أهل الذمه ما لهم و ما عليهم .. بحث ممتاز جدا

عبدَ الله

<b><font color="#FF00FF">فرسان النهار</font></b>
إنضم
5 يناير 2008
المشاركات
559
التفاعل
6 0 0
أهل الذمة... ما لهم وما عليهم
كتبه/ فوزي عبد الله

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،

تعريف أهل الذمة:

الأهل: معناه أصحاب.

الذمة: بالكسر، معناها: العهد، رجل ذمي: معناه رجل له عهد.

وفي التنزيل العزيز: ﴿لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً﴾ [التوبة:10]. قال: الذمة: العهد، والإل: الحـِلـْف.

وللذمة معان أخرى كثيرة منها: الأمان والكفالة أو الضمان والحرمة والحق والعقد.

فأهل الذمة مركب إضافي معناه: من يعقد معهم عقد العهد والضمان والأمان وهم الذين يؤدون الجزية من المشركين كلهم. انظر مختار الصحاح ص223، وتاج العروس ج8 ص301 مادة ذمم، ولسان العرب ج2 ص221، 222.

تعريفه اصطلاحا:

لقد عرف فقهاء المسلمين أهل الذمة أو الذمي بتعريفات متعددة منها:

الأول: ما عرفه ابن جُزَيّ المالكي في القوانين الفقهية ص104 بقوله عن الذمي: "كافر حر بالغ ذكر قادر على أداء الجزية، يجوز إقراره على دينه، ليس بمجنون مغلوب على عقله، ولا بمترهب منقطع في ديره".

الثاني: ما عرفه الإمام الغزَّالي كما في الوجيز (ج2/198): "هو كل كتابي عاقل بالغ حر ذكر متأهب للقتال قادر على أداء الجزية".

الثالث: ما لخصه الشيخ العُنقَري في حاشيته على الروض المربع (ج2/25) من تعريف الذمي: "من استوطن دارنا بالجزية".

من خلال التعريفات المذكورة يتبين لنا أن الذمي هو: كل كافر بالغ عاقل حر ذكر ممن يقيم في دار الإسلام قادر يجوز إقراره على دينه بالجزية". أو "إقرار بعض الكفار على كفرهم ببذل الجزية والتزام أحكام الملة".

الحكمة من مشروعية عقد الذمة:

- أما الحكمة من مشروعية عقد الذمة فأهمها:

أن يترك الحربي القتال مع احتمال اعتناقه الإسلام مختارا. وذلك بعد مخالطته للمسلمين واطلاعه على محاسن الإسلام وخصائص شرائعه، وليس المقصود من عقد الذمة تحصيل المال عن طريق الجزية.

من تعقد له الذمة ومن لا تعقد له:

تعقد الذمة على العموم لغير المسلمين الذين يريدون أن يقيموا بدار الإسلام سواء كانوا يعيشون مع المسلمين أم هم مستقلون في أماكنهم بعيدون عن المسلمين، وهم ينقسمون بناء على اختلاف الفقهاء إلى ثلاث طوائف:

الطائفة الأولى: من تعقد له الذمة إجماعا بدون خلاف، وهم:

أهل الكتاب من اليهود والنصارى والمجوس:

وهؤلاء يجوز عقد الذمة لهم بلا خلاف بين الفقهاء، وذلك لأن أهل الكتاب قد صرحت آية الجزية في جواز عقد الذمة لهم كما في قوله -تعالى-: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآَخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ [التوبة:29]، أما المجوس فقد ثبت لهم جواز عقد الذمة بالسنة القولية والفعلية. فقد ثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه أخذ من مجوس هجر الجزية. كما في البخاري برقم 3157.

وأخذ الجزية من المجوس لا لأنهم أهل كتاب أو لأنهم لهم شبهة كتاب فإن هذا مما لم يصح به دليل؛ وإنما هذا لثبوت أخذها منهم بالسنة كما مر.

الطائفة الثانية: من لا تعقد لهم الذمة إجماعاً بلا خلاف وهم:

المرتدون وهؤلاء لا يجوز عقد الذمة لهم إجماعاً وذلك للأسباب الآتية:

1- قوله -تعالى-: ﴿تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ﴾ [الفتح:16]، فهذه الآية نزلت في أهل الردة من بني حنيفة. بدائع الصنائع ج9/375.

