سلسلة قصص رواها الصحابة/(كعب بن مالك)/د. عثمان قدري مكانسي

Nabil

خـــــبراء المنتـــــدى
إنضم
19 أبريل 2008
المشاركات
22,783
التفاعل
17,901 114 0
سلسلة قصص رواها الصحابة رضوان الله عليهم

(كعب بن مالك)

الدكتور عثمان قدري مكانسي


تخلف كعب بن مالك (1) رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك من السنة التاسعة للهجرة من شهر رجب فقال:

لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها قط إلا في غزوة تبوك.. تخلفت عنها وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يتجهزوا جميعاً للخروج معه.

غير أني تخلفت كذلك في غزوة بدر أول قتال بين المسلمين والكافرين، ولم يعاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً ممن تخلف عنها، فقد كان يريد عير قريش القادمة من بلاد الشام، فخرج ومن كان معه من أصحابه، لا يريدون قتالاً، لكن الله تعالى قدره لأمر يريده سبحانه، فجمع بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد، ونصرهم عليهم، فكان ذلك وسام فخر لمن حضرها، فكان يقال له: البدري، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرر في كل مناسبة مادحاً البدريين قائلاً:

((
كأن الله اطلع عليهم فقال لهم: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم )).

ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حيث تواثقنا على الإسلام، فكنت من أوائل الأنصار الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، في المنشط والمكره، والعسر واليسر، وعلى أثرة علينا .. وأن نكون دعاة إليه سبحانه. وانطلقت الدعوة الوليدة إلى المدينة على أيدينا، فكنا لا نعدل بهذه البيعة مشهداً آخر، وما أحِبُّ أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدرٌ أذكَرَ في الناس منها.

أما قصة تخلفي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فقد كانت درساً بليغاً لي ولغيري ممن عقلها. فقد كنت إذ ذاك غنياً موسراً، صحيح البنية قادراً على تجهيز نفسي لهذه الغزوة التي ندبنا إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم دون عَنَتٍ أو تكلف، بل أستطيع تجهيز عدد ممن عذرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولفقرهم، أو ضعف ذوات أيديهم.

ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا ورّى بغيرها، وأوهم أنه يريد سواها، والحرب خدعة، فكان المشركون يُؤخذون على حين غَرّة، ويخافون أن يدهمهم المسلمون كل لحظة فكانوا – دائماً – على خوف ووجل، وزرع الله في قلوبهم الرعبَ والفزع فما يقرّ لهم قرار، وهكذا يجب أن يكون المسلمون مع أعدائهم .. إلا في هذه الغزوة فقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين بوجهته التي يريد، لأسباب عدة منها:

1 ـ أن المسافة بين المدينة وتبوك طويلة جداً.

2 ـ وأن الطريق مفاوز وصحارى، يجب الاستعداد لها أتم الاستعداد.

3 ـ وأن العدو قوي عدَّةً وعدداً، فهم الروم أكبر دولة، وأشرس عدو.

4 ـ وأنه صلى الله عليه وسلم يريد تجنيد أوفى عدد من المسلمين، فأرسل إلى القبائل كلها يأمرهم أن يشتركوا في هذه الغزوة.

5 ـ وأنه صلى الله عليه وسلم يريد أن يثأر للمسلمين في غزوة مؤتة من عدوهم الذي فاق عدده المسلمين عشرات المرات.

6 ـ وأنه مصمم على إثبات وجود هذه الدولة الناشئة في جزيرة العرب، وعلى الروم أن يفكروا ألف مرَّة قبل أن يهاجموها.

وأجاب المسلمون نبيَّهم، فوفدوا إلى مدينته صلى الله عليه وسلم، فكانت تعُج بهم، بعضهم حمل معه جهازه، ومنهم مَن سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجهِّزَه، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين إلى البذل والعطاء، فالأمر يحتاج إلى ذلك، وبذل المسلمون، فهذا الصديق رضي الله عنه يضع بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم كلَّ ماله، وهذا عمر رضي الله عنه يقدم نصف ما يملك، وهذا ذو النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه يجهِّز الحملة كلها، فقدّم ألف بعير محمّل بالزاد حتى دعا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم له بالخير، وبشره بالجنة فقال: ((
ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم )).

ولم يبخل الصادقون منهم بما يستطيعون، وهل يمتنع المسلمون عن اكتساب فرص الفوز برضا ربهم جلَّ شأنه ونبيهم الكريم؟! إنها نفحات مَنْ تعرّض إليها أفلح ونجا.

ولم يكن هناك ديوان يجمع المسلمين، يحصيهم ويتابعهم، فالدولة ما تزال فتيّة، وكل جندي إذ ذاك متكفل بنفسه، فمن عنَّ على باله التأخر أو التخلف وعدم المشاركة في الغزو، فقد يضيع في زحمة هذا الزخم المتدفِّق على المدينة، ولن يعرف بغيابه أحد إلا إذا نزل فيه وحي يفضحه، ويكشف لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمسلمين أمره.

كان الصيف حاراً، والسفر ذا مشقة، ونفسي تميل للبقاء، فقد أينع الثمر وطابَ، وشدّتني ظلال الأشجار وبردُها إلى الأرض، فأنا أتأرجح بين الامتثال إلى دعوة الجهاد تحت راية الرسول المجاهد، وبين التثاقل إلى الدعة وخفض العيش، ورخاء الحياة، والبون شاسع بين هذه وتلك، فكنت أخرج أحاول تجهيز نفسي فأعود متثاقلاً لم أقض شيئاً، وأقول في نفسي: أنا قادر على ذلك إذا أردت، ولم أزل على هذه الحال من التردد والتباطؤ حتى استمر الناس بالجد، وانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، ولم أقض من جهازي شيئاً.. الرغبة في صحبة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وصحبه الأبرار تشدني فأغدو لأجهز نفسي وأعد راحلتي وزادي، فأعود وقد اجتمع عليَّ شيطاني وحبُّ الأرض والمال والنساء والأولاد، فأراني اثاقلت إليها والتصقت بها حتى أسرعَ ركب الجهاد وتسابق، فخَلَتِ المدينة منهم، ثم ابتعدوا عنها وتفارطوا.

ما أشد وحشة المدينة مذ فارقها ضوءها، وما أشدَّ كآبتي فيها حيث خلا منها الحبيب والأنيس .. يا ويحي! أهذه المدينة التي أهواها؟ أراها باهتة!! أهذه المرابع التي ملأت قلبي فأحببتها وجاهدت عنها في أحد والخندق؟ غاب عنها النور، ابتعدت عنها مصابيح الهداية، غادرها المسلمون بقيادة هاديهم إلى مهمة عظيمة، يا ويحي!! ما لي أنظر في أرجائها فلا أرى فيها إلا المنافقين يرتعون ويمرحون.. أأنا منهم؟! رحماك يارب .. هؤلاء بعض الضعفاء من المسلمين جالسين، تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لضعفهم.. ولست منهم، فأنا صحيح الجسم معافى.. ما الذي أخّرني عن حبيبي وقرّة عيني.. رحماك يارب، وهؤلاء بعض المسلمين الفقراء جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه أن يحملهم معه للجهاد فيعتذر حين لا يجد ما يحملهم عليه، فيتولّون باكين، وأعينهم تفيض من الدمع أن لم يجدوا ما يبلغون عليه تبوك.. وأنا غني ميسور.. رحماك يارب!! أي معصية حلت بي وأيُّ فتنة لزمتني؟!

أدور في أنحاء المدينة كاللديغ لا يقرُّ لي قرار، ثم أعود إلى بيتي وبستاني وزرعي وظلي وأهلي!! بئس ما صنعتُ .. رحماك يارب .. رحماك يارب ..

ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك، فقال وهو جالس في القوم: ((
ما فعل كعب بن مالك؟)) واخجلتاه منك يا سيدي يا رسول الله! واخجلتي منك يا سيد المجاهدين وبطل المحاربين، قد خاب ظنك بكعب هذا.. ليت كعبا لم تلده أمه ..

تسأل عني يا رسول الله، فيجيبك رجل من بني سلمة يغمز من قناتي، وأنا أستحق ذلك بل أستحق أكثر من ذلك فيقول: يا رسول الله حبسه برداه، والنظرُ في عطفيه، منعه الإعجاب بماله والقعود بين أهل بيته في ظل ظليل وماء بارد .. حبسه تخلفٌ عن ركب الهداة الصالحين وإيثارُه الراحة على التعب، والرخاء على الشدة .. رحماك يارب رحماك يارب .. ويحسُّ معاذ بن جبل وهو أخي وصاحبي، يحسُّ بي وهو بعيد عني
مئات الأميال، فيعلم أنني جواد أصيل كبا به حظُّه وخانه تفكيره وتدبيره، فيدفع عني هذه التهمة التي أستحقها، ويخفف من وَجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتوجه إلى ذلك الرجل مؤنباً: بئس ما قلتَ، فالمسلم يلتمس لأخيه سبعين عذراً، فهلا قلت خيراً يا رجل .. ويلتفت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول راغباً في الدفاع المهدّئ الحاني: والله يا رسول الله ما علمنا منه إلا خيراً.
رحمك الله يا أخي معاذ، وأجزل لك المثوبة، هكذا تكون الأخوُّة.. جزاك الله خيراً، جزاك الله خيراً.

ويسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا ينبس ببنت شفة، فلعله قصد من سؤاله أنه على علم بمن تبعه، ومن تخلّف عنه، وأن الفرق كبير بين من استجاب ولبى، ومن تخلّف وتكاسل.. نعم إن الفرق كبير والبَوْن واسع، وينظر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمامه، فيرى في قلب الصحراء المترامية الأطراف مِنْ بين السراب المتلألئ خيولا تتحرك باتجاه المسلمين، سرعان ما يظهر رجل يخب السير نحوهم، يلبس البياض.. ويبتسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لقد عرفه، إنه الصحابي الجليل أبو خيثمة الذي لم يستطع أن يقدّم لجيش المسلمين سوى صاع تمر، فلمزه المنافقون وضحكوا منه، وقالوا: إن الله غني عن صاع هذا، ونسي هؤلاء الطاعنون العابثون أن الأعمال بالنيات، وأنّ دِرْهماً سبق ألف درهم.. لم يستطع الرجل أن يلحق بالمسلمين أوّل مسيرهم، فلحق بهم، بَعْدُ مسرعاً وسرَّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعبَّر عن سروره حين قال: ((
كن أبا خيثمة )) فكان أبا خيثمة، وتمنى كعب لو فعل مثل ما فعل أبو خيثمة، ولكن سبق السيف العذل، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظر جيش الروم ليعلمه كيف يكون الجهاد والقتال، وكيف يكون الصبر على المبدأ والدفاع عنه، لكنَّ الروم الذين عجبوا لصمود ثلاثة آلاف مسلم في غزوة مؤتة أمام مئة ألف منهم، هابوا وهم مئتا ألف أن يثبتوا أمام ثلاثين ألف مسلم، قائدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم - بطل الأبطال – ورأس المجاهدين فانسحبوا إلى الشمال مضحين بما كان لهم من مهابة وجبروت، راضين من الغنيمة بالإياب، لقد نصر الله نبيه بالرعب مسيرة شهر، فكيف وهو وجيشه على تخوم بلاد الشام؟!

قال كعب: فلما بلغني أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجّه قافلاً من تبوك، اشتد حزني، سوف أقف أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسألني سبب تخلفي عنه، فماذا أقول له؟
أأكْذِبه متعللاً بما ليس من الحقيقة بمكان؟
وهل يليق بمن بايع رسول الله أن يكذب؟
حاشا وكلا، بمَ أخرج من سخَطه غداً؟
وأستعين على ذلك بكل ذي رأي .. وأنّى للباطل أن يكون ردءاً؟
إنه سرعان ما يزول حين يسطع ضياء الحقِّ، ويضمحل حين يبزغ فجر الصدق، أنا لست خائفا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو رحيم ودود، يقبل العذر ولو كان صاحبه كاذباً، لكنني أخاف أن لا يرى في كعباً الذي كان يعرفه، فأسقط في ميزانه، وقد خاب وخسر من زلّت مكانته عند الصادق الأمين.. فلما قيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أظلَّ قادماً زاح عني الباطل حتى عرفت أني لم أنجُ منه بشيء أبداً، فعزمت على الصدق معه، وإذا كان الكذب – ينجي – أحياناً فالصدق أنجى .. يا ربّ، هب لي لسان الصدق، ورضِّ عني نبيك وحبيبك..

وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادماً، وكان إذا قدم بدأ بالمسجد، فركع فيه ركعتين سنة المجيء من السفر، ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المخلَّفون يعتذرون إليه ويحلفون كعادتهم كاذبين، ليرضى عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا بضعة وثمانين رجلاً، فقبل منهم علانيتهم واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله تعالى، فليس من عمل الداعية أن يبحث وينّقب عما في نفوس الناس .. وجئت أمشي إليه صلى الله عليه وسلم وقلبي يخفق ونَفَسي يتردد.. كيف يفعل حين تقع عيناه عليَّ.. لا بد أن آتيه، إنه قَدَري وأحْبِب به من قَدَرٍ سام عليَّ سامق صلى الله عليه وسلم، فلما سلمت عليه، تبسَّم تبسم المغضب، تبُّسم الذي يعرف معادن الرجال، فيسألهم ليحفظم لهم ماء وجوههم، ثم قال: تعال.. بأبي أنت وأمي يا رسول الله، هكذا كنت أٌقول في نفسي.. فقال لي: ((
ما خلّفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك واشتريت راحلتك؟))

قلت – خافضاً رأسي غاضاً بصري متجهاً إليه بكلّي: يا رسول الله؛ إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أنّي سأخرج من سخطه بعذر، وسيرضى عني، لقد وهبني الله لسانا فصيحاً وبديهة حاضرة وجدلاً صائباً، ولكني والله، لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديثَ كذبٍ ترضى به عنّي ليوشكن الله يسخطك علي، وإن حدثتك حديث صدق يجعلك تغضب عليَّ فيه إني لأرجو حسن العاقبة بتوبة الله تعالى عليَّ إذ كنت صادقاً .. ولن أقول سوى الصدق يا رسول الله، والله ما كان لي من عذر، والله ما كنت قطُّ أقوى، ولا أيسر منّي حين تخلفت عَنك.

إن الإنسان العادي ليعرف من محدثه نبرة الصدق، وتهويم الكذب، فكيف برسول الله صلى الله وعليه وسلم الذي بلغ العلا بكماله، وكرمت جميع خصاله .. لقد قال صلى الله عليه وسلم : ((
أمّا هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك )) وقمتُ، وسار رجال من بني سلمة قومي فاتّبعوني، فقالوا لي: والله ما علمناك أذنبت ذنباً قبل هذا، لقد عجَزْت أن تعتذر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر إليه المخلفون، فقد كان كافيك ذنبَكَ استغفارُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لك،.. إنهم لم يريدوني أن أكذب.. إنما أرادوا أن أختصر الطريق إلى السلامة كما فعل الآخرون حين أبدوا الأعذار، فقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأوا أني حملت نفسي ما لا لزوم له، فألحوا عليّ يؤنبونني على ذلك، ويكثرونه، حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأكذّب نفسي وأدعي ما ادعاه المتخلفون الآخرون.

لكن الله ثبتني إذ قلت لهم: هل قال غيري مثل ما قلتُ، فأجابهم رسول الله بما أجابني؟ قالوا: نعم، رجلان، قالا مثل ما قلت، وقيل لهما مثل ما قيل لك، قلت: من هما؟ قالوا: مُرارة بن الربيع العَمْريُّ، وهلال بن أمية الواقفيُّ.. قلت: إنَّ لي بهما أسوة حسنة، فهما رجلان صالحان قد شهدا بدراً، ولن أكون إلا ثالثهما.. ومضيت حين ذكروهما لي.

إن الذهب يشتد لمعانه حين تلمسه النار فتُذهبُ عنه خبثه ويزداد تألقاً وحسناً وهكذا كنّا – أيها الثلاثة – فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكلمنا أحد، فاجتَنبَنا الناس، وتغيّروا لنا، كأنهم لا يعرفوننا، حتى تنكّرتْ لي في نفسي الأرض، فما هي بالأرض التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلةً، فأما صاحباي فاستكانا، وقعدا في بيتيهما يبكيان، ويصليان، ويستغفران، ويسألان الله التوبة، وانقطعا عن الناس إذ كانا عجوزين هدّتهما المقاطعة، وأما أنا فكنت أشبَّ القوم، وأجلدَهم، فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف في الأسواق، ولا يكلمني أحد – إن المجتمع المسلم المتماسك يلتزم بأوامر القيادة وتعليماتها، ولا يدع للمخطئ مجالاً ينفذ منه، كي لا يتمادى في خطئه – وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلم عليه، وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسي: هل حرّك شفتيه برد السلام أم لا؟ ثم أصلي قريبا منه، وأسارقه النظر، فإذا أقبلت علي صلاتي نظر إليّ، وإذا التفتُّ نحوه أعرض عنّي.

فالقائد قدوة، يلتزم بما يصدره من أوامر، فيكون لها من قوّة الأداء وحسن الالتزام عند العامة الأثر الإيجابي الطيب.. وأنا أعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما نهى عن كلامنا إلا ليقضي الله تعالى فينا.. فيارب هيئ لنا من أمرنا رشداً..

حتى إذا طال ذلك عليَّ من جفوة المسلمين فاض ما في النفس من حزن وكرب، وانطلقت إلى ابن عمي أبي قتادة وهو من أحب الناس إليّ فعلوت سور بستانه، وسلمت عليه، فوالله ما ردَّ السلامَ، فقلت له: يا أبا قتادة أنشُدُك بالله! هل تعلمني أحبُّ الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؟ فسكت .. وكيف يجيب، وقد امتنع عن ردّ السلام آنفاً التزاماً بأوامر رسول الله وإيمانا به؟.. فعدتُ فنشادته، فسكت .. فعدت فناشدته، فلما رأى ما بي من الحزن والألم نظر إليَّ مشفقاً فقال: الله ورسوله أعلم .. ففاضت عيناي، وتوليت حتى تسوَّرت الجدار، فبينا أنا أمشي في أسواق المدينة إذا نبطيُّ (فلاح) من نبط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدلُّ على كعب بن مالك؟ فطفق الناس يشيرون إليَّ، حتى جاءني فدفع إليَّ كتاباً من ملك غسان، وكنت كاتباً، فقرأت فإذا فيه: أما بعدُ، فإنّه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوانٍ ولا مضْيَعَةٍ، فالحق بنا نواسِك.

لا إله إلا الله وحده لا شريك له، آمنت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً.

إنها الفتنة تُطلُّ عليَّ من أوسع أبوابها تدعوني إلى الكفر بعد الإيمان، وإلى الردّة بعد الثبات، إنني يا هذا لست في دار هوان ولا ذلّة، إنني في دار الهداية والرشاد، في كنف خير العباد، لئن جافاني لقد أخطأت، وما هي بجفوةٍ إن هي إلا عقوبة أستحقها، يطهرني الله بها ويمحو ذنبي، إنَّ هذا لمن البلاء، فتيممت بها التنّور فأحرقتها.. لن أضعف عن احتمال ما كتبه الله عليَّ، ولأصبرن حتى يكتب الله لي خير الدنيا والآخرة، حتى إذا مضت أربعون يوماً من الخمسين، وأبطأ الوحي إذا رسولٌ من رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني فقال: إن رسول الله يأمرك أن تعتزل امرأتك، فقلت: أطلِّقها أم ماذا أفعل؟

قال: لا بل اعتزلها فلا تقربنَّها.. فقلت: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم نافذ.. سمعاً وطاعة وإيمانا واحتساباً، وأرسل إلي صاحبيَّ بمثل ذلك، فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله هذا الأمر.

فجاءت امرأة هلال بن أمية، رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه؟ قال: ((
لا، ولكن لا يقربنّك )).

قالت: إنه والله ما به من حركة إلى شيء، ووالله ما زال يبكي مُذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا. فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك، فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه؟

فقلت: لا أستأذنه فيها وأنا رجل شاب – فلبثت بذلك عشر ليالٍ – فكمل لنا خمسون ليلةً من حين نُهيَ عن كلامنا.

اللهم مالك السماوات والأرض اجعل لنا فرجاً وهيّئْ لنا من أمرنا رشداً.

ثم صليت صلاة الفجر صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله منا – قد ضاقت عليَّ نفسي، وضاقت عليَّ الأرض بما رحبت – سمعت صوت صارخ صعِد على جبل سلْعٍ يقول بأعلى صوته: يا كعبُ بن مالك أبشر .. لم أتمالك نفسي إذا سمعتُ البشرى فخررت ساجداً لله أبكي وأحمده، أبكي وأستغفره، أبكي وأشكره، وعرفت أنه قد جاء الفرج من الله تعالى، فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بتوبة الله عزّ وجلّ علينا حين صلى الفجر، فذهب الناس يبشروننا..

