الخميس 31 أكتوبر 2013 - 06:09
دعا رشيد يلوح، الباحث المغربي المتخصص في الشأن الإيراني، صناع القرار في المغرب وباقي الدول العربية إلى الاهتمام بالدراسات الإيرانية، وقال في حواره خاص مع جريدة هسبريس الإلكترونية: "إن ربط هذا التخصص بالتشيع وإيديولوجية الثورة الإسلامية أمر فيه الكثير من السذاجة ومخالف تماما للواقع" مضيفا أنه " من المستحيل أن نتجاهل ما يجري اليوم في العالم، ولكي نكون مؤثرين في المستقبل ينبغي لنا أن نعرف اتجاه حركة التاريخ".
واعتبر يلوح أن منع تدريس اللغة الفارسية في بعض الجامعات المغربية بعد قطع العلاقات الدبلوماسية المغربية مع إيران سنة 2009، "كان قرارا أمنيا متسرعا وخاطئاً بكل المقاييس".
كما تطرق الحوار مع الباحث المغربي، الذي عاش في إيران وحصل منها على شهادات جامعية في اللغة الفارسية وعمل في الصحافة بإيران، على مجمل القضايا التي تهم القارئ العربي عن دولة إيران حول القضايا التي تشغل المجتمع الإيراني، والخلافات الموجودة بين النخب السياسية والثقافية والدينية داخل إيران، وعن علاقة المجتمع بالدولة وسياسة "الإكراه" التي تنهجها الدولة من أجل "أسلمة المجتمع" وصعود نخبة من المثقفين داخل إيران تحمل الدولة المسؤولية في تعاطيها مع بعض القضايا العربية الخلافية، وتدعو إلى الحوار المنفتح مع العرب.. وأشياء أخرى تكتشفونها في ثنايا الحوار.
هل هناك من ضرورة للاهتمام بالشأن الإيراني؟ وما رأيك في أن يتناوله حوارنا من ثلاث زوايا: الدين والسياسة والثقافة؟
مرحبا أخي نور الدين، أشكرك على المبادرة، ومن خلالك أشكر جريدة "هسبريس" الإلكترونية وعموم القراء داخل المغرب وخارجه..
مرحبا أستاذ رشيد.. هل نحن بحاجة إلى معرفة بالشأن الإيراني؟
بالفعل نحن بحاجة إلى معرفة أعمق وأشمل في التعامل مع إيران، معرفة تتجاوز النظرة الإعلامية الرائجة اليوم. فالغرب، بخاصة الولايات المتحدة الأمريكية أسست أقساما ومراكز أبحاث متخصصة في الدراسات الإيرانية في معظم جامعاتها، وفي سنة 1950 كانت جامعة كولومبيا الأمريكية تمنح دكتوراه في الأدب الفارسي، بينما لازلنا نحن حتى اليوم مترددين في تدريس ألفباء هذه اللغة التي تشكل العربية ما يقارب نسبة 70 بالمئة من مفرداتها. وفي إسرائيل هناك حركة ثقافية إيرانية كبيرة تشمل ترجمة كتب في مواضيع مختلفة من الفارسية إلى العبرية، أما في أوربا فالاهتمام بالدراسات الإيرانية بلغ درجة كبيرة جدا تفوق حتى ما يتم تدريسه في الجامعات الإيرانية نفسها.
أرجو أن ينتبه صناع القرار في المغرب وباقي الدول العربية إلى أهمية الدراسات الإيرانية، فربط هذا التخصص بالتشيع وإيديولوجية الثورة الإسلامية أمر فيه الكثير من السذاجة ومخالف تماما للواقع. تاريخ إيران يمتد إلى آلاف السنين قبل الميلاد، وما نعرفه اليوم بمسمى الحضارة الفارسية ظهر بعد دخول الإسلام إلى إيران، المكتوب منه وصلنا بالحرف العربي واشترك العرب والفرس في إبداعه في ظل الدائرة الإسلامية الحضارية الكبرى، واستمرت إيران ضمن مناخ مذهبي سني متسامح لحوالي تسعة قرون، وهي التي المرحلة التي عرفت أوج الإبداع والإنتاج والتميز العلمي والثقافي، لتدخل بعد ذلك في مناخ شيعي مُضطرب مع الصفويين ومن جاء من بعدهم ابتداءً من سنة 1501م.
ولكي تفهم إيران لايكفي أن تتابع الأخبار وتكتفي ببعض الخلاصات النمطية. إن عناصر الدين والسياسة والثقافة والتاريخ حاضرة بقوة في سلوك إيران اليوم، الأمر يحتاج إلى مراكز أبحاث متخصصة، وإلى أقسام جامعية وجهود متراكمة من البحث العلمي الأكاديمي. وقد حزنت أشد الحزن، لما علمت بمنع تدريس اللغة الفارسية في بعض الجامعات المغربية بعد قطع العلاقات الديبلوماسية المغربية مع إيران سنة 2009، كان قرارا أمنيا متسرعا وخاطئاً بكل المقاييس، والجهة التي اتخذته ليس لديها للأسف أدنى اطلاع على اللغة الفارسية وآدابها، ولاعلى أبجديات العلوم السياسية والعلاقات الدولية. وبالمناسبة أُثمن خطوة كلية الآداب بجامعة محمد الخامس التي استدركت الأمر هذا العام وخصصت منصبا لأستاذ اللغة الفارسية. ونرجو أن تحذو باقي الجامعات المغربية حذوها. ولازال الأمل يحذونا مع كل الزملاء المغاربة المتخصصين في الدراسات الشرقية في تأسيس معهد وطني للدراسات الشرقية تعطى فيه الأهمية اللازمة للدراسات الإيرانية إلى جانب الدراسات العبرية والتركية والصينية وغيرها من بلدان شرق آسيا، في المقابل فتحت إيران عدة مراكز للدراسات العربية، أو مؤسسات للأبحاث في مذهب أهل السنة والجماعة، وقطعت شوطا مهما في الترجمة من العربية الفارسية، وقد سبق لي أن التقيت بباحثين إيرانيين يُنجزون دراسات ميدانية عن الأمازيغية في المغرب بدعم من جامعاتهم في طهران.
من المستحيل أن تتجاهل مايجري اليوم في العالم، ولكي تكون مؤثرا في المستقبل ينبغي لك أن تعرف اتجاه حركة التاريخ.
طيب، في الماضي وتحديدا مع الخميني كنا نسمع على أن إيران تريد أن تصدر الثورة الإسلامية إلى دول الجوار، واليوم نتابع عبر الإعلام وبعض مراكز البحث أن إيران تريد اختراق المجتمعات الإسلامية في طبعتها السنية عبر نشر المذهب الشيعي الإمامي، ما حقيقة هذا الكلام؟
بحسب الأدبيات التأسيسية للثورة الإسلامية، تعتبر الجمهورية الإسلامية الإيرانية دولة الإمام المهدي، إمام آخر الزمان، وأخبار هذا الإمام متوفرة في أحاديث وروايات مشتركة بين السنة والشيعة، علما أن المهدي عند السنة يختلف في بعض أوصافه وخصائصه عن المهدي عند الشيعة، لاسيما الإثناعشرية الذين يعتقدون بأنه لايزال حيا يرزق، وأن الله لم يأذن له بعد بالخروج. وانسجاما مع هذا المعتقد يؤمن النظام الإيراني بأن الجمهورية الإسلامية هي قاعدة الانطلاق لهذا الإمام في حربه الحاسمة مع أعدائه، وهم بالأساس أمريكا وإسرائيل وبعض الأنظمة العربية التي تعتبرها إيديولوجية الثورة وريثة للتراث الأموي المعادي لشيعة الإمام علي. وبحسب هذا المعتقد دائما يعتبر الإسلام الشيعي الإثناعشري هو النموذج الأكمل للإسلام النبوي الذي ينبغي للأمة أن تجتمع عليها. هذه هي الخلفية الإيديولوجية المعلنة في إيران هي التي حركت ولازالت تحرك كل جهود تصدير الثورة والتبليغ الشيعي خارج إيران، خاصة في البلدان ذات المذهب السني.