2- قوله -صلى الله عليه وسلم-: (من بدل دينه فاقتلوه) رواه البخاري، فهم ليسوا على دين يقرون عليه وبذلك أجمع أهل العلم على وجوب قتل المرتد، وإن اختلفوا في وجوب الاستتابة قبل قتله، وعقد الذمة يتنافى مع وجوب القتل؛ لأن الذمة تفيد العصمة لصاحبها والمرتد يستحق القتل، إذن فلا يجوز عقد الذمة له.

الطائفة الثالثة: المشركون وهم عبدة الأوثان والأصنام والملحدون غير المرتدين:

وهؤلاء اختلف فيهم الفقهاء على ثلاثة أقوال:

القول الأول:

لا يجوز عقد الذمة وأخذ الجزية من غير أهل الكتاب والمجوس عربا كانوا أو عجما، والقائل به: الشافعية والحنابلة والظاهرية -رحم الله الجميع-.

واستدلوا بما يلي:

1- قوله -تعالى-: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ [التوبة:5].

2- قوله -صلى الله عليه وسلم-: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله) متفق عليه.

وجه الاستدلال: أن الآية والحديث يدلان على أن القتال واجب إلا من استثني بجواز تركه حيث استثني من ذلك أهل الكتاب بآية الجزية، والمجوس بالسنة النبوية.

وأما من عداهم من غير المسلمين فإنه داخل في عموم الآية والحديث فلا يجوز عقد الذمة لهم.

ونوقش الاستدلال:

أولا: بأن الآية الكريمة التي فيها: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ والآيات التي قبلها في سورة التوبة، إنما نزلت قبل آية الجزية في السورة نفسها. انظر فتح الباري ج1/ 97 دار الحديث.

فإنه قبل نزول آية الجزية كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يقاتل المشركين من العرب والعجم وأهل الكتاب ولم يأخذ منهم الجزية، ثم نزلت آية الجزية فأخذها من أهل نجران وهم نصارى العرب، كما أخذها من المجوس وليسوا هم أهل كتاب، فأخذها من المجوس يعد التفسير العملي أو الخطوة التطبيقية لمراد آية الجزية، وهذا دليل على جواز أخذها من جميع المشركين إذ لا يخص مراد الآية أهل الكتاب فقط، وعلى هذا فلا يكون ذكر أهل الكتاب فيها دليلا على حصر الآية بجواز عقد الذمة لهم دون غيرهم.

ثانيا: يجوز حمل الحديث على أنه قبل نزول آية الجزية، كما يجوز حمله أيضا على أن المقصود بالقتال هو القتال أو ما يقوم مقامه من جزية أو غيرها، وقال بعضهم: يحمل الحديث على مشركي العرب فقط.

ومع هذه الاحتمالات في مدلول هذا الحديث لا يبقى حجة للمستدلين به على عدم جواز عقد الذمة لغير أهل الكتاب. انظر فتح الباري ج1/97 دار الحديث.

القول الثاني: يجوز عقد الذمة لجميع المشركين إلا عبدة الأوثان من العرب:

القائل به: الحنفية وأحد قولي أحمد. انظر المغني 12/764، البدائع 9/374.

واستدلوا: بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخذ الجزية من المجوس، وعقد لهم الذمة مع أنهم ليسوا أهل كتاب، فدل على جواز عقدها لجميع المشركين عدا عبدة الأوثان من العرب؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف.

ولأن قوله -تعالى-: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ نزلت في عبدة الأوثان من العرب دون غيرهم؛ ولأن كفرهم قد تغلظ فلا يجوز عقد الذمة لهم.

ونوقش استدلالهم:

1- أن عدم ثبوت أخذ الجزية من عبدة الأوثان من العرب لا يدل على عدم قبول الجزية منهم؛ لأن آية الجزية إنما نزلت عام تبوك في السنة التاسعة من الهجرة بعد أن أسلمت جزيرة العرب ولم يبق بها أحد من عبدة الأوثان، ولو بقي منهم أحد تقبل منه الجزية كما تقبل من المجوس والنصارى من العرب. أحكام أهل الذمة 1/16.

2- أنه لا فرق بين شدة كفر بعض الطوائف وبين غيره في الحكم، وبالتالي فإن كفر المجوس أغلظ من كفر عبدة الأوثان من العرب؛ لأنهم يقرون بتوحيد الربوبية بخلاف المجوس. انظر زاد المعاد 3/224.