أرأيت يا كعب عاقبة الصبر؟ إنها التوبة من الله تعالى، ينتظرها رسول الله لك ولصاحبيك، وينتظرها الناس لك ولصاحبيك، إنهم يحبونكم. أيها الثلاثة، هكذا المجتمع المسلم المتماسك، يلتزم أمر الله تعالى فيمتنع عن كلامكم، لا عن هجرٍ وقِلى، إنما عن امتثال وطاعة، وقلوب الجميع ترجو لكم التوبة والمغفرة.. ها قد جاءت، فسمعتَ صوت أحد إخوانك يبشرك، ولمّا يصل إليك.. انطلق جمع من المصلين يبشرون مُرارة بن الربيع وهلال بن أمية بما أنعم الله عليهما من التوبة، وامتطى أحدهم فرسه مسرعاً إليك، وسعى رجل من عشيرتك إليك مبتهجاً، فصعد الجبل فكان صوته أسرع من فرس ذاك، وفي كلٍّ فضلٌ وخيرٌ، ولم تتمالك نفسك أن نزعت ثوبك لصاحب الصوت، بل أعطيته ثوبك الثاني ولم تكن تملك غيرهما يومئذ، واستعرت ثوبين غيرهما وانطلقت إلى حَبِّ القلوب، وضياء الأفئدة، وصاحب الرسالة العظمى، انطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس يتلقونك فوجا فوجاً يهنئونك بالتوبة، ويقولون لك: ليهنِك توبة الله عليك، حتى وصلت إلى المسجد ودخلته إلى رسول الله، العزيز عليه ما أعنتك، الحريصِ عليك، الرحيم بك وبالمؤمنين، فإذا هو يبرق وجهه من السرور فيقول لك: ((
أبشر بخير يوم عليك مذ ولدتك أمُّك))،

أهناك أجمل من هذه البشرى؟ أهناك أعظم من هذه البشرى؟ لا ورب الكعبة. فلم تتمالك نفسك أن قلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟

قال: ((
لا بل من عند الله عز وجل))، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سُرَّ استنار وجهه حتى كأن وجهه قطعة قمر.. صلى الله عليه وحشرنا في زمرته وسقانا من حوضه وجعلنا إلى الجنة في ركابه.

قال كعب: فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((
أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك))،
وكأنه أحس أني في غمرة الفرح والسعادة قد أتخلى عما قد أضنُّ به إذا سكن فرحي وعادت إليَّ نفسي. فأمرني بالاحتفاظ ببعض مالي، فقلت: إني أمسك نصيبي الذي وهبتنيه في فتح خيبر، وقلت: يا رسول الله إن الله تعالى إنما أنجاني بالصدق، وإن من توبتي أن لا أحدِّث إلا صدقاً ما بقيت، فوالله ما علمت أحداً من المسلمين أنعم الله عليه في صدق الحديث منذ ذكرتُ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن مما أنعم الله تعالى به عليَّ، والله ما تعمَّدتُ كذبة منذ قلتُ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا، وإني لأرجو أن يحفظني الله تعالى فيما بقي منه، لقد أنزل الله تعالى فينا معشر الثلاثة قوله: {
لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ ( حتى بلغ ) إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ( حتى بلغ ) اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ( 118)}(سورة التوبة).

قال كعب: والله ما أنعم الله عليَّ من نعمة قط بعد إذ هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن لا أكون كذبته، فأهلِك كما هلك الذين كذبوا، إنّ الله تعالى قال للذين كذبوا حين أَنْزَل الوحي شرَّ ما قال لأحد، فقال الله تعالى: {
سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96)}(التوبة).

قال كعب: كنا خلّفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا له، فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا حتى قضى الله تعالى فيه بذلك، قال الله تعالى: {
وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا } وليس الذي ذكر مما خُلِّفنا تخلّفَنا عن الغزو، وإنما هو تخليفه إيانا، وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له، واعتذر إليه، فقبل منه.

(1) أحد المسلمين من الأنصار، أحد الثلاثة الذين خلّفوا.

يتبع

عن كتاب قصص رواها الصحابة رضوان الله عليهم للدكتور عثمان قدري مكانسي
 
التعديل الأخير:
سلسلة قصص رواها الصحابة رضوان الله عليهم

(توكل على الله)

الدكتور عثمان قدري مكانسي


يروي جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عاقبة حسن التوكل على الله فيقول:

عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم من إحدى غزواته في نجد، وأصحابه معه، يسبحون الله ويهللون ويكبرون عند كل مرتفع من الأرض أو سهل، يحدثهم حديث المؤمنين الأوائل، ويحضهم على الجهاد، وربما تصمت ألسنتهم وتلهج قلوبهم بذكر الله تعالى، إلى أن اشتد الحرُّ وارتفعت الشمس في كبد السماء، وخفَّت سرعة الركب، وبدأ العرق يسبح في أجسادهم، فأمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن يَقيلوا: فقال:
((
قيلوا، فإن الشياطين لا تقيل ))..

أدركتهم القالة في وادٍ أشجاره الشوكية كبيرة، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرَّق الناس يستظلون بالشجر ويجهزون أماكن يستريحون فيها من هذا الهجير. نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة عظيمة من هذه الأشجار الشوكية تسمى ((السَّمُرَة)) فعلق بها سيفه، وتخفف من بعض ثيابه، ودعا ثلاث مرات بصوت مسموع: ((
أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق )).

وما إن وضع الناس أجسادهم على الأرض حتى راحوا في سبات عميق، فقد كان الطريق شاقاً، والمسافة طويلة، والعيرُ قليلاً يتعاور كل اثنين أو ثلاثة نفر جملاً أو حصاناً، حتى أخذ التعب منهم كلَّ مأخذ، وفجأة سمع الجميع صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا فابتدرناه مسرعين متأهبين، أيدينا على سيوفنا، نستطلع الخبر – لم يتخلف أحد منا – فليس من عادته صلى الله عليه وسلم أن يدعونا هكذا، في مثل هذا الوقت، ولم يكن ليدعونا وهو الذي أمرنا بالقيلولة لولا أنا هناك ما يستوجب الحضور.. سمعاً وطاعة يا رسول الله .. لبيك يا سيدي وسعديك.

فلما وصلنا، وجدنا عنده أعرابياً قد اعتمد على ركبتيه، ينظر إلى الأرض منكسراً، فلما اكتمل عقدنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
((
إن هذا اغتنم فرصة ابتعادكم عني، وخلوّي إلى نفسي، فانسلَّ من بينكم، لا يشعر به أحد، حتى وقف على رأسي وأنا نائم، واستلّ سيفه وهو يقول: من يمنعك مني؟ من يحميك من سطوتي؟ نظرت إليه فرأيت عينيه عيني شيطان تتقدا جمراً، يريد أن يهوي بسيفه على عاتقي، فقلت له ثلاثاً: الله، الله، الله، ومن كان مع الله كان الله معه، ومن اعتمد عليه سبحانه، كان عماده، ومن احتمى بقوة الله، حفظه ووقاه، أتدرون ما حل به؟
اختلج جسمه واصطكت ركبتاه، وسقط السيف من يده ثم هوى إلى الأرض .. حملت السيف وهو متهالك أمامي، وقلت له: أرأيت كيف حماني الله منك، ونصرني عليك، كن مع الله ترى الله معك
))
ثم قال له :
أإذا عفوت عنك تُسلم؟
قال: لا ولكنْ لا أعين عليك أحداً ، فأطلقه.

رياض الصالحين: باب اليقين والتوكل /الحديث /53/

يتبع
 
التعديل الأخير:
سلسلة قصص رواها الصحابة رضوان الله عليهم

(أم سُلَيْمٍ رضي الله عنها)

الدكتور عثمان قدري مكانسي


أنس بن مالك رضي الله عنه كان في العاشرة من عمره حين جاءت به أمه (أم سُليمٍ) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تقول: يا رسول الله! هذا أنس يَخْدُمُك، فبقي رضي الله عنه في خدمة الرسول الكريم حتى التحق بالرفيق الأعلى. وكان زواج أمه من أبي طلحة من أكثر الزيجات بركة، فحين مات زوجها مالك على غير ملة الإسلام، وهجر المدينة حين قدم إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقي حتفه في بلاد الشام متنصّراً. جاءها أبو طلحة وكان على الجاهلية، فخطبها، فاشترطت عليه أن يكون إسلامه مهراً لها ففعل وحَسُن إسلامه وصار من كرام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .

يقول أنس رضي الله عنه: مات ابنٌ لأبي طلحة من أم سليم – وكان أبو طلحة غائباً – فقالت لأهلها: إن جاء أبو طلحة فلا تحدّثوه بابنه حتى أكون أنا أحدثه، فلما جاء سألها: كيف ولدك يا أم سليم وكان مريضاً، قالت: سكن ولله الحمد، فظنَ أن الحمى بارحته وأن صحته تحسًّنت فحمد الله على ذلك، وطابت نفسه .. فجاءته بما غسل به أطرافه وبدَّل ثيابه وارتاح قليلاً، فقدَّمت له عَشاء تناوله راغباً وشكر الله على نعمائه .. ثم حسَّنت نفسها وتزينت ليرغب فيها. وتجمّلت كأفضل ما تتجمل المرأة لزوجها. فوقع بها، فلما أن رأته قد شبع، وأصاب منها، قالت له: يا أبا طلحة، أرأيتَ لو أن قوماً أعاروا غيرهم شيئاً يخصُّهم، فمكث عند هؤلاء مدّة، ثم طلبه أصحابه، ألهم أن يمنعوهم إياه؟ قال: لا، قالت: فاطلب ثواب مصيبتك في ابنك من الله تعالى، فقد استردّه .. فظهر الغضب على وجه أبي طلحة ثم قال: كيف فعلت هذا كلّه؟ لم تفصحي عن موت ابني، إنما موّهتِ فلم أفهم، ثم جئتني بطعام فأكلته مطمئناً، ثم تزينتِ لي، فوقعتُ عليك، فلما صرت جنباً أخبرتني بموت ابني؟ حسبي الله ونعم الوكيل، والله لأشكوّنكِ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .

فانطلق حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبره بما كان، فهوَّن رسول الله على أبي طلحة ما فعلا، ودعا لهما قائلاً: ((
بارَكَ الله لكما في ليلتكما )).

ودعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم موصول بعرش الرحمن لا يخطئه، فحملت أم سليم من ليلتها، وعاد أبو طلحة إلى بيته وزوجته راضياً برضا رسول الله صلى الله عليه وسلم، سعيداً بدعائه، يرجو البركة واليُمن، فتلقّته زوجته أحسن لقاء، وعاد الأنس يرفرف على بيتها والسعادة تملأ أركانه.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، والمسلمون ومنهم أبو طلحة وأم سليم معه، فوصل المدينة ليلاً، فلم يدخلها، لماذا؟ إن سيد البشر خيرُ الناس لطفاً وذوقاً، فهو يقيم خارج المدينة حتى يبزغ الفجر، فيصلي، ويذكر الله ثم يدخله نهاراً، فهو عليه الصلاة والسلام يعلم أن الليل ستار كل العيوب، يهدأ الناس فيه، فإن امتلأت الطرقات بالعائدين ضجّ المكان بالحركة واللغط، وهذا يفزع النائمين، ويخيف الآمنين، فقد يظنون العدوّ دهمهم على حين غرّة، فيهبون مذعورين، كما أن النساء يعزفن عن الزينة حين يكون أزواجهنّ على سفر، ولا يرغبن أن يفجؤوهن على غير ما يرغبن أن يَرَوهن عليه، ومن عادة رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يصل المدينة أن يكون مستعداً لصلاة ركعتي سنة العودة من السفر، وأن يلقى أصحابه فيسلم عليهم، ويستطلع أخبار المسلمين، وهذا لا يكون إلا نهاراً .. إنها رحمة الرسول الكريم بالمسلمين، وحكمته الرائعة تتجلّى في التصرفات المناسبة لكل موقف، وتشريعٌ عظيم ينبغي للمسلمين أن يتأسوا به إن أرادوا النجاح والفلاح في الدنيا والآخرة.

حين أذن بلال لصلاة الفجر قام رسول الله صلى الله عليه وسلمللصلاة وقام معه المسلمون، فلما أدّوا المكتوبة، وتجهزوا لدخول المدينة المنورة، جاء أمَّ سليم المخاضُ فبقي أبو طلحة معها على مضض منه – إذ لم يكن أولادها أو بعض أهلها معها – يخدمها، وانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه إلى المسجد، فحزن أبو طلحة أنه لا يدخل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع يديه إلى السماء .. يا رب إنك لتعلم أنّه ليعجبني أن أخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلمإذا خرج، وأدخل معه إذا دخل، وقد حبسني – كما ترى – مخاضُ زوجتي.

فما أنهى دعاءه حتى قالت زوجته أم سليم: يا أبا طلحة سكن ما أجده، فما عدت أشعر بألم الولادة، فانطلق بنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلقا حتى وصلت دارها ضربها المخاض، فولدت غلاماً، فنادت أنساً، فقالت له: يا أنس، لا يرضعه أحد حتى تغدوَ به على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أصبح احتملتُه فانطلقتُ به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذه بيديه الشريفتين ثم تناول تمرة فمضغها عليه الصلاة والسلام، ثم حنّكه، فتلمظ الوليد، فقال عليه الصلاة والسلام: ((
انظروا حبّ الأنصار التمر )) رضي الله عنكِ أم سُليم.

يروي أصحاب الحديث أنه ولد لهذا الغلام تسعة أبناء حفظ جميعهم القرآن الكريم.

رياض الصالحين: باب الصبر، رواه مسلم ـ الحديث/32/

يتبع
 
سلسلة قصص رواها الصحابة رضوان الله عليهم

(كن نبيهاً ذكياً)

الدكتور عثمان قدري مكانسي

روى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال:

كان النبي صلى الله عليه وسلم يشحذ هممنا كما يشحذ المسَنُّ السكين، ويرفع من معنوياتنا ويشجعنا على التفكير واغتنام الفرص.

فبينا نحن جلوس عنده وهو عليه الصلاة والسلام يربينا ويأخذ بأيدينا إلى الطريق القويم قال: عُرضت عليَّ الأمم – من لدن آدم عليه السلام إلى يوم القيامة – وكأنها تمشي أمام منصة سيد الأنبياء ذي القدر العلي، والعزم الجليّ ..
كل نبي يمشي، ووراءه من اتبعه، فقد تجد نبياً يمشي وحده، إذ جحده قومه، وكذّبوه، فلم يؤمن به أحد، فأخرجوه من بينهم، وقد يقتلونه، ويظنّون أنهم تخلصوا منه، فتحل عليهم نقمة الله وعذابه فيُستأصلون، أو يُرمَون بداهية تجعل حياتهم جحيماً، فمنهم من أرسل عليه حاصبٌ، ومنهم من أغرق، ومنهم من أرسلت عليهم ريحٌ صرصرٌ عاتية جعلتهم كجذوع النخل المبتورة.. جزاء على كفرهم وقتلهم أنبياءهم الكرام.

وقد تجد نبياً لم يؤمن معه سوى الرجلِ أو الرجلين.

ورسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أن أمته كثيرة، فحين مرّت أمّةٌ كثيرة العدد ملأت مكان العرض واتسع محيطها ظنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها أمة المسلمين، فشعر بالسعادة، فقيل له: هذا موسى وقومه، فظنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اليهود أكثر من المسلمين.. وتأثَّر، ولم يطل تأثره عليه الصلاة والسلام بذلك، فقد قال له الملك: انظر إلى الأفق، فينظر عليه الصلاة والسلام، فإذا سواد عظيم ملأ الخافقين، جموع المسلمين الممتدة أمام منصة سيد الأنبياء تتوارد، وأمامها رجال كالشموس تلألؤاً..
مَنْ هؤلاء الوضيئون؟!
قال له مرافقه: هؤلاء سبعون ألفاً من أمتك يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب..
الله... اللهَ، ما أعظم أن يكون الرجل من بين هؤلاء الرجال العظام.

ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدخل منزله.. فخاض الناس في صفات هؤلاء النفر الذين يتجاوز الله عنهم ويكتبهم في عليين، لا يحاسبون..

قال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكانوا أوّل مَنْ أسلم، شاركوه السرّاء والضرّاء، وعلى أكتافهم قامت دولة الإسلام؟

وقال بعضهم: فلعلّهم الذين ولدوا في الإسلام، فلم يشركوا بالله شيئاً، ورضعوا لبان التوحيد، وشربوا الإيمان وكانوا جنود الرحمن؟

وكثر الحديث في هؤلاء وتعدد التعليل وذهبت الظنون فيهم كلَّ مذهب.

وخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآهم على حالهم التي تركهم عليها، وسمعهم يتداولون الحديث، ويتعاورون التحليل، ويقلبون الأمور، فسألهم قائلاً:

(( ما الذي تخوضون فيه؟)) فأخبروه، فوضح لهم حينئذ صفاتهم ،فهم:

أولاً: لا يطلبون الرُّقية، ولا يرقون أحدا (والرقية: تعويذة تكتب فيلبسها من يطلبها، ليست من الإسلام في شيء إلا أن تكون مما علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كأن يقول: باسم الله أرقيك، والله يشفيك).

ثانيا: لا يتطيرون، ولا يتشاءمون، فالتشاؤم ليس من الإسلام، لأن المسلم حين يكون إيمانه قويا، يعلم أنَّ ما أصابه لم يكن ليخطئه، ويعتقد أن الله لا يصيبه إلا بما كتبه له، والمتشائم متردد، خوَّاف، يضيّع الفرص، ويكون أثره في مجتمعه سلبياً.

ثالثاً: إيمانه القوي بالله، وصلته المتينة به – سبحانه – تجعله يُسلِمُ الأمور إليه، ويتوكل عليه، فلا يخشى في الله أحداً، ومن كانت هذه صفاته أفاد أمته وأرضى ربّه، وكان على نور منه جلّ شأنه.

يا الله! ما أروع أن يكون أحدنا من هؤلاء، وكان عكّاشة بن مِحصَن بين الحاضرين، فلمعت في ذهنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب النابهين ذوي البديهة السريعة الذين يغتنمون الفرص ويقتنصونها، ولعله يفوز بدعاء منه – صلى الله عليه وسلم – فقال: يا رسول الله: ادع الله أن يجعلني منهم؟
قال عليه الصلاة والسلام: (( أنت منهم ))، كافأه على نباهته وسرعة بديهته.

ويسأله آخر أن يكون منهم، فماذا كان جواب المعلم الأول؟!!
نبهه الرسول المعلم أنه ضيّع على نفسه المبادرة حين تأخّر عن عكاشة، وكان عليه أن يسبقه، فالنجاح حليف المتنبهين اليقظين، الذين لا يفوّتون الفرص..

وهكذا نجح رسول الله صلى الله عليه وسلم في إثارة الحوافز، والدفع إلى التنافس .

رياض الصالحين: باب اليقين والتوكل ـ الحديث /49/

يتبع
 
سلسلة قصص رواها الصحابة رضوان الله عليهم

(روعة الجندية)

الدكتور عثمان قدري مكانسي



ماذا يعني قولنا:

* إن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا قرابة تسع وعشرين غزوة؟

* وإنه كان يفجأ أعداءه في عقر دارهم؟

* وإنه صلى الله عليه وسلم كان في مقدمة الجيش دائماً، فقد كان علي بن أبي طالب – وهو البطل الشجاع الذي تهاب لقاءه الأقران – يقول: كنا إذا حمي الوطيس، واحمرت الحدَقُ، نتقّي برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه؟

* وإنه كان يرسل السرية إثر السرية، والكتيبة وراء الكتيبة فلا يقرّ للعدو قرار؟

* وإنه كان يعاور أصحابه القيادة فيتدربون عملياً على القيادة والجندية والاستمرارية في الجاهزية القتالية؟

* وإنه قال: (( نصرت بالرعب مسيرة شهر ))

إن سكت الأعداء والسائرون في فلكهم عن الإجابة قلنا: نحن أتباعه عليه الصلاة والسلام، ولا يصل التابع إلى ما وصل عليه المتبوع إلا إذا سلك دربه واقتدى به.
وإن قالوا: هذا هو الإرهاب بعينه قلنا: صلى الله على رسول الجهاد، صلاة تليق بسيّد المجاهدين، وبارك عليه، فهو أسوتنا وقدوتنا، ولا يضيرنا نعيق ناعق، ولا نهيق ناهق وقد أثبت التاريخ أن الأمة المجاهدة تصل إلى هدفها وترقى سنام المجد، وتسمو إلى ذروته، وأن الأمة الذليلة تُداس بالأقدام، وتتداعى عليها الأمم كما تداعى الأكلةُ إلى قصعتها.

فماذا نختار – معشر المسلمين – لأنفسنا؟ الذلَّ والصغارَ أم العز والفخار؟

وحيكون يكون أعداء الأمس هم أعداء الحاضر – اليهود والنصارى – أفلا نسير فيهم سيرة آبائنا وأجدادنا؟ فنكون على خطاهم، فنسعد؟
ففي غزوة خيبر حين هاجم رسول الله صلى الله عليه وسلم حصون اليهود، وافتتحها واحداً وراء الآخر، كان يُزْكي روح القتال والجندية في أرواح أصحابه، فقد قال إذ ذاك: (( لأعطين هذه الراية رجلاً يحب الله ورسوله ويفتح الله على يديه ))، فالصفة الرائعة التي أطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم على القائد المرتقب في الغد، رجلٌ – والرجال ذوو العزمات مفاتيح المغاليق – والصفة الثانية أنه يحب الله ورسوله، فالله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم يحبانه – إذاً – فالحب متبادل، والحبل موصول بواهب النصر، فلا بد أن يفتح الله عليه، ويمدّه بتأييده..

قال عمر رضي الله عنه: ما أحببت الإمارة إلا يومئذ، وحق له أن يتطلع إلى الإمارة، فإنها وسام يعلق على صدر القائد، لا يزال على صدره، آيةً على حب الله ورسوله إلى أن يلقى الله.
وفي الصباح، وبعد صلاة الفجر، نظر الرسول الكريم إلى جيشه، والجميع تضطرب قلوبهم، رغبة أن يكون كلُّ واحد منهم ذلك القائد.
ويبحث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل منهم فلا يراه .. (( أين علي بن أبي طالب ))؟
قالوا: يا رسول الله، إنه في خيمته أرمدَ لا يكاد يبصر،
قال: (( ائتوني به ))،
فجاءوا به، فبصق على عينيه، ثم مسحهما بيده الشريفة، فبرِئتا في اللحظة والتوِّ، وزال عنهما الرمد وعادتا سليمتين، أقوى ما تكونان.
وعرف الناس مقام علي رضي الله عنه، فهو ابن عم النبي الكريم، وصهره على أعزِّ بناته – فاطمة – الذي رباه في بيته، وخلقّه بأخلاقه، وأخوه في هجرته.
أعطاه الراية وقال له:
(( 1 ـ امش.
2 ـ ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك )).

