السلام عليكم و رحمة الله تعالى وبركاته إخواني .. في إطار بحثنا عن المستمر عن تلك الصفحات الوضاءة و المشرقة من التاريخ العسكري المغربي من معارك خالدة و أسلحة عظيمة و مواصلة مني للإهتمام بالمعالم العسكرية العمرانية العريقة للمغرب و بعد موضوعي عن المدرسة العسكرية الدار البيضاء ثم الحامية العسكرية (كاسامار) في طرفاية ننتقل اليوم لمعلمة أخرى تشكل جزء من التاريخ المغربي العسكري وهي (فابريكة) السلاح بفاس.
منذ عهد الأدارسة و المرابطين و الموحدين و المرينين ثم السعديين عرف المغرب على أنه قلعة اسلامين حصينة في الغرب الاسلامي, ملاصقة لأوروبا الصليبية لكنها حافظت على اصالتها و اسلامها, وظلت على هذا المنوال الى حين سقوط الاندلس فإحتلت السواحل المغربية لعشرات السنين قبل ان تنهض الدولة المغربية من جديد عقب معركة (وادي المخازن) التي أعادت للمغرب هيبته الدولية .. فأصبح واحدا من القوى العالمية التي لا محيد عنها .. واستمر الامر قرابة 266 سنة ليكتشف العالم ضعف المغرب عقب الهزيمة المذلة امام الجيش الفرنسي سنة 1844 ثم أمام الجيش الاسباني في 1860 وقبلهما تفكيك الاسطول البحري العسكري المغربي بالقوة في 1817.
وامام هذه الهزائم المتككررة ساد وعي عام لدى الشعب و الدولة بضرورة اصلاح الجيش اصلاحا جذريا تجلى ابتداءا من 1844 بتنظيم الجيش المغربي على النمط الأوروبي و استيراد السلاح المتطور ثم كذلك صناعته من اجل تفادي تكاليف الاستيراد وذلك من خلال انشاء مصانع للسلاح (فابريكات) حيث كانت الأولى في مراكش منذ سنة 1860 في ساحة جامع الفنا الشهيرة, علما ان المغرب عرف مصانع السلاح الناري و المدافع منذ عهد المرينين .. لكن السلاح الناري عرف تطورا هائلا في القرن التاسع عشر حيث لم تعد التقنية المغربية تواكب العصر, وأمام ضعف الطاقة الانتاجية لمصنع مراكش و ضعف جودة الاسلحة تقرر انشاء مصنع اكثر تطور
قرر السلطان مولاي الحسن الأول رحمه الله التوجه إلى دولة اوروبية اقل (طمعا) في المغرب من اجل عقد اتفاقيات عسكرية لشراء الاسلحة و "نقل التقنية" وهو ما كان يتوفر في إيطاليا, علما ان التنسيق و التعاون الجاد بين البلدين منذ سنة 1869 بعد وصول البعثة الايطالية الى المغرب, و مع توالي السنوات تزايد الاهتمام الايطالي بالمغرب و توج هذا الاهتمام في سنة 1886 بعد إستقبال حظي به السفير الايطالي (سكوفاصو) تم الإتفاق فيه بين المغرب و إيطاليا على (إقامة مصنع للسلاح في فاس بخبرات إيطالية) و (إرسال بعثات عسكرية مغربية إلى إيطاليا) ثم أخيرا (صفقة شراء بارجة حربية إيطالية لفائدة القوات البحرية المغربية ستحمل لاحقا إسم " بشير الإسلام) و اريد لهذا الاتفاق ان يكون سريا بين البلدين, الا ان مخابرات فرنسا و بريطانيا و اسبانيا ما لبثت ان اكتشفت الامر.
صور خاصة بتصميم السفينة الحربية المغربية " بشير الإسلام بخوافق الأعلام "
أما فيما يخص مصنع السلاح في فاس فقد كان يشرف عليه ثلات مهندسين ايطالين و هم ايضا من اشرف على مكان بنائه وهم الكولونيل (جيورجيو بريكولي) و الميجور قائد مدفعي (لويجي فالطا) ثم الميكانيكي (باتيستا نوتاري) و تم منحهم جميع الامتيازات من مسكن و رواتب و امكانية للتنقل و بعد الكثير من الدراسات تم اتخاذ قرار بناء المصنع في رحاب القصر السلطاني على نهر فاس قرب موقع (بوجلود) او (ابي الجلود) وكان المصنع من تصميم الكولونيل بريكولي و ظل محاطا بسرية تامة و بدأت أشغال البناء في 1889 و انتهت في 1893 و قامت البعثة لذلك الغرض بإقامة مشاريع كبيرة من بينها تزويد مناطق كثيرة من فاس بالكهرباء بما فيها جامعة القرويين و بحكم ان المصنع كان يحتاج للكهرباء التي لم تكن متوفرة بشكل كبير في المغرب انذاك و اعتبارا لأهمية المشروع فقد تم ربط المصنع مباشرة بخط هاتفي من القصر في 1890 يمكن السلطان من الاطلاع على سير الاشغال.