القول الثالث:

يجوز عقد الذمة لجميع المشركين بلا استثناء:

القائل به: الأوزاعي ومالك واختاره ابن تيمية وابن القيم -رحم الله الجميع-.

واستدلوا:

1- حديث بريدة -رضي الله عنه- وفيه: (وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال... ومنها: فإن هم أبوا فسلهم الجزية فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم..) رواه مسلم، فهذا الحديث كان بعد نزول آية الجزية بدليل استمرار حكمه بعد عصره -صلى الله عليه وسلم- وكان يشمل بعمومه جميع أصناف المشركين، لأن قوله -صلى الله عليه وسلم-: (عدوك من المشركين) عام يشمل مشركي العرب وغيرهم، وحمله على أهل الكتاب فقط في غاية البعد. سبل السلام 4/61 وبعدها.

يقول البغوي في شرح السنة (11/9): "فظاهره يوجب قبول الجزية من كل مشرك كتابي أو غير كتابي".

ويقول ابن القيم -رحمه الله- في أحكام أهل الذمة (1/15): "إن الجزية تؤخذ من كل كافر هذا ظاهر الحديث، ولم يستثن منه كافرا من كافر، ولا يقال: هذا مخصوص بأهل الكتاب فإن اللفظ يأبى اختصاصهم بأهل الكتاب". وقال أيضا (1/15): "تؤخذ من أهل الكتاب بالقرآن ومن عموم الكفار بالسنة".

2- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد كتب إلى أهل هجر وإلى المنذر بن ساوى -أمير البحرين- وإلى ملوك الطوائف يدعوهم إلى الإسلام أو الجزية، ولم يفرق بين عربي وغيره. زاد المعاد 3/2124.

3- أن عدم جواز عقد الذمة لبعض أصناف المشركين يعد إكراها لهم على تبديل عقيدتهم وإرغامهم على الدخول في الإسلام كرها، وهذا يخالف ما جاء في الشرع الإسلامي، قال -تعالى-: ﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ [البقرة:256].

الراجح:

وهكذا يتضح مما سبق من خلال عرض الأقوال وأدلة كل قول، رجحان القول الثالث القاضي بجواز عقد الذمة لجميع المشركين بدون استثناء. انظر للاستزادة: المغني مع الشرح الكبير (12/756) وبعدها، الشرح الممتع (8/60) وبعدها. أحكام أهل الذمة لابن القيم (1/15) وبعدها، أثر اختلاف الدارين في المعاملات والمناكحات ص122 وغيرها.

أهل الذمة ما لهم -"حقوق الذميين"-

جاء في بعض الآثار عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: "إنما قبلوا عقد الذمة لتكون أموالهم كأموالنا ودماؤهم كدمائنا" روى مثله الدارقطني.

بعد عقد الذمة للكفار يلزم المسلمين الكف عنهم نفسا ومالا، فليس لهم أن يؤذوهم في شيء من ذلك وعلى المسلمين خلاص من أسر من أهل الذمة واسترجاع ما أخذ من أموالهم؛ لأن المسلمين منوط بهم حماية أهل الذمة والذب عنهم ودفع ما يحيق بهم من ضرر أو شر عدوان.

ويلزم المسلمين أن يضمنوا ما أتلفوه على أهل الذمة سواء كان المتلـَفُ نفسا أو مالا، أي: يضمنه المتلـِف من المسلمين مثلما يضمن مال المسلم نفسه وهو ما لا خلاف فيه.

ويلزم المسلمين أن يدفعوا عنهم أهل الحرب وغيرهم إذا كانوا أهل الذمة في بلاد المسلمين؛ لأنه لابد من الذب عن الدار ومنع الكفار من طروقها، وكذلك لو انفرد ببلد مجاور لدار الإسلام فإنه يلزم الذب عنهم إن أمكن إلحاقا لهم بأهل الإسلام في العصمة والصيانة.

قال في المغني (12/228): "وإذا عقد الذمة فعليه حمايتهم من المسلمين وأهل الحرب أو أهل الذمة؛ لأنه التزم بالعهد حفظهم... ولهذا علي -رضي الله عنه-: "إنما بذلوا الجزية لتكون أموالهم كأموالنا ودماؤهم كدمائنا".

وقال عمر -رضي الله عنه- في وصيته للخليفة بعده: "وأوصيه بذمة الله وذمة رسوله -صلى الله عليه وسلم- أن يوفي لهم بعهدهم وأن يقاتل من ورائهم، ولا يكلفوا إلا طاقتهم" رواه البخاري.

