي الله عنهما يخرجان من حضرة النبي (الضياء) عليه الصلاة والسلام، وأمامهما مثل المصباح ينير دربهما .. ما كانا يغنيَّان، ولا يتمايلان تمايل السكارى.. ولم يكن حديثهما مما يندى له الجبين، إنما كانا ملكين يمشيان على الأرض، ذكرُ الله في قلبيهما ولسانيهما، يحمدانه على نعمة الإسلام، ونور الإيمان.
كان هذا المصباح يشق طريقهما فترتاحُ نفساهما إلى ما هما عليه من دين عظيم كريم يقرب إلى الله تعالى.
فلما افترقا كلُّ إلى أهله انقسم هذا النور نورين، والمصباح مصباحين.
أرأيت أخي الحبيب ما يفعل الإيمان والإسلام في حياة أتباعه؟
في السنة الرابعة للهجرة، وفي شهر صفر منها، جاء رهط من قبيلتي عُضَل والقارة، أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر، يريدون أن يظفروا ببعض المسلمين أسارى ليبيعوهم إلى مشركي مكة فيقتلهم هؤلاء بقتلاهم في أحد فقال هؤلاء الرهط للنبي صل الله عليه وسلم: يا رسول الله إن فينا رغبة في الإسلام، فقد بدأت بيوتنا يفشو فيها هذا الدين الحديث، ولا نعرف شيئاً عنه، فابعث لنا نفراً يفقهوننا في الدين، ويقرئوننا القرآن.
كانت هذه الكلمات منهم عرضاً رائعاً، حفز النبي صلى الله عليه وسلم – وهو سيّد الدعاة – على أن يرسل إليهم بعض الفقهاء الشباب، يعلمونهم دينهم، ويرشدونهم إلى سنّة نبيهم، والشباب عدّة المستقبل وبُناته، وعلى همتهم تقوم أركانه، فاختار ستة وأمّرَ عليهم عاصم بن ثابت، فانطلقوا معهم إلى نجد – مكان إقامتهم -.
فلما كانوا بالهدأة وهي بلدة بأعلى مرِّ الظهران، ظهر الغدر في عيون أولئك الرهط، وقاموا يريدون أسرهم، فلما علموا أنهم لا يقدرون عليهم استصرخوا عليهم حياً من هذيل، فبعثوا لهم مئة رجل، فالتجأ المسلمون إلى جبل، واعتصموا فيه، فلما رأى المشركون أن لا سبيل إلى هؤلاء النفر الستة استنزلوهم وأعطوهم الأمان، وأقسموا أن لا ينالوهم بسوء، فقال عاصم: والله لا أنزل على عهد كافر، فالكافر لا أمان له ولا ذمّة، وصعّد نظره في السماء وقال: اللهم بلّغ عنا نبيّك أنّا نموت على دينك وأنه أدى الأمانة وبلغ الرسالة ونصح الأمة فعليه منك الصلاةُ والسلام، وكان على رأيه اثنان آخران هما مرشد بن أبي مرشد، وخالد بن البَكير، فقتل عاصمٌ ومرشد وخالد.
واستأسر بعد ذلك خبيب بن عدي، وزيد بن الدثِنَّة ورجل آخر هو عبد الله بن طارق، فلما أسروهم، أظهروا الغدر كعادتهم وربطوهم بالقسيّ، فقالوا لهم: أين العهد والذمّة، فقال المشركون: لا عهد لكم ولا ذمة، وصدق الله العظيم حين وصف المشركين قائلاً:
{ لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10)}(التوبة)"
وساقوهم إلى مكة، أما عبد الله بنُ طارق فلم يرضَ المسير، وتمنّى لو قتل مع الشهداء الثلاثة، واستمكن في الأرض، فدفعوه، فلما يئسوا منه وضعوا السيف في صدره فلحقت روحه بإخوانه الثلاثة إلى بارئها.