بدأت سياسات تصدير الثورة الإيرانية والتشيع الإثناعشري نحو البلدان العربية مع بداية ثمانينيات القرن الماضي، ويبدو أنها لازالت مستمرة لكن بأساليب وأشكال مختلفة، فيما قبل كانت هناك أساليب تقليدية مثل الكتب والزيارات والاتصالات المباشرة وغير ذلك، اليوم نرى هذه السياسات تتم عبر الفضائيات والانترنت واقتناص اللحظات التاريخية ونتائج موازين القوى الدولية، لذلك ترى إيران اليوم تسيطر على العراق ولها حضور قوي جدا في أفغانستان وتقتل أهل السنة في سوريا، وتعتبر حقوق وأوضاع الأقليات الشيعية في الخليج من صميم مصالحها القومية. وربما غدا عندما تتحقق المصالحة الإيرانية الأمريكية، سنكون أمام أشكال جديدة وغير مسبوقة من وسائل التبليغ الشيعي والإيديولوجي للثورة الإيرانية. وفي اعتقادي هذا أمر طبيعي جدا، فأنت لن تستطيع منع أي دولة في هذا العالم من الدفاع عن مصالحها القومية ونشر عقائدها وثقافتها، العالم سيكون غدا أقل حجما من عمارة صغيرة، لذلك ينبغي لصانع القرار العربي أن يفكر في كيفية مواجهة طموحات وتوسعات قوى هذا العالم. وهذا سيعيدني إلى ما قلته سابقا من أن المطلوب اليوم والآن هو فتح الواجهة العلمية والبحثية في التعامل مع إيران وطموحاتها التوسعية في المنطقة العربية، نريد أن نفتح هذه الواجهة لنعرف أولا ماهي إيران تاريخا ولغة وثقافة وأدبا ومجتمعا وعقائد. وثانيا لكي نستطيع التواصل مع النخب الإيرانية المُثقفة والمُجددة في كل مجالات المعرفة، بما فيها علوم المذهب الشيعي ونظرياته، هؤلاء يشكلون قطاعا واسعا داخل إيران اليوم، الكثير منهم يعارضون السياسات التوسعية الإيديولوجية والمذهبية لنظام الجمهورية الإسلامية. وهؤلاء وكثير غيرهم من باقي التيارات والنخب لديهم للأسف نظرة سلبية تجاه العرب، ومن واجبنا تصحيح صورتنا لديهم. أوضح هنا أنني لاأقصد بالعرب في هذا الحور العرق أو الانتماء الإيديولوجي القومي، بل العرب بالمفهوم الحضاري ويشمل طبعا كل من تكلم العربية بمن فيهم الإيرانيون العرب الذين يعانون إلى حد ما التهميش والإساءة بسبب انتماءهم الثقافي العربي.
وباعتقادي لاينبغي تضخيم موضوع تصدير الثورة والتشيع نحو البلدان العربية، الأمور ليست بهذه البساطة، أنا وزوجتي درسنا معا لما يقارب أربع سنوات في إيران ولم نتشيع، وهناك الكثير من زملائي المغاربة والعرب وغير العرب الذين درسوا معي لم يتشيعوا، بل منهم من أصبح سنيا مُتشددا. وهناك من كانت لديه ميولات نحو التشيع فلما عاش في إيران راجع أفكاره، وهناك من ذهب متشيعا فرجع سنيا، وهناك من لم يزر إيران قط فتشيع، وهناك من كان شيعيا فبقي على معتقده. قضايا العقائد والأفكار لاتعالج بالتصورات القانونية والأمنية والسياسية، هذه تحتاج إلى ساحات العلم والفكر والمناظرة، وإلى خبرائها من العلماء والباحثين.
هل جل شيعة العالم يناصرون الموقف الإيراني من الصراع الدائر في سوريا ؟
ليس جل الشيعة، هناك من الشيعة من يرفض تدخل حزب الله وإيران في سورية، هؤلاء يرون بأن الطائفة العلوية والشيعة غير مستهدفين، ويعتقدون أن المعركة فعلا هي بين نظام مستبد يستغل الطائفية وشعب مظلوم يطالب بحريته وكرامته.
لكن الموقف الإيراني من مناصرة النظام في سوريا يراه جل الشيعة مناصرة للمقاومة والممانعة..!
كما أشرت سابقا، إيران ترى في المنطقة العربية مجالها الحيوي، وهي المسرح المتوقع لمعركة الإمام المهدي مع أعدائه، لذلك فالسيطرة على هذا المجال هو من أهداف إيديولوجية الثورة الإسلامية البعيدة المدى، وقد صرح أحد كبار شخصيات الحرس الثوري بأن الحرب في سورية هي حرب من أجل ولاية الفقيه، وصرح ضباط وقادة وخطباء في مواقف أخرى بأن الجهاد في سورية هو ضد اليزيديين (نسبة للخليفة الأموي يزيد بن معاوية الذي قتل الحسين بن علي حفيد الرسول "ص")، وقد انتشر في إيران سنة 2011 قرص مدمج بعنوان "ظهور المهدي قريب جدا" وتم توزيع ملايين النسخ منه داخل إيران، ويتحدث عن قرب خروج الإمام المهدي، وحاول أصحابه تنزيل الروايات الشيعية والسنية على شخصيات سياسية وحكام عرب في المنطقة، وتم تصوير المشهد كله على أن إيران ستكون في صف الإمام المهدي ضد السفياني والدجال وأنصارهما (السعودية والأردن والمغرب..).
إذن أنت أمام حرب عقدية تتلبس بلبوس إيديولوجي وتأخذ تجليات متعددة، والعكس أيضا صحيح، أنها حرب إيديولوجية وصراع مصالح قومية وتأخذ لباسا عقديا وطائفيا. وكلا التفسيرين يكمل بعضهما بعضا، المصالح القومية والعقائد، وكلاهما يعني تهديدا جديا لأمن واستقرار الدول العربية، وكلاهما أيضا يؤكد أن حقيقة مايجري هي أكبر بكثير من قصة محور ممانعة ومحور اعتدال. ففي حال حدوث مصالحة أميركية إيرانية سيرتفع تماما هذا الاصطفاف، وقد نكون أمام اصطفاف جديد، لكن النواة الصلبة للصراع وأهدافه الكبرى وبعيدة المدى ستبقى، أي المصالح القومية والعقائد.
هل شكل وصول حسن روحاني إلى منصب الرئاسة في إيران عاملا في تقارب إيران مع الغرب؟ وهل يملك الرئيس الجديد القرار الحاسم في هذا التقارب؟
إن قراءة وتحليل خريطة الصراع الانتخابي الرئاسي الأخير تؤكد بوضوح أن مرشد الثورة علي خامنئي كان يُرتب الوضع لفوز حسن روحاني، لأن المرحلة الحالية بحاجة فعلا إلى مثل شخصية وتجربة روحاني. فالوضع الاقتصادي المتدهور بفعل العقوبات الاقتصادية الغربية وسياسات أحمدي نجاد الفاشلة، إضافة إلى ضعف الحليف السوري المهدد بالسقوط، يفرض إيجاد مخرج توافقي مع أميركا يجنب إيران مصير الاتحاد السوفياتي أو العراق. وفي هذا السياق أطلق خامنئي شعار (المرونة البطولية)، وهو في الأصل عنوان كتاب ترجمه خامنئي سنة 1969 من العربية إلى الفارسية، ومضمونه يُمَجد موقف الإمام الحسن بن علي حفيد الرسول (ص) الذي لجأ إلى الصلح مع والي الشام معاوية بن أبي سفيان حفاظا على استمرار دولة الإسلام واستقرار أحوال المسلمين. (لاحظ أن السلوك السياسي الإيراني يحيلك دائما على التاريخ والدين والثقافة..).