تصميم مصنع السلاح بفاس
المشروع كان بالإمكان الإنتهاء منه بفترة اقل من 4 سنوات الا ان مشاكل دبت منذ السنوات الاولى, هذه المشاكل التي ستتواصل طوال فترة عمل المصنع و الاسباب في ذلك متعددة, ما بين تكبر الإيطاليين على المغاربة بالإضافة إلى الدسائس التي روجها الفرنسين و الاسبان من اجل ضرب المشروع الذي سيمكن الجيش المغربي من قدرة انتاجية ضخمة بالإضافة الى ان بعضا من كبار رجال الدولة و المستفيدين من صفقات السلاح مع الغرب و التي كانت تدر عليهم اموال طائلىة حاولوا ايقافه بشتى الوسائل.
بعد الإنتهاء من انجاز المشروع بدأت عملية الانتاج في 1893 بأول نموذجين من بنادق مارتيني, وقد كانت هذه البنادق ذات جودة عالية حتى افضل من البنادق الاصلية المصنعة في انجلترا, بمدى اطول و دقة افضل بكثير, مما جعل السلطان و رجال الجيش يعجبون بالأداء الجيد للمصنع ولم يكد يتم تصنيع 20 بندقية اخرى حتى ابدى السلطان رغبة سريعة في التخلي عن الطاقم الايطالي و تسريع نقل التكنولوجيا للتقنيين المغاربة الذين ابدوا مهارة كبيرة و تأقلم جيد و هو ما اثار حنق الايطالين الذين رفضوا ذلك.
وبسبب هذا الامر طلب الايطاليون من مفوضية بلدهم في المغرب اعادة التفاوض من اجل شروط افضل لهم وهو ما حصل بعد ذلك بسنوات من دون اغفال المصالح المغربية.
كان المصنع يسيره التقنيون الايطاليون الثلاتة ومن الجانب المغرب أمناء يقومون بالتسير المالي و الاداري بالإضافة إلى المترجمين و ثم العمال الذين كانوا مشكلين اساسا من حرفي صناعة الاسلحة من كل مناطق المغرب اهتموا بإكتساب التقنية و العمل في هذا المصنع الحديث بالإضافة إلى خبراء مغاربة لفحص الأسلحة و الذخيرة المصنعة في الفابريكا و هو ما اثار حنق الإيطالين لأنهم كانوا يرون في ذلك تنقيصا من قيمتهم بمقابل عدم إعترافهم بكفائة الخبراء و العمال المغاربة
ولعل مصنع السلاح بفاس مر بالعديد من الفترات ما بين ازدهار و انكماش وذلك راجع لعدة عوامل ذكرتها في السابق لكن إنضافت لها عوامل جديدة, من بينها وفاة السلطان مولاي الحسن الاول في 1894 و تقلد ابنه المراهق مولاي عبد العزيز وهو ابن 14 سنة فقط سدة الحكم رغم ان الحاكم الحقيقي كان هو الوزير الأول (ابا احمد) و الذي حاول المحافظة على نفس النسق في التصنيع, ثم كذلك الحرب الأهلية المغربية ما بين 1900 و 1909 و لم يستعد مصنع السلاح تألقه إلا في سنة 1910 بعد نهاية الحرب الاهلية و تم توقيع اتفاقية جديدة كتعديل على الاتفاقية الاولى تحول البعثة الايطالية من عسكرية الى مدنية ثم تحديد عددها في ايطاليان فقط و وجوب موافقة السلطات المغربية عليهما .. كما ان البعثة الايطالية ستتكلف بمشاريع كثيرة من بينها صيانة اسلحة الجيش و توسيع مشاريع الانارة الكهربائية على كل المناطق المغربية خصوصا ادرارات الدولة و المرافق الحكومية.
استمر العمل في مصنع السلاح بفاس الى غاية 1912 قبل توقيع الدولة المغربية لإتفاق الإستسلام و الخيانة للقوات الفرنسية و الاسبانية الغازية, و بعد احداث الجيش المغربي بفاس سنة 1912 و الذي رفض المعاهدة تم حل الجيش المغربي و تحويل مصنع السلاح الى مصنع للنسيج و الزرابي !!