قال في دليل الطالب -للشيخ يوسف بن مرعي مع المنار-: "ويحرم قتال أهل الذمة وأخذ أموالهم ويجب على الإمام حفظهم ومنع من يؤذيهم" أهـ. منار السبيل 1/328.

فلهم الحقوق العامة وهي الحقوق اللازمة للإنسان، والتي لا يمكن الاستغناء عنها وهذه الحقوق مقررة لحماية الشخص في نفسه وحريته وماله كالحق في الاعتقاد وحرمة المسكن والتنقل وغيرها.

وقد وردت جملة من الأحاديث النبوية في حماية أهل الذمة ودفع الظلم عنهم وتوفير الحرية الشخصية لهم ومنها:

1- فعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاما) رواه البخاري.

2- ثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (ألا من ظلم معاهدا أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفسه فأنا حجيجه يوم القيامة) رواه أبو داود، وصححه الألباني.

3- عن أبي بكرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من قتل نفسا معاهدة بغير حلها حرم الله عليه الجنة أن يشم ريحها) رواه النسائي، وصححه الألباني.

4- عن رجل من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (من قتل رجلا من أهل الذمة لم يجد ريح الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما) رواه النسائي، وصححه الألباني.

5- عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من قتل قتيلا من أهل الذمة لم يجد ريح الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما) رواه النسائي، وصححه الألباني.

6- وعن أبي بكرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من قتل نفس معاهدة بغير حقها لم يرح رائحة الجنة وإن ريح الجنة ليوجد من مسيرة مائة عام) رواه ابن حبان في صحيحه، وصححه الألباني.

7- قال -صلى الله عليه وسلم-: (من قتل معاهدا في غير كُنـْهِهِ حرم الله عليه الجنة) رواه أبو داود والنسائي، وصححه الألباني.

قوله: (في غير كنهه) قال في عون المعبود: "قال في النهاية: كنه الأمر حقيقته، وقيل: وقته وقدره، وقيل: غايته، يعني من قتله في غير وقته أو غاية أمره الذي يجوز فيه قتله. انتهى، وقال العلقمي: "أي: في غير وقته أو غاية أمره الذي يجوز فيه مثله" أهـ. من عون المعبود 5/194.

قال العلامة السفاريني: "في غير كنهه: أي وقته الذي لا يجوز قتله فيه حين لا عهد له" أهـ.

ففي هذه الأحاديث وغيرها التصريح بعدم التعرض للذميين بشيء من أنواع الأذى في النفس والمال أو تكلفته ما لا يطيق، بل نجد في هذه الأحاديث من الوعيد مما قد لا تجده في غيره؛ وذلك لأن عقد الذمة ألحق هؤلاء الكفار بالمسلمين في العصمة والصيانة، فإذا أخل أحد من أهل الإسلام ونالهم بشيء من الأذى في النفس أو المال وقع تحت طائلة هذا الوعيد الشديد في هذه النصوص النبوية الصحيحة.

ما يجب على أهل الذمة:

يجب على الإمام أن يعقد لأهل الذمة حيث أمِن مكرهم، فإن خاف غائلتهم إذا تمكنوا بدار الإسلام فلا يعقد لهم، وأن يلتزموا بخمسة أحكام:

أحدها: أن يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون في كل عام، وتؤخذ الجزية من الرجال البالغين لقول -صلى الله عليه وسلم-: (خذ من كل حالم دينارا) رواه الشافعي في مسنده، وصححه الألباني، ولا تؤخذ الجزية من امرأة وخنثى وصبي ومجنون وقن وزمن وأعمى وشيخ فانٍ وراهبٍ في صومعته.

الثاني: أن لا يذكروا دين الإسلام إلا بالخير، فيجب أن يمتنعوا عما فيه غضاضة على المسلمين كذكر الله -سبحانه وتعالى- أو كتابه أو رسوله -صلى الله عليه وسلم- أو دينه بسوء.

الثالث: الامتناع عن إظهار المنكر كشرب الخمر وأكل لحم الخنزير والفطر في رمضان في أمصار المسلمين.

الرابع: التزام أحكام المسلمين في العقود والمعاملات وغرامات المتلفات.