وبناءًا على ما سبق، يتبين أن قرار التقارب مع الأمريكيين ليس قرار روحاني فحسب، بل هو رغبة أيضا عند خامنئي وباقي القوى المؤثرة في نظام الحكم مثل الحرس الثوري والبرلمان والحوزة الدينية، فبخلاف عهد رفسنجاني وخاتمي ونجاد، يعرف عهد روحاني ما يشبه إجماعا داخل النظام على فتح باب المفاوضات مع الأميركيين بهدف التقارب وتجاوز جروح الماضي، أما على مستوى النخب والقوى والتيارات السياسية المؤيدة للنظام والمعارضة له، فيوجد أيضا هذا النوع من الإجماع، باستثناء بعض الأصوات المتشددة وغير المؤثرة التي تحذر أو تعارض تماما التقارب مع الأمريكيين. فالإيرانيون بجميع توجهاتهم الإيديولوجية وأديانهم ومذاهبهم يرفضون أن يكون مصير بلادهم هو مصير العراق أو ليبيا أو سوريا. وهذه خاصية ثقافية نفسية ترتبط بالشخصية الإيرانية التي تتوحد بسرعة وتنسى خلافاتها كلما شعرت بالخطر الخارجي. ما سبق ذكره يرجح أن تسير الجهود التقاربية الإيرانية الأميركية في الاتجاه الإيجابي، لاسيما أن الأميركيين أنفسهم لديهم رغبة في إنجاح هذا التقارب.
هناك من يرى أن التقارب بين إيران وأمريكا سيؤثر على المنطقة العربية وعلى الصراع داخل سوريا..؟
العلاقات بين الدول تحكمها المصالح، وتبعا لهذه القاعدة الخطيرة تتغير موازين القوى وتتبدل التحالفات، لذلك على الدول العربية أن تتوقع كل شئ وتستعد لكل شئ، فمن المرجح أن يكون التقارب بين الأمريكيين والإيرانيين على حساب المصالح العربية، فما يظهر إعلاميا من الصراع والعداء بين أمريكا وإيران يخفي وراءه حقائق كبيرة من العلاقات الاجتماعية والثقافية والإنسانية العميقة بينهما، فيكفي أن نعلم أن أكبر جالية إيرانية بالخارج توجد في أمريكا، ويتجاوز حجمها مليون نسمة، وفي أمريكا يعيش 8000 آلاف طبيب إيراني، 5000 منهم هم خريجو جامعات إيرانية، وبحسب إحصاءات أمريكية رسمية يصنف الإيرانيون كأول مجموعة مهاجرة ناجحة تعليميا واقتصاديا في الولايات المتحدة، وسنويا يخصص الرئيس الأمريكي خطابا تهنئة بمناسبة عيد النوروز الإيراني موجه للشعب الإيراني، والنوروز عيد معترف به رسميا في أمريكا.
أضيف إلى ما سبق أن تاريخ التعاون بين الإيرانيين والأمريكيين مليء بالمفاوضات السرية والتفاهمات والصفقات، وأشهرها على الإطلاق فضيحة (أيران كونترا) في ثمانينيات القرن الماضي، والتعاون بين الطرفين على احتلال العراق وأفغانستان بداية هذا القرن. هذه ليست نظرية مؤامرة، لأن الطرفين الإيراني والأمريكي يسمونها نظرية المصالح المشتركة، والتي برأيي ستمضي إلى أبعد حدودها.
ننتقل الآن إلى الجانب الفكري الثقافي. كثيرا ما نسمع عن وجود تشيع علوي وتشيع صفوي، ولعل المفكر الإيراني علي شريعتي فصل في الموضوع، هل لا يزال هذا الصراع قائما داخل إيران؟
نعم، هذا الصراع لايزال قائما، وطرفاه من جهة نخبة دينية وثقافية مُجَدِّدة، ومن جهة أخرى السلطة الدينية الحاكمة ويمثلها ولي الفقيه مرشد الثورة والمؤسسات الثقافية والدينية المرتبطة به. صراع بين مدرستين، الأولى تدعو إلى تجاوز التشيع الصفوي بكل حمولاته التاريخية والفقهية غير الملزمة للإنسان الشيعى، والتركيز في المقابل على التشيع العلوي أو التشيع الذاتي بأصوله وقيمه. بينما الثانية تتمسك بالتراث الشيعي التاريخي وتعتبره من صلب المدرسة، وأي إعادة للنظر في هذا التراث ستشكل تهديدا لإيديولوجية الثورة ونظرية ولي الفقيه التي يرون فيها عمود خيمة النظام.
وقد أخذ الصراع بين الموقفين تجليات سياسية وإيديولوجية واجتماعية، وأنا أرى فيه تحولا تاريخيا يمكن أن يخرج المؤسسة الدينية الشيعية من التبعية للعامة والجماهير، ويعيد زمامها إلى النخبة والعلماء، لكن سلبية هذا التحول هي في احتمال سقوط العالم الشيعي في حضن السلطان، وقد برز هذا الخطر بقوة مع نظام الجمهورية الإسلامية، لاسيما في عهد المرشد خامنئي الذي عمل منذ سنوات على تجريد الحوزات الدينية والمراجع الفقهية من استقلالهم، ومحاربة كل من يرفض تقديم ولاء السمع والطاعة لولي الفقيه.
وإذا لاحظت فإن التحول نفسه موجود في مدرسة أهل السنة والجماعة، لكنه يسير بشكل عكسي، فنحن نرصد حركة بطيئة تقود علماء ومفكري المذهب السني إلى المجال العام وإلى عالم الجماهير، بعد أن ظل هؤلاء لقرون في حضن السلطان، فأنت الآن ترى علماء يخاطبون الجماهير في موضوع ضرورة شرعية الحاكم، وضرورة التغيير، وحق الناس في اختيار حكامهم، وحقهم في العيش الكريم. لكن سلبية هذا التحول بدوره هي في احتمال سقوط العالم السني في التبعية للعامة والجري وراء إرضاء أذواق الجماهير وميولاتهم، مما سيسقطه في مصير العالم الشيعي. وبالمناسبة، تذكر معي جواب وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربي أحمد توفيق أمام البرلمان بخصوص قضية طرد خطيب الجمعة الذي استنكر مايجري في مهرجان موازين. وزير الأوقاف احتج بأن الموقف الديني سيحسمه الجمهور في النهاية، ولهذا الأخير الحق في رفض أو قبول المهرجان. هكذا يتعامل معظم علماء الشيعة مع جمهورهم.
وماذا عن الشعوبية بين الفرس والعرب، ألا تزال هذه النزعة قائمة إلى حدود الآن؟
العنصرية أو الشعوبية بحسب المصطلح القديم، هي من الأمراض التي أصابت الانجماع والتداخل الحضاري الذي حدث بين العرب والفرس بعد الإسلام، وللأسف ازدادت حدة هذا الشرخ في نهاية القرن 19 وبداية القرن العشرين بعد ظهور مفهوم الدولة القومية، وانتشار العنصرية العرقية، سوءًا عند العرب أو الفرس، بالنسبة لأتباع المذهب السني لم تستطع مشاعر العنصرية تجاه الفرس أن تجد لها تربة خصبة بينهم باعتبار طبيعة المذهب الذي يحترم كل الخلفاء الراشدين، ويعطي أهمية خاصة لأهل البيت النبوي. لكن عند الفرس حدث ما يشبه تحالفا بين الأفكار القومية الفارسية وعقيدة المذهب الشيعي الإثناعشري، وهي الخلطة التي وجدت جذورها في العهد الصفوي قبل حوالي 500 عام. وقد سيطرت هذه الخلطة الإيديولوجية الدينية بدرجات متفاوتة على تفكير النخب العلمية والثقافية والسياسية والدينية في إيران. ومن أخطاء الثورة الإسلامية أنها لم تستطع التخلص من هذا الداء العضال، بل عززته بشكل أو آخر في سياساتها ومواقفها تجاه العرب، وهذا ما حذر منه المفكر علي شريعتي قبيل الثورة عندما دعا إلى التشيع العلوي ونصح بترك التشيع الصفوي لأنه تشيع أبعد الإيرانيين عن جوهر إسلام أهل البيت، وهو إسلام متسامح وإنساني ومبدئي. وليس ذلك فحسب، بل عزل التشيع الصفوي الإيرانيين عن العالم الإسلامي، وحتى عن محيطهم الإقليمي. فإيران حتى اليوم لم تستطع تحقيق حد أدنى من التوافق الثقافي حتى مع جيرانها الذين تتقاسم معهم اللغة والتاريخ مثل طاجكستان وأفغانستان.
