وهذا له صلة بالموضوع المطروق اليوم، وقد بدأ من أسابيع، وله علاقة بما حدث من تغير في العلاقات المحلية والإقليمية والدولية، والشرخ الذي أحدثته ثورة 30 يونيو في العلاقات المصرية الأمريكية، وانعكاساته على العلاقات المصرية الروسية، وعودة قضية كسر احتكار السلاح وتنويع مصادره وتصنيعه إلى صدارة الأولويات الوطنية المصرية، وتعزز دفء العلاقات الروسية المصرية بزيارة وزيري الخارجية سيرجي لافروف الذي وصل القاهرة (يوم الخميس الماضي)، وسبقه وزير الدفاع سيرجي شويجو يوم الأربعاء الماضي.
ومصر أضحت محور علاقة تبدو آفلة مع ‘الصديق’ الأمريكي، الذي أعطته الحكومات المتعاقبة منذ سبعينات القرن الماضي، وأعطى نفسه حق التدخل في كل صغيرة، ومارس وصاية مقيتة على البلاد والعباد، وعلاقة متنامية مع حليف روسي سابق غيبته سحب سوداء غطت مصر بعد 1973.
لن نأتي بجديد إذا قلنا أن الأطراف الثلاثة؛ مصر والولايات المتحدة وروسيا مختلفون ومتداخلون في الأهداف والمصالح والمطامح، ومن يتصور أن التاريخ يعيد نفسه.
نقول له أن مصر ليست مصر خمسينات وستينات القرن الماضي؛ كانت وقتها فتية وعفية ومستقرة، ولم تكن واهنة ومرتبكة، وأمريكا ليست هي القوة الصاعدة في واقع الحرب الباردة في عالم مزقته إنتصارات وهزائم الحرب العالمية الثانية، وروسيا الوريث الحقيقي للاتحاد السوفييتي السابق لم تعد مركزا لامبراطورية مترامية الأطراف؛ ملكت قوة ردع كبرى؛ إذا ما تصادمت مع القوة الأمريكية أحالتا العالم إلى رماد، وانصاعتا لكوابح ’توازن رعب نووي’، زاد من الاعتماد على الحروب المحلية والمحدودة، وكانت الانتصارات والهزائم تحسب بالنقاط، دون ضربات قاضية، وبعد الانهاك الأمريكي في فيتنام جاء الاستنزاف السوفييتي في أفغانستان، الانهاك أدمى الجسد الأمريكي ولم يُمِته، والاستنزاف قطع أوصال العملاق السوفييتي وأسقطه سريعا وصريعا.
وإذا أخذنا بنظرية ‘المجال الحيوي’ الألمانية نجد المجال الحيوي الأمريكي بحجم الغرب ومصالحه ونفوذه، ومستعمراته القديمة والباقية، وبما يملك من تأثير اقتصادي وسياسي وثقافي وإعلامي وتقني، والمجال الحيوي السوفييتي تضاءل حتى تلاشى؛ بتعقيدات مركزية الدولة وبيروقراطية حكم شاخ وشاخت سياسته، وصرامة أيديولوجية غالبة، ونهج أمني مسيطر، وبينما الغرب يتحد ويتغلب على خلافاته، فيحمي مصالحه ويقوي نظامه الرأسمالي الموصوف بالديمقراطي، ووظفت أمريكا ‘ديمقراطيتها’ واستخدمتها رافعة وسندا لنفوذها، وهو ما أكسبها شرائح عريضة من أبناء الطبقة الوسطى، فضلا عن الأثرياء ورجال المال والأعمال، وكلهم أغمض العين عن الظلم الاجتماعي والاستغلال الاقتصادي والتمييز العنصري الصارخ، وغزو وحروب وتطهير عرقي لا ينقطع، فضلا عن الإفقار والأمراض والمجاعات والتهجير القسري، وانطلق اخطبوط العولمة؛ المرحلة الأعلى في التطور الامبراطوري (الإمبريالي)، فأضعف المناعة الوطنية والقومية، واختُرق المجال الحيوي السوفييتي إنطلاقا من بولندا، وبعمال السفن والموانئ في ‘غدانسك’ مع ظهور حركة ‘تضامن’ في 1980، وزعامة ‘ليخ فاونسا’، ومؤازرة البابا يوحنا بولس الثاني.. واتسع المجال الحيوي الأمريكي وضاق نطاقه السوفييتي، وساعد على ذلك استمرار توتر العلاقات السوفييتية الصينية!!.