نموذج من البنادق التي كانت تصنع في مصنع السلاح بفاس.
اتمنى ان اكون اجملت في هذا الموضوع المختصر تاريخ هذه المعلمة التي تحتاج منا تخصيص اكثر من ذلك ..
منذ عهد الأدارسة و المرابطين و الموحدين و المرينين ثم السعديين عرف المغرب على أنه قلعة اسلامين حصينة في الغرب الاسلامي, ملاصقة لأوروبا الصليبية لكنها حافظت على اصالتها و اسلامها, وظلت على هذا المنوال الى حين سقوط الاندلس فإحتلت السواحل المغربية لعشرات السنين قبل ان تنهض الدولة المغربية من جديد عقب معركة (وادي المخازن) التي أعادت للمغرب هيبته الدولية .. فأصبح واحدا من القوى العالمية التي لا محيد عنها .. واستمر الامر قرابة 266 سنة ليكتشف العالم ضعف المغرب عقب الهزيمة المذلة امام الجيش الفرنسي سنة 1844 ثم أمام الجيش الاسباني في 1860 وقبلهما تفكيك الاسطول البحري العسكري المغربي بالقوة في 1817.
وامام هذه الهزائم المتككررة ساد وعي عام لدى الشعب و الدولة بضرورة اصلاح الجيش اصلاحا جذريا تجلى ابتداءا من 1844 بتنظيم الجيش المغربي على النمط الأوروبي و استيراد السلاح المتطور ثم كذلك صناعته من اجل تفادي تكاليف الاستيراد وذلك من خلال انشاء مصانع للسلاح (فابريكات) حيث كانت الأولى في مراكش منذ سنة 1860 في ساحة جامع الفنا الشهيرة, علما ان المغرب عرف مصانع السلاح الناري و المدافع منذ عهد المرينين .. لكن السلاح الناري عرف تطورا هائلا في القرن التاسع عشر حيث لم تعد التقنية المغربية تواكب العصر, وأمام ضعف الطاقة الانتاجية لمصنع مراكش و ضعف جودة الاسلحة تقرر انشاء مصنع اكثر تطور
قرر السلطان مولاي الحسن الأول رحمه الله التوجه إلى دولة اوروبية اقل (طمعا) في المغرب من اجل عقد اتفاقيات عسكرية لشراء الاسلحة و "نقل التقنية" وهو ما كان يتوفر في إيطاليا, علما ان التنسيق و التعاون الجاد بين البلدين منذ سنة 1869 بعد وصول البعثة الايطالية الى المغرب, و مع توالي السنوات تزايد الاهتمام الايطالي بالمغرب و توج هذا الاهتمام في سنة 1886 بعد إستقبال حظي به السفير الايطالي (سكوفاصو) تم الإتفاق فيه بين المغرب و إيطاليا على (إقامة مصنع للسلاح في فاس بخبرات إيطالية) و (إرسال بعثات عسكرية مغربية إلى إيطاليا) ثم أخيرا (صفقة شراء بارجة حربية إيطالية لفائدة القوات البحرية المغربية ستحمل لاحقا إسم " بشير الإسلام) و اريد لهذا الاتفاق ان يكون سريا بين البلدين, الا ان مخابرات فرنسا و بريطانيا و اسبانيا ما لبثت ان اكتشفت الامر.
صور خاصة بتصميم السفينة الحربية المغربية " بشير الإسلام بخوافق الأعلام "
أما فيما يخص مصنع السلاح في فاس فقد كان يشرف عليه ثلات مهندسين ايطالين و هم ايضا من اشرف على مكان بنائه وهم الكولونيل (جيورجيو بريكولي) و الميجور قائد مدفعي (لويجي فالطا) ثم الميكانيكي (باتيستا نوتاري) و تم منحهم جميع الامتيازات من مسكن و رواتب و امكانية للتنقل و بعد الكثير من الدراسات تم اتخاذ قرار بناء المصنع في رحاب القصر السلطاني على نهر فاس قرب موقع (بوجلود) او (ابي الجلود) وكان المصنع من تصميم الكولونيل بريكولي و ظل محاطا بسرية تامة و بدأت أشغال البناء في 1889 و انتهت في 1893 و قامت البعثة لذلك الغرض بإقامة مشاريع كبيرة من بينها تزويد مناطق كثيرة من فاس بالكهرباء بما فيها جامعة القرويين و بحكم ان المصنع كان يحتاج للكهرباء التي لم تكن متوفرة بشكل كبير في المغرب انذاك و اعتبارا لأهمية المشروع فقد تم ربط المصنع مباشرة بخط هاتفي من القصر في 1890 يمكن السلطان من الاطلاع على سير الاشغال.