فالانطلاق نحو العدو، بثقة وثبات، دون تلكؤ، ولا تردد، والإصرار على استمرار القتال، والاعتماد على الله سبحانه وتعالى بعد الجاهزية القتالية سبيل النصر، وعدة الفوز.

يا لروعة الجندية، .. لقد سار عليٌّ امتثالاً لأمر قائده بضع خطوات، ثم وقف.. ولم يلتفت!
ألم يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يلتفت؟!
هذه أول علائم الجندية الواعية، فصرخ كي يسمعه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أمام هذا الحشد المندهش من الصحابة الكرام.. إن من الأدب أن لا يرفع أحدٌ صوته أمام النبي الكريم، بل عليهم أن يغضوا من أصواتهم، ومن الأدب أن لا يكلم أحدنا الآخر إلا وجهاً لوجه، لكن من الأدب أن يكون الجندي مطيعاً ملتزماً الأوامر، واعياً لما يطلب إليه.. وهكذا كان علي رضي الله عنه.. صرخ مستفسرا ً عن الأمر المناط به: يا رسول الله؛ على ماذا أقاتل الناس؟

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( قاتلهم .. حتى:
1 ـ يشهدوا أن لا إله إلا الله.
2 ـ وأن محمداً رسول الله )).

هذا هو الدين الحق، إن الدين عند الله الإسلام، وهذا لا يكون إلا باقتران اسم محمد صلى الله عليه وسلم باسم الله سبحانه وتعالى اقتران نبوّةٍ ورسالةٍ برب خالق عظيم.
(( فإن فعلوا ذلك فقد منعوا:
1 ـ دماءهم.
2 ـ وأموالهم إلا بحقها )).

وما حقها؟ إنه التزام بالأركان الخمسة، فلا إسلام إلاّ بالشهادتين وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت للمستطيع.

ومن الناس الظاهر، والله يتولى السرائر.
ولم تكُن سوى جولة أو جولتين.. وكان النصر حليف المسلمين.

رياض الصالحين: باب المبادرة إلى الخيرات ـ الحديث /65/
باب الدلالة على الخير: الحديث /119/

يتبع
 
سلسلة قصص رواها الصحابة رضوان الله عليهم

(لا تغُرّنّك المظاهر)

الدكتور عثمان قدري مكانسي



جلس المعلم العظيم صلى الله عليه وسلم مع بعض أصحابه أمام مسجده صلى الله عليه وسلم ، فمرَّ رجل من أشراف الناس، فسلم، فرد الرسول الكريم السلام بأحسن منه، كان الرجل يلبس غلالة رقيقة جديدة تشف عما تحتها من ثوب جميل، كان يملأ العين وينبئ عن نعمة يتقلب فيها، فنظر إليه رجل من المسلمين نظرة تنِمُّ عن إعجاب ورغبة في أن يكون مثله غنياً، موسراً، وأن يكون في مثل مكانته شرفاً وسؤدداً..

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتابع نظرات هذا الرجل ومتابعته للمارِّ حتى جاوزهم، وغاب عن أنظارهم، فالتفت إلى الرجل فقال له: (( ما رأيك في هذا؟)).
لقد تبعت نظراتُ الرجل ونفسهُ ذاك الذي مرَّ، وتمنى أن يكون مثله جاهاً وثراء، فرأيه إذاً معروف، وإجابته لن تكون سوى الإطراء والمديح.. وهكذا كان فقد قال المسؤول للنبي الكريم ما يحس به ويعتقده: هذا والله لجدير أن يجاب طلبه في كل مايريد، فإن خطب إلى قوم كان لهم الشرف أن يزوجوه، وهل يجدون خيراً منه محتداً، وأكثر أموالاً وأشرف مكانة؟!! إنهم يرتفعون مكانة إن أصهر إليهم، فقربهم إليه.
وهو جدير أيضاً إن سار في حاجة أن تُقضى، فإن منزلته كبيرة وجاهه عظيم، ولا ينبغي أن يرد، وهل يرد أمثاله عن الشفاعة؟

لم يحِرْ رسول الله صلى الله عليه وسلم جواباً، ولم يعلق على رأي المسؤول، فهو صلى الله عليه وسلم لا يحب الجدال والمراء، فالله تعالى كفل للمبتعدين عن الجدال – ولو كانوا أصحاب حق – قصراً رائعاً في منتصف الجنة وأعلاها مكاناً، والجدال يورث في النفس الألم، وفي القلب الكمد، ويتعب صاحبه دون طائل..

ومر رجل آخر مشيته على الأرض خفيفة، ليس فيها تصنع ولا خيلاء، ثيابه بسيطة لكنها نظيفة – فالمسلم نظيف – هيئته تدل على فقر مستور ينأى بصاحبه أن يمد يده للناس، يتخذ من العفاف سمتاً، يحسبه الناس غنياً من التعفف..

فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من سأله آنفاً، فقال: (( ما رأيك في هذا؟))، لم يملأ عينه كما فعل الرجل السابق، فكانت نظراته إليه تختلف عن الآخر، بل إنها كانت عن النقيض منها!
فقال: هذا رجل من فقراء المسلمين!! مغمور لا يهتم به أحد، ولا يلقى إليه بالاً، وأي فائدة يجنيها المرء إن صاحبه، وخالطه؟
هذا جدير إن خطب أن يرد، فلا يُزوّج، فزوجته ستعيش معه في حال سيئة، وضنك واضح، لا جاه له يحتمي به الآخرون، ولا مكانة تشفع له عندهم، ولن يسمع أحد قوله أو ينصت إليه..
حكم على الرجلين أحكاماً تتسم بالسطحية، والنظرة المادية، أخِذ بظاهر الأول وعاف حالَ الثاني، ونسي أن الله لا ينظر إلى صور الناس وأجسادهم، بل إلى قلوبهم وأعمالهم، ونسي أيضاً أن الفخر والخيلاء صفة المتكبرين الفارغين، الذين يرون لأنفسهم ما لا يرونه للآخرين، ونسي كذلك أنه كم من أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبرَّه، قوام، صوام .. يرى الدنيا فانية، والحياة إلى زوال.
وكثير من الناس تغرهم البهارج، وتسحرهم الأعراض، فيغفلون عن الجوهر، وينساقون وراء كل ما يلمع، ويبرق، يشدهم سرابها، ويستهويهم خُلّبُها..

وهنا يعيد الرسول الكريم الأمور إلى نصابها، ويقوِّم الأحكام الخاطئة، وينبه الضائعين عن النهج السليم، ويهديهم إلى الصراط المستقيم، فيقول: (( هذَا خَيْرٌ منْ مِلْءِ الَأْرْضِ مِثْلِ هذَا ))
(( إن هذا الفقير الذي أنفت أن تكون مثله في تواضعه وتقواه وصفاته الحميدة التي لم تتبدّ لك لقصر نظرتك خير من ملء الأرض مثل ذلك الرجل الذي أخذ عليك لبّك فأعماك عن الحقيقة )).

فالإنسان يحكم بعين بصيرته على الأمور لا بعين بصره.

رياض الصالحين: باب فضل ضعفة المسلمين
الحديث/181/ رواه البخاري

يتبع
 
سلسلة قصص رواها الصحابة رضوان الله عليهم

(انت أخي في الله)

الدكتور عثمان قدري مكانسي



كانت المعركة بين المسلمين والكافرين لا تهدأ، فهؤلاء يدعون إلى الله سبحانه وتعالى، وأولئك يرفضون هذه الدعوة الكريمة، لأنها تمس مصالحهم، وتعيد ما اغتصبوه إلى أهل الحق.

ففي مكة، قبل الهجرة كانت كل قبيلة تعذب من آمن من أبنائها ومواليها، وتنكل بهم وتحرض القبائل الأخرى على إيذاء المسلمين من أبنائها، أما رؤوس الشرك فقد كانوا شياطين الإنس، تؤزهم على المسلمين أزاً، .. أمثال ذلك: أبو جهل، وشيبة وعتبة ابنا ربيعة، وعقبة بن أبي معيط، والأخنس بن شريق .. فقُتِل من هؤلاء من قتل في بدر ومات من مات بغيظهم، لم ينالوا خيراً، وكانت النار مأواهم.

وحين هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ومعه المسلمون بدأ الصدام المسلح بين الفريقين، المسلمين وأعداء الله، ولما كان النصر في كفة المسلمين وضعفت تجارة المشركين، لم يجدوا بداً من مهادنة المسلمين والصلح معهم، وهذا ما كان في صلح الحديبية.

فقد صارت رئاسة قريش إلى أبي سفيان بن حرب الذي أسلم بعد فتح مكة، وكان تاجراً مرموقاً يحمل أموال قريش في قوافل تجارية إلى بلاد الشام، وقد يمر وهو ذاهب إليها أو عائد منها على مدينة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم .
رآه مرة في المدينة سلمان الفارسي، وصهيب الرومي، وبلال الحبشي في نفر.

وما أدراك ما سلمان؟ إنه الرجل الذي كان يعيش في ترف وأبهة ورغد، وأبوه صاحب نار المجوس، تجبى إليه الأموال ويغدق الملوك عليه الهبات والعطايا، ولو كان سلمان من أهل الدنيا لنال منها أكثر ما ينال فتى من عز وسؤدد!! ولكه عاف الدنيا ومفاتنها، وساح في بلاد الله يبحث عن الحقيقة، وعن الدين القويم، فتنقل في الشام ثم الحجاز حتى وصل إلى يثرب قبل هجرة المصطفى r إليها، خرج من بلاده (فارس) سيداً، ووصل إلى الحجاز عبداً مملوكاً، فقد غشه من حمله إليها وأسرَه وباعه كما يباع العبيد، ولكنه رضي بذلك لأنه علم أنه وصل إلى منبع النور، وكهف الهداية، ولقي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورفع الله سلمان بالإسلام حتى قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((
سلمان منا آل البيت )).

وصهيب! وما أدراك ما صهيب؟ كان أحد الموالي في مكة يصنع الرماح والسهام، حداداً ماهراً، ونبالاً دقيق الرمي.. جمع من مهنته هذه مالاً وفيراً.. آمن بالدعوة في بدايتها، وحين أذن الله عزّ وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم وللمسلمين بالهجرة أخبأ ماله في مكان بعيد عن العيون، وترك داره وهو يعلم أن المشركين سيغتصبونها، تركها وانطلق نحو المدينة .. وحين علم به المشركون تبعوه، فلما أحس بهم ارتفع على نشز من الأرض وسدد إليهم سهمه قائلاً: تعلمون يا معشر قريش دقة تصويبي، فلا أخطئ أحدأً، ولن تصلوا إليّ حتى تنفدَ سهامي وأقتل منكم بعددها.. كانوا يعلمون ذلك،
فقالوا: ما لنا في نفسك من أرب، لكن جئتنا فقيرا معدوماً فاغتنيت، فأعطنا ما اكتسبته منا ندعك.. وهذا ليس من حقهم، وإنهم عادون ظالمون، لقد نال هذا المال بكد يمينه، وعرق جبينه، فعلام يتقوَّلون؟ وبم يحتجون؟ لكن الظلم ظلمات يوم القيامة .. فليأخذوا المال ما دام صاحبه ينجو منهم .. دلهم على مخبئه، فتركوه.. وانطلقوا إلى المال..
قال أحدهم: أصدقتموه؟!
فقال ثانٍ: نصدّقُه، إن أصحاب محمد لا يكذبون.

ووصل صهيب إلى المدينة، فاستقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم مبتسماً يقول: (( ربح البيع أبا يحيى، ربح البيع )).

وبلال!! ما أدراك ما بلال؟ كان عبداً لأمية بن خلف مقرباً منه، يعتمد عليه في تجارته، فبلال ذكي ألمعي، حين حوى قلبه نور الإيمان، وصدّق الرسول الكريم غضب منه مولاه، وأمره بالعودة إلى عبادة الحجر الذي لا يضر ولا ينفع، وأنى لمن تنَشٌّق عبير الإيمان أن يعود إلى عفن الضلال، وكريهة الكفر؟! أبى، فنكل به على الرمضاء، وأذاقه مُرَّ العذاب، وبلال ثابت صامد، يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، أحد أحد، فرد صمد، فلما مرَّ به الصديق رضي الله عنه اشتراه بماله وأعتقه،
فكان الفاروق عمر يقول إذا رأى بلالاً: سيدنا أعتق سيدنا،
وصار مؤذنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم يصدق بالحق ويعلن التوحيد.

رأى هؤلاء المؤمنون أبا سفيان في المدينة فقالوا: ما أخذتْ سيوفُ الله من عدو الله مأخذها، كانوا يودون في المعارك السابقة أن يكونوا قد قتلوه، وتخلصوا من عقبة كأداء في طريق المسلمين.
سمعهم الصدِّيق رضي الله عنه يقولون ذلك، فقال لهم – وهو المرهف، ذو الشعور السامي والذوق الرفيع - : أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم؟! ولعل الصدِّيق أحس أن أبا سفيان سمع مقالتهم تلك، وهو في مدينتهم، وفي صلحهم، ورأى أن مثل هذا الكلام لا يقال إلا في ساحة الحرب، أما في السلام فلا ..

وأتى الصدِّيق رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما كان، وقال له: يا رسول الله لعلهم إذا سمعوا مني ما قلته في حق أبي سفيان من لوم وعتاب قد أغضبهم، وأساء إليهم، فما كان من المعلم العظيم إلا أن نبه الصدِّيق على جلال قدره ومكانته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((
لعلك أغضبتَهم لئن كنتَ أغضبتَهم لقد أغضبتَ ربَّك )).. فما ينبغي أن يوبخ المسلم أخاه انتصاراً للمشركين .. وهؤلاء النفر عباد الله وخلاصة المؤمنين وأول من نصر الدعوة وجاهد في سبيلها.
فانطلق الصديق إليهم مسرعاً وهم ما يزالون في مكانهم الذي تركهم فيه فقال: يا إخوتاه – والمسلم أخو المسلم – أغضبتكم؟
قالوا له بلسان المحب: لا! أيها الصديق، ما أغضبتنا، يغفر الله لك!!

لقد رباهم الإسلام على الصفح والمغفرة والحب في الله، ورباهم على الأخوة في الله، نسأل الله أن يحشرنا معهم في زمرة عباده الصالحين.

رياض الصالحين: باب ملاحظة اليتيم

الحديث /188/

يتبع
 
سلسلة قصص رواها الصحابة رضوان الله عليهم

(أويس القرني)

الدكتور عثمان قدري مكانسي


يا أمير المؤمنين، هذا مدد من المسلمين قادم إلى المدينة من اليمن يريدون القتال في سبيل الله، وقد جهَّزوا أنفسهم للسفر إلى العراق، ليكونوا في الجند الذين استعدوا لفتح إيران وما وراء النهرين، وهم ينتظرون الإذن منك للسفر.

قال الفاروق عمر: دعهم ينتظرون قليلاً كي أودعهم، ثم إني أريد أن أسألهم عن أويس بن عامر.
يا أمير المؤمنين، إنني لفي عجب مما تصنع، أفكلما جاء مدد من اليمن سألتهم عن أويس بن عامر هذا! فما شأنه يرحمك الله.
سترى ذلك – إن شاء الله – حين أراه وأكلمه وأعرف خبره.

قال عبد الله بن عمر لصاحب أبيه: تلَبَّث يسيراً حتى ينقضي عجبك، فأمير المؤمنين لا يفعل أمراً إلا إذا كان مهماً، أو له فيه الخير والبركة.
قال الرجل لعبد الله: أوتعرف أنت يا عبد الله، لمَ يسأل أمير المؤمنين عن هذا الرجل كلما جاء مدد من اليمن.
قال عبد الله: لا، ولم أسأل والدي عن الأمر، فهو إن أراد أن يذكره لي ذكره دون أن أسأله إياه، ولعلنا ندرك السبب إن رأى بغيَته وحدَّثه..
وانطلق الثلاثة إلى معسكر المسلمين من أهل اليمن خارج المدينة، وسلَّم أمير المؤمنين على جمع المجاهدين، وذكّرهم بالجهاد، وحضّهم عليه وبيّنَ أنه ذروة سنام الإسلام، وبه يعلو شأنه، ثم نادى: أفيكم أويس بن عامر؟
قال أحدهم: - وكان شاباً – لبيك يا أمير المؤمنين.
قال عمر: أأنت هو؟
قال: نعم يا أمير المؤمنين، أنا من هتفت باسمه.
قال عمر: أانت من قبيلة مراد؟
قال: أجل، من قبيلة مراد.
قال عمر: أمن بطن قَرَن؟
قال: من بطن قَرَن يا أمير المؤمنين.
قال عمر: أكان بك بَرَصٌ فبرأتَ منه إلا موضع درهم؟
قال: قد كان بي برص فشفاني الله منه إلا موضع درهم لم يزل في جسمي يذكّرني بفضل الله عليّ ومنّته، إذ أذهب عني الأذى وعافاني وجمَّلني في أعين الناس ،فله الحمد والشكر على نعمائه يا أمير المؤمنين.
قال عمر: ألك والدة لا تزال حيّة ترزق وأنت بها بارٌّ؟
قال: نعم، أسأل الله أن يطيل عمرها ويحسِّن عملها، ويكتب لي ثواب البر بها، فتحت قدميها جنتي.
قال عمر: أنت يا أويس على خير عميم وفضل عظيم.
قال: بشَّرك الله بالخير – يا أمير المؤمنين – فمن دلّك عليَّ وعرَّفك بي فسألتَ عني، واجتهدتَ أن تراني؟
قال عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
(( يأتي عليكم أويس بن عامر، مع أمداد أهل اليمن، من مرادٍ، ثم من قَرَن، كان به برص، فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة، هو بها برُّ، لو أقسم على الله لأبرَّه، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل )).
سمع الجمع هذا الحديث، فضج المكان بالتهليل والتكبير، والصلاة على سيدهم وحبيبهم محمد عليه الصلاة والسلام.

يا الله، ما أروع حبَّ النبي الكريم أمّتَه! وما أسعدهم بانتمائهم إليه! إنهم يشعرون بوجوده، وهو في جوار ربه، ويعيشون معه بأرواحهم وقلوبهم، ويرون في كل آنٍ ولحظةٍ عظيم فضله، وجلال قربه.
قال أويس: والله إني لأحب الله ورسوله، وأتمنى لقاءَهما.
قال عمر: صدقتَ يا أويس، وما حدَّثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا إلا لعلمه بذاك وأنك من أهل الله وخاصته، وقد مدحك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (( إن خير التابعين رجلٌ يقال له: أويس، وله والدة، وكان به بياض، فمُروه فليستغفر لكم )).
قال أويس: وكيف أستغفر لك يا أمير المؤمنين، وأنت أفضل مني، وصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن أوائل العشرة المبشرين بالجنة. أنت الصاحب، وأنا التابع، فما استغفاري لك يرحمك الله؟!
قال عمر: رحمك الله يا أويس، فمن يدّعي أنه خير من إخوانه؟! ومن يزعم أن المستغفر، أو الداعي، أفضل من المستغفَر له أو المدعوِّ له؟
إنني استأذنت رسول الله في العمرة، فأذن لي وقال: (( لا تنسنا يا أخيَّ من دعائك )) فقال كلمة ما يسرُّني أن لي بها الدنيا.
قال أويس – وقد اغرورقت عيناه بالدموع لهذا الفضل العظيم الذي حباه إياه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحيٌ يوحى -: وما فائدة دعائي يا أمير المؤمنين؟!
قال عمر: هذا إرشاد لنا – يا أويس – إلى الازدياد من الخير واغتنام دعاء مَنْ تُرجى إجابته، وأنت مستجاب الدعوة، فلا تحرمنا دعاءك يا أخي.
رفع أويس يديه إلى السماء، وتوجّه بوجهه وقلبه إلى مالك الملك وملك الملوك، وسكب العبرات أمامه وتذلل أمام عتباته، ونادى بلسان الحال والمقام ربّه، واستغفر لعمر وللمسلمين..
يا رب، يا عظيماً بنفسه، يا كريماً بعطائه، يا رحيماً بخلقه، إليك نشكو ضعفنا، وقلّة حيلتنا، وهواننا على الناس، أنت رب المستضعفين، وأنت ربنا لذنا بجنابك، ولجأنا إلى رحابك، فلا ترّدنا خائبين، يا رب العالمين..
إذا كان أمير المؤمنين عمر الفاروق خليفة المسلمين الذي أذلّ الروم، ومرّغ رؤوس الفرس، ونشر الإسلام شرقا وغربا يحتاج إلى الاستغفار ويسأل الصالحين أن يستغفروا له!، فماذا يقول معشر الغثاء الذين هانوا وذلوا أمام أعدائهم، وأضاعوا كرامتهم وقبلوا الدنيَّة في حياتهم؟ رحماك يارب، هيِّء لنا من أمرنا رشدا ..
قال له عمر: أين تريد؟
قال أويس: أريد الكوفة
قال عمر: ألا أكتب لك إلى عاملها فيكرم وفادتك، ويكفيك مؤونتك؟
قال أويس: لأن أكون في عامة الناس أحبُّ إلي من أن أكون سريَّاً يشار إليه بالبنان. وانطلق أويس مع اليمانيين إلى الكوفة حامياً للثغور، مجاهداً في سبيل الله، يحيا حياة المساكين ويرضى من الدنيا لفانية بما يسُدُّ الرمق، فهو يريد أن يخرج منها خفيفاً، لا له ولا عليه.
ومرت سنوات على هذا اللقاء، وجاء موسم الحج، فوفد أهل الكوفة على عمر رضي الله عنه، وفيه رجل كان غنياً موسراً، يرى من أويس عزلة عن الناس، ورضىً بالكفاف من الحياة – ينشغل بنفسه عن تفاهات الحياة – فكان هذا الرجل يسخر من أويس ويبخسه حقّه.
فقال عمر: هل هنا أحد من القرنيين؟
قال الرجل: أجل يا أمير المؤمنين، أنا منهم.
فسأل عمر عن أويس، فكان ردُّ الرجل ردَّ مَنْ يجهل مكانة الصالحين ولا يأبه إلا للوجهاء من الناس أصحابِ المال الوافر، والغنى الظاهر، فأعاده عمر إلى صوابه وردَّدَ على مسامعه وصفَ الرسول الكريم صلوات الله عليه لأويس، وأمره إن عاد إلى الكوفة أن يلتمس استغفار أويس له..
وعاد الرجل إلى الكوفة والتمس أويساً فلقيه، واعتذر إليه عما بدر منه وقال له: استغفر لي يا أخي.
قال أويس: أنت أحدث عهداً بسفر صالحٍ، فقد رجعت من الحج وعُدتَ مغفورا لك دون ذنوب كيوم ولدتك أمك، فأنت أحق أن تستغفر لي.
فأبى الرجل أن يفارق أويساً إلا أن يستغفر له.
قال أويس حين رأى تحوّلا في نظرةِ الرجل إليه: ألقيت عمر أمير المؤمنين فأخبرك بما قاله النبي صلى الله عليه وسلم ؟
قال الرجل: نعم..
فاستغفر أويس له، ودعا له خيراً.
وفطن الناس إلى مكانة أويس، وقد جهد أن لا يفطَنوا إلى ذلك، فخرج عنهم كي لا ينشغل بهم عن خالقه سبحانه.