وأراد هؤلاء القتلة أن يحزّوا رأس عاصم ليبيعوه من سلافة بنت سعد، وكانت نذرت أن تشرب الخمر في رأس عاصم لأنه قتل ابنَيْها في غزوة أحد، فجاء النحل بأعداد هائلة يطنُّ حوله، فما استطاعوا الوصول إليه، فقالوا: دعوه إلى المساء فيذهب النحل، فنأخذه، فبعث الله تعالى سبيلاً احتمله، وكان عاصم عاهد الله أن لا يمسّ مشركاً، ولا يمسّه مشرك، فمنعه الله في مماته كما منعه في حياته.
وأما خبيب فقد اشتراه بنو الحارث بن نوفل، وكان خبيب هو الذي قتل الحارث في "أحد" فأخذوه ليقتلوه به، فبينما خبيب عند بنات الحارث استعار من إحداهنّ موسى يستحدُّ بها، فاقترب منه طفل صغير فجلس على فخذ خبيب، والموسى في يده، فصاحت المرأة خوفاً على صغيرها أن يقتله خبيب، فقال لها: أتخشين أن أقتله؟ إن الغدر ليس من شيمة المسلمين وليس من شأنهم الغدر بالآخرين، وأعاده إلى أمه، فكانت هذه المرأة تقول: ما رأيت أسيراً أخيرَ من خبيب، لقد رأيته، وما بمكة ثمرة، وإن في يده لقِطفاً من عنب يأكله، ما كان إلا رزقاً رزقه الله خبيباً.
فلما خرجوا من الحرم ليقتلوا خبيباً قال: ردّوني أصلي ركعتين، فتركوه فصلاهما، فسن سنة حسنة لمن يقتل صبراً أن يصلي ركعتين.
ثم قال: لولا أن تقولوا جزع لزدت، وقال أبياتاً منها:
ولست أبالي حين أقتل مسلماً * على أي جنب كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله، وإن يشأ * يبـارك على أوصـال شِــلوٍ ممـَزّع
اللهمَّ أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ثم صلبوه.
يقول أبو سفيان بعد ما أسلم: فوالله لقد كنت وابني معاوية ممن حضرَ مقتله، فما سمعت بدعائه حتى انحنيت، وأحنيت رأس ولدي خوفاً أن يصيبنا دعاؤه.
وأما زيد بن الدثِنَّة فإنّ صفوان بن أميّة بعث به مع غلامه نسطاس إلى التنعيم خارج مكة ليقتله بابنيه، فقال نسطاس: أنشُدك الله أتحب أنّ محمداً الآن مكانك نضرب عنقه وأنّك في أهلك؟
قال: ما أحبُّ أن محمداً الآن مكانه بين أصحابه تصيبه شوكة تؤذيه وأنا جالس في أهلي.
فقال أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحداً يحبُّ أحداً كحبِّ أصحاب محمدٍ محمداً.. ثم قتله نسطاس.
وهكذا انطوت صفحة من صفحات الغدر التي تتوالى على المسلمين في كل زمان ومكان، لا لذنب إلا أنهم قالوا: ربّنا الله، ولا يزال ركبُ الإيمان على الرغم من كيد الكائدين، ومكر الماكرين، يمشي معلناً كلمة الإيمان: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
قال الابن لأبيه: يا أبتِ قرأت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُتِيَ برجل شرب خمراً، فقال:
(( اضربوه تعزيراً له ورَدْعاً ))،
فقال أبو هريرة: فمنا الضارب بيده، والضارب بنعله، والضارب بثوبه، فلما انصرف قال بعض القوم: أخزاك الله، فقال رسول الله صلى الله عليه سلم: (( لا تقولوا هذا، لا تعينوا عليه الشيطان )) فلماذا أبى عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك؟
قال الأب: الدعاء بقولهم: أخزاك الله، لعنة، ولا يُلعنُ إلا الظالمون، لقوله تعالى: " أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ " .
قال الابن: لقد ظلم نفسه بشرب الخمر يا والدي.