جزء مهم من النخبة الإيرانية يدرك أن هناك أزمة هوية داخل إيران، وقد أنجزت دراسات وألفت كتب في هذا الإطار. الباحث والمحلل صادق زيبا كلام من الذين تجرؤوا بدعوة المجتمع والنخبة بشقيها الديني والقومي إلى مراجعة مواقفهم من العرب، معتبرا العنصرية والاستعلاء على الشعوب العربية داءٌ ينبغي التخلص منه. عالم الاجتماع الإيراني محمد برقعي بدوره دعا الإيرانيين إلى التخلص من النظرة الاستعلائية إلى العرب. الباحث الإيراني ناصر بوربيرار تناول هذا الداء من زاوية بحثية علمية ثم استنتج أن مايفتخر به الإيرانيون من أمجاد قبل الإسلام هو مجرد أوهام وأساطير لاتقوم عليها أية أدلة أو براهين علمية معتبرة. وبالمناسبة هذا الباحث تعرض لمضايقات أمنية وتهديدات ومتابعات قضائية جراء موقفه العلمي الجرئ وهو الآن قيد الإقامة الجبرية في طهران. وهذا يعني أن في إيران اليوم وعيا بهذا العطب. وهنا أعود إلى ضرورة حضور المثقفين والمتخصصين العرب لأداء دورهم في مخاطبة الشعب والنخبة الإيرانية وتصحيح ما يروج عندهم من أوهام وصور غير صحيحة عن الإنسان العربي.
أنت عشت في طهران لسنوات، اشتغلت هناك بالصحافة وحصلت على ماجستير في اللغة والأدب الفارسي أواخر سنة 2003، هل كنت تشعر بالنظرة الاستعلائية من لدن الإيرانيين؟
الشعب الإيراني مثل كل شعوب العالم لديه إيجابيات وسلبياته، من إيجابياته التي لمستها من خلال معايشتي له أنه شعب ذكي ونشط، وصاحب ذوق وثقافة، ولديه اعتداد كبير بنفسه وقدراته، لكن للأسف الظروف التاريخية والسياسية التي مر منها تركت آثارا على نخبه الثقافية والسياسية والدينية. فمن خلال تجربتي الشخصية لاحظت أنني كلما اقتربت من تلك النخب في حوارات أو تعاملات لمست وجود ذلك الحس الاستعلائي والنظرة الدونية إلى العرب، لاسيما أهل السنة، بينما كلما اقتربت من المجتمع والناس البسطاء تجد ذلك الحس الإنساني والمودة وروح الصداقة. وبطبيعة الحال تبقى هذه انطباعات شخصية لايمكن تعميمها أو التعامل معها كأحكام معيارية. والأسباب معروفة، فبالإضافة إلى الخلفية التاريخية والإيديولوجية القومية التي ذكرتها سابقا، هناك أيضا أحوال العرب المعاصرة، نحن نعيش وضع انكسار وتمزق وتبعية للقوى الغربية. فكيف سيحترمنا الآخرون؟
هل نجح النظام الإيراني في أسلمة المجتمع بعد أسلمة الدولة؟ هل هناك رواسب ثقافية تحول دون أسلمة المجتمع؟
سياسات الإكراه الديني التي انتهجتها الدولة في علاقتها بالمجتمع في بداية الثورة، والتي لازالت مصرة على جزء منها حتى اليوم، أدت إلى بروز جيل جديد من الشباب رافض لتلك السياسات، وأذكر أن سياحا إيرانيين زاروا المغرب سنة 2006، استغربوا كثيرا لوجود مظاهر تدين بارزة في المجتمع المغربي مثل الحجاب، على الرغم من أن الحكومة المغربية لا تفرض على النساء ارتداء أي نوع من اللباس.
الإيرانيون مثل المغاربة، يميلون عموما إلى التدين واحترام القيم المجتمعية والأخلاقية، لكن للأسف أخطاء ثورة 1979 القاتلة في المجال الديني والثقافي دفعت بجزء من المجتمع إلى التطلع نحو فضاءات سرية أو خارج البلاد لممارسة حرياته الدينية والثقافية، علما أن الإكراه أيضا طال مجموعات وأقليات ذات معتقدات مخالفة لمعتقد النظام الحاكم، مثل أهل السنة والزوايا الصوفية.
حاول الإصلاحيون تصحيح هذا الوضع لكنهم لم ينجحوا في ذلك، وجاء من بعدهم أحمدي نجاد الذي حاول بدوره أن يحرر المجال المجتمعي من قيود السلطة لكنه لم يستطع، والآن يحاول حسن روحاني أن يفعل نفس الشئ، علما أن الأجهزة الأمنية، بما فيها الشرطة الأخلاقية التي تراقب لباس النساء في الشوارع، كلها تابعة بشكل مباشر للمرشد علي خامنئي، ولايملك رئيس الجمهورية أي سلطة مباشرة عليها.
تثير قضايا الفساد المالي والاقتصادي جدلا كبيرا في إيران، ألا ترى أن آفة الفساد والإفلات من العقاب تعتبر عاملا آخر يساهم في تعميق الفجوة بين الدولة الإسلامية والمجتمع؟
مثل معظم الدول النامية تعاني إيران من تفشي الفساد المالي والاقتصادي، وترجع أسبابه في إيران إلى مسألتين أساسيتين هما: أولا ضعف وتخلف النظام البنكي والمالي. وثانيا: تفشي ثقافة الريع الاقتصادي، إذ تشكلت طبقة كبيرة من الوسطاء الذين يبيعون ولائهم للنظام مقابل الحصول على امتيازات اقتصادية ومالية ضخمة.
هناك أيضا ملاحظتان بارزتان بخصوص الفساد في إيران، أولهما أن النظام يقوم على إيديولوجية أخلاقية ويقدم نفسه كصاحب رسالة عالمية، في حين أن أغلب قضايا الفساد الكبرى التي تم الكشف عليها حتى الآن لها علاقة بشخصيات سياسية ودينية من داخل النظام الحاكم نفسه، وهذا التناقض يؤدي إلى فقدان الثقة في الدولة داخليا وخارجيا، وله تأثير أيضا على انسجام وتماسك جبهة النظام. الملاحظة الثانية هي أن المرشد علي خامنئي يعتبر أن أي فضح لقضايا الفساد هو إضعاف للنظام، وخدمة للأعداء، ما أعطى نوعا من الأمان للفاسدين، وأدى إلى ضمور ثقافة المحاسبة والمراقبة في الدولة. وقبل أسابيع أصدر خامنئي فتوى تحرم فضح قضايا الفساد إعلاميا وتناوله في نقاشات عمومية، مؤكدا أن الأصلح هو التبليغ عنها بشكل مباشر للأجهزة الحكومية المعنية.