ومصر لم تستقل عن التبعية الأمريكية بعد وتتعاون مع الدولة الصهيونية، حتى عجزت عن الاعتراض على تعيين سفير صهيوني جديد لديها، وليسألوا أشقاءنا السودانيين عن دوره الدموي في الجنوب، ولا يقل خطرا عن ‘آن باترسون’ سفيرة أمريكا المطرودة من القاهرة، ولم تجرؤ حكومة الببلاوي على إعادة العلاقات التي قطعها محمد مرسي مع دمشق؛ خوفا من رد فعل الإخوان والسلفيين والوهابيين، ومجاملة لقطر، وما زال ارتباطها بمحيطها العربي والإفريقي والإسلامي واللاتيني محدودا، ويبقى كل من حكم بعد ثورتي يناير ويونيو أسير الحل الغربي؛ معتمدا على الاستدانة والتسول، دون قدرة على تعبئة الموارد الطبيعية والبشرية بشكل سليم.
وأمريكا بدت قوة آفلة معرضة للغرق في مياه المنطقة كما سبق وغرق غيرها في مياه السويس 1956. والروس ليسوا السوفييت، الذين صاغوا نظاما جماعيا بديلا للنظام الفردي، ومدوا اليد لحركات التحرر، وقامت علاقته مع الغرب على العداء، وتقوم الآن على المنافسة، و’المجال الحيوي الجديد’ يتشكل من أنداد وقوى اقتصادية وصناعية ونووية كبرى؛ كالصين والهند وإيران ودول لاتينية صاعدة، وهو ما تحسب له واشنطن ألف حساب، فهذه قوى مستقلة ناهضة غير تابعة، وهل تقدر مصر في ظل حكومتها الراهنة أن تسلك نفس المسار؟، وهي تعيد صياغة علاقاتها الإقليمية والدولية؟!.
هذه هي الأرضية التي نبني عليها الرد على سؤالنا المعلق من أسابيع عن إمكانية استئناف مصر لتنويع مصادر السلاح وتصنيعه؟!. وبعيدا عن الكلام المرسل، أقدم تفاصيل تبدو مملة للقارئ، وعذري أهمية هذه المعلومات للتعرف على حقائق غابت حتى عن بعض المتخصصين. وأبدأ بتصريح وكيل المخابرات المصرية السابق محمود زاهر في 31 اكتوبر الماضي بأن مصانع القوات المسلحة المصرية ومراكز الأبحاث قادرة على ‘انتاج السلاح’ البديل لمصر!.
نعلم أن واشنطن وتل أبيب بذلتا جهودا جبارة طوال عقود أربعة مضت لتصفية الصناعات الاستراتيجية والعسكرية المصرية، وهذه الجهود وجدت عراقيل وصعوبات؛ تمت في صمت ودون ضجيج. فمصر وجدت من يحافظ على جزء كبير من صناعتها العسكرية، ونذكر بالتقدير والعرفان من أبلوا بلاء حسنا ضد تصفيتها بالكامل، وكانت يد رجال الأعمال وأنصار جمال مبارك قد طالتها وباعت أهم الصناعات الاستراتيجية، التي لها علاقة بالمجهود الحربي، مثل الحديد والصلب والمراجل البخارية والأسمنت، ويكفي نموذج أحمد عز، وقد مكنته أسرة مبارك من احتكار صناعة الحديد.
والتقدير والعرفان موصول لنواب الصعيد في مجلس الشعب الأسبق، الذين منعوا بيع شركة مصر لصناعة الألمونيوم؛ وسحبوا كل مبررات تصفيتها معلنين أن رأسمالها تضاعف من 500 مليون جنيه إلى أكثر من 5 مليارات جنيه، وليست خاسرة فيتخذ ذلك مبررا للتصفية، ويعمل بها أكثر من 10 آلاف عامل ومهندس وفني وإداري، وأرباحها زادت على 900 مليون جنيه سنويا، وتنتج أكثر من 250 ألف طن ألمونيوم؛ يستهلك الداخل منها 100 ألف طن ويُصَدر الباقي للخارج.
وإذا كان نواب الوجه القبلي حموا مجمع الألمونيوم في قنا، فإن عسكريي مصر حافظوا على المصانع الحربية، وما زالت منظومة الانتاج العسكري تمتلك مؤسسة الانتاج الحربي وتشمل 16 مصنعا منها 14 مصنعا للانتاج المشترك (المدنى والعسكري)، وتخضع لإشراف وزارة الإنتاج الحربي، وهي وزارة تابعة لوزارة الدفاع وهذه المصانع هي:
مصنع 9 الحربي بضاحية حلوان، وينتج الحديد الرمادي والفولاذ المستخدم في تدريع وصناعة هياكل المدرعات والسفن.
مصنع 10 الحربي ويتبع شركة أبو قير للصناعات الهندسية، وينتج اسلحة خفيفة وذخيرة.
مصنع 27 الحربي التابع لشركة شبرا لصناعات الهندسية، وينتج ذخيرة الأسلحة الخفيفة، والصواريخ المضادة للدبابات.
