الثورة السورية ومسارات التدويل
(14 / 2 – 2)
الصراع على النظام الدولي
د. أكرم حجازي
15/9/2013
قال تعالى:
﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾، ﴿ البقرة: 214 ﴾.
﴿ حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ ۖ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾، ﴿ سورة يوسف: ١١٠﴾.
في أعقاب قرار اتخذه الرئيس الأمريكي، باراك أوباما، بالرد عسكريا على الهجوم الكيماوي على قرى الغوطة الشرقية، أعلن البيت الأبيض رسميا أنه في 31 / 8 /2013 أرسل إلى الكونغرس مشروع قرار يطلب فيه تفويضا بتوجيه ضربات عسكرية ضد النظام السوري, وإعطاء الرئيس الضوء الأخضر لـ « وقف» و « تجنب» حصول هجمات كيميائية. وينص مشروع القرار على أن دعم الكونغرس سوف: « يرسل رسالة واضحة عن موقف أميركا الحازم» .. وأن: « الغرض من هذا العمل العسكري هو ردع النظام السوري وإعاقة وتقويض قدراته على استعمال الأسلحة الكيميائية مجددا والوقاية منها». لكن الكونغرس أرجأ التصويت بعد ساعات من انطلاق اجتماعاته المنتظرة.
موضوعيا، ثمة قدر لا بأس به مما يبدو ارتباكا دوليا في التعامل مع الشأن السوري، لكنه في واقع الأمر، وبعيدا عن مذابح النظام ودمويته، ليس سوى صراع على النفوذ بين شقي « المركز». وموضوعيا أيضا فقد بدت أدوات السيطرة والتحكم في الشأن السوري آخذة في التآكل مع نمو سطوة الجماعات الجهادية وقوى الثورة السورية، مما يهدد باحتمال كبير بوقوع فراغ في السلطة قد يتوسع إلى الدرجة التي تهدد بفقدان السيطرة وتعريض التركيبة المتآكلة للنظام الدولي لمخاطر جسيمة.
فقبل مذبحة الغوطة بحدود ثلاثة أشهر، نشر موقع قناة « الجزيرة نت - 1/6/2013 » مقالة لوزير الخارجية الألماني الأسبق، يوشكا فيشر، بعنوان: « أمريكا المفتقدة». وانضم المسؤول الغربي في المقالة إلى أصحاب الأطروحة الذين باتوا مقتنعين بأن النظام الدولي الحالي، بعد الثورة السورية خاصة، قد أمسى في مهب الريح. وبلسانه يقول: « (لقد) جرى الحفاظ على النظام الإقليمي الذي خلقته القوى الاستعمارية الفرنسية والبريطانية في أعقاب الحرب العالمية الأولى وإلى نهاية الحرب الباردة والحقبة الوجيزة من الهيمنة الأميركية الأحادية التي أعقبت نهايتها، بيد أن اضطرابات السنوات الأخيرة العنيفة ربما تفضي إلى نهاية هذا النظام ..الآن أصبحت الحدود الاستعمارية محل تشكيك، ومن الصعب أن نتكهن بما قد تنتهي إليه أحوال سوريا ولبنان والعراق والأردن. والآن أصبحت إمكانية تفكك المنطقة وإعادة تشكيلها - وهي العملية التي قد تطلق أعمال عنف لا توصف كما يحدث في سوريا - أعظم من أي وقت مضى».
فلنتابع ما كشفت عنه مذبحة الغوطة من تشخيص لوقائع صراع دولي انطلق ولن ينتهي قريبا، لا بضربة عسكرية ولا بأخلاق لم تعد قائمة منذ زمن بعيد.