حاوره نورالدين لشهب
http://hespress.com/interviews/92706.html
دعا رشيد يلوح، الباحث المغربي المتخصص في الشأن الإيراني، صناع القرار في المغرب وباقي الدول العربية إلى الاهتمام بالدراسات الإيرانية، وقال في حواره خاص مع جريدة هسبريس الإلكترونية: "إن ربط هذا التخصص بالتشيع وإيديولوجية الثورة الإسلامية أمر فيه الكثير من السذاجة ومخالف تماما للواقع" مضيفا أنه " من المستحيل أن نتجاهل ما يجري اليوم في العالم، ولكي نكون مؤثرين في المستقبل ينبغي لنا أن نعرف اتجاه حركة التاريخ".
واعتبر يلوح أن منع تدريس اللغة الفارسية في بعض الجامعات المغربية بعد قطع العلاقات الدبلوماسية المغربية مع إيران سنة 2009، "كان قرارا أمنيا متسرعا وخاطئاً بكل المقاييس".
كما تطرق الحوار مع الباحث المغربي، الذي عاش في إيران وحصل منها على شهادات جامعية في اللغة الفارسية وعمل في الصحافة بإيران، على مجمل القضايا التي تهم القارئ العربي عن دولة إيران حول القضايا التي تشغل المجتمع الإيراني، والخلافات الموجودة بين النخب السياسية والثقافية والدينية داخل إيران، وعن علاقة المجتمع بالدولة وسياسة "الإكراه" التي تنهجها الدولة من أجل "أسلمة المجتمع" وصعود نخبة من المثقفين داخل إيران تحمل الدولة المسؤولية في تعاطيها مع بعض القضايا العربية الخلافية، وتدعو إلى الحوار المنفتح مع العرب.. وأشياء أخرى تكتشفونها في ثنايا الحوار.
هل هناك من ضرورة للاهتمام بالشأن الإيراني؟ وما رأيك في أن يتناوله حوارنا من ثلاث زوايا: الدين والسياسة والثقافة؟
مرحبا أخي نور الدين، أشكرك على المبادرة، ومن خلالك أشكر جريدة "هسبريس" الإلكترونية وعموم القراء داخل المغرب وخارجه..
مرحبا أستاذ رشيد.. هل نحن بحاجة إلى معرفة بالشأن الإيراني؟
بالفعل نحن بحاجة إلى معرفة أعمق وأشمل في التعامل مع إيران، معرفة تتجاوز النظرة الإعلامية الرائجة اليوم. فالغرب، بخاصة الولايات المتحدة الأمريكية أسست أقساما ومراكز أبحاث متخصصة في الدراسات الإيرانية في معظم جامعاتها، وفي سنة 1950 كانت جامعة كولومبيا الأمريكية تمنح دكتوراه في الأدب الفارسي، بينما لازلنا نحن حتى اليوم مترددين في تدريس ألفباء هذه اللغة التي تشكل العربية ما يقارب نسبة 70 بالمئة من مفرداتها. وفي إسرائيل هناك حركة ثقافية إيرانية كبيرة تشمل ترجمة كتب في مواضيع مختلفة من الفارسية إلى العبرية، أما في أوربا فالاهتمام بالدراسات الإيرانية بلغ درجة كبيرة جدا تفوق حتى ما يتم تدريسه في الجامعات الإيرانية نفسها.
أرجو أن ينتبه صناع القرار في المغرب وباقي الدول العربية إلى أهمية الدراسات الإيرانية، فربط هذا التخصص بالتشيع وإيديولوجية الثورة الإسلامية أمر فيه الكثير من السذاجة ومخالف تماما للواقع. تاريخ إيران يمتد إلى آلاف السنين قبل الميلاد، وما نعرفه اليوم بمسمى الحضارة الفارسية ظهر بعد دخول الإسلام إلى إيران، المكتوب منه وصلنا بالحرف العربي واشترك العرب والفرس في إبداعه في ظل الدائرة الإسلامية الحضارية الكبرى، واستمرت إيران ضمن مناخ مذهبي سني متسامح لحوالي تسعة قرون، وهي التي المرحلة التي عرفت أوج الإبداع والإنتاج والتميز العلمي والثقافي، لتدخل بعد ذلك في مناخ شيعي مُضطرب مع الصفويين ومن جاء من بعدهم ابتداءً من سنة 1501م.
ولكي تفهم إيران لايكفي أن تتابع الأخبار وتكتفي ببعض الخلاصات النمطية. إن عناصر الدين والسياسة والثقافة والتاريخ حاضرة بقوة في سلوك إيران اليوم، الأمر يحتاج إلى مراكز أبحاث متخصصة، وإلى أقسام جامعية وجهود متراكمة من البحث العلمي الأكاديمي. وقد حزنت أشد الحزن، لما علمت بمنع تدريس اللغة الفارسية في بعض الجامعات المغربية بعد قطع العلاقات الديبلوماسية المغربية مع إيران سنة 2009، كان قرارا أمنيا متسرعا وخاطئاً بكل المقاييس، والجهة التي اتخذته ليس لديها للأسف أدنى اطلاع على اللغة الفارسية وآدابها، ولاعلى أبجديات العلوم السياسية والعلاقات الدولية. وبالمناسبة أُثمن خطوة كلية الآداب بجامعة محمد الخامس التي استدركت الأمر هذا العام وخصصت منصبا لأستاذ اللغة الفارسية. ونرجو أن تحذو باقي الجامعات المغربية حذوها. ولازال الأمل يحذونا مع كل الزملاء المغاربة المتخصصين في الدراسات الشرقية في تأسيس معهد وطني للدراسات الشرقية تعطى فيه الأهمية اللازمة للدراسات الإيرانية إلى جانب الدراسات العبرية والتركية والصينية وغيرها من بلدان شرق آسيا، في المقابل فتحت إيران عدة مراكز للدراسات العربية، أو مؤسسات للأبحاث في مذهب أهل السنة والجماعة، وقطعت شوطا مهما في الترجمة من العربية الفارسية، وقد سبق لي أن التقيت بباحثين إيرانيين يُنجزون دراسات ميدانية عن الأمازيغية في المغرب بدعم من جامعاتهم في طهران.
من المستحيل أن تتجاهل مايجري اليوم في العالم، ولكي تكون مؤثرا في المستقبل ينبغي لك أن تعرف اتجاه حركة التاريخ.
طيب، في الماضي وتحديدا مع الخميني كنا نسمع على أن إيران تريد أن تصدر الثورة الإسلامية إلى دول الجوار، واليوم نتابع عبر الإعلام وبعض مراكز البحث أن إيران تريد اختراق المجتمعات الإسلامية في طبعتها السنية عبر نشر المذهب الشيعي الإمامي، ما حقيقة هذا الكلام؟
بحسب الأدبيات التأسيسية للثورة الإسلامية، تعتبر الجمهورية الإسلامية الإيرانية دولة الإمام المهدي، إمام آخر الزمان، وأخبار هذا الإمام متوفرة في أحاديث وروايات مشتركة بين السنة والشيعة، علما أن المهدي عند السنة يختلف في بعض أوصافه وخصائصه عن المهدي عند الشيعة، لاسيما الإثناعشرية الذين يعتقدون بأنه لايزال حيا يرزق، وأن الله لم يأذن له بعد بالخروج. وانسجاما مع هذا المعتقد يؤمن النظام الإيراني بأن الجمهورية الإسلامية هي قاعدة الانطلاق لهذا الإمام في حربه الحاسمة مع أعدائه، وهم بالأساس أمريكا وإسرائيل وبعض الأنظمة العربية التي تعتبرها إيديولوجية الثورة وريثة للتراث الأموي المعادي لشيعة الإمام علي. وبحسب هذا المعتقد دائما يعتبر الإسلام الشيعي الإثناعشري هو النموذج الأكمل للإسلام النبوي الذي ينبغي للأمة أن تجتمع عليها. هذه هي الخلفية الإيديولوجية المعلنة في إيران هي التي حركت ولازالت تحرك كل جهود تصدير الثورة والتبليغ الشيعي خارج إيران، خاصة في البلدان ذات المذهب السني.
