نقاط الاختراق في المشهد الليبي
عمار عبيدي
17/01/2014
قد يكون الهدوء الذي يبديه «المركز» تجاه التيار السلفي في ليبيا مثيرا للحيرة بالنسبة للكثير من متابعي المشهد في هذا البلد بعد الثورة وسقوط معمر القذافي، ولعل سر هذا الاطمئنان يكمن في الاعتماد الكبير للغرب بشكل عام على نفوذ المليشيات التابعة للحكومة والمقربين منها.
كما أن هناك عاملا مهما آخر في تهدئة «المركز» وهو نتائج الانتخابات التي ترى فيها مراكز البحث الأمريكية مؤشرا مهما على الهوّة التي تقع بين تيار أنصار الشريعة في ليبيا والحاضنة الشعبية التي يراها الغرب مهمة في تحديد قوة التيار في حين ينظر قطاع واسع من قيادات هذا التيار للحاضنة الشعبية على أساس أنها «نافلة» لا يعاقب تاركها ولا يهزم إن لم يحرص على كسبها.
لكن الاطمئنان في «المركز» ليس نهائيا؛ إذ تقطعه معطيات أخرى مهمة جعلت واشنطن تزرع سفارتها في بنغازي حيث توجد أرض خصبة لدراسة الحراك الجهادي، خاصة أن المدينة معقل مهم « لأنصار الشريعة»، وهو ما يبرّر وجود عناصر للـ « سي آي آي» في هذه السفارة أثناء الاقتحام، وفق ما كشفت عنه الصحف الأمريكية، بعد مقتل السفير الأمريكي هناك.
بالنسبة للولايات المتحدة فإن « السلفية الجهادية» في ليبيا تتحرك على محورين الأول يصفه معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى بـ « االتبشيري المعروف بـ الدعوة»، وهو عمل متواصل لدى أنصار الشريعة خصوصا منذ أن وضعت الحرب مع النظام أوزارها، غير أن الباحثين الأمريكيين يَرَوْن « أن الجماعة لا تزال نشطة للغاية في تدريب الأفراد على القتال في سوريا». وترصد الدوائر الأمريكية المختصة أدلة غير واضحة على « أن هناك شبكات تسيير نشطة بين المجندين في تونس ومعسكرات التدريب لتجهيز المقاتلين للقتال في سوريا قبل توجههم إلى الخطوط الأمامية».
لا شك أن هذه الدوائر الاستخباراتية، وحتى مراكز البحث، ترى أن هناك حاجة لمزيد من المعلومات لملء الثغرات حول ما يعرفونه عن جميع أنواع هذه الأنشطة، التي تقوم بها « أنصار الشريعة» وبقية الكتائب المحسوبة على « السلفية الجهادية» في ليبيا.
الرابط مع القاعدة مفقود
بخصوص « القاعدة»؛ فقد أرهقت « أنصار الشريعة» وكتائب « السلفية الجهادية» في ليبيا الاستخبارات الأمريكية والغربية ومعاهد البحث المتخصصة؛ إذ لم تتوفر أية روابط عملياتية بين تلك الجماعات الليبية و« القاعدة» أو المنتمين إليها بل أن كل المحاولات الإعلامية عجزت عن إيجاد ولو رابط ما بين الطرفين. ومن هذه المحاولات ما نشرته شبكة «السي إن إن» الإخبارية من تقارير استخباراتية مجهولة الهوية تشير إلى أن « القاعدة» قد أرسلت نشطاء من باكستان لتكوين خلايا في ليبيا لكن دون أية أدلة تعزز ذلك.
بانتظار تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الدليل للأمريكيين تلعب دوائر الاستخبارات العالمية بامتياز ضمن مخطط محكم لعزل التيار الجهادي انطلاقا من قناعتها بأن الأرضية الليبية مهيأة شعبيا للفظ الشريعة وكل الداعين لها بناء على معطيات سبق ذكرها في مقدمتها نتائج الانتخابات التي اعتبرها كثيرون انتصارا واضحا على الإسلاميين بمختلف أنواعهم.
ولعل «المنّة» الأمريكية التي لا تكاد تخلو منها ساحة تكمن في تدريب قوات « مكافحة الإرهاب» هي أولى الفصول التي يستبق بها « المركز» دائما أي محاولة من التيار الجهادي للتموقع في أي بلد، وقد ذكر الأدميرال، وليام ماكرافين، رئيس قيادة العمليات الخاصة الأمريكية في هذا الخصوص: « أن الولايات المتحدة سوف تتولى تدريب ما بين 5000 إلى 7000 فرد من القوات الليبية التقليدية وقوات مكافحة الإرهاب».