أولا: عالم بلا أخلاق
ليس في النموذج الرأسمالي الذي يهيمن على العالم سوى معياري الكسب والخسارة حتى في إطار الصراع على النظام الدولي، فكل الأمور والأشياء، وفق هذا النموذج، ليست سوى سلع يجري المتاجرة بها بموجب ما تفرضه حركة السوق من تثمين لهذه السلعة أو بخس لأخرى. وهكذا انتهزت زعامات « المركز» مذبحة الغوطة كسلعة ثمينة يمكن المتاجرة بها تحت مظلة ردع الأسد عن استخدام الأسلحة الكيماوية وقتله لنحو 1429 بريئا. أما روسيا، الراعي الرسمي للقمع والاضطهاد والحرمان والقتل لعشرات السنين، فقد جعلت من المبررات القانونية السلعة المنافسة، في القيمة، للمذبحة. أما الثابت بين شقي « المركز» ففي أنهما لم يتصرفا في يوم ما بأية أخلاق، ليس لأنهما مجردان منها فحسب بل لأن المنظومات الأخلاقية برمتها ليست في عالم المصالح من السلع المتداولة في نظام السوق البغيض هذا.
وبقطع النظر عن أية تبريرات للقرار الأمريكي إلا أن قرار التدخل العسكري من المفترض أنه اتخذ بموجب الصلاحيات التي تخول الرئيس اتخاذ القرار دون العودة إلى الكونغرس إلا بعد مرور شهرين، ودون الحاجة إلى مجلس الأمن الدولي، بل ودون الحاجة إلى أي سند قانوني، محلي أو دولي. وهذا يعني أن التدخل العسكري، رغم الاندفاع الإعلامي والتردد السياسي، دخل فعليا حيز التنفيذ، سواء وافق الكونغرس أو رفض أو أرجأ قراره، وسواء أدان التحقيق الدولي سوريا أم لم يدنها، وسواء نجحت المبادرة الروسية بنزع السلاح الكيماوي في سوريا باعتراض الكونغرس أو فشلت.
وفي المحصلة فإن قرار أوباما لا يختلف عن قرار سلفه جورج بوش الابن حين غزا العراق ( أفريل / نيسان 2003) بعيدا عن أية أطر قانونية محلية أو دولية إلا من السعي إلى تشكيل تحالف دولي كما فعل بوش من قبله!!! وهذا ما يراه، ليس الروس فقط، بل بعض الكتاب البريطانيين والأوروبيين الذين أبدوا مخاوفهم من تكرار التجارب الفاشلة في العراق وأفغانستان من قبل. والمثير في الأمر أن أحدا لم يعد بإمكانه أن يبتلع تدخلا من المفترض أنه يستهدف النظام الدموي في سوريا، لكنه ليس كذلك ولن يكون. كما لا يمكنه أن يتقبل ببساطة حديثا عن تدخل باتت تعترضه الشكوك في أهدافه وألف عقبة وعقبة في طريقه.
ومع ذلك فإن المشهد الأشد إثارة تجلى في مواقف الشعوب الأمريكية والأوروبية المناهضة على نطاق واسع للتدخل. وقد كان بالإمكان أن النظر في أولويات الأوضاع الداخلية لهذه الشعوب ودولها في ضوء التجارب السابقة والأزمات الرأسمالية والاقتصادية، لكن كيف يمكن تبرير مواقف شعوب أدارت ظهرها لأكثر من عامين ونصف لأبشع جرائم القتل بحق شعب من أرق شعوب الأرض، ولم تكلف نفسها عناء الخروج، حتى الآن، ولو في احتجاج واحد ضد وحشية نظام طائفي أرعن يتلقى الحماية والدعم من دول هذه الشعوب ذاتها.