بدأت سياسات تصدير الثورة الإيرانية والتشيع الإثناعشري نحو البلدان العربية مع بداية ثمانينيات القرن الماضي، ويبدو أنها لازالت مستمرة لكن بأساليب وأشكال مختلفة، فيما قبل كانت هناك أساليب تقليدية مثل الكتب والزيارات والاتصالات المباشرة وغير ذلك، اليوم نرى هذه السياسات تتم عبر الفضائيات والانترنت واقتناص اللحظات التاريخية ونتائج موازين القوى الدولية، لذلك ترى إيران اليوم تسيطر على العراق ولها حضور قوي جدا في أفغانستان وتقتل أهل السنة في سوريا، وتعتبر حقوق وأوضاع الأقليات الشيعية في الخليج من صميم مصالحها القومية. وربما غدا عندما تتحقق المصالحة الإيرانية الأمريكية، سنكون أمام أشكال جديدة وغير مسبوقة من وسائل التبليغ الشيعي والإيديولوجي للثورة الإيرانية. وفي اعتقادي هذا أمر طبيعي جدا، فأنت لن تستطيع منع أي دولة في هذا العالم من الدفاع عن مصالحها القومية ونشر عقائدها وثقافتها، العالم سيكون غدا أقل حجما من عمارة صغيرة، لذلك ينبغي لصانع القرار العربي أن يفكر في كيفية مواجهة طموحات وتوسعات قوى هذا العالم. وهذا سيعيدني إلى ما قلته سابقا من أن المطلوب اليوم والآن هو فتح الواجهة العلمية والبحثية في التعامل مع إيران وطموحاتها التوسعية في المنطقة العربية، نريد أن نفتح هذه الواجهة لنعرف أولا ماهي إيران تاريخا ولغة وثقافة وأدبا ومجتمعا وعقائد. وثانيا لكي نستطيع التواصل مع النخب الإيرانية المُثقفة والمُجددة في كل مجالات المعرفة، بما فيها علوم المذهب الشيعي ونظرياته، هؤلاء يشكلون قطاعا واسعا داخل إيران اليوم، الكثير منهم يعارضون السياسات التوسعية الإيديولوجية والمذهبية لنظام الجمهورية الإسلامية. وهؤلاء وكثير غيرهم من باقي التيارات والنخب لديهم للأسف نظرة سلبية تجاه العرب، ومن واجبنا تصحيح صورتنا لديهم. أوضح هنا أنني لاأقصد بالعرب في هذا الحور العرق أو الانتماء الإيديولوجي القومي، بل العرب بالمفهوم الحضاري ويشمل طبعا كل من تكلم العربية بمن فيهم الإيرانيون العرب الذين يعانون إلى حد ما التهميش والإساءة بسبب انتماءهم الثقافي العربي.
وباعتقادي لاينبغي تضخيم موضوع تصدير الثورة والتشيع نحو البلدان العربية، الأمور ليست بهذه البساطة، أنا وزوجتي درسنا معا لما يقارب أربع سنوات في إيران ولم نتشيع، وهناك الكثير من زملائي المغاربة والعرب وغير العرب الذين درسوا معي لم يتشيعوا، بل منهم من أصبح سنيا مُتشددا. وهناك من كانت لديه ميولات نحو التشيع فلما عاش في إيران راجع أفكاره، وهناك من ذهب متشيعا فرجع سنيا، وهناك من لم يزر إيران قط فتشيع، وهناك من كان شيعيا فبقي على معتقده. قضايا العقائد والأفكار لاتعالج بالتصورات القانونية والأمنية والسياسية، هذه تحتاج إلى ساحات العلم والفكر والمناظرة، وإلى خبرائها من العلماء والباحثين.
هل جل شيعة العالم يناصرون الموقف الإيراني من الصراع الدائر في سوريا ؟
ليس جل الشيعة، هناك من الشيعة من يرفض تدخل حزب الله وإيران في سورية، هؤلاء يرون بأن الطائفة العلوية والشيعة غير مستهدفين، ويعتقدون أن المعركة فعلا هي بين نظام مستبد يستغل الطائفية وشعب مظلوم يطالب بحريته وكرامته.
لكن الموقف الإيراني من مناصرة النظام في سوريا يراه جل الشيعة مناصرة للمقاومة والممانعة..!
كما أشرت سابقا، إيران ترى في المنطقة العربية مجالها الحيوي، وهي المسرح المتوقع لمعركة الإمام المهدي مع أعدائه، لذلك فالسيطرة على هذا المجال هو من أهداف إيديولوجية الثورة الإسلامية البعيدة المدى، وقد صرح أحد كبار شخصيات الحرس الثوري بأن الحرب في سورية هي حرب من أجل ولاية الفقيه، وصرح ضباط وقادة وخطباء في مواقف أخرى بأن الجهاد في سورية هو ضد اليزيديين (نسبة للخليفة الأموي يزيد بن معاوية الذي قتل الحسين بن علي حفيد الرسول "ص")، وقد انتشر في إيران سنة 2011 قرص مدمج بعنوان "ظهور المهدي قريب جدا" وتم توزيع ملايين النسخ منه داخل إيران، ويتحدث عن قرب خروج الإمام المهدي، وحاول أصحابه تنزيل الروايات الشيعية والسنية على شخصيات سياسية وحكام عرب في المنطقة، وتم تصوير المشهد كله على أن إيران ستكون في صف الإمام المهدي ضد السفياني والدجال وأنصارهما (السعودية والأردن والمغرب..).
إذن أنت أمام حرب عقدية تتلبس بلبوس إيديولوجي وتأخذ تجليات متعددة، والعكس أيضا صحيح، أنها حرب إيديولوجية وصراع مصالح قومية وتأخذ لباسا عقديا وطائفيا. وكلا التفسيرين يكمل بعضهما بعضا، المصالح القومية والعقائد، وكلاهما يعني تهديدا جديا لأمن واستقرار الدول العربية، وكلاهما أيضا يؤكد أن حقيقة مايجري هي أكبر بكثير من قصة محور ممانعة ومحور اعتدال. ففي حال حدوث مصالحة أميركية إيرانية سيرتفع تماما هذا الاصطفاف، وقد نكون أمام اصطفاف جديد، لكن النواة الصلبة للصراع وأهدافه الكبرى وبعيدة المدى ستبقى، أي المصالح القومية والعقائد.
هل شكل وصول حسن روحاني إلى منصب الرئاسة في إيران عاملا في تقارب إيران مع الغرب؟ وهل يملك الرئيس الجديد القرار الحاسم في هذا التقارب؟
إن قراءة وتحليل خريطة الصراع الانتخابي الرئاسي الأخير تؤكد بوضوح أن مرشد الثورة علي خامنئي كان يُرتب الوضع لفوز حسن روحاني، لأن المرحلة الحالية بحاجة فعلا إلى مثل شخصية وتجربة روحاني. فالوضع الاقتصادي المتدهور بفعل العقوبات الاقتصادية الغربية وسياسات أحمدي نجاد الفاشلة، إضافة إلى ضعف الحليف السوري المهدد بالسقوط، يفرض إيجاد مخرج توافقي مع أميركا يجنب إيران مصير الاتحاد السوفياتي أو العراق. وفي هذا السياق أطلق خامنئي شعار (المرونة البطولية)، وهو في الأصل عنوان كتاب ترجمه خامنئي سنة 1969 من العربية إلى الفارسية، ومضمونه يُمَجد موقف الإمام الحسن بن علي حفيد الرسول (ص) الذي لجأ إلى الصلح مع والي الشام معاوية بن أبي سفيان حفاظا على استمرار دولة الإسلام واستقرار أحوال المسلمين. (لاحظ أن السلوك السياسي الإيراني يحيلك دائما على التاريخ والدين والثقافة..).