قال الأب: يا بني إن الظالمين: الذين يصدون عن سبيل الله، وهذا مسلم ارتكب خطأً فعزّره رسول الله صلى الله عليه وسلم . وليس المؤمن بطعّان ولا لعّان .. أليس كذلك يا بني؟
قال الابن: بلى يا والدي.
قال الأب: وقد حدثنا النبي صلى الله عليه وسلم أن العبد إذا لعن شيئاً، صعدت اللعنة إلى السماء فتغلق دونها الأبواب، ثم تنزل إلى الأرض فتغلق دونها أبواب الأرض، ثم تمشي اللعنة يميناً وشمالاً فإذا لم تجد طريقاً إلى ملعون رجعتْ إلى قائلها، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم ينبهنا إلى أن اللعّانين لا يكونون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة.
قال الابن: أعوذ بالله أن أكون لعّاناً.
قال الأب: أما وقد كرهت أن تَلعنَ فاسمع ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم مَن لعنت ناقتها.
قال الابن: شوقتني يا والدي ومعلمي إلى قصتها.
قال الأب: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، وامرأة من الأنصار على ناقةٍ عليها بعض متاع القوم، إذ وصلوا إلى مكان ضيّق بين جبلين تزاحم فيه الركبُ، فأرادت المرأة أن تسرع ناقتها، فلم تستطع، فضجرت منها فلعنتها، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم مقالتها، فقال: (( خذوا ما على الناقة من متاع ودعوها فإنها ملعونة، لا تصاحبنا ناقة معلونة )).
وقال راوي الحديث – يا بني -: فكأني أرى الناقة تمشي في الناس لا يتعرض لها أحد.
قال الابن: أفلا تجوز اللعنة أبداً؟
قال الأب: بلى، ولكن في حدود الشرع، فقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم : الواصلة والمستوصلة وآكل الربا والمصورين ومن لعن والديه، ومن ذبح لغير الله، ومن أحدث منكراً، ومن آذى المسلمين.
قال الابن: فما الواصلة والمستوصلة؟
قال الأب: التي تصل شعرها بشعر غيرها تدعى مستوصلة، ومَنْ تقوم بهذا العمل فهي واصلة.
قال الابن: أهناك من لُعنوا أيضاً؟
قال الأب: نعم: اليهود الذين اتخذوا مقابر أنبيائهم مساجد، والمتشبهون من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال.
ورفع الأب وفتاه أيديهما إلى السماء يسألان الله الهداية، والفقه في الدين لهما ولكل المسلمين.
الصورة الأولى:
مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في السوق يراقب البيع والشراء، وتصرُّفَ الناس في السوق، يرشد هذا، ويعلّم ذاك، ويسلم على هذا، ويصبغ المجتمع بصبغة الإسلام، وتوقف عند رجل يبيع طعاماً، فأدخل يده في الإناء فأصابها البلل، فقال له: (( ما هذا يا صاحب الطعام؟ إنّه جافٌ من فوقُ مبللٌ من تحت )).
قال الرجل معتذراً: نزل المطر عليه يا رسول الله فابتلَّ.
قال الرسول صلى الله عليه وسلم : (( أفلا جَعلت ما ابتلَّ فوق الطعام حتى يراه الناس؟! هذا غش لا يرضاه الله عز وجلَّ ولا نرضاه يا صاحب الطعام: من غشّنا فليس منّا )).
الصورة الثانية:
كان أبو مسعود البدري يضرب أحد عبيده بالسوط لذنبٍ أذنبه، فسمع صوتاً من خلفه يقول: (( يا أبا مسعود )) لكنّه – لغضبه الشديد من فتاه – لم يسمع الكلام ولم يعرفِ المنادي، فلما اقترب الصوتُ منه عرف فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتوقف عن الضرب واحمرَّ وجهه خجلاً أن يراه الرسول صلى الله عليه وسلم وهو منفعل يضرب عبده.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : (( يا أبا مسعود، إذا دعتك قدرتك على ظلم الناس، فتذكر قدرة الله عليك، يا أبا مسعود: اعلم أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام )).