فالأمريكيون أنفسهم رفضوا التدخل بنسبة 60%، فضلا عن أن أكثر من 70% منهم باتوا يعتقدون أن « الضربات لن تخدم المصالح الأميركية»، مع ارتفاع النسبة إلى حدود 75%. أما البريطانيون فقد عارضوا التدخل العسكري بنسبة 75%، ورفضوا في مجلس العموم مذكرة الحكومة التي تقدمت بها في 30/8/2013، وانتهت القراءة الأولى لها بالتصويت ضدها بنسبة 285 معارضا مقابل 272 مؤيدا لها. ولعل أطرف ما في هذا الرفض أنه الثاني من نوعه في بريطانيا منذ سنة 1782 عندما عارض المجلس طلب الحكومة إعلان الحرب على المتمردين في أمريكا، وهو ما اعتبر، في حينه، اعترافا باستقلال أميركا، لكنه اليوم يعارض تدخلا لمنع استعمال أسلحة الإبادة الجماعية ضد المدنيين الأبرياء وليس د ثوار أو متمردين. أما بقية الشعوب، وبحسب استطلاعات للرأي العام، فقد رفض 68% من الفرنسيين تدخل بلادهم في سوريا، وأبدى 64% منهم معارضتهم بشكل عام لأي عمل عسكري دولي ضد نظام الأسد، واتخذ 63% من الألمان نفس الموقف.
إذا كان هذا حال الشعوب فما بال الدول!!؟ فالولايات المتحدة وبقية دول « المركز»، ( بريطانيا وفرنسا والصين وروسيا)، امتنعت عن التدخل مع العلم أن سلعة القتل ظل سعرها بخسا لأكثر من عامين على انطلاقة الثورة السورية، حتى تجاوز عدد القتلى الرقم 125 ألف إنسان في سوريا. بل أنها حالت دون إدانة النظام ( روسيا والصين)، في الوقت الذي رفضت فيه ( أمريكا وبريطانيا وفرنسا)، إمداد الثوار بأية أسلحة نوعية يمكن أن (1) تساعد في حماية السكان من الغارات الجوية وعمليات القتل والاختطاف والذبح التي تعرض لها كبار السكان وصغارهم، أو (2) إضعاف النظام، ناهيك عن (3) هزيمته أو (4) إسقاطه.
بل أن هذه الدول حالت دون، أو رفضت، إقامة أية مناطق عازلة أو ممرات آمنة لحماية السكان، إلى أن وصل عدد المهجرين والنازحين في سوريا قرابة 12 مليون مواطن. وهي نتيجة مفزعة بكل المقاييس، ولطالما وصفها حتى قادة أوروبيون وحقوقيون دوليون بأنها كارثة القرن21، رغم أن القرن ما زال في بدايته!!!
على خلفية فشل مجلس الأمن وتأجيل الضربة الأمريكية تدخل مفكرون يهود ومسؤولون سابقون في الحكومة « الإسرائيلية» ليحسموا في سلسلة من المقالات ( 5/9/2013 ) جدل أخلاقيات الحرب الأمريكية، ليس من باب المواقف الشعبية أو حتى الرسمية، بل كانعكاس لأخلاقيات الحرب عند اليهود أنفسهم. وهكذا تجلت أخلاق صاحب نوبل للسلام فيما كتبه وزير الدفاع الأسبق، موشيه أرنس، في صحيفة « هأرتس» يقول: « أن الرئيس الأميركي باراك أوباما يدرك» أن معارضي الأسد: « ينتمون إلى منظمات إسلامية متطرفة تسعى للقضاء على إسرائيل وعلى الحضارة الغربية، لذا فهو لا يريد إسقاط الأسد، وإنما إبلاغه رسالة مفادها: واصل قتل الأطفال والنساء لكن بدون الكيميائي».
أما أفيعاد كلاينبرغ، المفكر « الإسرائيلي»، فكتب في صحيفة « يديعوت أحرنوت» بصريح العبارة : أن أوباما لا يتحرك بدوافع أخلاقية ولا يهمه استمرار قتل المدنيين بأسلحة غير كيميائية»، ... لكن ... « المفضل في كثير من الأحيان إبقاء الأوغاد على حالهم لأن البديل ببساطة أسوأ». وردا على ما اعتبره: « نفاق النخب الإسرائيلية الحاكمة بمسارعتها في انتقاد تأجيل أوباما قرار ضرب سوريا»، كتب مفكر آخر، هو سافي ريخليفسكي، في صحيفة « هأرتس» يقول: « إن أوباما يتصرف وفق اعتبارات السياسة الواقعية المتحكمة أيضاً بسلوك القيادة الإسرائيلية، التي لم تحركها الدوافع الأخلاقية بيوم من الأيام» .. مذكرا بمجزرة مخيمي صبرا وشاتيلا الفلسطينيين في لبنان سنة 1982 الذي خطط لها ونفذها السفاح، وزير الدفاع الإسرائيلي الهالك، أرييل شارون، ومؤكدا القول: « إن تل أبيب دأبت على التحرر من القيود الأخلاقية حتى عندما يتعلق الأمر بمسؤولياتها المباشرة» .. لذا فإن: « إسرائيل تحت حكم نتنياهو هي آخر دولة يسمح لها بالحديث عن سلوك سياسي بدوافع أخلاقية»!!! وكأن أسلافه أو أقرانه في الحكومة أطهر منه!!!