لكن عوامل أخرى في المشهد الليبي تبدو أدوات أوضح ونقاط اختراق أمام «المركز» عموما وواشنطن خصوصا صالحة للاستغلال في وجه « السلفية الجهادية»؛ وهي القبيلة أو حجر الزاوية في المجتمع الليبي، زيادة على ما يمكن أن نسميه بـ « المتراجعين »، وهم الذين أسهم سيف الإسلام القذافي في انحرافهم عن مسار التنظيمات الجهادية، زيادة على خطر آخر داخلي يتهدد تيار الجهاد العالمي.
القبيلة والحجر الأساس
لا يخفى على كثيرين موقف علماء وفقهاء التيار الجهادي من القبائل وحدود العلاقة مع هذا المكون المهم في بلدان العالم الإسلامي عموما؛ ومن الأقوال المشهورة في هذا الباب كلام أبو محمد المقدسي، أحد أهم الرموز الشرعية في التيار الجهادي، حين تحدث « عن جواز التعامل مع العشائر خدمة لمصلحة الدين» وحدد ذلك بضوابط شرعية معروفة.
غير أن المتابعين للشأن الليبي يلاحظون عزوفا غريبا بل قطيعة خطيرة بين التيار الجهادي في ليبيا والقبائل وقياداتها، بل الأخطر من ذلك زهد القيادات الجهادية في توسيع دائرة الحوار مع هذا المكون الأساسي من المجتمع في ليبيا، وقد لا نبالغ إذا قلنا أن القبيلة في ليبيا هي مفتاح المجتمع بامتياز.
وبدراسة متأنية للتاريخ الليبي نجد أن كل من الإدارة العسكرية البريطانية (1943-1951) والنظام الملكي السنوسي المرتكز في برقة (1951-1969) ونظام معمر القذافي قد استمدت جميعها كل القوة وأسباب البقاء -رغم وهن طرحها- في المقام الأول من رجال القبائل.
قد يكون للتيار الجهادي حججه بالقول إن هذه القبائل كانت دائما إلى جانب القذافي وساندته في أغلب أطوار حكمه؛ لكن هذا لا يعكس بأي حال موقف هذه القبائل من الشريعة، فمطالب سكان إقليم برقة وفزان تدخل ضمن صراعها مع الإدارة المركزية المتمثلة في إقليم طرابلس الذي يتحكم ويسيطر على المؤسسات الوطنية وتدفق النفط والمليارات من الأصول المجمدة وهو ما يجعل «الأطراف» المهمشة تتحالف معه في حالة الدكتاتوريات لتنال بعضا من احتياجاتها، ويجعلها تلجأ لتحدي طرابلس، وفي الحالة الثانية يتغول دور القيادات القبلية وتصبح أكثر قدرة على تسيير شؤون كل إقليم رغم أنها ليست من مكونات الدولة رسميا. وحين تنادي القبيلة اليوم، في أقصى تجلياتها، بـ « الوحدة الوطنية» بديلا عن القبيلة والفيدرالية فلأن أحدا لم يقترب منها ليحملها على المطالبة بـ « تطبيق الشريعة».
« المتراجعون»
يبدو التعويل الأمريكي المتزايد على الشخصيات القيادية السابقة في الجماعة الليبية المقاتلة منقطع النظير. فالعمل الإعلامي الدعائي من الإعلام الغربي لشخصيات مثل عبد الحكيم بالحاج و إبراهيم الجضران ممنهج خاصة في تطلعه إلى صنع قيادات تكون بديلا عن الفشل الذي مني به « المركز» في دعمه للتيارات الأكثر ليبرالية التي تقود البلاد اليوم.
وتعتمد الولايات المتحدة أساسا على المجموعة التي عمل سيف الإسلام القذافي على رسكلتها خلال برنامجه الخاص بالمصالحة مع الجهاديين والذي أفضى إلى تراجع عدد مهم من القيادات الكبيرة في الجماعة الليبية المقاتلة.