وبناءًا على ما سبق، يتبين أن قرار التقارب مع الأمريكيين ليس قرار روحاني فحسب، بل هو رغبة أيضا عند خامنئي وباقي القوى المؤثرة في نظام الحكم مثل الحرس الثوري والبرلمان والحوزة الدينية، فبخلاف عهد رفسنجاني وخاتمي ونجاد، يعرف عهد روحاني ما يشبه إجماعا داخل النظام على فتح باب المفاوضات مع الأميركيين بهدف التقارب وتجاوز جروح الماضي، أما على مستوى النخب والقوى والتيارات السياسية المؤيدة للنظام والمعارضة له، فيوجد أيضا هذا النوع من الإجماع، باستثناء بعض الأصوات المتشددة وغير المؤثرة التي تحذر أو تعارض تماما التقارب مع الأمريكيين. فالإيرانيون بجميع توجهاتهم الإيديولوجية وأديانهم ومذاهبهم يرفضون أن يكون مصير بلادهم هو مصير العراق أو ليبيا أو سوريا. وهذه خاصية ثقافية نفسية ترتبط بالشخصية الإيرانية التي تتوحد بسرعة وتنسى خلافاتها كلما شعرت بالخطر الخارجي. ما سبق ذكره يرجح أن تسير الجهود التقاربية الإيرانية الأميركية في الاتجاه الإيجابي، لاسيما أن الأميركيين أنفسهم لديهم رغبة في إنجاح هذا التقارب.
هناك من يرى أن التقارب بين إيران وأمريكا سيؤثر على المنطقة العربية وعلى الصراع داخل سوريا..؟
العلاقات بين الدول تحكمها المصالح، وتبعا لهذه القاعدة الخطيرة تتغير موازين القوى وتتبدل التحالفات، لذلك على الدول العربية أن تتوقع كل شئ وتستعد لكل شئ، فمن المرجح أن يكون التقارب بين الأمريكيين والإيرانيين على حساب المصالح العربية، فما يظهر إعلاميا من الصراع والعداء بين أمريكا وإيران يخفي وراءه حقائق كبيرة من العلاقات الاجتماعية والثقافية والإنسانية العميقة بينهما، فيكفي أن نعلم أن أكبر جالية إيرانية بالخارج توجد في أمريكا، ويتجاوز حجمها مليون نسمة، وفي أمريكا يعيش 8000 آلاف طبيب إيراني، 5000 منهم هم خريجو جامعات إيرانية، وبحسب إحصاءات أمريكية رسمية يصنف الإيرانيون كأول مجموعة مهاجرة ناجحة تعليميا واقتصاديا في الولايات المتحدة، وسنويا يخصص الرئيس الأمريكي خطابا تهنئة بمناسبة عيد النوروز الإيراني موجه للشعب الإيراني، والنوروز عيد معترف به رسميا في أمريكا.
أضيف إلى ما سبق أن تاريخ التعاون بين الإيرانيين والأمريكيين مليء بالمفاوضات السرية والتفاهمات والصفقات، وأشهرها على الإطلاق فضيحة (أيران كونترا) في ثمانينيات القرن الماضي، والتعاون بين الطرفين على احتلال العراق وأفغانستان بداية هذا القرن. هذه ليست نظرية مؤامرة، لأن الطرفين الإيراني والأمريكي يسمونها نظرية المصالح المشتركة، والتي برأيي ستمضي إلى أبعد حدودها.
ننتقل الآن إلى الجانب الفكري الثقافي. كثيرا ما نسمع عن وجود تشيع علوي وتشيع صفوي، ولعل المفكر الإيراني علي شريعتي فصل في الموضوع، هل لا يزال هذا الصراع قائما داخل إيران؟
نعم، هذا الصراع لايزال قائما، وطرفاه من جهة نخبة دينية وثقافية مُجَدِّدة، ومن جهة أخرى السلطة الدينية الحاكمة ويمثلها ولي الفقيه مرشد الثورة والمؤسسات الثقافية والدينية المرتبطة به. صراع بين مدرستين، الأولى تدعو إلى تجاوز التشيع الصفوي بكل حمولاته التاريخية والفقهية غير الملزمة للإنسان الشيعى، والتركيز في المقابل على التشيع العلوي أو التشيع الذاتي بأصوله وقيمه. بينما الثانية تتمسك بالتراث الشيعي التاريخي وتعتبره من صلب المدرسة، وأي إعادة للنظر في هذا التراث ستشكل تهديدا لإيديولوجية الثورة ونظرية ولي الفقيه التي يرون فيها عمود خيمة النظام.
وقد أخذ الصراع بين الموقفين تجليات سياسية وإيديولوجية واجتماعية، وأنا أرى فيه تحولا تاريخيا يمكن أن يخرج المؤسسة الدينية الشيعية من التبعية للعامة والجماهير، ويعيد زمامها إلى النخبة والعلماء، لكن سلبية هذا التحول هي في احتمال سقوط العالم الشيعي في حضن السلطان، وقد برز هذا الخطر بقوة مع نظام الجمهورية الإسلامية، لاسيما في عهد المرشد خامنئي الذي عمل منذ سنوات على تجريد الحوزات الدينية والمراجع الفقهية من استقلالهم، ومحاربة كل من يرفض تقديم ولاء السمع والطاعة لولي الفقيه.
وإذا لاحظت فإن التحول نفسه موجود في مدرسة أهل السنة والجماعة، لكنه يسير بشكل عكسي، فنحن نرصد حركة بطيئة تقود علماء ومفكري المذهب السني إلى المجال العام وإلى عالم الجماهير، بعد أن ظل هؤلاء لقرون في حضن السلطان، فأنت الآن ترى علماء يخاطبون الجماهير في موضوع ضرورة شرعية الحاكم، وضرورة التغيير، وحق الناس في اختيار حكامهم، وحقهم في العيش الكريم. لكن سلبية هذا التحول بدوره هي في احتمال سقوط العالم السني في التبعية للعامة والجري وراء إرضاء أذواق الجماهير وميولاتهم، مما سيسقطه في مصير العالم الشيعي. وبالمناسبة، تذكر معي جواب وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربي أحمد توفيق أمام البرلمان بخصوص قضية طرد خطيب الجمعة الذي استنكر مايجري في مهرجان موازين. وزير الأوقاف احتج بأن الموقف الديني سيحسمه الجمهور في النهاية، ولهذا الأخير الحق في رفض أو قبول المهرجان. هكذا يتعامل معظم علماء الشيعة مع جمهورهم.
وماذا عن الشعوبية بين الفرس والعرب، ألا تزال هذه النزعة قائمة إلى حدود الآن؟
العنصرية أو الشعوبية بحسب المصطلح القديم، هي من الأمراض التي أصابت الانجماع والتداخل الحضاري الذي حدث بين العرب والفرس بعد الإسلام، وللأسف ازدادت حدة هذا الشرخ في نهاية القرن 19 وبداية القرن العشرين بعد ظهور مفهوم الدولة القومية، وانتشار العنصرية العرقية، سوءًا عند العرب أو الفرس، بالنسبة لأتباع المذهب السني لم تستطع مشاعر العنصرية تجاه الفرس أن تجد لها تربة خصبة بينهم باعتبار طبيعة المذهب الذي يحترم كل الخلفاء الراشدين، ويعطي أهمية خاصة لأهل البيت النبوي. لكن عند الفرس حدث ما يشبه تحالفا بين الأفكار القومية الفارسية وعقيدة المذهب الشيعي الإثناعشري، وهي الخلطة التي وجدت جذورها في العهد الصفوي قبل حوالي 500 عام. وقد سيطرت هذه الخلطة الإيديولوجية الدينية بدرجات متفاوتة على تفكير النخب العلمية والثقافية والسياسية والدينية في إيران. ومن أخطاء الثورة الإسلامية أنها لم تستطع التخلص من هذا الداء العضال، بل عززته بشكل أو آخر في سياساتها ومواقفها تجاه العرب، وهذا ما حذر منه المفكر علي شريعتي قبيل الثورة عندما دعا إلى التشيع العلوي ونصح بترك التشيع الصفوي لأنه تشيع أبعد الإيرانيين عن جوهر إسلام أهل البيت، وهو إسلام متسامح وإنساني ومبدئي. وليس ذلك فحسب، بل عزل التشيع الصفوي الإيرانيين عن العالم الإسلامي، وحتى عن محيطهم الإقليمي. فإيران حتى اليوم لم تستطع تحقيق حد أدنى من التوافق الثقافي حتى مع جيرانها الذين تتقاسم معهم اللغة والتاريخ مثل طاجكستان وأفغانستان.