في 19/3/2013، بعد حادثة بلدة خان العسل غربي مدينة حلب، وقعت جلبة كبيرة في النظام الدولي على خلفية ما بدا هجوما بصاروخ كيماوي شنه النظام السوري على البلدة. وفي اليوم التالي أعلن الرئيس الأمريكي أنه: « إذا استخدم نظام بشار الأسد أسلحة كيماوية» فسيكون ذلك: « خطأ خطيرا ومفجعا»، يؤدي إلى: « تغيير قواعد اللعبة». ومن جهته قال تشاك هيغل، وزير الدفاع الأميركي، أن أجهزة الاستخبارات الأميركية: « خلصت بدرجات متفاوتة من الثقة إلى أن النظام السوري استخدم أسلحة كيمياوية على نطاق ضيق في سوريا وعلى الأخص غاز السارين». ومع ذلك ظل خط أوباما الأحمر ساري المفعول ولم تتغير أية قواعد للعبة حتى بعد مذبحة الغوطة إلا باتجاه ما يستجيب للمطالب اليهودية وليس لحماية المدنيين حيث يستمر القتل بلا هوداة.
يتبع...
http://www.almoraqeb.net/main/articles-action-show-id-410.htm
(14 / 2 – 2)
الصراع على النظام الدولي
د. أكرم حجازي
15/9/2013
قال تعالى:
﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾، ﴿ البقرة: 214 ﴾.
﴿ حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ ۖ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾، ﴿ سورة يوسف: ١١٠﴾.
في أعقاب قرار اتخذه الرئيس الأمريكي، باراك أوباما، بالرد عسكريا على الهجوم الكيماوي على قرى الغوطة الشرقية، أعلن البيت الأبيض رسميا أنه في 31 / 8 /2013 أرسل إلى الكونغرس مشروع قرار يطلب فيه تفويضا بتوجيه ضربات عسكرية ضد النظام السوري, وإعطاء الرئيس الضوء الأخضر لـ « وقف» و « تجنب» حصول هجمات كيميائية. وينص مشروع القرار على أن دعم الكونغرس سوف: « يرسل رسالة واضحة عن موقف أميركا الحازم» .. وأن: « الغرض من هذا العمل العسكري هو ردع النظام السوري وإعاقة وتقويض قدراته على استعمال الأسلحة الكيميائية مجددا والوقاية منها». لكن الكونغرس أرجأ التصويت بعد ساعات من انطلاق اجتماعاته المنتظرة.
موضوعيا، ثمة قدر لا بأس به مما يبدو ارتباكا دوليا في التعامل مع الشأن السوري، لكنه في واقع الأمر، وبعيدا عن مذابح النظام ودمويته، ليس سوى صراع على النفوذ بين شقي « المركز». وموضوعيا أيضا فقد بدت أدوات السيطرة والتحكم في الشأن السوري آخذة في التآكل مع نمو سطوة الجماعات الجهادية وقوى الثورة السورية، مما يهدد باحتمال كبير بوقوع فراغ في السلطة قد يتوسع إلى الدرجة التي تهدد بفقدان السيطرة وتعريض التركيبة المتآكلة للنظام الدولي لمخاطر جسيمة.