ولعل ما صرح به الجضران خلال لقاء مع «السي أن أن» الأمريكية بأنه سيحمي الموانئ في إقليم برقة من استعمالها من طرف هذه الجماعات التي وصفها بالمتشددة، والتي تبيع النفط في هذه المناطق، هو دليل آخر على إرسال هذا القيادي لرسائل يحبها الغرب، وهو ما أوحى لشبكة الأنباء الأمريكية باستحضار لقب «روبن هود» في المقال الذي ظهر فيه الجضران.
لكن الصحافة التونسية، وخصوصا جريدة « المساء» الأسبوعية، كشفت في أول عدد لها بعد إشاعة القبض على أبو عياض، القيادي في « أنصار الشريعة»، ما هو أعمق من ذلك، فقالت إن عبد الحيكم بالحاج هو من أكثر الأطراف تتبعا لأخبار أبو عياض في ليبيا، وأن القبض على الرجل الأول المطلوب في تونس يمر بالضرورة عبر بالحاج الذي يتعاون مع واشنطن ضد الجهاديين.
هذا الخبر ليس يتيما، بل تدعمه سلسلة من الأخبار عن طموحات التعاون بين «المتراجعين» وأصدقائهم الأمريكيين ضد التيار الجهادي قد يكون عنوانا لمعركة ضخمة لن يكون تجنبها سهلا إذا لم يدرك المقتربون من الولايات المتحدة أنهم في المرتبة الثانية في سلم السقوط إن دعموا واشنطن في حربها على « رفاق الأمس القريب».
الإسلام الإيديولوجي والإسلام العقدي
بالنظر إلى الأخطار التي تحيط بالتيار الجهادي عموما وليس في ليبيا فقط، يبدو الخطر الداخلي أشدها فتكا من غيره؛ وهذا الخطر الداخلي يتمثل أساسا في البنية المغلقة لأغلب الجماعات الموجودة حاليا. والانغلاق هنا بمعنى «تمترس» هذه الجماعات وراء الرابط التنظيمي وإقصاء كل الروابط العقدية؛ حتى أصبح العمل التنظيمي أولى عند الكثير من هذه التنظيمات من الرابط العقدي الذي كان محركا أساسيا في ظهورها أصلا.
فبالنسبة لتنظيم القاعدة -التنظيم الأساس للحراك الجهادي العالمي- لم يكن برغم بنائه الأمني المتين منغلقا على الجماعات المجاهدة الأخرى التي اختلف معها تنظيميا، وحتى عقديا مثل حركة طالبان التي لم تكن في بداية تحالفها مع القيادات الجهادية العربية على منهج سلفي جهادي رغم تبنيها للجهاد كمنهج لا حياد عنه.
ولعل العامل المهم الذي جعل التيار الجهادي ينجح بلا منازع في التعريف بنفسه كتيار يذود عن المسلمين في العالم هو أن هذا التيار تَعقَّب الأمة وبحث عن همومها وعبّر عن تطلعاتها حتى لحقته الأمة آليا عندما لحقها، وهو ما يكشفه الدكتور أكرم حجازي بقوله في سياق الحديث عن مرجعيات القرار في بعض الجماعات اليوم « إن صيغة القرار لم تعد تستند إلى المرجعية الشرعية بكل مضامينها بل باتت، كليا أو جزئيا، تفرضها ضرورات تنظيمية أو مصلحة الجماعة. وهو منطق يرى أن الأمة مطالبة باللحاق في الجماعة أو التنظيم في حين أن المنطق الصحيح يفرض على الجماعة أو التنظيم أن يتوجه نحو الأمة».
وقد أصبحت أغلب الجماعات الجهادية الحالية متحجرة في علاقتها ببقية الجماعات الجهادية الأخرى، ناهيك عن علاقتها ببقية الأمة، بشكل يثير الريبة عن سبب هذا الصد الغريب، ليتحول المشروع الجهادي العقدي في كثير من الجماعات إلى مشروع إيديولوجي شبيه إلى حد بعيد بمشاريع الجماعات « الإخوانية» التي لا تنفتح على بقية الجماعات السياسية الإسلامية رغم الاتفاق في المنهج السياسي تقريبا.
