بعدما وصل الحزب الشيوعي الصيني الى السلطة في العام 1949، أقام علاقات وثيقة مع الاتحاد السوفياتي الذي خرج منتصرا من حربه مع ألمانيا النازية. فاعتمدت الصين، التي كانت تفتقد الى قاعدة صناعية متقدمة، على الأسلحة الروسية في بناء جيشها، وذلك حتى بداية الستينات من القرن الماضي. وجاءت الخلافات بين القيادتين الصينية والسوفياتية في بداية الستينات، بعد رفض هذه الأخيرة تزويد بكين بالتقنيات اللازمة لصناعة أسلحة نووية، لتلقي بظلالها على التعاون العسكري الذي كان قائما في حينه في مجال الصناعة العسكرية، وخصوصا صناعة الطيران العسكري، الذي يتطلب أرفع التقنيات.
مشتقات ال ميغ 21
كانت الصين قد حصلت في العام 1961 على رخصة لصناعة مقاتلة ميغ 21 ومحركها، الا أن صعوبات تقنية، والفوضى التي خلقتها الثورة الثقافية أخرت اعادة اطلاق المشروع حتى منتصف السبعينيات تحت اسم J-6B. وبدأ الانتاج الفعلي في العام 1979 واستمر حتى أواسط التسعينيات من القرن الماضي. وغني الذكر أن هذا التأخير المتمادي جعل هذا النموذج متخلفا عن مستوى الدول المتقدمة، بل عن قوات جوية أخرى متوسطة. وجرت محاولات عدة لتطوير نماذج أكثر تطورا لم تكن ناجحة. لكن في العام 1987، تم تطوير نموذج J-7H الذي تميز بجناح جديد ومدى أطول ومحرك صيني أكثر قوة من النموذج الروسي الأساسي، وقدرة على تشغيل صواريخ جو-جو أحدث. وقد تم انتاج هذا النموذج من العام 1993 حتى العام 2002. ولا يزال يعمل حاليا في عدة أسراب جوية. وبعدها طورت الصين نموذج J-7Gالذي يتميز برادار دوبلري جديد وتحسينات أخرى. وقد بدأ إنتاجه في العام 2003 واستمر حتى العام 2009، أي منذ سنوات وجيزة. هذا في حين سحبت معظم أسلحة الجو العالمية طائرات ميغ-21 من الخدمة.
حاولت الصين الالتفاف على محدودية مدى وقدرات الطراز من خلال تطوير مقاتلة اعتراضية جديدة مزدوجة المحركات تستوحي من الميغ-21 الأحادي المحرك. وبعد مراحل تطوير طويلة، تم في العام 1980 اطلاق طرازJ-8 ، لكن هذا الأخير عانى من مشاكل عديدة. وكان على الصين الانتظار حتى العام 1992 لكي يدخل نموذجJ-8II Finback الأكثر تطورا الى الخدمة. ومن مزايا هذا النموذج مداه الطويل نسبيا وقدرته على اطلاق صواريخ جو-جو ما بعد الأفق Beyond Visual Range. وفي السنوات التي تلت، تم اطلاق نماذج محسنة أهمها ال J-8H الذي لا يزال قيد الانتاج. وقد وفرت هذه الطائرات مدى عمل أوسع لسلاح الجو الصيني.
زمن التغيير
في العام 1990، أظهرت عمليات الحلفاء في حرب تحرير الكويت التفوق الساحق للطائرات والأسلحة والتكتيك الغربية على مثيلاتها الشرقية. فقد الحق الحلفاء خسائر فادحة في القوات الجوية وقوات الدفاع الجوي العراقية، حتى اضطرت أكثر من مئة طائرة عراقية من الهروب الى ايران، بعدما تبين للقيادة العراقية في حينه استحالة مواجهة قوات الحلفاء في الجو. تجدر الإشارة أن سلاح الجو العراقي في حينه لم يكن يملك أحدث الطرازات السوفياتية، كما عانى من تفوق عددي وتكنولوجي كاسح من قبل الحلفاء. الا أن الهزيمة النكراء شكلت صدمة لدى المسؤولين العسكريين الصينيين الذين وعوا ضرورة تعزيز القوات الجوية بشكل حاسم.
وترافق ذلك مع انفراط الاتحاد السوفياتي ودخول روسيا التي خلفته مرحلة اضطرابات اقتصادية واجتماعية حادة. أما الصين، فكانت تشهد نموا اقتصاديا مطردا. وقد استغل الصينيون حاجة روسيا وصناعاتها الجوية الماسة الى العملة النادرة، فقرروا الاعتماد على أحدث الطرازات الجوية في سبيل تحقيق قفزة نوعية في سلاحهم الجوي المتقادم. ولا يعني ذلك أن الصين تخلت عن طموحها في تطوير مقاتلات خاصة بها، إذ كانت بدأت جهودا لتطوير طائرة أحادية المحركات ستعرف لاحقا باسم J-10. الا أنها توجهت الى روسيا للحصول على الطائرات الثقيلة المزدوجة المحركات. وهذا الأجراء المعروف ب Hi-Lo-Mix معتمد في الولايات المتحدة حيث شكلت طائرات F-15 المزدوجة المحركات المستوى الأعلى، وطائرات F-16 الأحادية المحركات المستوى الثاني.