فقبل مذبحة الغوطة بحدود ثلاثة أشهر، نشر موقع قناة « الجزيرة نت - 1/6/2013 » مقالة لوزير الخارجية الألماني الأسبق، يوشكا فيشر، بعنوان: « أمريكا المفتقدة». وانضم المسؤول الغربي في المقالة إلى أصحاب الأطروحة الذين باتوا مقتنعين بأن النظام الدولي الحالي، بعد الثورة السورية خاصة، قد أمسى في مهب الريح. وبلسانه يقول: « (لقد) جرى الحفاظ على النظام الإقليمي الذي خلقته القوى الاستعمارية الفرنسية والبريطانية في أعقاب الحرب العالمية الأولى وإلى نهاية الحرب الباردة والحقبة الوجيزة من الهيمنة الأميركية الأحادية التي أعقبت نهايتها، بيد أن اضطرابات السنوات الأخيرة العنيفة ربما تفضي إلى نهاية هذا النظام ..الآن أصبحت الحدود الاستعمارية محل تشكيك، ومن الصعب أن نتكهن بما قد تنتهي إليه أحوال سوريا ولبنان والعراق والأردن. والآن أصبحت إمكانية تفكك المنطقة وإعادة تشكيلها - وهي العملية التي قد تطلق أعمال عنف لا توصف كما يحدث في سوريا - أعظم من أي وقت مضى».
فلنتابع ما كشفت عنه مذبحة الغوطة من تشخيص لوقائع صراع دولي انطلق ولن ينتهي قريبا، لا بضربة عسكرية ولا بأخلاق لم تعد قائمة منذ زمن بعيد.
أولا: عالم بلا أخلاق
ليس في النموذج الرأسمالي الذي يهيمن على العالم سوى معياري الكسب والخسارة حتى في إطار الصراع على النظام الدولي، فكل الأمور والأشياء، وفق هذا النموذج، ليست سوى سلع يجري المتاجرة بها بموجب ما تفرضه حركة السوق من تثمين لهذه السلعة أو بخس لأخرى. وهكذا انتهزت زعامات « المركز» مذبحة الغوطة كسلعة ثمينة يمكن المتاجرة بها تحت مظلة ردع الأسد عن استخدام الأسلحة الكيماوية وقتله لنحو 1429 بريئا. أما روسيا، الراعي الرسمي للقمع والاضطهاد والحرمان والقتل لعشرات السنين، فقد جعلت من المبررات القانونية السلعة المنافسة، في القيمة، للمذبحة. أما الثابت بين شقي « المركز» ففي أنهما لم يتصرفا في يوم ما بأية أخلاق، ليس لأنهما مجردان منها فحسب بل لأن المنظومات الأخلاقية برمتها ليست في عالم المصالح من السلع المتداولة في نظام السوق البغيض هذا.
وبقطع النظر عن أية تبريرات للقرار الأمريكي إلا أن قرار التدخل العسكري من المفترض أنه اتخذ بموجب الصلاحيات التي تخول الرئيس اتخاذ القرار دون العودة إلى الكونغرس إلا بعد مرور شهرين، ودون الحاجة إلى مجلس الأمن الدولي، بل ودون الحاجة إلى أي سند قانوني، محلي أو دولي. وهذا يعني أن التدخل العسكري، رغم الاندفاع الإعلامي والتردد السياسي، دخل فعليا حيز التنفيذ، سواء وافق الكونغرس أو رفض أو أرجأ قراره، وسواء أدان التحقيق الدولي سوريا أم لم يدنها، وسواء نجحت المبادرة الروسية بنزع السلاح الكيماوي في سوريا باعتراض الكونغرس أو فشلت.