فقال أبو مسعود: فسقط السوط من يدي هيبة، ثم قلت: لا أضرب مملوكاً بعده أبداً يا رسول الله.
ثم التفت أبو مسعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسترضيه قائلاً: يا رسول الله هو حرٌّ لوجه الله.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : (( أما إنّه لو لم تفعل للفحتك النار يوم القيامة يا أبا مسعود: من ضرب غلاماً له حدّاً لم يأته، أو لطمه فإن كفارته أن يعتقه )).
قال أبو علي سويد بن مقرِّن رضي الله عنه: كنا سبعة إخوة من بن مقرِّن ما لنا إلا خادمة واحدة، لطمها أصغرنا فأمرنا الرسول الكريم أن نعتقها.
الصورة الثالثة:
مرَّ عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما بفتيان من قريش نصبوا طيراً (حيّاً) وهم يرمونه، وقالوا لصاحب الطير: كل سهم لا يصيب الطير فهو لك، فرضي، فهم يصوبون سهامهم نحوه، فلما رأوا عبد الله بن عمر تفرَّقوا، فقال بن عمر: من فعل هذا؟ لعَنَ الله منْ فعل هذا، إن رسول الله صلى الله عليه سلم لعن من اتخذ شيئاً فيه روح هدفاً.
الصورة الرابعة:
كان هشام بن حكيم بن حزام رجلاً صلباً في الحق، لا يخشى في الله لومة لائم، عُرف عنه ذلك، فكان الفاروق يُسَرُّ لهذا، ويقول إذا بلغه أن هشاماً ينكر منكراً: ما بقيت أنا وهشام فلا يكون هذا.
رجل كهشام قليلاً ما نجده في هذا الزمن الذي فسد فيه كل شيء إلا ما رحم الله.
مرَّ هشام هذا بالشام على ناس من الأنباط – وهم قوم من العرب دخلوا في العجم والروم فاختلطت أنسابهم، وفسدت ألسنتهم – قد أقيموا في الشمس، يلفحهم هجيرها، يُصبُّ على رؤوسهم الزيت فقال: ما هذا؟
قيل: يعذّبون لأنهم لم يدفعوا خراج الأرض.
قال: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( إن الله يعذب الذين يعذّبون الناس في الدنيا بغير الحق )).
فدخل على الأمير فحدَّثه بما حدَّث به النبي صلى الله عليه وسلم فأمر الأمير بإخلاء سبيلهم.
أما في هذا الزمان فصبُّ الزيت في حر الشمس على الوجوه يعتبر من المزاح الخفيف، لقد اخترع أعداء الله طرقاً شيطانية فيها شتى الأفانين في العذاب، لا تخطر على بال، طرقاً تدل على بهيمية مخترعيها ومستعمليها، وتدلُّ على أنهم لا يمتّون إلى الإنسانية بصلة، حدّثنا عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: (( صنفان من أهل النار لم أرهما ))، وذكر القوم يضربون الناس بأذيال البقر وهي كناية عن التفنن في التعذيب وإيذاء الناس، نعوذ بالله من شرورهم.
الصورة الخامسة:
قال ابن مسعود: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فانطلق لحاجته، فرأينا طائراً معها فرخان، فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمّرة (الطائر) فزعة تطير من فوق رؤوسنا، وكأنها ترجونا أن نعيد إليها فرخيها، لا يقرُّ لها قرار، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ، فرآها تطير مضطربة، فقال: (( من فجع هذه بولدها؟ ردّوا ولدها إليها )).
ورأى قرية نملٍ قد حرَّقناها، فقال: (( من حرق هذه؟)).
قلنا: نحن فعلنا ذلك يا رسول الله، قال: (( إنّه لا ينبغي أن يعذِّب بالنار إلّا ربُّ النار )).