روى عبد الله بن مسلم قال:
غزونا أذربيجان زمن عمر بن الخطاب، ومعنا أويس القرني، فلما رجعنا مرض علينا، فحملناه، فلم يستمسك، فمات، فنزلنا، فإذا قبر محفور، وماء مسكوب، وكفنٌ وحنوط، فغسلناه، وكفنّاه وصلينا عليه، ودفناه، فقال بعضنا لبعض: لو رجعنا، فعلَّمنا قبره، فإذا لا قبر ولا أثر.

رياض الصالحين: باب زيارة أهل الخير ومجالستهم وصحبتهم ومحبتهم وطلب زيارتهم، والدعاء منهم، وزيارة المواضع الفاضلة

يتبع
 
سلسلة قصص رواها الصحابة رضوان الله عليهم

(الصاحب الناصح)

بقلم: الدكتور عثمان قدري مكانسي



قال سلمان الفارسي رضي الله عنه: لأزورَنَّ أخي وصاحبي أبا الدرداء ((عويمراً الأنصاري))، فلقد تأخرت عنه أياماً وأسابيع، لا أدري ما يفعل الآن، وقد آخى النبي صلى الله عليه وسلم بيني وبينه، فما ينبغي لي أن أقطع أخي أو أغيب عنه كثيراً ..

ثم قال: ما أجمل الأخوَّة في الله وأطيبَ اللقاء في حبه، إنها المحبة التي لا شبهة فيها ولا مراء، حب لا تشوبه شائبة ولا يعكر صفوه مصالح الدنيا ومراميها الدنيئة.

أنا ذاهب إليه أرجو رضا الله وبره.. ألم يذهب رجل إلى قرية فيها أخ له يزوره فيها، فأرسل الله تعالى على مدرجه ملكاً يسأله سبب سيره إليها: ((هل لك عليه من نعمة تربها؟)) فقال للملك: إنما أزوره حباً في الله، فقال له الملك داعياً: ((أحبك الله الذي أحببته لأجله)).

اللهم إن المسلمين جميعاً إخوتي وأحبتي، دربهم دربي، وطريقهم طريقي، فاكتب لنا السعادة جميعاً واكلأنا بعين رعايتك الحانية يا رب العالمين.

واستأذن للدخول إلى الدار فأجابته أم الدرداء: حللت أهلاً ونزلت سهلاً، إن أخاك أبا الدرداء في حاجة له وسيعود سريعاً، البيت بيتك يا سلمان، وقدّمت بين يديه الماء البارد وقليلاً من التمر.. ورحبت به أيما ترحيب.. قال لها وقد نظر إليها فرآها متبذلة، قد تركت ثياب الزينة، وعهده بالنساء يتجملن لأزواجهن ويتزيّن راغبات في أن تقع عيون بعولتهن على كل جميل فيهن.

ولعلك أيها الأخ القارئ تتعجب إذا نظرتُ إليها وأنت تعلم أن من التقوى غض البصر وعدم النظر إلى النساء؟! هذا صحيح، فأنت تعلم أنني كنت من هؤلاء، أهلِ العفة والشرف، وسيزول عجبك حين تعلم أن الحجاب لم يكن قد فرض على نساء المسلمين إذ ذاك، وأن الآية الكريمة في سورة النور : { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ...} لم تكن نزلت بعد، وأنني وزوجَها متآخيان، ثم إن الإسلام هذَّب نفوسنا وصقل أرواحنا فلم نعد نهتم إلا بكل طهر وفضيلة، وعفة ومروءة، على هذا أنشأنا الإسلام وعليه ربانا.

قلت لها: لم – يا أخية – أراك معرضة عما تحبه النساء من زينة وتجمل واعتناء بالمظهر؟
ردت بحياء وخفر: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا.

وكان جوابها القصير الحيِيُّ أبلغ من مقالة مدبجة وقصيدة مطولة، فأبو الدرداء إذاً راغب عن الدنيا وملذاتها، منصرف إلى عبادة الله، يصوم النهار ويقوم الليل.. هذا من حقه، ولكن لا ينبغي له أن يظلم زوجته فيغمطها حقها ويحجب عنها حظها من حياتها..

وجاء أبو الدرداء، فاعتنق صاحبه سلمان وسلم عليه مرحباً به منبسطة أساريره سعيداً بلقائه، وسأله عن أحواله وطول غيابه، فلما اطمأن بهما المقام كانت أم الدرداء قد صنعت لهما الطعام، فقدمه زوجها لسلمان قائلاً: كل، فإني صائم..

قال ذلك معتقداً أن الأخوة تسمح أن لا يؤاكل ضيفه، وأن بإمكانه أن يظل صائما، وعرف سلمان رغبة أخيه في الصوم، لكنه كان قد أضمر أن يُعرِّفه حقوق زوجته عليه، وحقوق ضيفه عليه فقال: إذا نزل الصائم على أخيه فقدم له الطعام وجب عليه أن يفطر إكراماً لضائفه، فما تقول في مُضيف يمتنع عن طعام قدمه لضيفه؟ .. ما أنا بآكل حتى تأكل.. فأكل أبو الدرداء محتسباً ثوابه عند الله تعالى، فلما أديا مع المسلمين صلاة العشاء الآخرة وأويا إلى البيت، أوى سلمان إلى فراشه، وقام أبو الدرداء إلى قيامه.

فأمره سلمان أن ينام، وعزم عليه أن يأوي إلى أهله، ففعل أبو الدرداء ذلك ناوياً أن يشكوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أيحق لسلمان بما له من حق الأخوة والقِرى أن يمنعه العبادة والصيام والقيام، فلما كان من آخر الليل أيقظ سلمان أخاه أبا الدرداء، فصليا جميعاً فلما أذِن الفجر بانبلاجٍ وانطلقا إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال سلمان له ناصحاً ومذكراً :

((إن لربك عليك حقاً)) : ومن حقه أن تعبده، فتصوم وتقوم.

((وإن لنفسك عليك حقاً)) : ومن حقها أن تأكل، وتنام، وتستريح.

((ولأهلك عليك حقاً)) : ومن حقها أن تهتم بها فتلاعبها، وتداعبها.

((فأعط كل ذي حق حقه)) : وهكذا الإسلام دين الحق والصدق والعدل.

فلما انتهت الصلاة عرض أبو الدرداء ما فعله سلمان معه وما قاله، والرسول صلى الله عليه وسلم يصغي إليه ويتابع حديثه، ووجهه الوضاء يلمع، وفهمه الشريف يفتَرُّ بابتسامة تُنمي عن إعجابه بفقه سلمان، ومعرفته دينه، فهذه سنة المصطفى عليه الصلاة والسلام، فهو يفطر ويصوم، وينام ويقوم، ويتزوج النساء، فمن رغب عن سنته فليس منه.

إن الإسلام دين الواقعية، ودين الحياة الطبيعية، وإن المنبتّ لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى..

وينظر أبو الدرداء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسمع منه: (( عويمر: سلمان أفقه منك، لقد أوتي سلمان علماً )).

رياض الصالحين: باب الاقتصاد في الطاعة

الحديث /99/

يتبع
 
سلسلة قصص رواها الصحابة رضوان الله عليهم

(كيف تصنع ب"لا إله إلا الله" يوم القيامة؟)

الدكتور عثمان قدري مكانسي

قال المقداد بن الأسود رضي الله عنه للرسول صلى الله عليه وسلم :

يا رسول الله أرأيت إن لقيت رجلاً من الكفار، فاقتتلنا، فضرب إحدى يدي بالسيف، فقطعها، ثم لاذ مني بشجرة، فقال: أسلمت لله، أأقتله يا رسول الله بعد أن قالها؟

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لا تقتله)).


فتعجب المقداد فهماً لا استنكاراً، إذ لم يَعِ ماهية قتال المسلمين الكفار، وأن القتال لرفع راية الإسلام خفّاقةً عالية، تحكم الدنيا فتقيمُ العدل وتنصف الناس وتهديهم إلى صراط مستقيم، فليس القتال للأخذ بالثأر ولا لتقديم قوم على قوم بحدّ السيف، وقوة الساعد.

فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، قطع إِحدى يديّ ثم نطق بالشهادة بعدما قطعها؟!

قال النبي : صلى الله عليه وسلم (( لا تقتله، فإن قتلتَه فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله، وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال )).


وجلس المقداد ساكناً لا ينبِس ببنت شفة، وكان عقله يضرب أخماساً بأسداس، يقلب الفكرة على وجوهها، فإن الرجل حين ينطق بشهادة الإسلام، صار معصوم الدم، لا يجوز إهداره، مسلماً يحرم قتله، وجاز لورثته أن يقاضوه فيطالبوا بدمه، بل إن المقداد يأثم إذا قتله بعد إسلامه، ولكنه قد ينطق بالشهادة خوفاً على نفسه فهو مؤمن ظاهراً، كافر باطناً، لكن الإسلام يأمرنا أن نأخذ بالظاهر، والله يتولى السرائر، ولعلك حين تكون بيد واحدة يسهل عليه قتلك، فهو أقدر عليك بيد واحدة منك بيدين، ومع ذلك أعلن إسلامه، فوجب عليك الكفّ عنه،يا سبحان الله، اللهم اجعل جهادي في سبيلك وحدك، وأبعد حظوظ النفس عن النوايا الخالصة، يارب ..

وحدث ما لم يكن في الحسبان، فقد كان أسامة بن زيد في سرية أرسلها الرسول الكريم إلى مكان يدعى "الحُرْقةَ" لقبيلة جهينة التي أعلنت عداوتها للإسلام ونبيه وجنده، فصبّح المسلمون القوم، وجرى قتال تشيب لهوله الولدان، كان أحد المشركين إذا قصد مسلماً قتله، وانطلق إلى مسلم آخر حتى أوجع في المسلمين، فتصدى له أسامة ورجل من الأنصار، فلما رأى أنه مقتول لا محالة شهد بكلمة التوحيد، فكفّ عنه الأنصاري، وطعنه أسامة بسيفه حتى قضى عليه.

وجاء البشير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنصر المسلمين وخذلان الكافرين، وحدثه عن سير المعركة وقتلى المسلمين وبلاء المجاهدين، وذكر له قصة مقتل الرجل بيد أسامة بعد نطقه بالشهادة، فلما أقبلت السرية دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ابن ستة عشر ربيعاً، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم مؤنباً:

(( أقال لا إله إلا الله وقتلته؟ ))


قال أسامة: يا رسول الله إنما قالها خوفاً من السلاح.

قال الرسول الكريم (( أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟!)).


قال أسامة: يا رسول الله أوجع في المسلمين وقتل فلاناً وفلاناً، وسمى له نفراً وإني حملت عليه، فلما رأى السيف قال: لا إله إلا الله.

قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم (( فكيف تصنع ب"لا إله إلا اله" يوم القيامة؟ كيف تصنع بـ"لا إله إلا الله" إذا جاءت يوم القيامة؟!)).


قال أسامة: يا رسول الله! استغفر لي.

قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم (( وكيف تصنع بـ"لا إله إلا الله" إذا جاءت يوم القيامة؟! )).


وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرر هذه الجملة، ولا يزيد عليها، استعظاماً لما فعله أسامة.

قال أسامة والموقف أمامه جليل، والخطأ الذي ارتكبه جسيم: تمنيت والله أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم، وخفت أن يكون قد حبط عملي.

لا إله إلا الله: ما وزنت بشيء إلا رجَحَته.

لا إله إلا الله: نور السماوات والأرض.

لا إله إلا الله: توحيد الذي فطر الكون وبرأه.

فويل للذين يحاربون "لا إله إلا الله، محمد رسول الله".

وويل للذين يقتلون رجلا أن يقول: ربي الله.

{ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ( 8 ) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ( 9 )}(البروج).


رياض الصالحين

باب التحذير من إيذاء الصالحين والضعفة والمساكين

يتبع
 
التعديل الأخير:
سلسلة قصص رواها الصحابة رضوان الله عليهم

(حديث الإفك)

الدكتور عثمان قدري مكانسي


إن من شناعة الجرم وبشاعته أن يتناول المنافقون بيت النبي الكريم وعرضه الطاهر الشريف بالإفك، وهو عليه الصلاة والسلام أكرم إنسان على الله، وعرضَ صاحبه الصدِّيق رضي الله عنه أكرم إنسان على رسول الله صلى الله عليه وسلم .وعرض رجل من الصحابة هو صفوان بن المعطل، يشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لم يعرف عليه إلا خيراً.

هذا الإفك الذي شغل المسلمين في المدينة شهراً كاملاً.. كان هذا ثقيلاً جداً على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين.. هذا الإفك الذي كاد يعصف بالمجتمع المسلم، لولا فضل الله تعالى الذي أعاد إلى قلب رسوله الطمأنينة والسكينة ولجَمِ أفواه المنافقين ومن انجرف معهم من المسلمين الذين ثابوا بعد ذلك إلى رشدهم، وعرفوا عظم ما جنَوه، في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم وحق أهل بيته الطاهرات..
هذا الحادثةُ.. حادثةُ الإفك، قد كلّفتْ أطهر النفوس في تاريخ البشرية كلها آلاماً لا تطاق، وكلّفتِ الأمة المسلمة كلها تجربة من أشق التجارب في تاريخها الطويل، وعلَّق قلب رسول الله ، وقلب زوجته التي يحبها، وقلب أبي بكر الصدَّيق وزوجته، وقلب صفوان بن المعطل، شهراً كاملاً، علقها بحبال الشك والقلق والألم الذي لا يطاق.

فلندعْ عائشة رضي الله عنها تروي قصة هذا الألم، وتكشف عن سر هذه الآيات.
عن الزهري عن عروة وغيره عن عائشة – رضي الله عنها – قالت:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه، فأيتهنَّ خرج سهمها خرج بها معه؛ وإنه أقرع بيننا في غزاة فخرج سهمي، فخرجت معه بعد ما أنزل الحجاب، وأنا أُحمل في هودج، وأنزل فيه. فسِرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته تلك، وقفل راجعاً، ودنَونا من المدينة آذن ليلةً بالرحيل، فقمت حين آذنوا بالرحيل، حتى جاوزت الجيش. فلما قضيت من شأني أقبلت إلى الرحل، فلمست صدري، فإذا عقد لي من جزع أظفار قد انقطع، فرجعت فالتمسته،فحبسني ابتغاؤه؛ وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلونني، فاحتملوا هودجي، فرحلوه على بعيري، وهم يحسبون أني فيه؛ وكان النساء إذ ذاك خفافاً لم يثقلهن اللحم؛ وإنا نأكل العلقة من الطعام؛ فلم يستنكر القوم حين رفعوه خفة الهودج، فحملوه؛ وكنتُ جارية حديثة السن؛ فبعثوا الجمل وساروا، فوجدت عقدي، بعدما استمر الجيش، فجئت منزلهم، وليس أحد منهم، فتيممت منزلي، الذي كنت فيه. وظننت أنهم سيفقدونني فيرجعون إلي؛ فبينما أنا جالسة غلبتني عيناي فنمت.
وكان صفوان بن المعطل السلمي، ثم الذكواني، قد عرس وراء الجيش، فأدلج، فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم فأتاني فعرفني حين رآني، وكان يراني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمَّرتُ وجهي بجلبابي؛ والله ما يكلمني بكلمة، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه؛
وهوى حتى أناخ راحلته، فوطئ على يديها، فركبتُها، فانطلق يقود بي الراحلة، حتى أتينا الجيش، بعدما نزلوا معرسين. قالت: فهلك في شأني مَن هلك. وكان الذي تولى كبر الإثم عبدَ الله بن أبي بن سلول؛ فقدمنا المدينة؛ فاشتكيت بها شهراً؛ والناس يُفيضون في قول أصحاب الإفك ولا أشعر. وهو يَريبني في وجعي أني لا أرى من النبي صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل فيسلم ثم يقول: (( كيف تيكم؟)) ثم ينصرف. فذلك الذي يريبني منه، ولا أشعر بالشر حتى نقهت، فخرجت أنا وأم مسطح قِبَل المناصع - وهو متبرزنا- وكنا لا نخرج إلا ليلا إلى ليل، وذلك قبل أن نتخذ الكُنف، وأمْرُنا أمرُ العرب الأول في التبرز قِبَل الغائط. فأقبلت أنا وأم مسطح – وهي ابنة أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف، وأمها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق رضي اله عنه، وابنها مسطح بن أثاثة بن عبّاد بن المطلب – حين فرغنا من شأننا نمشي، فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت: تعس مِسطَح،
فقلت لها: بئسما قلت، أتسبين رجلاً شهد بدراً؟
فقالت: يا هِنتاه ألم تسمعي ما قال؟
فقلت: وما قال؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك، فازددت مرضاً إلى مرضي. فلما رجعت إلى بيتي دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (( كيف تيكم؟))
فقلت: ائذن لي أن آتي أبوِيَّ. وأنا حينئذٍ أريد أن أستيقن الخبَر من قبلهما. فأذن لي، فأتيت أبويَّ، فقلت لأمي: يا أمَّتاه ماذا يتحدث الناس به؟
فقالت: يا بنية هوني علي نفسك الشأن، فوالله لقلما كانت امرأة قَطُّ وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها.
فقلت: سبحان الله! ولقد تحدث الناس بهذا؟ ثم أصبحت أبكي. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليَّ بن أبي طالب وأسامة بن زيد رضي الله عنهما حين استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله.
قالت: فأما أسامة فأشار عليه بما يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم في نفسه من الود لهم، فقال أسامة: هم أهلك يا رسول الله، ولا نعلم والله إلا خيراً، وأما علي بن أبي طالب فقال: يا رسول الله لَمْ يضيِّقِ الله عليك، والنساء سواها كثير، وسل الجارية تخبرْك. قالت: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة فقال لها: أي بريرة، هل رأيت فيها شيئا يريبك؟ فقالت: لا والذي بعثك بالحق نبيا. إنْ رأيت منها أمرا أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها، فتأتي الداجن فتأكله. قالت: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه، واستعذر من عبد الله بن أبي بن سلول، فقال وهو على المنبر: (( من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي؟ فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا، وما كان يدخل على أهلي إلّا معي )).
قالت: فقام سعد بن معاذ رضي الله عنه فقال: يا رسول الله أنا والله أعذرك منه، إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من الخزرج أمرتنا ففعلْنا فيه أمرك، فقام سعد بن عبادة رضي الله عنه، وهو سيد الخزرج، وكان رجلاً صالحاً ولكن أخذته الحمية، فقال لسعد بن معاذ: كذبت لعمر الله، لا تقتله ولا تقدر على ذلك. فقام أسيد بن حضير رضي الله عنه، وهو ابن عم سعد بن معاذ، فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله لنقتلّنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين. فثار الحيّان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، فلم يزل يخفضهم حتى سكتوا ونزل. وبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، ثم بكيت ليلتي المقبلة لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، فأصبح أبواي عندي، وقد بكيت ليلتين ويوماً، أظن أنَّ البكاء فالقٌ كبدي. فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي إذ استأذنتْ امرأة من الأنصار، فاذنتُ لها، فجلست تبكي معي. فبينما نحن كذلك إذ دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جلس، ولم يجلس عندي من يوم قيل فيّ ما قيل قبلها، وقد مكث شهرا لا يوحى إليه في شأني بشيء، فتشهَّد حين جلس، ثم قال: (( أما بعد فقد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرِّئك الله تعالى، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب، تاب الله تعالى عليه )). فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه بقطرة، فقلت لأبي: أجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال،
قال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ،
فقلت لأمي: أجيبي عني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال،
قالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالت: وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيراً من القرآن،
فقلت: إني والله أعلم أنكم سمعتم حديثاً تحدث الناسُ به، واستقر في نفوسكم، وصدقتم به.
فلئن قلت لكم إني بريئة لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر، والله يعلم أني منه بريئة لتصدقُنَّني، فوالله ما أجد لي ولكم مثلاً إلا أبا يوسف إذ قال: { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)}(يوسف) ثم تحولت فاضطجعت على فراشي، وأنا والله حينئذ أعلم أني بريئة، وأن الله تعالى مبرِّئي ببراءتي، ولكن -والله- ما كنت أظن أن ينزل الله تعالى في شأني وحْياً يتلى؛ ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله تعالى فيَّ بأمر يُتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله تعالى بها. فوالله ما رام مجلسه، ولا خرج أحد من أهل البيت، حتى أنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم ، فأخذه ما كان يأخذه من البُرَحاء، فسُرِّيَ عنه، وهو يضحك، فكان أول كلمة تكلم بها أن قال لي: (( يا عائشة احمدي الله تعالى فإنه قد برَّأك )).
فقالت لي أمي: قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت: والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله تعالى، هو الذي أنزل براءتي، فأنزل الله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ .. (11)}(النور) ((العشر الآيات)). فلما أنزل الله تعالى هذا في براءتي، قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه – وكان ينفق على مِسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره – والله لا أنفق على مسطح شيئاً أبداً بعد ما قال لعائشة رضي الله عنها. فأنزل الله تعالى: { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ .. ) إلى قوله ( وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)}(النور)، فقال أبو بكر رضي الله عنه: بلى والله لأحب أن يغفر الله لي، فرجَعَ إلى مسطح النفقة التي كان يُجري عليه، وقال: والله لا أنزعها منه أبداً. قالت عائشة رضي الله عنها: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل زينب بنت جحش عن أمري، فقال: ((يا زينب! ما علمت وما رأيت؟))
فقالت: يا رسول الله أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت عليها إلا خيراً، وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي ، فعصمها الله تعالى بالورع،
قالت: فطفقت أختها حمنة تحارب لها، فهلكت فيمن هلك من أصحاب الإفك .
وتعال نَعِش أخي الحبيب في ظلال هذه القصة بقلم الشهيد الأستاذ سيد قطب – فقد أجاد التعبير والفهم ، رحمه الله - إذ يقول في تفسير آياتها في سورة النور ما يلي:
وهكذا عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته، وعاش أبو بكر رضي الله عنه وأهل بيته، وعاش صفوان بن المعطل، وعاش المسلمون جميعاً هذا الشهر كله في مثل هذا الجو الخانق، وفي ظل تلك الآلام الهائلة، بسبب حديث الإفك الذي نزلت فيه هذه الآيات.
وإن الإنسان ليقف متململاً أمام هذه الصورة الفظيعة لتلك الآلام العميقة اللاذعة لشأن زوجه المقربة، وهي فتاة صغيرة في نحو السادسة عشرة، تلك السن المليئة بالحساسية المرهفة، والرفرفة الشفيفة.
فها هي ذي عائشة الطيبة الطاهرة، ها هي ذي في براءتها ووضاءة ضميرها، ونظافة تصوراتها، ها هي ذي تُرمى في أعز ما تعتز به، ترمى في شرفها، وهي ابنة الصدّيق، الناشئة في العش الطاهر الرفيع، وتُرمى في أمانتها، وهي زوج محمد بن عبد الله من ذروة بني هاشم. وترمى في وفائها، وهي الحبيبة المدللة القريبة من ذلك القلب الكبير .. ثم ترمى في إيمانها، وهي المسلمة الناشئة في حجر الإسلام، من أول يوم تفتحت عيناها فيه على الحياة، وهي زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ها هي ذي تُرمى، وهي بريئة غارة غافلة، لا تحتاط لشيء، ولا تتوقع شيئاً؛ فلا تجد ما يبرئها إلا أن ترجو في جناب الله، وتترقب أن يرى رسول الله رؤيا، تبرئها مما رميت به. ولكن الوحي يتلبَّثُ لحكمة يريدها الله، شهراً كاملاً، وهي في مثل هذا العذاب.
ويا لله لها!! وهي تفاجأ بالنبأ من أم مسطح، وهي مهدودة من المرض، فتعاودها الحمى، وهي تقول لأمها في أسى: سبحان الله! وقد تحدث الناس بهذا؟ وفي رواية أخرى تسأل: وقد علم به أبي؟ فتجيب أمها: نعم! فتقول: ورسول الله ؟ فتجيبها أمها كذلك: نعم!