جزء مهم من النخبة الإيرانية يدرك أن هناك أزمة هوية داخل إيران، وقد أنجزت دراسات وألفت كتب في هذا الإطار. الباحث والمحلل صادق زيبا كلام من الذين تجرؤوا بدعوة المجتمع والنخبة بشقيها الديني والقومي إلى مراجعة مواقفهم من العرب، معتبرا العنصرية والاستعلاء على الشعوب العربية داءٌ ينبغي التخلص منه. عالم الاجتماع الإيراني محمد برقعي بدوره دعا الإيرانيين إلى التخلص من النظرة الاستعلائية إلى العرب. الباحث الإيراني ناصر بوربيرار تناول هذا الداء من زاوية بحثية علمية ثم استنتج أن مايفتخر به الإيرانيون من أمجاد قبل الإسلام هو مجرد أوهام وأساطير لاتقوم عليها أية أدلة أو براهين علمية معتبرة. وبالمناسبة هذا الباحث تعرض لمضايقات أمنية وتهديدات ومتابعات قضائية جراء موقفه العلمي الجرئ وهو الآن قيد الإقامة الجبرية في طهران. وهذا يعني أن في إيران اليوم وعيا بهذا العطب. وهنا أعود إلى ضرورة حضور المثقفين والمتخصصين العرب لأداء دورهم في مخاطبة الشعب والنخبة الإيرانية وتصحيح ما يروج عندهم من أوهام وصور غير صحيحة عن الإنسان العربي.
أنت عشت في طهران لسنوات، اشتغلت هناك بالصحافة وحصلت على ماجستير في اللغة والأدب الفارسي أواخر سنة 2003، هل كنت تشعر بالنظرة الاستعلائية من لدن الإيرانيين؟
الشعب الإيراني مثل كل شعوب العالم لديه إيجابيات وسلبياته، من إيجابياته التي لمستها من خلال معايشتي له أنه شعب ذكي ونشط، وصاحب ذوق وثقافة، ولديه اعتداد كبير بنفسه وقدراته، لكن للأسف الظروف التاريخية والسياسية التي مر منها تركت آثارا على نخبه الثقافية والسياسية والدينية. فمن خلال تجربتي الشخصية لاحظت أنني كلما اقتربت من تلك النخب في حوارات أو تعاملات لمست وجود ذلك الحس الاستعلائي والنظرة الدونية إلى العرب، لاسيما أهل السنة، بينما كلما اقتربت من المجتمع والناس البسطاء تجد ذلك الحس الإنساني والمودة وروح الصداقة. وبطبيعة الحال تبقى هذه انطباعات شخصية لايمكن تعميمها أو التعامل معها كأحكام معيارية. والأسباب معروفة، فبالإضافة إلى الخلفية التاريخية والإيديولوجية القومية التي ذكرتها سابقا، هناك أيضا أحوال العرب المعاصرة، نحن نعيش وضع انكسار وتمزق وتبعية للقوى الغربية. فكيف سيحترمنا الآخرون؟
هل نجح النظام الإيراني في أسلمة المجتمع بعد أسلمة الدولة؟ هل هناك رواسب ثقافية تحول دون أسلمة المجتمع؟
سياسات الإكراه الديني التي انتهجتها الدولة في علاقتها بالمجتمع في بداية الثورة، والتي لازالت مصرة على جزء منها حتى اليوم، أدت إلى بروز جيل جديد من الشباب رافض لتلك السياسات، وأذكر أن سياحا إيرانيين زاروا المغرب سنة 2006، استغربوا كثيرا لوجود مظاهر تدين بارزة في المجتمع المغربي مثل الحجاب، على الرغم من أن الحكومة المغربية لا تفرض على النساء ارتداء أي نوع من اللباس.
الإيرانيون مثل المغاربة، يميلون عموما إلى التدين واحترام القيم المجتمعية والأخلاقية، لكن للأسف أخطاء ثورة 1979 القاتلة في المجال الديني والثقافي دفعت بجزء من المجتمع إلى التطلع نحو فضاءات سرية أو خارج البلاد لممارسة حرياته الدينية والثقافية، علما أن الإكراه أيضا طال مجموعات وأقليات ذات معتقدات مخالفة لمعتقد النظام الحاكم، مثل أهل السنة والزوايا الصوفية.
حاول الإصلاحيون تصحيح هذا الوضع لكنهم لم ينجحوا في ذلك، وجاء من بعدهم أحمدي نجاد الذي حاول بدوره أن يحرر المجال المجتمعي من قيود السلطة لكنه لم يستطع، والآن يحاول حسن روحاني أن يفعل نفس الشئ، علما أن الأجهزة الأمنية، بما فيها الشرطة الأخلاقية التي تراقب لباس النساء في الشوارع، كلها تابعة بشكل مباشر للمرشد علي خامنئي، ولايملك رئيس الجمهورية أي سلطة مباشرة عليها.
تثير قضايا الفساد المالي والاقتصادي جدلا كبيرا في إيران، ألا ترى أن آفة الفساد والإفلات من العقاب تعتبر عاملا آخر يساهم في تعميق الفجوة بين الدولة الإسلامية والمجتمع؟
مثل معظم الدول النامية تعاني إيران من تفشي الفساد المالي والاقتصادي، وترجع أسبابه في إيران إلى مسألتين أساسيتين هما: أولا ضعف وتخلف النظام البنكي والمالي. وثانيا: تفشي ثقافة الريع الاقتصادي، إذ تشكلت طبقة كبيرة من الوسطاء الذين يبيعون ولائهم للنظام مقابل الحصول على امتيازات اقتصادية ومالية ضخمة.
هناك أيضا ملاحظتان بارزتان بخصوص الفساد في إيران، أولهما أن النظام يقوم على إيديولوجية أخلاقية ويقدم نفسه كصاحب رسالة عالمية، في حين أن أغلب قضايا الفساد الكبرى التي تم الكشف عليها حتى الآن لها علاقة بشخصيات سياسية ودينية من داخل النظام الحاكم نفسه، وهذا التناقض يؤدي إلى فقدان الثقة في الدولة داخليا وخارجيا، وله تأثير أيضا على انسجام وتماسك جبهة النظام. الملاحظة الثانية هي أن المرشد علي خامنئي يعتبر أن أي فضح لقضايا الفساد هو إضعاف للنظام، وخدمة للأعداء، ما أعطى نوعا من الأمان للفاسدين، وأدى إلى ضمور ثقافة المحاسبة والمراقبة في الدولة. وقبل أسابيع أصدر خامنئي فتوى تحرم فضح قضايا الفساد إعلاميا وتناوله في نقاشات عمومية، مؤكدا أن الأصلح هو التبليغ عنها بشكل مباشر للأجهزة الحكومية المعنية.
حاوره نورالدين لشهب
http://hespress.com/interviews/92706.html