وفي المحصلة فإن قرار أوباما لا يختلف عن قرار سلفه جورج بوش الابن حين غزا العراق ( أفريل / نيسان 2003) بعيدا عن أية أطر قانونية محلية أو دولية إلا من السعي إلى تشكيل تحالف دولي كما فعل بوش من قبله!!! وهذا ما يراه، ليس الروس فقط، بل بعض الكتاب البريطانيين والأوروبيين الذين أبدوا مخاوفهم من تكرار التجارب الفاشلة في العراق وأفغانستان من قبل. والمثير في الأمر أن أحدا لم يعد بإمكانه أن يبتلع تدخلا من المفترض أنه يستهدف النظام الدموي في سوريا، لكنه ليس كذلك ولن يكون. كما لا يمكنه أن يتقبل ببساطة حديثا عن تدخل باتت تعترضه الشكوك في أهدافه وألف عقبة وعقبة في طريقه.
ومع ذلك فإن المشهد الأشد إثارة تجلى في مواقف الشعوب الأمريكية والأوروبية المناهضة على نطاق واسع للتدخل. وقد كان بالإمكان أن النظر في أولويات الأوضاع الداخلية لهذه الشعوب ودولها في ضوء التجارب السابقة والأزمات الرأسمالية والاقتصادية، لكن كيف يمكن تبرير مواقف شعوب أدارت ظهرها لأكثر من عامين ونصف لأبشع جرائم القتل بحق شعب من أرق شعوب الأرض، ولم تكلف نفسها عناء الخروج، حتى الآن، ولو في احتجاج واحد ضد وحشية نظام طائفي أرعن يتلقى الحماية والدعم من دول هذه الشعوب ذاتها.
فالأمريكيون أنفسهم رفضوا التدخل بنسبة 60%، فضلا عن أن أكثر من 70% منهم باتوا يعتقدون أن « الضربات لن تخدم المصالح الأميركية»، مع ارتفاع النسبة إلى حدود 75%. أما البريطانيون فقد عارضوا التدخل العسكري بنسبة 75%، ورفضوا في مجلس العموم مذكرة الحكومة التي تقدمت بها في 30/8/2013، وانتهت القراءة الأولى لها بالتصويت ضدها بنسبة 285 معارضا مقابل 272 مؤيدا لها. ولعل أطرف ما في هذا الرفض أنه الثاني من نوعه في بريطانيا منذ سنة 1782 عندما عارض المجلس طلب الحكومة إعلان الحرب على المتمردين في أمريكا، وهو ما اعتبر، في حينه، اعترافا باستقلال أميركا، لكنه اليوم يعارض تدخلا لمنع استعمال أسلحة الإبادة الجماعية ضد المدنيين الأبرياء وليس د ثوار أو متمردين. أما بقية الشعوب، وبحسب استطلاعات للرأي العام، فقد رفض 68% من الفرنسيين تدخل بلادهم في سوريا، وأبدى 64% منهم معارضتهم بشكل عام لأي عمل عسكري دولي ضد نظام الأسد، واتخذ 63% من الألمان نفس الموقف.
إذا كان هذا حال الشعوب فما بال الدول!!؟ فالولايات المتحدة وبقية دول « المركز»، ( بريطانيا وفرنسا والصين وروسيا)، امتنعت عن التدخل مع العلم أن سلعة القتل ظل سعرها بخسا لأكثر من عامين على انطلاقة الثورة السورية، حتى تجاوز عدد القتلى الرقم 125 ألف إنسان في سوريا. بل أنها حالت دون إدانة النظام ( روسيا والصين)، في الوقت الذي رفضت فيه ( أمريكا وبريطانيا وفرنسا)، إمداد الثوار بأية أسلحة نوعية يمكن أن (1) تساعد في حماية السكان من الغارات الجوية وعمليات القتل والاختطاف والذبح التي تعرض لها كبار السكان وصغارهم، أو (2) إضعاف النظام، ناهيك عن (3) هزيمته أو (4) إسقاطه.
بل أن هذه الدول حالت دون، أو رفضت، إقامة أية مناطق عازلة أو ممرات آمنة لحماية السكان، إلى أن وصل عدد المهجرين والنازحين في سوريا قرابة 12 مليون مواطن. وهي نتيجة مفزعة بكل المقاييس، ولطالما وصفها حتى قادة أوروبيون وحقوقيون دوليون بأنها كارثة القرن21، رغم أن القرن ما زال في بدايته!!!