ويا الله!! ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- نبيُّها الذي تؤمن به، ورجُلُها الذي تحبه، يقول لها: (( أما بعد، فإنه بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله تعالى، وإن كنت ألمَمْت بذنب فاستغفري الله تعالى وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه )).. فتعلم أنه شاك فيها، لا يستيقن من طهارتها، ولا يقضي في تهمتها. وربُّه لم يخبره بعد، ولم يكشف له عن براءتها التي تعلمُها ولكن لا تملك إثباتها؛ فتمسي وتصبح وهي تهمة في ذلك القلب الكبير الذي أحبها، وأحلّها في سويدائه!
وها هو ذا أبو بكر الصديق في وقاره وحساسيته وطيب نفسه يلذعه الألم، وهو يُرمى في عرضه، في ابنته زوج محمد صاحبه الذي يحبه ويطمئن إليه، ونبيه الذي يؤمن به ويصدقه تصديق القلب المتصل، لا يطلب دليلاً من خارجه.. وإذا الألم يفيض على لسانه، وهو الصابر المحتسب القويُّ على الألم، فيقول: والله ما رُمينا بهذا في جاهلية، أفنرضى به في الإسلام؟ وهي كلمة تحمل من المرارة ما تحمل، حتى إذا قالت له ابنته المريضة المعذبة: أجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
قال في مرارة هامدة: والله ما أدري ماذا أقول لرسول الله .
وأم رومان زوج الصديق رضي الله عنهما، وهي تتماسك أمام ابنتها المفجوعة في كل شيء، المريضة التي تبكي حتى تظن أن البكاء فالق كبدها: يا بنية هوِّني على نفسك الشأن، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلّا أكثرن عليها .. ولكن هذا التماسك يتزايل
وعائشة تقول لها: أجيبي رسول الله ، فتقول كما قال زوجها من قبل: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم !
والرجل المسلم الطيب الطاهر المجاهد في سبيل الله صفوان بن المعطل، وهو يُرمى بخيانة نبيه في زوجه، فيُرمى بذلك في إسلامه، وفي أمانته، وفي شرفه، وفي حمِيَّته، وفي كل ما يعتز به صحابي، وهو من ذلك كله بريء، وهو يفاجأ بالاتهام الظالم، وقلبُه بريء من تصوره، فيقول: سبحان الله! والله ما كشفت كتف أنثى قط. ويعلم أن حسان بن ثابت يروِّج لهذا الإفك عنه، فلا يملك نفسه أن يضربه بالسيف ضربة تكاد تودي به، ودافعه إلى رفع سيفه على امرئ مسلم- وهو منهي عنه- أن الألم قد تجاوز طاقته، فلم يملك زمام نفسه الجريح!.
ثم ها هو ذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو رسول الله، وهو في الذروة من بني هاشم .. ها هو ذا يرمى في بيته، وفي من؟ في عائشة التي حلت من قلبه في مكان الابنة والزوج والحبيبة، وها هو يُرمى في طهارة فراشه، وهو الطاهر الذي تفيض منه الطهارة، وها هو ذا يُرمى في صيانة حرمته، وهو القائم على الحرمات في أمته، وها هو ذا يرمى في حياطة ربه له، وهو الرسول المعصوم من كل سوء.

ها هو ذا يُرمى في كل شيء حين يرمى في عائشة رضي الله عنها، يُرمى في كل ما يعتز به عربي، وكلِّ ما يعتز به نبي.. ها هو ذا يرمى في هذا كله؛ ويتحدث إلى الناس به في المدينة شهرا كاملا، فلا يملك أن يضع لهذا كله حدا، واللهُ يريد لحكمة يراها أن يدع هذا الأمر شهراً كاملاً لا يبين فيه بياناً. ومحمدٌ الإنسان في هذا الموقف الأليم، يعاني من العار، ويعاني فجيعة القلب؛ ويعاني فوق ذلك الوحشة المؤرقة، الوحشة من نور الله الذي اعتاد أن ينير له الطريق.. والشكُّ يعمل في قلبه مع وجود القرائن، والفِرْية تفوح في المدينة، وقلبه الإنساني المحب لزوجه الصغيرة يتعذب بالشك؛ فلا يملك أن يطرد الشك، لأنه في النهاية بشر، ينفعل في هذا انفعالات البشر، وزوج لا يطيق أن يُمس فراشه، ورجل تضخُم بذرة الشك في قلبه متى استقر، ويصعب عليه اقتلاعها دون دليل حاسم.

وها هو ذا يثقل عليه العبءُ وحده، فيبعث إلى أسامة بن زيد، حِبِّه القريب إلى قلبه .. ويبعث إلى علي بن أبي طالب، ابن عمه وسنده، يستشيرهما في خاصة أمره، فأما علي فهو من عصب محمد، وهو شديد الحساسية بالموقف لهذا السبب، ثم هو شديد الحساسية بالألم والقلق اللذين يعتصران قلب محمد، ابن عمه وكافله، فهو يشير بأن الله لم يضيق عليه، ويشير مع هذا بالتثبت من الجارية ليطمئن قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الود لأهله، والتعب لخاطر الفراق، فيشير بما يعلمه من طهارة أم المؤمنين، وكذب المفترين الافاكين.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم في لهفة الإنسان، وفي قلق الإنسان يستمد من حديث أسامة، ومن شهادة الجارية مدداً وقوة يواجه بهما القوم في المسجد، فيستعذر ممن نالوا عرضه، ورمَوا أهله، ورموا رجلاً من فضلاء المسلمين لا يعلم أحد عليه من سوء. فيقع بين الأوس والخزرج ما يقع من تناور، وهم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم
، ويدل هذا على الجو الذي كان يظلل الجماعة المسلمة في هذه الفترة الغريبة، وقد خُدِشت قداسة القيادة، ويحز هذا في نفس الرسول ، والنور الذي اعتاد أن يسعفه لا ينير له الطريق! فإذا هو يذهب إلى عائشة نفسها، يصارحها بما يقول الناس؛ ويطلب منها هي البيان الشافي المريح!
وعندما تصل الآلام إلى ذروتها على هذا النحو، يتعطف عليه ربه، فيتنزل القرآنُ ببراءة عائشة الصديقة الطاهرة؛ وبراءة بيت النبوة الطيب الرفيع؛ فيكشف المنافقين الذين حاكوا هذا الإفك، ويرسم الطريق المستقيم للجماعة المسلمة في مواجهة مثل هذا الشأن العظيم.
ولقد قالت عائشة عن القرآن الذي تنزَّل: ((وأنا والله أعلم حينئذ أني بريئة، وأن الله تعالى مبرِّئي ببراءتي، ولكني والله ما كنت أظن أن يُنزِّل الله تعالى في شأني وحْياً يتلى، ولَشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيّ بأمر يُتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله تعالى بها)).

ولكن الأمر – كما يبدو من ذلك الاستعراض – لم يكن أمرَ عائشة رضي الله عنها، ولا قاصراً على شخصها، فلقد تجاوزها إلى شخص الرسول صلى الله عليه وسلم ووظيفته في الجماعة يومَها، بل تجاوز إلى صلته بربه ورسالته كلها، وما كان حديثُ الإفك رمية لعائشة وحدها، إنما كان رميا للعقيدة في شخص نبيها وبانيها.. من أجل ذلك أنزل الله القرآن ليفصل في القضية المبتدعة، ويردَّ المكيدة المدبرة، ويتولى المعركة الدائرة ضد الإسلام ورسول الإسلام؛ عن الحكمة العليا وراء ذلك كله؛ وما يعلمها إلا الله:
{ إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)}(النور).
فهم ليسوا فرداً ولا أفراداً؛ إنما هم "عصبة" مجتمعة ذات هدف واحد، ولم يكن عبد الله بن أبي بن سلول وحده هو الذي أطلق الإفك، إنما هو الذي تولى معظمه، وهو يمثل عصبة اليهود أو المنافقين، الذين عجَزوا عن حرب الإسلام جهرة؛ فتوارَوا وراء ستار الإسلام ليكيدوا للإسلام خِفية، وكان حديثُ الإفك إحدى مكائدهم القاتلة. ثم خُدع فيها المسلمون فخاض منهم من خاض في حديث الإفك كحمنة بنت جحش؛ وحسان بن ثابت؛ ومسطح بن أثاثة. أما أصل التدبير فكان عند تلك العصبة، وعلى رأسها ابن سلول، الحذر الماكر، الذي لم يظهر بشخصه في المعركة، ولم يقل علانية ما يؤخذ به، فيقاد إلى الحد، إنما كان يهمس به بين ملئِه الذين يطمئن إليهم، ولا يشهدون عليه، وكان التدبير من المهارة والخبث بحيث أمكن أن ترجف به المدينة شهراً كاملاً، وأن تتداوله الألسنة في أطهر بيئة وأتقاها!
وقد بدأ السياق ببيان تلك الحقيقة ليكشف عن ضخامة الحادث، وعمق جذوره، وما وراءه من عصبة تكيد للإسلام والمسلمين، هذا الكيد الدقيق العظيم اللئيم.
ثم سارع بتطمين المسلمين من عاقبة هذا الكيد:
{ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ (11)}(النور).
{ خَيْر } .. فهو يكشف عن الكائدين للإسلام في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته، وهو يكشف للجماعة المسلمة عن ضرورة تحريم القذف، وأخذ القاذفين بالحد الذي فرضه الله؛ ويبيّن مدى الأخطار التي تحيق بالجماعة لو أطلقت فيها الألسنة تقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، فهي عندئذ لا تقف عند حد، إنما تمضي صعداً إلى أشرف المقامات، وتتطاول إلى أعلى الهامات، وتعدم الجماعة كل وقاية وكل تحرج وكل حياء.
وهو خير أن يكشف الله للجماعة المسلمة بهذه المناسبة عن المنهج القويم في مواجهة مثل هذا الأمر العظيم.
أما الآلام التي عاناها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهلُ بيته والجماعة المسلمة كلها، فهي ثمن تجربة، وضريبة الابتلاء، الواجبة الأداء!.

أما الذين خاضوا في الإفك، فلكل منهم بقدر نصيبه من تلك الخطيئة:
{ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ ..(11))(النور)، ولكل منهم نصيبه من سوء العاقبة عند الله. ما اكتسبوا، فهو إثم يعاقبون عليه في حياتهم الدنيا وحياتهم الأخرى:
{ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)}(النور)، يناسب نصيبه من ذلك الجرم العظيم.
والذي تولى كبره، وقاد حملته، واضطلع منه بالنصيب الأوفى، كان هو عبد الله بن أبي بن سلول، رأس النفاق، وحامل لواء الكيد. وقد عرف كيف يختار مقتلاً، لولا أن الله كان من ورائه محيطاً، وكان لدينه حافظاً، ولرسوله عاصماً، وللجماعة المسلمة راعياً..
ولقد روي أنه لما مرَّ صفوان بن المعطل بهودج أم المؤمنين وابن سلول في ملأ من قومه قال: مَن هذه؟ فقالوا: عائشة رضي الله عنها .. فقال: والله ما نجت منه ولا نجا منها، وقال: امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت، ثم جاء يقودها!.
وهي قولة خبيثة راح يذيعها عن طريق عصبة النفاق بوسائل ملتوية، بلغ من خبثها أن تموج المدينة من الفرية التي لا تصدق، والتي تكذبها القرائن كلها، وأن تلوكها ألسنة المسلمين غير متحرجين، وأن تصبح موضوع أحاديثهم شهراً كاملاً، وهي الفرية الجديرة بأن تنفى وتستبعد للوهلة الأولى.
وإن الإنسان ليدهش حتى اليوم كيف أمكن أن تَروج فريةٌ ساقطة كهذه في جو الجماعة المسلمة حين ذاك، وأن تُحدِث هذه الآثارَ الخضمة في جسم الجماعة، وتسبب هذه الآلام القاسية لأطهر النفوس وأكبرها على الإطلاق.
لقد كانت معركة خاضها رسول الله صلى الله عليه وسلم وخاضتها الجماعة المسلمة يومذاك، وخاضها الإسلام، معركة ضخمة لعلها أضخم المعارك التي خاضها رسول الله ، وخرج منها منتصراً كاظماً لآلامه الكبار، محتفظاً بوقار نفسه وعظمة قلبه وجميل صبره، فلم تؤثَرْ عنه كلمة
واحدة تدل على نفاد صبره وضعف احتماله، والآلام التي مرت به في حياته، والخطر على الإسلام من تلك الفرية من أشد الأخطار التي تعرض لها تاريخه.
ولو استشار كلُّ مسلم قلبَه يومه لأفتاه؛ ولو عاد إلى منطق الفطرة لهداه، والقرآن الكريم يوجه المسلمين إلى هذا النهج في مواجهة الأمور، بوصفه أول خطوة في الحكم عليها: { لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12)}(النور).

نعم، كان هذا هو الأولى.. أن يظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا، وأن يستبعدوا سقوط أنفسهم في ظل هذه الحمأة.. وامرأة نبيهم الطاهرة وأخوهم الصحابي المجاهد هما من أنفسهم، فظنُّ الخيرِ بهما أولى، لكن ما لا يليق بهم، لا يليق بزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا يليق بصاحبه الذي لم يعلم عنه إلا خيرا ..
كذلك فعل أبو أيوب خالد بن زيد الأنصاري وامرأته رضي الله عنهما، كما روى الإمام محمد بن إسحاق: أن أبا أيوب قالت له امرأته أم أيوب: يا أبا أيوب أتسمع ما يقول الناس في عائشة رضي الله عنها؟
قال: نعم، وذلك الكذب، أكنت فاعلة ذلك يا أم أيوب؟
قالت: لا والله ما كنت لأفعله. قال: فعائشة والله خير منك ..
ونقل الإمام محمود بن عمر الزمخشري في تفسيره: "الكشاف" أن أبا أيوب الأنصاري قال لأم أيوب: ألا ترين ما يقال؟
فقالت: لو كنت بدل صفوان أكنت تظن بحرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم سوءاً؟
قال: لا، قالت: ولو كنت أنا بدل عائشة رضي الله عنها ما خنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعائشة خير مني، وصفوانٌ خير منك..
وكلتا الروايتين تدلان على أن بعض المسلمين رجع إلى نفسه واستفتى قلبه، فاستبعد أن يقع ما نسب إلى عائشة، وما نسب إلى رجل من المسلمين: من معصية لله وخيانة لرسوله ، وارتكاس في حمأة الفاحشة، لمجرد شبهة لا تقف للمناقشة!

هذه هي الخطوة الأولى في المنهج الذي يفرضه القرآن لمواجهة الأمور، خطوة الدليل الباطني الوجداني.
فأما الخطوة الثانية فهي طلب الدليل الخارجي والبرهان الواقعي:
{ لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13)}(النور)، وهذه الفرية الضخمة التي تتناول أعلى المقامات، وأطهرَ الأعراض، ما كان ينبغي أن تمر هكذا سهلة هينة، وأن تشيع هكذا دون تثبت ولا بيِّنة؛ وأن تتقاذفها الألسنة وتلوكَها الأفواه دون شاهد ولا دليل:
{ لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ }! وهم لم يفعلوا، فهم كاذبون إذن، كاذبون عند الله الذي لا يبدَّل القولُ لديه، والذي لا يتغير حكمه، ولا يتبدل قراره، فهي الوصمة الثابتة الصادقة الدائمة التي لا براءة لهم منها، ولا نجاة لهم من عقابها.
هاتان الخطوتان: خطوة عرض الأمر على القلب واستفتاء الضمير، وخطوة التثبت بالبينة والدليل.. غفَل عنهما المؤمنون في حادث الإفك، وتركوا الخائضين يخوضون في عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أمر عظيم، لولا لطف الله لَمَسَّ الجماعة كلها البلاءُ العظيم، فالله يحذرهم أن يعودوا لمثله أبدا بعد هذا الدرس الأليم:
{ لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13)}(النور).
لقد احتسبها الله للجماعة المسلمة الناشئة درساً قاسياً، فأدركهم بفضله ورحمته ولم يمسهم بعقابه وعذابه، فهي فعلة تستحق العذاب العظيم، الذي يتناسب مع العذاب الذي سبَّبوه للرسول صلى الله عليه وسلم وزوجه وصديقه وصاحبه الذي لا يعلم عنه إلا خيراً، والعذابِ الذي يتناسب مع الشر الذي ذاع في الجماعة المسلمة وشاع، ومس كل المقدسات التي تقوم عليها حياة الجامعة، والعذابِ الذي يناسب خبث الكيد الذي كادته عصبة المنافقين للعقيدة لتقتلعها من جذورها حين تُزلزل ثقة المؤمنين بربهم ونبيهم وأنفسهم طوال شهر كامل، حافلٍ بالقلق والقلقلة والحَيرة بلا يقين! ولكنَّ فضل الله تدارك الجماعة الناشئة، ورحمتَه شمِلت المخطئين، بعد الدرس الأليم.