لذلك فإن المطروح على الجماعات الليبية هو أن تكون لاهثة وراء الأمة، مترجمة لآمالها، وهو المعنى الحقيقي للمشروع البديل لما هو مطروح على المسلمين اليوم من مقايضات مفلسة من النظام الدولي؛ وليبيا هي فضاء منفتح الآن على جميع الاحتمالات.
http://www.almoraqeb.net/main/articles-action-show-id-414.htm
عمار عبيدي
17/01/2014
قد يكون الهدوء الذي يبديه «المركز» تجاه التيار السلفي في ليبيا مثيرا للحيرة بالنسبة للكثير من متابعي المشهد في هذا البلد بعد الثورة وسقوط معمر القذافي، ولعل سر هذا الاطمئنان يكمن في الاعتماد الكبير للغرب بشكل عام على نفوذ المليشيات التابعة للحكومة والمقربين منها.
كما أن هناك عاملا مهما آخر في تهدئة «المركز» وهو نتائج الانتخابات التي ترى فيها مراكز البحث الأمريكية مؤشرا مهما على الهوّة التي تقع بين تيار أنصار الشريعة في ليبيا والحاضنة الشعبية التي يراها الغرب مهمة في تحديد قوة التيار في حين ينظر قطاع واسع من قيادات هذا التيار للحاضنة الشعبية على أساس أنها «نافلة» لا يعاقب تاركها ولا يهزم إن لم يحرص على كسبها.
لكن الاطمئنان في «المركز» ليس نهائيا؛ إذ تقطعه معطيات أخرى مهمة جعلت واشنطن تزرع سفارتها في بنغازي حيث توجد أرض خصبة لدراسة الحراك الجهادي، خاصة أن المدينة معقل مهم « لأنصار الشريعة»، وهو ما يبرّر وجود عناصر للـ « سي آي آي» في هذه السفارة أثناء الاقتحام، وفق ما كشفت عنه الصحف الأمريكية، بعد مقتل السفير الأمريكي هناك.
بالنسبة للولايات المتحدة فإن « السلفية الجهادية» في ليبيا تتحرك على محورين الأول يصفه معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى بـ « االتبشيري المعروف بـ الدعوة»، وهو عمل متواصل لدى أنصار الشريعة خصوصا منذ أن وضعت الحرب مع النظام أوزارها، غير أن الباحثين الأمريكيين يَرَوْن « أن الجماعة لا تزال نشطة للغاية في تدريب الأفراد على القتال في سوريا». وترصد الدوائر الأمريكية المختصة أدلة غير واضحة على « أن هناك شبكات تسيير نشطة بين المجندين في تونس ومعسكرات التدريب لتجهيز المقاتلين للقتال في سوريا قبل توجههم إلى الخطوط الأمامية».
لا شك أن هذه الدوائر الاستخباراتية، وحتى مراكز البحث، ترى أن هناك حاجة لمزيد من المعلومات لملء الثغرات حول ما يعرفونه عن جميع أنواع هذه الأنشطة، التي تقوم بها « أنصار الشريعة» وبقية الكتائب المحسوبة على « السلفية الجهادية» في ليبيا.
الرابط مع القاعدة مفقود
بخصوص « القاعدة»؛ فقد أرهقت « أنصار الشريعة» وكتائب « السلفية الجهادية» في ليبيا الاستخبارات الأمريكية والغربية ومعاهد البحث المتخصصة؛ إذ لم تتوفر أية روابط عملياتية بين تلك الجماعات الليبية و« القاعدة» أو المنتمين إليها بل أن كل المحاولات الإعلامية عجزت عن إيجاد ولو رابط ما بين الطرفين. ومن هذه المحاولات ما نشرته شبكة «السي إن إن» الإخبارية من تقارير استخباراتية مجهولة الهوية تشير إلى أن « القاعدة» قد أرسلت نشطاء من باكستان لتكوين خلايا في ليبيا لكن دون أية أدلة تعزز ذلك.
بانتظار تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الدليل للأمريكيين تلعب دوائر الاستخبارات العالمية بامتياز ضمن مخطط محكم لعزل التيار الجهادي انطلاقا من قناعتها بأن الأرضية الليبية مهيأة شعبيا للفظ الشريعة وكل الداعين لها بناء على معطيات سبق ذكرها في مقدمتها نتائج الانتخابات التي اعتبرها كثيرون انتصارا واضحا على الإسلاميين بمختلف أنواعهم.
ولعل «المنّة» الأمريكية التي لا تكاد تخلو منها ساحة تكمن في تدريب قوات « مكافحة الإرهاب» هي أولى الفصول التي يستبق بها « المركز» دائما أي محاولة من التيار الجهادي للتموقع في أي بلد، وقد ذكر الأدميرال، وليام ماكرافين، رئيس قيادة العمليات الخاصة الأمريكية في هذا الخصوص: « أن الولايات المتحدة سوف تتولى تدريب ما بين 5000 إلى 7000 فرد من القوات الليبية التقليدية وقوات مكافحة الإرهاب».