مصنع 45 الحربي؛ تابع لشركة المعصرة للصناعات الهندسية، وينتج مسدسات الضوء والخناجر.
مصنع 54 الحربي؛ تابع لشركة المعادي للصناعات الهندسية، وينتج المسدسات والبنادق والرشاشات والاسلحة الخفيفة مع ضمان إنتاج النموذج المصري من بندقية مشاة الميدان الآلية الرئيسية، وهي من نوع ايه كيه 47 (AK-47).
مصنع 63 الحربي تابع لشركة حلوان للصناعات غير الحديدية، وينتج الذخيرة النحاسية بجانب الإنتاج المدني.
مصنع 81 الحربي تابع لشركة حلوان للصناعات الكيماوية، وينتج رؤوس القذائف الحربية، والقنابل وذخيرة الدبابات عيار 100 و115مم، وقذائف المدفعية بمختلف اعيرتها، وقذائف الهاون حتى عيار 120 مم، وانظمة الألغام المضادة للدبابات، والقنابل اليدوية لمشاة الميدان والرأس الحربي لقذيفة آر بي جي 7 (RPG-7)، وصواريخ المدفعية الصاروخية من نوع الضبع الاسود عيار 122مم، والقنابل الجوية.
مصنع 99 الحربي ويتبع شركة حلوان للصناعات الهندسية، وينتج الصواعق اللازمة للذخائر، بما فيها الاجزاء المعدنية، ويتولى تصنيع الصواريخ والقنابل والذخائر.
مصنع 100 الحربي؛ تابع لشركة أبو زعبل للصناعات الهندسية، وينتج متفجرات صناعية وصواعق ذخيرة وبنادق آلية ومدافع عيار 203مم، وينتج عربات نيران الدفاع الجوى من نوع سيناء والنيل عيار 23مم، وتصنيع مواسير مدافع الدبابة عيار 105مم، وتطوير T-55 الى رمسيس 2، وتصنيع منظومة رمضان للدفاع الجوى عيار 23مم.
مصنع 144 الحربي؛ تابع لشركة بنها للصناعات الألكترونية، وهو مصنع خاص بصناعة وسائل الاتصالات العسكرية والرادارات واجهزة التشويش الألكترونية ومناظير الغواصات.
مصنع 200 الحربي لإنتاج وإصلاح الدبابات، وهو من المصانع التي أنشئت بترخيص من واشنطن سنة 1984؛ خصما من قيمة المساعدات العسكرية الامريكية، وفيه يتم تجميع وصناعة 60′ من دبابة M1A1، وبدا التجميع في 1992 بـ6 خطوط انتاج للدبابة وتولت تنفيذه شركة ‘جنرال دايناميك لاند سيستمز′، وحصلت مصر على حق تجميع اكثر من 125 M1A1 سنة 2005 حتى سنة 2008، ووصل بذلك ما لدى مصر من هذا النوع الى 880 دبابة، ويجري التفاوض مع واشنطن لتحويل الدبابة M1A1 الى النموذج الاحدث M1A2، ويقوم المصنع بإنتاج قاطرة المدرعات والدبابات الثقيلة M-88A2 HERCULES، ووصل إلى 50 قاطرة يستخدمها مشاة المهندسين ومشاة الميكانيكيين، والعدد في إزدياد، وينتج المصنع مناظير الرؤية الليلية من نوع AN/PVS-7B والذخيرة الخاصة بـ M1A1.
مصنع 270 الحربي؛ تابع لشركة قها للصناعات الكيماوية، وينتج ذخيرة دبابات ومدرعات عيار 30مم، وبنادق ورشاشات المدرعات والدبابات.
مصنع 360 الحربي ويتبع شركة حلوان للأجهزة المعدنية؛ متخصص في صناعة الألغام الأرضية.
مصنع 909 الحربي تابع لشركة حلوان لمحركات الديزل، وينتج محركات المدرعات والآليات العسكرية.
مصنع 999 الحربي تابع لشركة حلوان للمعدات، ويقوم بتصنيع مدافع الهاون حتى عيار 120مم، وقاذفات الصواريخ.
مصنع درفلة الحديد والصلب، ويعتبر أكبر مصنع في الوطن العربي ومنطقة الشرق الأوسط، ومسؤول عن توفير الحديد المخروطي والصفائحي اللازم لصناعة هياكل السفن والمدرعات والآليات العسكرية.
وهل هذا هو حجم الصناعات العسكرية المصرية؟ وماذا جرى للصناعات الاستراتيجية الأخرى؟ وما هو وضع الهيئة العربية للتصنيع؟ وهل في مقدورها تطوير صناعة حربية عربية واعدة؟، أرجو أن أتمكن من تناول هذا الأمر بإذن الله.
محمد عبد الحكم دياب