والقرآن يرسم صورة لتلك الفترة التي أفلت فيها الزمام؛ واختلت فيها المقايسس، واضطربت فيه القيم، وضاعت فيها الأصول:
{ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)}(النور)، وهي صورة فيها الخفة والاستهتار وقلة التحرج، وتتناول أعظم الأمور وأخطرها بلا مبالاة ولا اهتمام:
{ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ } لسان يتلقى عن لسان، بلا تدبر ولا فحص ولا إمعان نظر، حتى لكأن القول لا يمر على الآذان، ولا تتملاه الرؤوس، ولا تتدبره القلوب!
{ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ } .. بأفواهكم لا بوَعيِكم ولا بقلبكم، إنما هي كلمات تقذف بها أفواه، قبل أن تستقر في المدارك، وقبل أن تتلقاه العقول..
{ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا } أن تقذفوا عرض رسول الله ، وتدَعوا الألم يعتصر قلبه وقلب زوجه وأهله؛ وأن تلوِّثوا بيت الصديق الذي لم يُرْمَ في الجاهلية، وأن تتهموا صحابيا مجاهدا في سبيل الله، وأن تمسوا عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلته بربه، ورعاية الله له ..
{ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا .. وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ } .. وما يعظم عند الله إلا الجليلُ الضخم الذي تَزلزَلُ له الرواسي، وتضِج منه الأرض والسماء.
ولقد كان ينبغي أن تجفل القلوب من مجرد سماعه، من مجرد النطق به، وأن تنكر أن يكون هذا موضعاً للحديث؛ وأن تتوجه إلى الله تنزهه عن أن يدع نبيه لمثل هذا، وأن تقذف بهذا الإفك بعيداً عن ذلك الجو الطاهر الكريم:
{ وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16)}(النور).
وعندما تصل هذه اللمسة إلى أعماق القلوب فتهزُّها هزاً؛ وهي تطلعها على ضخامة ما جنت وبشاعة ما عملت .. عندئذٍ يجيء التحذير من العودة إلى مثل هذا الأمر العظيم: { يَعِظُكُمَ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17)}(النور)،

{ يَعِظُكُمَ } في أسلوب التربية المؤثر، في أنسب الظروف للسمع والطاعة والاعتبار، مع تضمين اللفظ معنى التحذير من العودة إلى مثل ما كان،
{ يَعِظُكُمَ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا }، ومع تعليق إيمانهم على الانتفاع بتلك العظة:
{ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ }، فالمؤمنون لا يمكن أن يكشف لهم عن بشاعة عمل كهذا الكشف، وأن يحذروا منه مثل هذا التحذير، ثم يعودوا إليه وهم مؤمنون،
{ وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ } على مثال ما بين في حديث الإفك، وكشف عما وراءه من كيد؛ وما وقع فيه من خطايا وأخطاء،
{ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } يعلم البواعث والنوايا والغايات والأهداف، ويعلم مداخل القلوب، ومسارب النفوس، وهو حكيم في علاجها، وتدبير أمرها، ووضْعِ النُّظُم والحدود التي تصلح بها.
ثم يمضي في التعقيب على حديث الإفك؛ وما تخلَّفَ عنه من آثار؛ مكرراً التحذير من مثله، مذكراً بفضل الله ورحمته، متوعداً من يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات بعذاب الله في الآخرة. ذلك مع تنقية النفوس من آثار المعركة؛ وإطلاقها من ملابسات الأرض، وإعادة الصفاء إليها والإشراق، كما تتمثل في موقف أبي بكر رضي الله عنه من قريبه مسطح بن أثاثة الذي خاض في حديث الإفك مع من خاض:
{ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19)}(النور).

والذين يرمون المحصنات – وبخاصة أولئك الذين تجرأوا على رمي بيت النبوة الكريم – إنما يعملون على زعزعة ثقة الجماعة المؤمنة بالخير والعفة والنظافة؛ وعلى إزالة التحرج من ارتكاب الفاحشة، وذلك عن طريق الإيحاء بأن الفاحشة شائعة فيها، بذلك تشيع الفاحشة في النفوس، لتشيع بعد ذلك في الواقع.
من أجل هذا وصف الذين يرمون المحصنات بأنهم يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وتوعدهم بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة.

وذلك جانبٌ من منهج التربية، وإجراءٌ من إجراءات الوقاية، يقوم على خبرةٍ بالنفس البشرية، ومعرفة بطريقة تُكيِّفُ مشاعرها واتجاهاتها، ومن ثم يعقب بقوله: { وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ }، ومن ذا الذي يعلم أمر هذه النفس إلا الذي خلقها؟ ومن ذا الذي يدبر أمر هذه الإنسانية إلا الذي برأها؟ ومن ذا الذي يرى الظاهر والباطن، ولا يخفى على علمه شيء إلا العليم الخبير؟
ومرة أخرى يذكر المؤمنين بفضل الله عليه ورحمته: { وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20 )}(النور).

إن الحدث لعظيم، وإن الخطأ لجسيم، وإن الشر الكامن فيه لخليق أن يصيب الجماعة المسلمة كلها بالسوء. ولكن فضل الله ورحمته، ورأفته ورعايته، ذلك ما وقاهم السوء، ومن ثَمَّ يذكرها به المرة بعد المرة؛ وهو يربيهم بهذه التجربة الضخمة التي شملت حياة المسلمين.
فإذا تمثلوا أن ذلك الشر العظيم كان وشيكاً أن يصيبهم جميعاً، لولا فضل الله ورحمته، صور لهم عملهم بأنه اتباع لخطوات الشيطان، وما كان لهم أن يتبعوا خطوات عدوهم وعدو أبيهم من قديم، وحذرهم ما يقودهم الشيطان إليه من مثل هذا الشر المستطير: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)}(النور).
وإنها لصورة مستنكرة أن يخطو الشيطان فيتبعَ المؤمنون خُطاه، وهم أجدر الناس أن ينفروا من الشيطان وأن يسلكوا طريقاً غير طريقه المشؤوم! صورة مستنكرة ينفر منها طبع المؤمن، ويرتجف لها وجدانه، ويقشعر لها خياله! ورسم هذه الصورة ومواجهة المؤمنين بها يثير في أنفسهم اليقظة والحذر والحساسية:
{ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ }، وحديث الإفك نموذج من هذا المنكر الذي قاد إليه المؤمنين الذين خاضوا فيه، وهو نموذج منفر شنيع.
وإن الإنسان لضعيف، مُعرَّض للنزعات، عرضة للتلوث، إلا أن يدركه فضلُ الله ورحمته، حين يتجه إلى الله، ويسير على نهجه: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)}(النور).
فنور الله الذي يشرق في القلب يُطهِّره ويزكيه، ولولا فضل الله ورحمته لم يزكُ من أحد ولم يتطهر، والله يسمع ويعلم، فيزكي من يستحق التزكية، ويطهر من يعلم فيه الخير والاستعداد { وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } .
وعلى ذكر الدعوة والطهارة تجيء الدعوة إلى الصفح والمغفرة بين بعض المؤمنين وبعض – كما يرجون غفرانَ الله لما يرتكبونه من أخطاءٍ وذنوب - :
{ وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)}(النور).
نزلت في أبي بكر رضي الله عنه بعد نزول القرآن ببراءة الصديقة، وقد عرف أن مسطح بن أثاثة كان ممن خاضوا فيه؛ قريبَه، وهو من فقراء المهاجرين، وكان أبو بكر ينفق عليه، فآلى على نفسه لا ينفع مسطحاً بنافعة أبداً.

نزلت هذه الآية تذكِّر أبا بكر، وتذكر المؤمنين، بأنهم يُخطؤون ثم يحبون من الله أن يغفر لهم، فليأخذوا أنفسهم بعضَهم مع بعض بهذا الذي يحبونه، ولا يحلفوا أن يمنعوا البِّرَّعن مستحقيه، إن كانوا قد أخطأوا وأساءوا.
وهنا نطَّلعُ على أفق عال من آفاق النفوس الزكية، التي تطهرت بنور الله، أفقٍ يشرق في نفس أبي بكر الصديق رضي الله عنه، أبي بكر الذي مسّه حديث الإفك في أعماق قلبه، والذي احتمل مرارة الاتهام لبيته وعرضه، فما كاد يسمع دعوة ربه إلى العفو؛ وما يكاد يلمس وجدانه ذلك السؤال الموحي:
{ أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ } حتى يرتفع على الآلام، ويرتفع على مشاعر الإنسان، ويرتفع على مناطق البيئة، وحتى تشِفَّ روحه وترف وتشرق بنور الله، في طمأنينة وصدق يقول: بلى والله إني أحب أن يغفر الله لي. ويعيد إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، ويحلف: والله لا أنزعها منه أبدا، ذلك في مقابل ما حلف: والله لا أنفعه بنافعة أبداً.
بذلك يمسح الله على آلام ذلك القلب الكبير، ويغسله من أوضار المعركة، ليبقى أبداً نظيفاً طاهراً زكياً مشرقاً بالنور.
ذلك الغفران الذي يُذكر الله المؤمنين به، إنما هو لِمَن تاب عن خطيئة رمْيِ المحصنات وإشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، فأما الذين يرمون المحصنات عن خبث وعن إصرار، كأمثال ابن أبيّ فلا سماحة ولا عفو، ولو أفلتوا من الحد في الدنيا، لأن الشهود لم يشهدوا، فإن عذاب الله ينتظرهم في الآخرة، ويومذاك لن يحتاج الأمر إلى شهود:
{ إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)}(النور).

ويجسِّم التعبيرُ جريمة هؤلاء ويبشِّعُها؛ وهو يصورها رمياً للمحصنات المؤمنات، وهن غافلات غارّات، غير آخذات حذرهن من الرمْية، وهن بريئات الطوايا مطمئنات لا يحذرن شيئاً، لأنهم لم يأتين شيئاً يحذرنه! فهي جريمة تتمثل فيها البشاعة كما تتمثل فيها الخسة، ومن ثم يعاجل مقترفيها باللعنة. لعنة الله عليهم، وطردهم من رحمته في الدنيا والآخرة، ثم يرسم ذلك المشهد الأخاذ:
{ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ }، فإذا بعضهم يتهم بعضاً بالحق، إذ كانوا يتهمون المحصنات الغافلات المؤمنات بالإفك! وهي مقابلة في المشهد مؤثرة، على طريقة التناسق الفني في التصوير القرآني.
{ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ }، ويجزيهم العدل، ويؤدي لهم حسابهم الدقيق، ويومئذ يستيقنون مما كانوا يستريبون { وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ }.

ويختم الحديث عن حادثة الإفك ببيان عدل الله في اختياره الذي ركَّبه في الفطرة، وحققه في واقع الناس، وهو أن تلتئم النفس الخبيثة بالنفس الخبيثة، وأن تمتزج النفس الطيبة بالنفس الطيبة، وعلى هذا تقوم العلاقات بين الأزواج، وما كان يمكن أن تكون عائشة رضي الله عنها كما رموها، وهي مقسومة لأطيب نفس على ظهر هذه الأرض:
{ الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)}(النور).

ولقد أحبت نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة حبا عظيما، فما كان يمكن أن يحببها الله لنبيه المعصوم، إن لم تكن طاهرة، هذا الحب العظيم.

أولئك الطيبون والطيبات { مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ } بفطرتهم وطبيعتهم، لا يلتبس بهم شيء مما قيل: { لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ }، مغفرة عما يقع مهم من أخطاء، ورزق كريم، دلالة على كرامتهم عن ربهم الكريم.

بذلك ينتهي حديث الإفك: ذلك الحادث الذي تعرضت فيه الجماعة المسلمة لأكبر محنة: إذ كانت محنةَ الثقة في طهارة بيت الرسول، وفي عصمة الله لنبيه أن لا يجعل في بيته إلا العنصر الطاهر الكريم، وقد جعلها الله مَعرِضا لتربية الجماعة المسلمة، تشِفُّ وترف؛ وترتفع إلى آفاق النور في سورة النور.

يتبع
 
سلسلة قصص رواها الصحابة رضوان الله عليهم

{ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيم }

الدكتور عثمان قدري مكانسي


قال عبد الله بن الزبير لخالته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنهما: يا خالة هل كانت بيوتكم في أول حياتكم في المدينة المنورة عامرة بما لذَّ وطاب.

قالت: لا والله يا بني، إن كنا لننتظر إلى الهلال، ثم الهلال، ثم الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقِد في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نارٌ قط.

قال: يا خالة إذا لم تكونوا تطبخون فما كان طعامُكم؟

قالت: الأسودان، التمر والماء.

قال: والخبز وما يطبخ من القمح؟

قالت: يا ابن أختي ما شبع آلُ محمد صلى الله عليه وسلم من خبز شعير يومين متتاليين حتى لحق بالرفيق الأعلى، فما نقول في خبز القمح؟

قال: سبحان الله إنْ كانت حياتكم لحياة شظف وجهد.

قالت: ولقد كان لنا جيران من الأنصار – أكرمهم الله وأثابهم – يرسلون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ألبان الإبل فيسقينا.

وانطلق عبد الله متأثراً مما عرف عن حياة بيوت النبي صلى الله عليه وسلم ، فرآه أنسٌ رضي الله عنه فسأل عما به، فقص عليه عبد الله ما جرى من حوار بينه وبين خالته أم المؤمنين.

فقال: صدقت الصدِّيقة بنت الصدِّيق، وقد كنت خادمه صلى الله عليه وسلم فما رأيته أكل خبزاً مرققاً حتى مات.

قال عبد الله: إذنْ كان طعام آل محمد قوتاً (بما يقيم أوده ويسدُّ رمقه).

قال أنس: صدقت يا عبد الله، ولا رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم شاة صغيرة يسمط شعرها وتشوى، فهذا يفعله المرفهون الأغنياء، وهنا دخل النعمان بن بشير رضي الله عنهما وسمع الحديث فأدلى بدلوه قائلاً:

لقد رأيت نبيكم صلى الله عليه وسلم وما يجد من التمر الرديء ما يملأ به بطنه.

قال أبو هريرة رضي الله عنه، وقد سمع ما قاله النعمان فانضم إليهم، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم قائظ على غير عادته بعد صلاة الظهر فرأى أبا بكر رضي الله عنه خارجاً من بيته، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( ما الذي أخرجك من بيتك في هذه الساعة يا أبا بكر )).

قال الصدّيق: خرجت للقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والنظر في وجهه، والسلام عليه ولا أكتمك يا رسول الله أن الجوع منعني من النوم فخرجت على وجهي، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يزد.

ثم جاء عمر رضي الله عنه، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأله: (( ما الذي أخرجك من بيتك في هذه الساعة يا عمر؟)).

قال عمر وقد نظر إليهما: الجوع أخرجني يا رسول الله ومنع عينيَّ الرقاد، فقلت: أسلي نفسي بالمسير والسلام على المسلمين، فحظيت بك يا رسول الله وبصاحبك الصدِّيق، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: (( أتدرون ما الذي أخرجني؟)).

قالا: الله ورسوله أعلم.

قال: (( والذي نفسي بيده لأخرجني الذي أخرجكما )).

ثم قال: (( قوما )) فقاما معه فانطلق بهما إلى بيت رجل من الأنصار، فسلموا عليه، فلم يجب، فخرجت امرأته فلما رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه قالت: أهلاً وسهلاً ومرحباً برسول الله صلى اله عليه وسلم وصاحبيه الكريمين.

قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم : (( فأين زوجك؟)).

قالت: ذهب يستعذب لنا الماء، وقد حان مجيئه، فهلم يا رسول الله فادخلوا، فما أسعدنا اليوم بزيارتكم.

وما إن أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحباه مكانهم حتى دخل الأنصاري فسلم عليهم، ورحب بهم وقال: الحمد لله ،ما أحد اليوم أكرم أضيافاً مني، وانطلق فجاءهم "بعذقٍ" (غصن نخيل) فيه "بُسْرٌ" و"رُطَبٌ" و"تَمْرٌ"، فالأول حلوه قليل، والثاني حلوٌ وهو جديد، والثالث حلو وهو يابس، وقال: اختاروا يا أكرم ضِيفان أتَوني أيَّ نوع من التمر، وكلوه هنيئاً مريئاً.

ثم أخذ مُديته (سكينه) يريد ذبح شاةٍ يَقري بها أضيافه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ناصحاً: (( اختر شاة لا لبن لها واذبحها، وإياك والحلوب فلا تقربنَّها )).

فلما أكلوا من الشاة ومن ذلك العذق وشبعوا وشربوا من الماء وارتَوَوا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمضيفه أبي التيهان الأنصاري:

(( بارك الله لك في مالك، وزاد في رزقك ووهبك الجنة ))، ثم التفت إلى أبي بكر وعمر فقال:
((
والذي نفسي بيده لتُسألن عن هذا النعيم يوم القيامة، أخرجكم من بيوتكم الجوعُ، ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم )).


رياض الصالحين: باب الجوع وخشونة العيش

يتبع
 
سلسلة قصص رواها الصحابة رضوان الله عليهم

(برَكة النبي صلى الله عليه وسلم)

الدكتور عثمان قدري مكانسي



انطلق جيش المسلمين بقيادة النبي صلى الله عليه وسلم إلى تبوك – وهي بلدة صغيرة تقع في بلاد الشام شمالي المدينة المنورة بسبعمائة كيلو متر – للقاء جيش الروم الذي هدد باجتياح مدينة الرسول الكريم صلوات الله عليه ، فزرع الله تعالى الرعب في قلوبهم لما سمعوا بقدوم رسول الله إليها، فانسحب جيشهم إلى داخل الأردن خوفاً من لقاء المسلمين، على الرغم من أن جيش رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتعد ثلاثين ألف مجاهد، وجيش الروم يشارف على مئتي ألف مقاتل، ولا غروَ فالرسول صلى الله عليه وسلم بطل الأبطال يقول: (( ونُصرت بالرعب مسيرة شهر )).
كان هذا في السنة التاسعة للهجرة، وزادُ المسلمين قليل، والطريق طويل لكن الإسلام يجِب أن ينتصر، والدينَ ينبغي أن تعلو شمسه، ويمتدَّ ضياؤه، وينيرَ جَنباتِ الأرض، مشارقَها ومغاربَها، فاستنفر الله تعالى المسلمين للقتال فقال عزّ من قائل:{ انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)}(التوبة).

وأصاب الناس مجاعةٌ، فقالوا: يا رسول الله، قلّ الزاد، ونحلت أجسادنا ووهنت قوانا، وهذه إبلنا ما عدنا نحتاج إليها، فلا ميرة نرفعها عليها، ولا أحمال نشدها إليها، فلو أذنتَ لنا فنحرناها، فأكلنا وادَّهنّا.

كان أدباً منهم أن يستأذنوا القائد في الاستغناء عن خدمة الدواب التي يستعينون بها في القتال، فلربما رأى مصلحة في الاحتفاظ بها فمنعهم ذلك، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمح لهم قائلاً: (( افعلوا )).
سمع الفاروق عمر بن الخطاب باستئذانهم وموافقة رسول الله إياهم، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد فلما لقيه قال: يا رسول الله إن ذبحوا إبلهم لم يبق لهم ما يركبونه، ويحملون عليه متاعهم، فتباطأت حركاتهم وأصابهم جهد ومشقة في سيرهم.

ولكني يا رسول الله أرى أن تأمرهم بإحضار ما تبقى من أزوادهم فإذا جمعوها دعوتَ الله لهم عليها بالبركة، وأنت يا رسول الله مبارك قريب إلى الله حبيبٌ إليه، ولعل الله يجعل في ذلك البركة،
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( نِعْم ما أشرت به يا عمر )).

أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببساط من جلد متسع، فمُدَّ على الأرض وأمر المسلمين أن يأتوا بفضل أزوادهم، فجعل الرجل يأتي بكف ذرة، ويجيء الآخر بكف تمر، ويجيء الآخر بكسرة خبز، حتى اجتمع على البساط من ذلك شيء يسير، ثم رفع يديه الشريفتين إلى رافع السماوات بغير عمد وباسط الأرض على ماء جمد، يسأله البركة والفضل العميم، وارتفعت معه أكف المسلمين مؤمنة راجية.

وكان العجب العجاب أن النبي المبارك صلى الله عليه وسلم : أمرهم أن يملؤوا أويتهم مما على هذا الأديم (البساط) فما تركوا في المعسكر وعاء إلا ملؤوه وأكلوا حتى شبعوا، وفضل فضلة.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ))
وردد المسلمون وراءه: نشهد أن لا إله إلا اله وأنك رسول الله،
ثم قال عليه الصلاة والسلام: (( لا يلقى اللهَ عبدٌ موقن بما شهد، مطمئنٌّ بما قال، إلا وجبت له الجنة )).
فارتج المعسكر بالنغم الأبدي السرمدي: لا إله إلا الله محمد رسول الله.