تصميم مصنع السلاح بفاس
المشروع كان بالإمكان الإنتهاء منه بفترة اقل من 4 سنوات الا ان مشاكل دبت منذ السنوات الاولى, هذه المشاكل التي ستتواصل طوال فترة عمل المصنع و الاسباب في ذلك متعددة, ما بين تكبر الإيطاليين على المغاربة بالإضافة إلى الدسائس التي روجها الفرنسين و الاسبان من اجل ضرب المشروع الذي سيمكن الجيش المغربي من قدرة انتاجية ضخمة بالإضافة الى ان بعضا من كبار رجال الدولة و المستفيدين من صفقات السلاح مع الغرب و التي كانت تدر عليهم اموال طائلىة حاولوا ايقافه بشتى الوسائل.
بعد الإنتهاء من انجاز المشروع بدأت عملية الانتاج في 1893 بأول نموذجين من بنادق مارتيني, وقد كانت هذه البنادق ذات جودة عالية حتى افضل من البنادق الاصلية المصنعة في انجلترا, بمدى اطول و دقة افضل بكثير, مما جعل السلطان و رجال الجيش يعجبون بالأداء الجيد للمصنع ولم يكد يتم تصنيع 20 بندقية اخرى حتى ابدى السلطان رغبة سريعة في التخلي عن الطاقم الايطالي و تسريع نقل التكنولوجيا للتقنيين المغاربة الذين ابدوا مهارة كبيرة و تأقلم جيد و هو ما اثار حنق الايطالين الذين رفضوا ذلك.
وبسبب هذا الامر طلب الايطاليون من مفوضية بلدهم في المغرب اعادة التفاوض من اجل شروط افضل لهم وهو ما حصل بعد ذلك بسنوات من دون اغفال المصالح المغربية.
كان المصنع يسيره التقنيون الايطاليون الثلاتة ومن الجانب المغرب أمناء يقومون بالتسير المالي و الاداري بالإضافة إلى المترجمين و ثم العمال الذين كانوا مشكلين اساسا من حرفي صناعة الاسلحة من كل مناطق المغرب اهتموا بإكتساب التقنية و العمل في هذا المصنع الحديث بالإضافة إلى خبراء مغاربة لفحص الأسلحة و الذخيرة المصنعة في الفابريكا و هو ما اثار حنق الإيطالين لأنهم كانوا يرون في ذلك تنقيصا من قيمتهم بمقابل عدم إعترافهم بكفائة الخبراء و العمال المغاربة
ولعل مصنع السلاح بفاس مر بالعديد من الفترات ما بين ازدهار و انكماش وذلك راجع لعدة عوامل ذكرتها في السابق لكن إنضافت لها عوامل جديدة, من بينها وفاة السلطان مولاي الحسن الاول في 1894 و تقلد ابنه المراهق مولاي عبد العزيز وهو ابن 14 سنة فقط سدة الحكم رغم ان الحاكم الحقيقي كان هو الوزير الأول (ابا احمد) و الذي حاول المحافظة على نفس النسق في التصنيع, ثم كذلك الحرب الأهلية المغربية ما بين 1900 و 1909 و لم يستعد مصنع السلاح تألقه إلا في سنة 1910 بعد نهاية الحرب الاهلية و تم توقيع اتفاقية جديدة كتعديل على الاتفاقية الاولى تحول البعثة الايطالية من عسكرية الى مدنية ثم تحديد عددها في ايطاليان فقط و وجوب موافقة السلطات المغربية عليهما .. كما ان البعثة الايطالية ستتكلف بمشاريع كثيرة من بينها صيانة اسلحة الجيش و توسيع مشاريع الانارة الكهربائية على كل المناطق المغربية خصوصا ادرارات الدولة و المرافق الحكومية.
استمر العمل في مصنع السلاح بفاس الى غاية 1912 قبل توقيع الدولة المغربية لإتفاق الإستسلام و الخيانة للقوات الفرنسية و الاسبانية الغازية, و بعد احداث الجيش المغربي بفاس سنة 1912 و الذي رفض المعاهدة تم حل الجيش المغربي و تحويل مصنع السلاح الى مصنع للنسيج و الزرابي !!
نموذج من البنادق التي كانت تصنع في مصنع السلاح بفاس.
اتمنى ان اكون اجملت في هذا الموضوع المختصر تاريخ هذه المعلمة التي تحتاج منا تخصيص اكثر من ذلك ..
جميع الحقوق محفوظ للشبح