من السوخوي-27 الى ال شنيانغ J-11
في بداية العام 1991، قانت روسيا باستعراض طائرتي ميغ 29 وسوخوي 27 في بكين. وبعد اختبارات عدة، قررت الصين اعتماد طائرة سوخوي-27 لمهمات التفوق الجوي. وتم في العام نفسه التوقيع على عقد أول لشراء 20 مقاتلة من نوع Su-27K الى جانب ست نماذج مزدوجة المحركات من نوع Su-27 UBK. وشكلت هذه الطائرات أول مقاتلات صينية عصرية للسيطرة الجوية تتمتع بقدرات جو-جو عالية على المديين الطويل والقصير. وقد بدأ دخولها في الخدمة خلال العام 1992. وخلال العام 1996، تم الاتفاق على دفعة جديدة قوامها 22 طائرة تبعتها طلبية في العام 2000 ل 28 طائرة.
وتشير المصادر العسكرية المتخصصة أن ادخال هذه الطائرات الجديدة الى الترسانة الصينية لم يكن سهلا، حيث تعرض العديد منها الى حوادث جوية، وكذلك عانت من صعوبات جمة في مجال الصيانة والاعتمادية.
الا أن الجزء الأهم من التقارب العسكري الصيني-الروسي تمثل في المفاوضات التي دارت بين الطرفين وتوجت بتوقيع عقد مقداره 1،2 بليون دولار يشتمل على رخصة لتصنيع 200 مقاتلة Su-27K في الصين محليا بموجب رخصة، على أن تعرف النماذج الصينية باسم J-11. وتضمنت الاتفاقية بندا يمنع بشكل قاطع تصدير الطائرات المنتجة في الصين بموجب رخصة. وكان التصور أن تبدأ الصين بتجميع مكونات وافدة من روسيا، على أن يتبع ذلك تصاعد في المحتوى المحلي، يصل الى تصنيع كامل الطائرة في الصين. وقد تمت صناعة أول نموذجين في أواخر العام 1998، ووصل العدد 95 الى طائرة في العام 2004، حيث بلغ المحتوى المحلي نحو 60 في المائة. وتجدر الإشارة أن التصنيع المحلي استثنى بشكل محدد محركات الطائرة وهي من نوع AL-31.
لكن برزت خلافات كبيرة بين الجانبين الروسي والصيني بخصوص شروط عقد التصنيع المحلي للطائرة. فقد طلب الجانب الصيني ادخال تحسينات على الأنظمة الالكترونية والرادار والأنظمة التسليحية للطائرة. لكن الجانبين لم يتفقا على ما يبدو على الكلفة والتفاصيل. وفي العام 2000، أعلنت الصين أنها قد لا تستمر ببناء 200 طائرة من مكونات روسية، مما المح الى خطط لتطوير نموذج محسن متعدد الأدوار وليس فقط للقتال الجوي بعد الطائرة ال 100. وبدا كأن الصين شرعت في التحول الى نموذج صيني من الJ-11. وكمرحلة أولى، تم تحديث نحو 60 طائرة الى نموذجJ-11A تباعا حتى العام 2006.
الا أن الهدف الصيني النهائي تمثل فعليا في استبدال معظم الأنظمة الالكترونية والتسليحية الروسية المنشأ بأخرى صينية. هذا الى جانب تطوير محرك صيني صالح للطائرة يعرف باسم WS-10A. ومن المقرر أن يزود أيضا مقاتلة Chengdu J-10 الخفيفة الأحادية المحرك.
واعلنت الصين عن وجود النموذج الجديد J-11B في أيار من العام 2007. إلا أن المحرك الصيني عانى من مشاكل عدة، مما اضطر السلطات الصينية الى العودة الى الاعتماد على المحرك الروسي AL-31F حتى العام 2009 الى حين تم حل مشاكل المحرك الصيني. وحاليا يتم انتاج طائرات J-11 بالجملة. كما تم تطوير نماذج مزدوجة المقاعد، الى جانب نموذج مخصص للعمل من حاملة الطائرات الوحيدة العاملة في الأسطول الصيني.
لقد أدى تطوير الصين لنموذج خاص بها من طائرة سو-27 الروسية الى مشكلات كبيرة بين البلدين. فقد اتهمت أوساط الصناعة الجوية الروسية الصين بسرقة التصاميم الأصلية وعدم احترام العقد الأصلي وبراءات الاختراع الروسية. وقد أدى هذا الجدل الى توتر كبير بين البلدين، وألقى ظلالا من الشك على معظم العلاقات العسكرية بين الطرفين.