لكن عوامل أخرى في المشهد الليبي تبدو أدوات أوضح ونقاط اختراق أمام «المركز» عموما وواشنطن خصوصا صالحة للاستغلال في وجه « السلفية الجهادية»؛ وهي القبيلة أو حجر الزاوية في المجتمع الليبي، زيادة على ما يمكن أن نسميه بـ « المتراجعين »، وهم الذين أسهم سيف الإسلام القذافي في انحرافهم عن مسار التنظيمات الجهادية، زيادة على خطر آخر داخلي يتهدد تيار الجهاد العالمي.
القبيلة والحجر الأساس
لا يخفى على كثيرين موقف علماء وفقهاء التيار الجهادي من القبائل وحدود العلاقة مع هذا المكون المهم في بلدان العالم الإسلامي عموما؛ ومن الأقوال المشهورة في هذا الباب كلام أبو محمد المقدسي، أحد أهم الرموز الشرعية في التيار الجهادي، حين تحدث « عن جواز التعامل مع العشائر خدمة لمصلحة الدين» وحدد ذلك بضوابط شرعية معروفة.
غير أن المتابعين للشأن الليبي يلاحظون عزوفا غريبا بل قطيعة خطيرة بين التيار الجهادي في ليبيا والقبائل وقياداتها، بل الأخطر من ذلك زهد القيادات الجهادية في توسيع دائرة الحوار مع هذا المكون الأساسي من المجتمع في ليبيا، وقد لا نبالغ إذا قلنا أن القبيلة في ليبيا هي مفتاح المجتمع بامتياز.
وبدراسة متأنية للتاريخ الليبي نجد أن كل من الإدارة العسكرية البريطانية (1943-1951) والنظام الملكي السنوسي المرتكز في برقة (1951-1969) ونظام معمر القذافي قد استمدت جميعها كل القوة وأسباب البقاء -رغم وهن طرحها- في المقام الأول من رجال القبائل.
قد يكون للتيار الجهادي حججه بالقول إن هذه القبائل كانت دائما إلى جانب القذافي وساندته في أغلب أطوار حكمه؛ لكن هذا لا يعكس بأي حال موقف هذه القبائل من الشريعة، فمطالب سكان إقليم برقة وفزان تدخل ضمن صراعها مع الإدارة المركزية المتمثلة في إقليم طرابلس الذي يتحكم ويسيطر على المؤسسات الوطنية وتدفق النفط والمليارات من الأصول المجمدة وهو ما يجعل «الأطراف» المهمشة تتحالف معه في حالة الدكتاتوريات لتنال بعضا من احتياجاتها، ويجعلها تلجأ لتحدي طرابلس، وفي الحالة الثانية يتغول دور القيادات القبلية وتصبح أكثر قدرة على تسيير شؤون كل إقليم رغم أنها ليست من مكونات الدولة رسميا. وحين تنادي القبيلة اليوم، في أقصى تجلياتها، بـ « الوحدة الوطنية» بديلا عن القبيلة والفيدرالية فلأن أحدا لم يقترب منها ليحملها على المطالبة بـ « تطبيق الشريعة».
« المتراجعون»
يبدو التعويل الأمريكي المتزايد على الشخصيات القيادية السابقة في الجماعة الليبية المقاتلة منقطع النظير. فالعمل الإعلامي الدعائي من الإعلام الغربي لشخصيات مثل عبد الحكيم بالحاج و إبراهيم الجضران ممنهج خاصة في تطلعه إلى صنع قيادات تكون بديلا عن الفشل الذي مني به « المركز» في دعمه للتيارات الأكثر ليبرالية التي تقود البلاد اليوم.
وتعتمد الولايات المتحدة أساسا على المجموعة التي عمل سيف الإسلام القذافي على رسكلتها خلال برنامجه الخاص بالمصالحة مع الجهاديين والذي أفضى إلى تراجع عدد مهم من القيادات الكبيرة في الجماعة الليبية المقاتلة.