رياض الصالحين: باب الرجاء

يتبع
 
سلسلة قصص رواها الصحابة رضوان الله عليهم

(بالمؤمنين رؤوف رحيم)

الدكتور عثمان قدري مكانسي


قال الولد لأبيه: مَن أهل الصفّة يا أبت؟ إنني أقرأ عنهم كلمات لا توضح صفاتهم.
قال الأب: هم المسلمون الذين لا يأوون على مال ولا أهل، ولا يملكون من حطام الدنيا شيئاً، ويُقبلون على الآخرة.
قال الولد: ولم دُعوا أهل الصفّة يا والدي؟
قال الأب: لأنهم كانوا يأوون إلى بناء في مؤخر المسجد النبوي يرتفع عن الأرض قليلاً.
قال الولد: كم عددهم يا والدي؟
قال الأب: يذكر بعض المؤرخين أنهم في حدود أربع المئة، وقد استشهد منهم في موقعة بئر معونة سبعون رجلاً، رضي الله عنهم وأرضاهم.
قال الولد: فكيف يعيشون وماذا يلبسون؟
قال الأب: أما لباسهم فلم يكن أحد يلبس رداءً مخيطاً يستر بدنه كله لفقره الشديد، ولكن ترى على أحدهم إزاراً يحوط جسمه أو كساءً ربطه بعنقه، لمّا يبلغ نصف الساقين أو الكعبين، ولعل أحدهم إذا ركع جمع كساءه أو إزاره بيده كراهية أن تبدو عورته.
أما طعامهم فمما يجود به المسلمون من زكاة وصدقة أو هدية، والظاهر من أحوالهم غلبة الفقر عليهم، وإيثار القلة، واختيارهم لها، فلم يجتمع لأحدهم ثوبان، ولا حضرهم من الطعام لونان.
قال الولد: فلم اختاروا هذه الحياة الغليظة ليس فيها من متاع الحياة الدنيا ما يسرّ؟
قال الأب: إن أحدهم قال للنبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات: والله إني أحبك.
فقال: (( إن كنت تحبني فأعدّ للفقر قبولاً في نفسك، فإن الفقر أسرع إلى من يحبني من السيل يتدفق من الجبل مسرعاً نحو الوادي، ولأن الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمس مئة عام، ولقد قمت على باب الجنة، فكان عامّة من دخلها من المساكين، والأغنياء ينتظرون الإذن لهم بدخول الجنة )).
قال الولد: من أشهر أهل الصفة يا والدي؟
قال الأب: من أكثرهم شهرة، أبو هريرة – عبد الرحمن بن صخر الدوسي – رضي الله عنه أكثرُ أصحاب الحديث رواية، وأدقهم حفظاً.
قال الابن: أفلا تحدثني يا والدي عن بعض معاناته حين كان بين أهل الصفّة؟
قال الأب: حبّاً وكرامةَ يا ولدي ويا فلذة كبدي، عسى الله أن يجعلك من عباده الصالحين وحملة دينه الصادقين.
فقد أقسم أبو هريرة رضي الله عنه أنه كان يعيش اليوم أو اليومين أو أكثر من ذلك لا يذوق طعاماً، وكثيراً ما سقط بين منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وحجرة عائشة رضي الله عنها مغشياً عليه، يهذي من الجوع والناس يحسبون هذيانه نوعاً من الجنون، فقد كان يلصق بطنه بالأرض أو يشد الحجر على بطنه ليُسكن ألمَ الجوع، ويُخمدَ نارَه.
ولقد جلس يوماً حين اشتد به الجوع في طريق الصحابة يسألهم الآية، وهو يعرفها ويعرف معناها لعلهم يدعونه إلى بيوتهم فينالَ شيئاً من طعامهم، فمر به النبي صلى الله عليه وسلم ونظر إليه، وعرف ما في وجهه وما في نفسه فكفاه مؤونة السؤال حين قال: ( يا أبا هرّ
فأجابه: لبيك يا رسول الله.
قال له: ( الحق بي
فتبعه أبو هريرة إلى أحد أبياته، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم بيته، ثم أذن لأبي هريرة فدخل وجلس، ورأى النبي صلى الله عليه وسلم لبناً في قدح فقال: (من أين هذا اللبن؟).
قالوا: أهداه لك فلان.
قال: ( إن كان هدية فقد جاز لي أن أشرب منه )، ثم أردف قائلا: (يا أبا هر ).
قلت: لبيك يا رسول الله.
قال: ( اذهب إلى أهل الصفّة فادعهم لي ).
قال أبو هريرة في نفسه: وماذا يكفي هذا القدحُ أهلَ الصفّة، وأنا أولى أن أصيب منه شَربةً أتقوى بها، إنه لا يكفي سوى اثنين، رسولِ الله وأنا، ولكن لا بد من طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فطاعته من طاعة الله، فأسرع إليهم، فدعاهم إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأقبلوا واستأذنوا فأذن لهم، وأخذوا مجالسهم من البيت.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يا أبا هرٍ ).
قلت: لبيك يا رسول الله.
قال: ( خذ هذا القدح فأعطهم يشربون ).
فجعل أبو هريرة يعطيه الرجل فيشرب حتى يرتوي ثم يعيده إلى أبي هريرة، فيدفعه إلى رجل آخر فيشرب حتى يروى ثم يعيده إلى أبي هريرة .. وهكذا حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، النبي العظيم، الرحيم بأمته الرؤوف بها، لم يتصدر للشرب أولاً، إنما اطمأن إلى أن أصحابه شربوا جميعاً وارتووا، فأراد أن يداعب أبا هريرة، فأمسك بالقدح كأنه يريد الشرب، وأبو هريرة ينظر إليه عطشان جائعاً فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي هريرة مبتسماً ثم قال: ( يا أبا هرّ ).
قلت: لبيك يا رسول الله.
قال: ( بقيت أنا وأنت ).
قلت: صدقت يا رسول الله.
قال: ( اقعد فاشرب ).
قال أبو هريرة في نفسه: لأشربن فما عدت أملك نفسي، وشرب أبو هريرة حتى روي وأعاد القدح لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم : ( اشرب )، فعاد يشرب، وما زال يأمره بالشرب حتى قال له: لا والذي بعثك بالحق لا أجد مسلكاً، لقد امتلأتُ وفاضت نفسي وتضلَّعت حتى كدت أنفجر شبعاً ورياً.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( فأرني القدح )، وأعطيته إياه فحمد الله تعالى على نعمائه وسمى، وشرب الفضلة.

ما أرحم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمته وما أكثر بركتَه! إن قدحاً واحداً يروي العشرات بين يديه الشريفتين.

قال أبو هريرة:
لقد جرت معي قصة أخرى في تكثير الطعام مع أهل صفّة، فقد أتت عليّ ثلاثة أيام لم أطعَم فيها، فجئت أريد الصفّة، فجعلت أسقط، فكان الصبيان يقولون: جن أبو هريرة، حتى انتهيت إلى الصفّة فإذا بقصعة من ثريد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل منها أهل الصفّة، فجعلت أتطاول كي يراني رسول الله فيدعوني، حتى قاموا وليس في القصعة إلا شيء في نواحيها، فجمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فصار لقمة، فوضعها على أصابعه الشريفة، فقال لي: ( كل باسم الله ).
قال أبو هريرة: فوالذي نفسي بيده ما زلت آكل منها حتى شبعت.

رياض الصالحين: باب فضل الزهد في الدنيا
باب فضل الجوع وخشونة العيش

يتبع
 
سلسلة قصص رواها الصحابة رضوان الله عليهم

(وليمة جابر بن عبد الله)

الدكتور عثمان قدري مكانسي



لما أراد المشركون من قريش وأحزابهم حرب المسلمين واستئصالهم من الجزيرة العربية جمعوا عشرة آلاف مقاتل في السنة الخامسة للهجرة، وقصدوا المدينة لا ينثنون عنها، وسمع المسلمون بمجيئهم فقاموا يستعدون لقتالهم، وكانت جهة المدينة الغربية دون سور يحميها، والوقت لا يتسع لبنائه، فأشار سلمان الفارسي رضي الله عنه بحفر خندق حول المدينة من هذه الجهة، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فبدأ المسلمون وهم ألف بحفره، وجعلوه بعرض خمسة أمتار وعمق أربعة.

وبدأ العمل المرهق يصل الليل بالنهار، والمسلمون لا يبرحون المكان، طعامهم يصل إليهم من بيوتهم – وما أقله – لكنّ شعلة الإيمان والإصرار على الجهاد كفيلان بشحذ الهمة وانتشال النصر، وكان سيدهم وقائدهم يحفر معهم، لم يميّز نفسه عنهم، ولم يسع إلى الراحة دونهم، فهو قدوتهم ومثالهم الأعلى، له ما لهم، وعليه ما عليهم. والنفس الإنسانية ترتاح في خضم الإرهاق والتعب حين تجد القائد في المقدمة، فتبذل الجهد العظيم دون أن تشعر بالكلل أو الملل أو تحس بالظلم، فالجميع على قدم وساق، كبيرهم وصغيرهم، غنيهم وفقيرهم، وجيهُهم وساقتهم، متساوون، يعملون ويرجون من الله السداد والتأييد والعون والنصر.
وكلما حزبهم نشز من الأرض قاسٍ استعانوا ببطل الأبطال وسيد المجاهدين فيأتيهم يهدهدها، ويحيلها حصى، ويستمرون في حفرهم ويشتدون في نشاطهم.
عرضت لهم قطعة صخرية أبت أن تستجيب لمعاولهم أو أن تهون لضرباتهم فجاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستعينون به عليها، فقال: ( أنا لها
وقام إليها فضربها الضربة الأولى فلمعت، فقال: ( الله أكبر، فُتحت خيبر
وخيبر هذه على بعد مئة ميل شمال المدينة، يتحصن بها اليهود في قلاعهم الضخمة، ويهددون المدينة والمسلمين منها، فصاح المسلمون: الله أكبر، وضربها الضربة الثانية فلمعت، فقال: ( الله أكبر، فتحت فارس
تلك البلاد المجوسية التي يعبد أهلها النار، فهتف المسلمون: الله أكبر، وضربها الضربة الثالثة فلمعت الصخرة تحت معوله، وتفتت، فنادى: ( الله أكبر، فتحت الروم
بلاد الشام التي يحكمها النصارى الضالون الذين اتخذوا من نبي الله عيسى عليه السلام إلهاً حاشاه أن يدّعي هذا، فهتف المسلمون: الله أكبر.
وسرت في المسلمين روح النصر وقوة الإرادة فقويت عزيمتهم، ونسُوا تعبهم فراحوا ينشدون:
لئن قعدنا والنبي يعمل*لذاك منا العمل المضلّل
وارتفع صوت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
( اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة،فاغفر للأنصار والمهاجرة )
فردد المسلمون وراءه هذا الدعاء العظيم ورددته الملائكة معهم، ورددته جنبات المدينة، سهولُها ووديانها وجبالها وآكامُها.

كان قد مضى من الوقت – إذ ذاك – ثلاثة أيام بلياليها وبطنُ النبي صلى الله عليه وسلم معصوب بحجر يخفف لهيب الجوع، والمسلمون مثله، لم يذوقوا ما يسد رمقهم. فقام جابر بن عبد الله يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذهاب إلى بيته، لأمرٍ بدا له، فأذن له، فأتى امرأته فقال لها: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم عصب بطنه بحجر من الجوع فهل عندك ما نقدمه له؟ فوالله ما إن رأيته خُمصان حتى ضاق صدري ونفد صبري.
فقالت: عندي قليل من الشعير، وسخلة، فأنا أعجن الشعير، وأنت تذبح السخلة.
قلت: فهيّا بارك الله فيك من امرأة صالحة ملبية، وهكذا تكون نساء المسلمين، وطحنت المرأة الشعير وعجنته، فاختمر.
وذبح جابر السخلة وقطعها، ووضعها في القدر وأشعل النار تحتها ثم انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى طعامه، فقالت له زوجته: لا تفضحنا يا جابر، سارِرْ رسول الله صلى الله عليه وسلم وادع معه رجلين أو ثلاثة.
قلت: نعم.. وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما دنوت منه همست في أذنه: يا رسول الله؛ ذبحنا بهيمة لنا، وطحنت صاعاً من شعير، فتعال أنت ونفر معك.
فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ونظر إليّ بعين المحبة والودّ، ثم التفت إلى المسلمين فنادى: ( يا معشر المسلمين ).
قالوا: لبيك وسعديك يا رسول الله.
قال: ( فإن جابراً قد صنع طعاماً، فقوموا إلى بيته
ثم التفت إليّ فقال: ( مُرِ امرأتك أن تغطي العجين فلا تخبزْ وأن تغطي القدر، فلا تغرفْ منها، حتى آتيكم ).
قلت: فانطلقت مهموماً، لا ألوي على شيء، فكيف لي بإطعام هؤلاء، والخبزُ واللحم لا يكفيان عدد أصابع اليد الواحدة.
فلما وصلت إلى البيت وأخبرت زوجتي أسمعتني قارص الكلام، ظناً منها أنني دعوت الناس جميعهم، فلما أخبرتها حقيقة الأمر، قالت: إذاً رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكفل بهم. وغطت العجين واللحم، فلما حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع الغطاء عن العجين وقرأ عليه، ثم نفخ فيه وقال لامرأتي: ( استعيني بأخرى واخبِزي )، ورفع الغطاء عن اللحم وقرأ عليه ونفخ فيه وغطاه، وقال للمسلمين: ( ادخلوا جماعات جماعاتٍ ولا تتزاحموا ).
وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يمدّ يده إلى التنور فيأخذ الخبز ويغطي التنور، ثم يرفع غطاء القدر ويأخذ اللحم فيضعه في الخبز ويعيد غطاء القدر فوقه، ويوزع على المسلمين.

وظل يفعل هذا حتى استوفى الناس جميعاً، فعادوا إلى مكانهم في الخندق ثم أكل عليه الصلاة والسلام، أكل بعدما أكل المسلمون كلهم، واطمأن إلى أنهم شبعوا!
لم يبدأ بنفسه، فسيُّدُ القوم يتابعهم، ويرعى أمورهم ثم يلتفت إلى نفسه .. هكذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهكذا يفعل القائد الرحيم.
ثم قال لزوجتي: ( كلي وأهدي الناس فقد أصابهم مجاعةٌ ) فَفَعلتْ، ورفعت الغطاء عن الخبز وعن القدر، فكأنهما هما لم ينقصا .. صلى الله على رسوله العظيم، البرّ، الرحيم، وجزاه عن أمته خير الجزاء.

رياض الصالحين: باب فضل الجوع وخشونة العيش

يتبع
 
سلسلة قصص رواها الصحابة رضوان الله عليهم

(سمك العنبر)

الدكتور عثمان قدري مكانسي


في السنة الثامنة للهجرة كان المسلمون والمشركون في هدنة صلح الحديبية لا يتعرض فريق لفريق، بل اتفقوا على حفظ الأمن، كل في سلطانه. وفي شهر رجب من تلك السنة بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى أرض جهينة يتلقوا عيراً لقريش يحفظونها من اعتداء قد تقوم بها جهينة على القافلة، وأمر عليها أبا عبيدة بن الجراح، وكان مع كل منهم زادُه الخاص، وزوّدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم جراباً (وعاءً من جلد) كبيراً من تمر لم يجد غيره إذ ذاك، فكنا نأكل من أزوادنا حتى فنيت، وكنا ثلاث مئة رجل.
ثم أخذ أبو عبيدة يعطينا من الجراب بضع تمرات – أول الأمر – فلما خشي سرعة فنائه، بدأ يعطينا كل يوم تمرة واحدة كنا نمصّها كما يمصّ الصبيّ، ثم نشرب عليها الماء فتكفينا إلى الليل.
فلما طال علينا هذا، ضربنا بعصيِّنا الخبطَ (ورق شجر معروف تأكله الإبل) فيتناثر الورق، فنبله بالماء ليخضر وتذهب خشونته فنستيسغه فنمضغه، وكان هذا طعامنا، ولا بد من الصبر وجهاد النفس فهما عدة النصر.
ثم انطلقنا إلى ساحل البحر الأحمر فرأينا على الماء كثيباً من الرمل ضخماً فأتيناه فإذا هو سمكة ضخمة جداً طولها خمسون ذراعاً، قذفها البحر فماتت، وتدعى حوت العنبر.
فلما دنونا منها وقد أخذ الجوع منا كل مأخذ منعنا عنها أميرنا لأنها ميتة، فأرشده الله تعالى للصواب فقال: لا تحرم الميتة للضرورة، ثم أردف قائلاً: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عن البحر حين سئل: ( هو الطهور ماؤه، الحل ميتته )، ونحن هنا في طاعة الله وفي جهاد أعدائه وأعداء نبيّه، وهذا رزق ساقه الله إلينا، { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ }

اتق الله سائر الأزمان * لا تخفْ من طوارق الحدَثان
يرزق الله متّقيه ويكفيه * فهذا قد جاء في القرآن​

فأقمنا نأكل منه شهراً حتى سمنّا، وظهرت النضارة في وجوهنا، وبدت القوة في أجسادنا.
وكنا لضخامته نغرف من عينه الدهن بالجرار، ونقطع قطعة اللحم الضخمة في حجم الثور، فنشويها، فتكون لذيذة الطعم، سهلة الهضم، طيبة المذاق.
وقد جلس ثلاثة عشر رجلاً في نقرة عينه فوسعتهم، ورفعنا عظماً من عظامه – والعظم محدودب – فمرّ من تحته أعظم بعير كان معنا عليه رحلُه، وتزودنا من لحمه القديد وانطلقنا بعد ذلك إلى المدينة فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثناه بما رأينا وما أكلنا منه، فكفانا فقال: ( هو رزق أخرجه الله لكم، فهل معكم من لحمه شيء فتطعمونا؟).
فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه، فأكله.

رياض الصالحين: باب فضل الجوع وخشونة العيش

يتبع
 
سلسلة قصص رواها الصحابة رضوان الله عليهم

(أَقِطُ أم سُلَيْم)

الدكتور عثمان قدري مكانسي



أنس بن مالك كان فتىً أنصارياً، لم يبلغ العاشرة من عمره حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فأخذت أمه "أم سليم" بيده وذهبت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله هذا أنسٌ يخدمك.
فلازم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم إلى أن لحق بالرفيق الأعلى ودعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث دعوات: ( اللهم بارك له في عمره وبارك له في رزقه، وبارك له في ذريته ).
فعاش قرابة مئة العام، وكان له حائط نخيل يثمر في السنة مرتين، ورأى ثمانين من ذريته.

وقال أنس: خدمت رسول الله عشر سنين فما رأيته قال لشيء فعلته: لم فعلته، ولا لشيء تركته، لم تركته.
أخلاق نبوية عالية، ربّاه ربه فأحسن تربيته وجعله قدوة للبشرية ومعلماً لها، فلا غرو أن يكون هذا المعلم كاملاً في صفاته، عظيماً في معاملته صلى الله عليه وسلم وبارك،
اللهم اجعلنا تحت لوائه وارزقنا شفاعته واجعلنا من أهل خاصته.

قال أنس: جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً، فوجدته جالساً مع أصحابه، وقد عصب بطنه بعصابة، فقلت لبعض أصحابه، لم عصب رسول الله صلى الله عليه وسلم بطنه؟
فقالوا: ما يفعل ذلك إلا من الجوع، وانظر إلى أصحابه ترَ الجميع في فاقة وعوز، والأيام دول، يوم لك ويوم عليك، فمن شبع شكر الله، ومن جاع حمد الله، فهو في اتصال دائم مع ربه.
قال أنس: فذهبت إلى زوج أمي (أبي طلحة) فقلت له: يا أبتاه – ومن رعى ربيبه فأكرمه واعتنى به فهو خير من أبيه حين يتركه – قد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عصب بطنه بعصابة، فسألت بعض أصحابه فقالوا: من الجوع، وإني لأتألم حين أراه هكذا، فماذا نفعل يا أبتِ؟ فذهب أبو طلحة إلى مجلس الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، ثم عادَ فدخل على أمّي مسرعاً، وهو يحمل مثل همّي فنادها: يا أمَّ سُلَيم؟!
قالت: نعم يا أبا طلحة، هل تريد شيئاً؟
قال: قد رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعيفاً، أعرف فيه الجوع وهذا ابنك أنس نبهني إلى ذلك.
قالت: نعم، عندي كِسَرٌ من خبز، وتمراتٌ، فإن جاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده أشبعناه، وإن جاء آخر معه قلَّ عنهما.
قال: فماذا نفعل يا أمَّ سُليم؟
قالت – وقد التفتت إليَّ -: قم يا أنس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فادعُه ولا يشعرَنَّ بك أحد- يا بني- فإن عرف أحدهم ما أنت قائله لرسول الله صلى الله عليه وسلم أوقعتنا في حرج...
قال أنس: فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدته ما يزال جالساً في المسجد بين أصحابه، فبدأت أتخطاهم لأصل إليه، فرآني رسول الله ، فعرف أنني أحمل إليه كلاماً.
فقال: ( يا أنس، لعلَّ أبا طلحة أرسلك إليَّ ).
قلت: نعم يا رسول الله.
قال: ( ألطعامٍ يدعوننا؟).
قلت: نعم يا رسول الله .. وقلت في نفسي: لا أكذب على رسول الله، كما أن المسلم لا يكذب.
وسمع القوم ما قاله لي رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجابتي.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( قوموا معي يا معشر المسلمين إلى دار أبي طلحة ) فقاموا يتقدمهم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، وانطلقت مسرعاً بين أيديهم حتى جئت أبا طلحة فأخبرته بما كان وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يلبث أن يصل إلينا، فدهش، وعنّفني أول الأمر، فلما استجلاه قال مستنجداً بوالدتي: يا أم سُليم، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاء بالناس، وليس لدينا ما يطعمهم.
قالت مستسلمة: الله ورسوله أعلم، وما دام رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاهم، فهو يتكفّل بهم.
فانطلق أبو طلحة يتلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما لقيه أظهر السرور والترحيب، وعاد به وبأصحابه إلى البيت حتى وصلوا، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو طلحة إلى الدار، والناس خارجها.
فقال رسول الله صلى الله عليه سلم: ( أحضري ما عندكِ يا أم سليم ).
قالت: سمعاً وطاعةَ يا رسول الله.
فجاءت بالخبز ففتَّته وبالتمر ففلقته، وأخرجت النوى ثم عصرت عليه عُكّة السمن فكان إداماً طيباً، ومزجت الخبز والتمر والسمن جميعاً، فلما انتهت تقدّم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه ما شاء الله أن يقرأ، ودعا بالبركة، وسأل الله من فضله وخيره.
ثم قال لأبي طلحة: ( ائذن لعشرة منهم بالدخول )، فأذن لهم، فاستداروا حول القصعة وقالوا: بسم الله الرحمن الرحيم، ... وأكَلوا حتى شبعوا، وخرجوا.
ثم قال: ( ائذن لعشرة آخرين )، فدخل هؤلاء.. حتى دخل القوم كلهم جميعاً وأكلوا وشبعوا وحمدوا الله تعالى، ثم انصرفوا والقوم سبعون رجلاً أو يزيدون، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليهم ويباسطهم ويدعو لهم بالخير واليمن وطيب المأكل.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الآن يا آل أبي طلحة، هلموا إلى طعامكم يرحمكم الله )، ومد يده الشريفة ، فأكل وأكلنا معه حتى شبعنا، ثم جمع ما بقي في الصحفة (القصعة) ودعا بالبركة، فإذا بها تعود ممتلئة كما كانت قبل أن تمتد إليها يد أحد.
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن توزع أم سليم على جيرانها، ففعلت، ونال مَنْ حولنا من هذه الصحفة.
قلت لأبي طلحة: فلماذا دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عشرة عشرة ولم يدعهم جميعاً، والبيت يتسع لهم.
قال: الله ورسوله أعلم، ولعله فعل ذلك:
1- لأنها كانت قصعة واحدة لا قصعتين، فلا يتصور تحلق ذلك العدد الكبير.
2- ولعل الحكمة في ذلك العدد أن لا يقع نظر الكل على الصحفة بطعامها القليل فيزداد حرصهم، ويظنون أنه لا يشبعهم فتذهب بركته.
3- ولعلهم إن كانوا كثيرين اكتفوا بسد الرمق، والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يريد أن يأكلوا فيشبعوا.
والذي أريده يا بني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل مبارك، أرسله الله لهدايتنا إلى الطريق المستقيم، وأجرى على يديه آيات عظاماً، فكن دائماً على قدميه تنل الخير العميم والفضل المقيم، قلت من قلبي: لا إله إلا الله محمد رسول الله.