برنامج مقاتلة J-10
وبالتوازي مع التطورات الخاصة ببرنامج طائرات سو-27 ومشتقاتها الصينية، كانت الصين تعمل بهدوء على برنامج مقاتلة وطنية أحادية المحركات من فئة ال أف-16 تكون أقل كلفة للاقتناء والتشغيل، مع احتفاظها بقدرات قتالية جيدة للمهمات التي لا تتطلب مدى عمل طويل. وفي أواخر العام 2006، تم الكشف عن مقاتلةChendgu J-10 . ولاحظ المراقبون في حينه أن تصميم الطائرة شبيه الى حد ما بتصميم مقاتلة لافي الإسرائيلية التي كانت شركةIAI الإسرائيلية تطورها في حقبة الثمانينات من القرن الماضي، الا أنها اضطرت لإلغاء المشروع بسبب كلفته الغالية ووقف التمويل الأميركي له. أنكرت السلطات الصينية تلقيها مساعدة اسرائيلية في تطوير ال J-10، الا أن العديد ممن لخبراء يصرون على صحة هذا الافتراض.
وحسب المعلومات المتوافرة فان تصميم الطائرة بدأ منذ العام1983، لكنه أخذ وقتا طويلا، مع إدخال تعديلات كثيرة عليه خلال مرحلة التطوير. وكانت الصين تخطط لتزويد مقاتلتها الوطنية بمحرك صيني من نوعWS-10 مما يحرر المشروع من الاعتماد على محركات روسية. الا أن الصعوبات التي لاقتها الصين أجبرتها على الاعتماد مجددا على محرك AL-31 الروسي المستخدم أيضا في مقاتلات Su-27 ونسختها الصينية المعدلة J-11.
حلق النموذج الأول التجريبي من ال J-10 في العام 1998، وبدأ الإنتاج بالجملة في العام 2003. وأبقت السلطات الكتمان على هذه الطائرة الجديدة التي تعد قفزة نوعية بالنسبة الى الصناعة الجوية العسكرية الصينية، مع أن الغرب كشف تباعا عن تفاصيل متعلقة بالبرنامج. ومن الإشاعات أن ال J-10 تفوق على مقاتلاتSu-27 في اختبارات القتال الجوي! مهما يكن من أمر، فان المقاتلة مزودة حاليا بصواريخ جو-جو صينية الصنع قصيرة ومتوسطة المدى، ويعتقد أنها ستزود بصواريخ جو-ارض في المستقبل.وحسب المعلومات المتوافرة، فان ال J-10 مزودة برادار نبضي دوبلري وأنظمة الكترونية وملاحية حديثة، كلها محلية الصنع.
بدأت الطائرة بالدخول الى الخدمة العملانية في العام 2004. وابتداء من العام 2006، تم التحول الى نموذج J-10A المحسن الذي أضيف إليه نظام اتصالات بالاقمار الصناعية وإمكانية التزود بالوقود جوا. وفي العام 2009، تم الكشف عن نموذج J-10B الذي يتميز بقبة كشف حرارية هامدة موصولة بنظام قياس ليزري IRST/Laser Ranger ونظامHUD هولوغرافي وأنظمة تشويش أكثر تطورا. كما راجت إشاعات عن تزويد النموذج الجديد برادار متطور من نوع AESA. واذا صحت هذه المعلومات ، يمكننا القول أن مقاتلةJ-10B تتمتع بقدرات متقدمة قريبة من مستوى المقاتلات الغربية. وقد تم انتاج عدة مئات منها حتى الآن.
طائرة Chengdu FC-1
هذه الطائرة ثمرة برنامج تطوير مشترك بين الصين وباكستان. وتهدف الى انتاج مقاتلة تحل محل طائرات ميغ-21 وميراج 3 المتقادمة في السوق الدولية. لم تدخل الخدمة في سلاح الجو الصيني، لكنها تعمل في باكستان حيث تعرف باسم JF-17 Thunder. تتميز بسعرها المنخفض نسبيا، مما يجعلها مناسبة لأسلحة جو دول محدودة الموارد. لكنها لم تحظ حتى الآن بنجاحات تذكر في سوق التصدير، ما عدا باكستان كما سبق وذكرنا.
الخاتمة
ابتداء من تسعينات القرن الماضي، تمكنت الصين من ردم الهوة التي كانت تفصلها عن الدول الغربية في مجال الطيران العسكري، وطورت قدراتها الذاتية في هذا المجال بصورة ملفتة. ورغم نقاط الضعف التي لا تزال تعاني منها خصوصا من ناحية تصميم المحركات واستخدام المواد المركبة، فقد باتت الصناعة الجوية العسكرية الصينية تثير المخاوف في الغرب بسبب تقدمها السريع، وقدرة السلطات الصينية على تكريس أموال طائلة في سبيل تحسين قوتها الجوية. وخلال السنوات القليلة الماضية، أطلقت سلسلة من التصاميم والنماذج الأولية الجديدة كليا. واذا أتيح لها دخول الخدمة العملانية في الاعوام المقبلة، تكون الصين قد دخلت سوق المنافسة الدولية على مصراعيه في مجال الطيران العسكري الحديث، هذا المجال الذي بقي حكرا على الغرب وعلى روسيا منذ عقود.
يتبع مقال ثان عن التصاميم الصينية الجديدة