ولعل ما صرح به الجضران خلال لقاء مع «السي أن أن» الأمريكية بأنه سيحمي الموانئ في إقليم برقة من استعمالها من طرف هذه الجماعات التي وصفها بالمتشددة، والتي تبيع النفط في هذه المناطق، هو دليل آخر على إرسال هذا القيادي لرسائل يحبها الغرب، وهو ما أوحى لشبكة الأنباء الأمريكية باستحضار لقب «روبن هود» في المقال الذي ظهر فيه الجضران.
لكن الصحافة التونسية، وخصوصا جريدة « المساء» الأسبوعية، كشفت في أول عدد لها بعد إشاعة القبض على أبو عياض، القيادي في « أنصار الشريعة»، ما هو أعمق من ذلك، فقالت إن عبد الحيكم بالحاج هو من أكثر الأطراف تتبعا لأخبار أبو عياض في ليبيا، وأن القبض على الرجل الأول المطلوب في تونس يمر بالضرورة عبر بالحاج الذي يتعاون مع واشنطن ضد الجهاديين.
هذا الخبر ليس يتيما، بل تدعمه سلسلة من الأخبار عن طموحات التعاون بين «المتراجعين» وأصدقائهم الأمريكيين ضد التيار الجهادي قد يكون عنوانا لمعركة ضخمة لن يكون تجنبها سهلا إذا لم يدرك المقتربون من الولايات المتحدة أنهم في المرتبة الثانية في سلم السقوط إن دعموا واشنطن في حربها على « رفاق الأمس القريب».
الإسلام الإيديولوجي والإسلام العقدي
بالنظر إلى الأخطار التي تحيط بالتيار الجهادي عموما وليس في ليبيا فقط، يبدو الخطر الداخلي أشدها فتكا من غيره؛ وهذا الخطر الداخلي يتمثل أساسا في البنية المغلقة لأغلب الجماعات الموجودة حاليا. والانغلاق هنا بمعنى «تمترس» هذه الجماعات وراء الرابط التنظيمي وإقصاء كل الروابط العقدية؛ حتى أصبح العمل التنظيمي أولى عند الكثير من هذه التنظيمات من الرابط العقدي الذي كان محركا أساسيا في ظهورها أصلا.
فبالنسبة لتنظيم القاعدة -التنظيم الأساس للحراك الجهادي العالمي- لم يكن برغم بنائه الأمني المتين منغلقا على الجماعات المجاهدة الأخرى التي اختلف معها تنظيميا، وحتى عقديا مثل حركة طالبان التي لم تكن في بداية تحالفها مع القيادات الجهادية العربية على منهج سلفي جهادي رغم تبنيها للجهاد كمنهج لا حياد عنه.
ولعل العامل المهم الذي جعل التيار الجهادي ينجح بلا منازع في التعريف بنفسه كتيار يذود عن المسلمين في العالم هو أن هذا التيار تَعقَّب الأمة وبحث عن همومها وعبّر عن تطلعاتها حتى لحقته الأمة آليا عندما لحقها، وهو ما يكشفه الدكتور أكرم حجازي بقوله في سياق الحديث عن مرجعيات القرار في بعض الجماعات اليوم « إن صيغة القرار لم تعد تستند إلى المرجعية الشرعية بكل مضامينها بل باتت، كليا أو جزئيا، تفرضها ضرورات تنظيمية أو مصلحة الجماعة. وهو منطق يرى أن الأمة مطالبة باللحاق في الجماعة أو التنظيم في حين أن المنطق الصحيح يفرض على الجماعة أو التنظيم أن يتوجه نحو الأمة».
وقد أصبحت أغلب الجماعات الجهادية الحالية متحجرة في علاقتها ببقية الجماعات الجهادية الأخرى، ناهيك عن علاقتها ببقية الأمة، بشكل يثير الريبة عن سبب هذا الصد الغريب، ليتحول المشروع الجهادي العقدي في كثير من الجماعات إلى مشروع إيديولوجي شبيه إلى حد بعيد بمشاريع الجماعات « الإخوانية» التي لا تنفتح على بقية الجماعات السياسية الإسلامية رغم الاتفاق في المنهج السياسي تقريبا.
لذلك فإن المطروح على الجماعات الليبية هو أن تكون لاهثة وراء الأمة، مترجمة لآمالها، وهو المعنى الحقيقي للمشروع البديل لما هو مطروح على المسلمين اليوم من مقايضات مفلسة من النظام الدولي؛ وليبيا هي فضاء منفتح الآن على جميع الاحتمالات.
http://www.almoraqeb.net/main/articles-action-show-id-414.htm