هذا هو الإسلام رحيم بأتباعه رحيم بغيرهم، لا يرضى أن يكون المسلمون ذوي قلوب فظّة قاسية، بل ذوي قلوب محبة رحيمة تحمل الودّ والسلام إلى العالم قاطبة.
وهذا هو النبي الرحيم الذي علّم الإنسانية اللطف والتراحم، فهل نقتدي به لنكون سادة العالم مرة أخرى؟!
روى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه خرج إلى الشام عام ثمان عشرة للهجرة، يريد الاطلاع على أحوال أهلها، وعمل أمرائها، حتى إذا كان بمنطقة تدعى "سرغا" لقي أمراء الأجناد، وسرغُ هذه تقع قرب تبوك – وعلى رأسهم أبو عبيدة بن الجراح، فأخبروه أن الطاعون وقع في الشام وكثر الموت في أهلها، وأنه قد مات ممن دخلها من الجزيرة العربية فقط خمسة وعشرون ألفاً، فنرى أن تعود فلا تدخلها، فقال عمر لعبد الله بن عباس: ادعُ لي المهاجرين الأولين من صلوا إلى القبلتين أستشيرهم، فدعاهم وأخبرهم أن وباء الطاعون قد فشا في الشام أفيدخلها؟ فاختلفوا في آرائهم.
فقال بعضهم: قد خرجت لأمر عزمت عليه، ولا نرى أن ترجع عنه.
وقال بعضهم: معك بقية الناس الكرام من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا نرى أن تقدم بهم على هذا الوباء، فتفنى ويفنون معك.
قال: قد سمعت مقالتكم ونصحكم، وسنسمع رأي غيركم، ونادى عبد الله بن عباس فأمره أن يدعوَ من كان من الأنصار فجاءوه، فاستشارهم في دخوله بلاد الشام، فسلكوا سبيل المهاجرين، واختلفوا في الرأي اختلافهم، فأمرهم بالخروج من خيمته، واستدعى المهاجرين الذين أسلموا وهاجروا إلى المدينة قبل الفتح ممن كانوا معه فاستشارهم، فأشاروا عليه جميعاً أن يعود إلى المدينة، وأن لا يُقدِم بهم على هذا الوباء الذي سيحصدهم.
قال: هذا ما ارتاحت نفسي إليه وعزمت عليه، ونادى مناديه في الناس: إنَّ أمير المؤمنين عزم على العودة إلى المدينة، فجهزوا أنفسكم، اتخذ هذا القرار لأنه رأى أكثر الناس نصحوه بذلك.
لم يكن هذا الأمر ليعجِب أميرَ الجند أبا عبيدة بن الجراح، فقال معاتباً خليفة المسلمين: أفراراً من قدر الله يا أمير المؤمنين؟!
قال عمر رضي الله عنه: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة! فما ينبغي لي أن أخالف غالبية الناس وآراءهم، وكنت أود أن تكون منهم، فهو الرأي الأرجح والقرار الأصوب، نعم نفرّ من قدر الله إلى قدر الله، ووضَّح له الأمر فضرب له مثلاً فقال: أرأيت يا أبا عبيدة لو كان لك إبل فهبطت وادياً له جانبان: الأول خصب المرعى كثيره، والثاني ليس فيه إلا القليل من الكلأ، أليس إن رعَتِ المرعى الخصيب رعته بقدر الله، وإن رعت المكان الجديب رعته بقدر الله؟
هكذا كان اجتهاد أمير المؤمنين، وقد أيّده الله سبحانه وتعالى بعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، وقد كان متغيِّبا في بعض حاجته، فلما علم ما كانوا فيه يخوضون، قال: إن عندي من هذا علماً، فقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
( إذا سمعتم به – أي بالطاعون – بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض، وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه )، فحمد اللهَ تعالى عُمرُ لما وفقه إليه وانصرف قافلاً.
رياض الصالحين/باب كراهة الخروج من بلد وقع فيها بلاء