على خلفية فشل مجلس الأمن وتأجيل الضربة الأمريكية تدخل مفكرون يهود ومسؤولون سابقون في الحكومة « الإسرائيلية» ليحسموا في سلسلة من المقالات ( 5/9/2013 ) جدل أخلاقيات الحرب الأمريكية، ليس من باب المواقف الشعبية أو حتى الرسمية، بل كانعكاس لأخلاقيات الحرب عند اليهود أنفسهم. وهكذا تجلت أخلاق صاحب نوبل للسلام فيما كتبه وزير الدفاع الأسبق، موشيه أرنس، في صحيفة « هأرتس» يقول: « أن الرئيس الأميركي باراك أوباما يدرك» أن معارضي الأسد: « ينتمون إلى منظمات إسلامية متطرفة تسعى للقضاء على إسرائيل وعلى الحضارة الغربية، لذا فهو لا يريد إسقاط الأسد، وإنما إبلاغه رسالة مفادها: واصل قتل الأطفال والنساء لكن بدون الكيميائي».
أما أفيعاد كلاينبرغ، المفكر « الإسرائيلي»، فكتب في صحيفة « يديعوت أحرنوت» بصريح العبارة : أن أوباما لا يتحرك بدوافع أخلاقية ولا يهمه استمرار قتل المدنيين بأسلحة غير كيميائية»، ... لكن ... « المفضل في كثير من الأحيان إبقاء الأوغاد على حالهم لأن البديل ببساطة أسوأ». وردا على ما اعتبره: « نفاق النخب الإسرائيلية الحاكمة بمسارعتها في انتقاد تأجيل أوباما قرار ضرب سوريا»، كتب مفكر آخر، هو سافي ريخليفسكي، في صحيفة « هأرتس» يقول: « إن أوباما يتصرف وفق اعتبارات السياسة الواقعية المتحكمة أيضاً بسلوك القيادة الإسرائيلية، التي لم تحركها الدوافع الأخلاقية بيوم من الأيام» .. مذكرا بمجزرة مخيمي صبرا وشاتيلا الفلسطينيين في لبنان سنة 1982 الذي خطط لها ونفذها السفاح، وزير الدفاع الإسرائيلي الهالك، أرييل شارون، ومؤكدا القول: « إن تل أبيب دأبت على التحرر من القيود الأخلاقية حتى عندما يتعلق الأمر بمسؤولياتها المباشرة» .. لذا فإن: « إسرائيل تحت حكم نتنياهو هي آخر دولة يسمح لها بالحديث عن سلوك سياسي بدوافع أخلاقية»!!! وكأن أسلافه أو أقرانه في الحكومة أطهر منه!!!
في 19/3/2013، بعد حادثة بلدة خان العسل غربي مدينة حلب، وقعت جلبة كبيرة في النظام الدولي على خلفية ما بدا هجوما بصاروخ كيماوي شنه النظام السوري على البلدة. وفي اليوم التالي أعلن الرئيس الأمريكي أنه: « إذا استخدم نظام بشار الأسد أسلحة كيماوية» فسيكون ذلك: « خطأ خطيرا ومفجعا»، يؤدي إلى: « تغيير قواعد اللعبة». ومن جهته قال تشاك هيغل، وزير الدفاع الأميركي، أن أجهزة الاستخبارات الأميركية: « خلصت بدرجات متفاوتة من الثقة إلى أن النظام السوري استخدم أسلحة كيمياوية على نطاق ضيق في سوريا وعلى الأخص غاز السارين». ومع ذلك ظل خط أوباما الأحمر ساري المفعول ولم تتغير أية قواعد للعبة حتى بعد مذبحة الغوطة إلا باتجاه ما يستجيب للمطالب اليهودية وليس لحماية المدنيين حيث يستمر القتل بلا هوداة.
يتبع...
http://www.almoraqeb.net/main/articles-action-show-id-410.htm