يا رب أرسلت النبي محمداً * بالدين والشرع القويم مؤيَّدا
فله من الأعماق حب خالص * ينمو ويربو صافياً متجددا (1)
رياض الصالحين: باب فضل الجوع وخشونة العيش
..................................................................
1- البيتان للمؤلف

يتبع
 
سلسلة قصص رواها الصحابة رضوان الله عليهم

(التواضع يرفع صاحبه)

الدكتور عثمان قدري مكانسي



مرَّ أنس بن مالك رضي الله عنه على صبيان يلعبون في أحد أزقة المدينة المنورة فقال لهم – وهو الرجل الكبير –: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فقال له أحد مرافقيه: كيف تسلم عليهم وأنت الصحابي المعتبر وهم صغار لا يراعون ذلك؟
فقال له: كيف لا أفعل شيئاً كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله، وأنا أرجو أن أكون رفيقه في الجنة، ومن تشبّه بقوم وسار على نهجهم كان منهم؟!
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتواضع لهم ويعاملهم برأفة ورحمة ويَلين لهم ويبتسم بوجوههم وهو الذي كان يقول:
( إن الله أوحى إليّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد ).

لقد كانت الفتاة الصغيرة تستوقفه – عليه الصلاة والسلام – وتكلمه، فيجيبها، وتأخذ بيده فينقاد لها، وتذهب به لحاجتها أي مكان كان قريباً أو بعيداً.

قال أبو هريرة رضي الله عنه: صدقتَ يا أنس، فقد حدثنا الرسول صلى الله عليه وسلم : ( ما من نبي بعثه الله إلا رعى الغنم ).
قال أصحابه: وأنت يا رسول الله، هل رعيت الغنم مثلهم؟
قال دون حرج: ( نعم أرعاها بأجر زهيد لأهل مكة ).
قال أنس: ليس من المعيب أن يعمل الإنسان بأجر زهيد ومهنة بسيطة، إنما العار أن يمد يده يتكفف الناس وهو قادر على العمل.
قال أبو هريرة: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية خطيرَها وحقيرَها فقد قال: ( لو أهدي إلي ذراعٌ أو كُراعٌ لقبلت )، والكراع ساق البقر أو الغنم لا لحم فيها.

قال أنس: ولقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ناقة تدعى "العضباء" كانت لا تُسبق أو لا تكاد تُسبق، فجاء أعرابي بقَعودٍ "جمل" فسبقها فشق على المسلمين أن يسبق جملُ الأعرابي ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وظهر الغضب على وجوههم، فما كان منه عليه الصلاة والسلام – لحسن خلقه وشدة تواضعه - وليذهب غضبهم – إلا أن قال: ( حق على الله أن لا يرتفع شيء من الدنيا إلّا وضعه ). وهذه سنة الله في خلقه.
قال أبو هريرة: وفي قوله هذا صلى الله عليه وسلم تنبيه إلى عدم المباهاة وترك المفاخرة وإلى هوان الدنيا على الله، وأنها ناقصة لا ينبغي الاهتمام بها والركون إليها.

قال الأسود بن يزيد: ومِن تواضعه عليه الصلاة والسلام ما قالته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حين سألها أحدهم: ما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته؟
قالت: كان في خدمة أهله يُفَلّي ثوبه، ويحلب شاته، ويرقع ثوبه، ويخصف نعله، ويخدم نفسه، ويعلف ناقته، وينظف البيت، ويأكل مع الخادم لا يتكبر عليها، ويعجن معها، ويحمل بضاعته من السوق .. وإذا أراد أحدهم أن يحمل عنه قال: ( صاحب الحاجة أحق بحملها
وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم وخير خلقه، أفلا نتخذه أسوة وقدوة فنفعل ما يفعل؟

وهنا قال رفاعة بنُ تميم بن أسيد: تعلمون أنني رجل من الأعراب الذين إذا رأوا رأياً، أو بدا لهم بداء قالوه دون أن يستأذنوا، ولو كان الموقف غير مناسب يتطلب الأناة والانتظار، فقد وصلتُ المدينة المنورة يوم الجمعة ظهراً، ودخلت مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب، ولم أكن أعرف خطأ الحديث والإمام يخطب، لقد كان المسلمون جميعاً سكوتاً كأن على رؤوسهم الطير ينصتون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فناديت من وراء: يا رسول الله، أنا رجل غريب جاء إليك يعلن إيمانه بهذا الدين الجديد، لا يعرف كيف يدخل الإسلام، ولا أركان الإيمان، ولا يدري شيئاً من أصول هذا الدين سوى أنه كره الكفر ورغب في ملّة التوحيد والدين الحنيف. قلت هذا بصوت عال بملء فمي، فالتفت الناس إليّ وتعجبوا مما فعلت وظهر على أغلبهم الضيق والتأفف..

أتدرون ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ بأبي وأمي يا رسول الله ما أحلمك وما أعظمك، لقد ترك خطبته، وأقبل إليّ، فلما أصبح أمامي توقف وأشار إلى بعضهم فجاء بكرسي فقعد عليه، وجعل يعلمني مما علمه الله، فكان كلامه حِكماً، ونطقه عظاتٍ، ونظرته بلسماً لنفسي وروحي، ثم عطف إلى منبره صلى الله عليه وسلم فأتم خطبته، وكأن شيئاً لم يكن.

اللهم إني أشهدك وأشهد حملة عرشك، وملائكتك والناس جميعاً أنني أحبه وأرجو شفاعته يوم ألقاك، فاكتبني من عبادك الصالحين المحبين.. اللهم آمين.

رياض الصالحين: باب التواضع

يتبع
 
سلسلة قصص رواها الصحابة رضوان الله عليهم

( وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ )

الدكتور عثمان قدري مكانسي



قال التلميذ لشيخه: ذكرت لنا – يا أستاذنا الجليل – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تمرّ عليه الأيام الكثيرة لا يوقد في بيته نار يَطبخ فيها طعامه، وأنه كثيراً ما كان يعصب بطنه بحجر كي يسكن جوعه، أفهذه عن قلة المال؟ أم عن اهتمامات أولية يصرف إليها المال قبل توجيهه قِبَل الطعام؟
قال الشيخ: بارك الله فيك، إن سؤالك ينم عن ذكاء وبصيرة، فقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مهاجراً وصحابته الكرام، وتركوا أموالهم ودورهم في مكة فراراً بدينهم، وحين قدموا المدينة آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم وبين الأنصار، فقسم هؤلاء بينهم أموالهم، ولم يكن الأنصار أغنياء، وكان جلُّ اهتمام المجتمع المسلم بناءَ المجتمع الإسلامي في المدينة، وحمايتَه من بحر الكفر الذي يحيط بهم، ويتربص بهم الدوائر، فانطلقت منها السرايا والغزوات لتحقيق ذلك، وهذا كلفهم وقتهم، وأموالهم، فعاشوا سنوات طويلة في عسر وفقر.
قال التلميذ: صدقت يا أستاذي، فقد مات النبي صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهوديّ
قال الشيخ: وكان المسلمون إذ ذاك يرون ضمن توجيهات قائدهم ومربيهم، أن على المسلم التخفيفَ من الطعام ليبقى الجسم خفيف الحركة، فقال صلى الله عليه وسلم :
( بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه )، وأكد على هذا حين قال:
( طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الثمانية
أما الإكثارُ من الطعام وتعدُّدُ الأصناف فيدل على الركون إلى الدنيا والانغماس في ملذاتها.. والبعد عن الجهاد والإعداد له.
قال التلميذ: نعم، لا يجتمع في قلب رجل حب الدنيا وحب الآخرة. والجهادُ مشقة ينأى عنها راغب الدنيا المتثاقل إليها.
وتابع الشيخ: وعلى الرغم من قلة الزاد في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد كان يملك الكثير من السلاح الذي يرهب عدو الله وعدونا، فقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده تسعة أسياف، وسبعة أرماح، وثلاث دروع وخوذتان ومغفران (والمغفر غطاء الوجه) وقوسان ونبّالة، وهكذا يكون المسلم الذي يريد أن ينشر الإسلام في بقاع الدنيا، ويحافظ على مكانة أمته تحت الشمس، وفي مقدمة الركب، دون أن يُكره الناس على الإسلام، إنما ليمنع الأعداء أن يستخِفّوا بنا، لقد تركنا الجهاد فتداعت علينا الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، وهانت علينا أنفسنا فهُنَّا على الآخرين.
قال التلميذ: لعلك يا سيدي تريد أن تصور لي بعد هذه الإضاءة حب المسلمين بعضِهم بعضاً؟
قال الشيخ: أجل يا بني، إن الأشعريين وهم قبيلة من اليمن أفرادُها متحابون متكاتفون إذا خرجوا للغزو ففني زادهم أو قلَّ طعام عيالهم بالمدينة تنادوا، فجمعوا ما كان عندهم من طعام في ثوب واحدٍ، ثم اقتسموه بينهم بالسوية، أفرأيت إيثاراً كهذا الإيثار؟
قال التلميذ: لا والله، فهذه قمة التوادِّ والتراحم والتكافل.
قال الشيخ: ولهذا أحبهم النبي صلى الله عليه وسلم ومدحهم فقال: ( فهم مني وأنا منهم ).
قال التلميذ: يا سبحان الله ما أعظم هؤلاء وأكرمَهم، إن مجتمعهم لفاضلٌ، وإن حياتهم لسعيدة، أهناك صورة أخرى للإيثار يا شيخي الجليل؟
قال الشيخ: أعِرْني سمعك وقلبك وأقبل علي بكليّتك.
قال التلميذ: سمعاً وطاعة ها أنا بين يديك، مقبل عليك.

قال الشيخ: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجده بين أصحابه يفقههم في الدين ويبث فيهم الإيثار وبناء المجتمع الفاضل فيقول:
(من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان معه فضل زاد فليعد به على من لا زاد له ) ويوضح الآثار الإيجابية لهذا الخلق الفاضل، ويدخل رجل، فيدنو منه صلى الله عليه وسلم ويخاطبه في خجل تلمحه من نبرته فيقول: يا رسول الله إني مجهود أصابتني فاقة ولزمني الفقر وسوء العيش.
فينظر إليه الكريم الرحيم ويبتسم ويقول له بلسان الحال لا المقال: أبشر فستجد الطعام والمأوى إن شاء الله، ثم يلتفت إلى انس قائلاً:
( يا أنس؛ قم إلى بيت أم المؤمنين عائشة، فالتمس لهذا الرجل طعاماً أو تمراً )
فيقوم أنس مسرعاً إلى بيتها ويسألها ما عندها فتقول: لا والذي بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق ما عندي إلا الماء.
فيعود أنس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: يا رسول الله ما وجدت عندها إلا الماء، فهي إذاً بحاجة إلى الذي يحتاجه هذا الرجل!! زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأحب نسائه إليه، وابنة صاحبه وحبيبه الصدَّيق، لا تجد في بيتها إلا الماء؟! يا ويح المسلمين الآن! إن بيوتهم مليئة بأطايب الطعام، ولذائذ الشراب وأصناف المأكولات، لكن قلوبهم سوداء خالية من الإيمان، وعقولهم لا تعرف التفكير إلا في توافه الأمور، يسهرون فيما يغضب المولى وينامون على اللهو، ويَغُطون في مستنقعات الغفلة، وينحدرون في متاهات الضلال.
ويرسل النبي الكريم صلى الله عليه وسلم إلى أزواجه كلهن على التتابع يسألهن قِرى هذا الضيف الجائع التعب، فيجبنه بما أجابته الأولى: لا والذي بعثك بالحق ما عندنا إلا الماء! إلا الماء!
وليس يجد بداً من الاستعانة بأصحابه هؤلاء الذين خلفوا الجاهلية وراء ظهورهم، ولازموه ليرتفع بهم إلى سماء الخير والبر، فيقول:
( من يَضيفُ الرجل هذه الليلة؟)
فيقوم رجل من الأنصار – رضي الله عن الأنصار، فقد كانوا قادة الإسلام وحماته – فيقول: أنا يا رسول الله، إنه ضيفي، وسترى ما تَقرُّ به عينُك، ويستأذن هذا الصحابي الجليل رسول الله، فيأذن له، وينطلق بضيفه إلى بيته، حتى إذا وصل قال لزوجته: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإكرامه من إكرامه، وضيف العزيز عزيز.
قالت المرأة: أهلاً وسهلاً ومرحباً..
قال الرجل هامساً: هل عندك شيء نقدّمه له؟
قالت المرأة: لا إلّا قوت صبياني.
قال: أو لم يتعشوا الليلة؟
قالت: بلى ولكنهم اعتادوا أن ينالوا شيئاً قبل النوم.
قال: فعلليهم هذه الليلة بشيء، وإذا أرادوا شيئاً فنوميهم، لا يضيّقوا على الضيف.
قالت: أفعل إن شاء الله تعالى.
وشاغل الأنصاري ضيفَه بأنواع الحديث حتى نام الأولاد فقامت المرأة إلى الطعام وكان قليلاً لا يكفي سوى الرجل؛ ولكن كيف له أن يستسيغ الطعام – على جوعه – وهو قليل؟!، وأنّى له أن يقبل عليه وصاحب الدار لا يمد إليه يده؟!
وتفتقت للأنصاري فكرة رائعة إذا نفذها زال الحرج، وأكل الضيف وشبع.. ما الذي فكر فيه يا ترى؟!
لقد قال لزوجته: إذا وضعْتِ الطعام ودخل الضيف فأطفئي السراج، وكأن زيته قد نفد ونمد في الظلام أيدينا إلى الطعام نوهمه أننا نأكل، فيقبل عليه.
وهكذا فعلتْ، وجلس الضيف، وتصنَّع الرجل وزوجته صنيع الآكلين، مِنْ مدِّ يدٍ وتحريك فم ومضغٍ، فأكل الرجل حتى شبع، وبات الزوجان خاويين جائعين لم يأكلا.
فلما أصبح الصباح غدا الأنصاري بضيفه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما رآهما تبسم صلى الله عليه وسلم وقال له:
( لقد علم الله – وهو العليم الخبير – ما صنعتما بضيفكما الليلة، ورضي بما فعلتما وأثابكما عليه الثواب الجزيل ).

قال التلميذ لشيخه: ما أعظم هؤلاء الرجال وما أعظم نفوسَهم وما أشد كرمهم.
قال الشيخ: إنهم تعلموا ذلك من سيدهم وقائدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد ضرب لهم في الإيثار والكرم أروع الأمثلة فتشربوها وعملوا بها.
قال التلميذ: أفلا قصصت عليّ واحدة يا سيدي؟
قال الشيخ: حبّا وكرامةً يا بني..

فقد جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بثوب جميل مخطط نسجته بإتقان، وخاطته ببراعة، فقالت: يا رسول الله، هذا الثوب هديتي إليك، فقد والله سهرت الليالي وأمضيت الأيام في صنعه ليكون هدية تليق بك يا رسول الله.
فقال: ( جزاك الله عن نبيه خيراً، إنه وايم الله ثوب جميل، وهدية غالية أحتاجها
ودخل إلى بيته فلبس هذا الثوب وخرج به على أصحابه، فنال استحسانهم، وقال أحدهم: ما أحسن هذا الثوب يا رسول الله اكسُنيه.
فجلس النبي صلى الله عليه وسلم بينهم قليلاً ثم عاد إلى بيته فخلع الثوب وطواه، ثم أرسل به إلى الذي طلبه.
فقال له القوم مؤنبين: كيف تطلب ثوباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم لبسه محتاجاً إليه؟ وكيف تطيب نفسك به فتأخذه وأنت تعلم أنه صلى الله عليه وسلم لا يرد سائلاً؟
شعر الرجل بأنه أخطأ حين سارع إلى استهداء الثوب، ولكنه اعتذر قائلاً: والله لم أطلبه لألبسه ولكنه حين لامس جسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفت أنه ثوب مبارك رجوت أن يكون لي كفناً.. ...ومات الرجل وكفنوه به. .

رياض الصالحين: باب الإيثار والمساواة

يتبع
 
سلسلة قصص رواها الصحابة رضوان الله عليهم

( الحلم وسعة الصدر )

الدكتور عثمان قدري مكانسي

روى أبو هريرة رضي الله عنه قال:
بال أعرابي في المسجد، فقام الناس إليه ليقعوا فيه، سباً وشتماً، ولعل بعضهم مال ليضربه، فمنعهم النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً:
(( دعوه – فقد بال وانتهى، ولئن عاقبتموه إن المكان لن يطهُرَ– وأريقوا على بوله سَجلاً من ماء أو ذنوبا من ماء – الدلو الكبير المملوء ماء – فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معَسِّرين )).

فالأعرابي اعتاد أن يبول في أي مكان يصادفه، يشعر بالحاجة إلى ذلك ودون قصد، فهو (الأعرابي) – في رأيه – لم يفعل ما يلام عليه، والمسجد رمل كما الصحراء، فأي خطأ ارتكبه، ولماذا يثور المصلون عليه؟!! والحقيقة أن المرء لا يلام على مُجانبة ما تعلمه.
لكن الناس قاموا إليه: هذا يوبخه، وذاك ينهره، والثالث يصرخ فيه والآخر يكاد يضربه، وهو لا يدري سبباً لذلك، وإن درى فهو يعجب لتصرفاتهم لم يزعجونه؟! وعلام يوبخونه؟!!
ولا يلبث رسول الله صلى الله عليه وسلم – وهو يرى ذلك – أن يأمرهم بما يلي:

1- الكف عنه، لأن الزجر والسب وغيرهما لا تصلح الأخطاء، وهنا يأتي دور الحلم والأناة والتصرف بالحكمة.
2- تطهير المكان، وذلك بأن يريقوا عليه دلواً كبيرة مملوءة ماءً، فالماء الكثير والعمل الجيد الحسن يزيلان الأوضار وينظفان المسجد مما ضره ونجَّسه.
3- التزام الهدوء واللطف، فالمسلمون بعثوا ميسرين، لا معسرين ودعاة إلى الدين لا منفرين منه.
فما كان من البدوي بأفقه الضيق – حين رأى ما فعلوه به، وما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم – إلا أن دعا الله عز وجل معلناً عن ضيقه منهم وإكباره النبيَّ صلى الله عليه وسلم : اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً. إذ كيف يدعو للباقين، وقد أحرجوه؟! أمّا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كف أذاهم عنه، وأنقذه منهم، فحَق أن يدعو له.
ودعاء البدوي بالخير للنبي صلى الله عليه وسلم يدل على أن نفسه ارتاحت إليه وسيقبل منه ما يدعوه إلى اعتناق الدين الجديد.
وهنا اغتنم النبي صلى الله عليه وسلم هذا الانفتاح النفسي عنده، وبيّن له أن المسجد مكان طاهر، لا ينبغي له إلا الطهارة.. وطلب إليه أن يدعو للناس جميعاً لأن رحمة الله أوسع.
ثم التفت إلى أصحابه يعلمهم كيف يكونون دعاة، فأمرهم بالرفق قائلاً:
(( إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على سواه )).

وروى ابن عباس رضي الله عنهما أن وفد عبد القيس جاءوا إلى المدينة المنورة لزيارة النبي صلى الله عليه وسلم وإعلان إسلامهم، فلما وصلوا المدينة أسرعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم شوقاً إلى لقائه، أما الأشج وهو من وجهائهم فقد أقام عند رحالهم، فجَمعَ من بقي منهم، وعقل ناقته، ولبس أحسن ثيابه، فهو لن يقابل إنساناً مغموراً، إنما يلاقي سيد ولد آدم محمداً صلى الله عليه وسلم ، فلْيلقَه نظيفاً جميل الهيئة والمنظر، وهكذا انطلق إلى المسجد فسلم، فقرّبه النبي صلى الله عليه وسلم ، فأجلسه إلى جانبه ثم حين انعقد مجلسه صلى الله عليه وسلم بعبد القيس جميعاً، قال:
(( تبايعوني على أنفسكم وقومكم؟)).
قال القوم: نعم يا رسول الله، نبايعك على أنفسنا وقومنا.
قال الأشج: يا رسول الله، إنك تطلب منا أن نتخلى عن دين أقمنا عليه أعمارنا وليس أصعب على الإنسان أن يترك دينه بسهولة، فنحن نبايعك على أنفسنا فقد جئناك طوعاً ورغبة، أما بقية آل عبد قيس، فأرسل إليهم بعض أصحابك – معنا – يدعونهم إلى الإسلام ويرغبونهم فيه، فمن اتبعنا كان منا، ومن أبى قاتلناه.
قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم : (( صدقت .. إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله )):
1- (( الحِلم )): وهو العقل المفكر والصدر الواسع وجودة النظر للعواقب.
2- (( والأناة )): وهي التثبت من الأمر، وترك العجلة، والتربص في الأمر.
قال الأشج: يا رسول الله، أهاتان الصفتان جديدتان فيّ أم قديمتان، جبلني الله عليهما مذ خلقني؟
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( بل خصلتان قديمتان )).
قال الأشج: فالحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله تعالى ورسوله.

رياض الصالحين: باب الحلم والأناة

يتبع
 
عودة
أعلى