قال في منار السبيل (1/325): "أي تجري عليهم أحكام المسلمين في حقوق الآدميين في العقود والمعاملات، وأروش الجنايات وقيم المتلفات؛ لقوله -تعالى-: ﴿وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾، قيل الصغار: جريان أحكام المسلمين عليهم"أهـ. وقال: "ولأنهم التزموا أحكام الإسلام وهذه أحكامه، ويقرون على ما يعتقدون حله كخمر ونكاح ذات محرم، لكن يمنعون من إظهاره لتأذي المسلمين؛ لأنهم يقرون على كفرهم وهو أعظم جرما" أهـ. من منار السبيل.

الخامس: الامتناع من إحداث الكنائس والبيع، وكذا الجهر بكتبهم وإظهار شعارهم وأعيادهم في الدار؛ لأنه فيه استخفافا بالمسلمين. وهذا ما عاهدهم عليه عمر -رضي الله عنه- في كتاب عبد الرحمن بن غـُنم الذي اشتهر بالشروط العمرية.

قال ابن القيم -رحمه الله- في أحكام أهل الذمة (2/663-664):

"وشهرة هذه الشروط تغني عن إسنادها فإن الأئمة تلقوها بالقبول وذكروها واحتجوا بها ولم يزل ذكر الشروط العمرية على ألسنتهم وفي كتبهم، وقد أنفذها بعده الخلفاء وعملوا بموجبها"أهـ كلامه.

ومما جاء في هذه الشروط العمرية ما يلي:

"وأن لا نضرب ناقوسا إلا ضربا خفيفا في جوف كنائسنا ولا نظهر عليها صليبا، ولا نرفع أصواتنا في الصلاة ولا القراءة في الصلاة فيما يحضره المسلمون... وأن لا نخرج باعوثا أو شعانين -الأعياد والاستسقاء-... ولا نحدث في مدينتنا كنيسة ولا فيما حولها ديرا ولا قلاية ولا صومعة راهب، ولا نجدد ما خرب من كنائسنا... إلخ".

وقد تكلم ابن القيم -رحمه الله- في أحكام أهل الذمة عن حكم بناء الكنائس في بحث طويل ننقل منه ما يلي:

قال -رحمه الله-: "البلاد التي أنشأها المسلمون في الإسلام... مثل البصرة والكوفة وواسط وبغداد والقاهرة... فهذه البلاد صافية للإمام إن أراد الإمام أن يقر أهل الذمة فيها ببذل الجزية جاز، فلو أقرهم الإمام على أن يحدثوا فيها بيعة أو كنيسة... وِإن شرط ذلك وعقد عليه الذمة كان العقد والشرط فاسداً، وهو اتفاق من الأمة لا يعلم بينهم فيه نزاع".

وقال: "ولا يجوز للإمام أن يصالحهم في دار الإسلام على إحداث شعائر المعاصي والفسوق فكيف بإحداث موضع الكفر والشرك"؟!!

وقال: "فإن قيل: فما حكم هذه الكنائس التي في البلاد التي مصرها المسلمون

قيل: هي على نوعين:

أحدهما: أن تحدث الكنائس بعد تمصير المسلمين فهذه تزال اتفاقا.

الثاني: أن تكون موجودة بفلاة من الأرض ثم يمصر المسلمون حولها المصر، فهذه لا تزال... والله أعلم".

ثم قال -رحمه الله-: "الأمصار التي أنشأها المشركون ومصروها ثم فتحها المسلمون عنوة وقهرا بالسيف فهذه لا يجوز أن يحدث فيها شيء من البيع والكنائس" أهـ. انظر أحكام أهل الذمة 2/458.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى ج28/484:

"وقد اتفق المسلمون على أن ما بناه المسلمون من المدائن لم يكن لأهل الذمة أن يحدثوا فيها كنيسة".

وقال -رحمه الله- في مجموع الفتاوى 28/485: "والمدينة التي يسكنها المسلمون والقرية التي يسكنها المسلمون وفيها مساجد لا يجوز أن يظهر فيها شيء من شعائر الكفر لا كنائس ولا غيرها إلا أن يكون لهم عهد فيوفى لهم بعهدهم".

- للاستزادة في موضوع حكم بناء الكنائس راجع:

1- المغني لابن قدامة مع الشرح الكبير (12/ 811 وبعدها)، والشرح الكبير بحاشية المغني (12/823 وبعدها).

2- بدائع الصنائع للكاساني (9/383 وبعدها).

3- أحكام أهل الذمة لابن القيم (2/455 وبعدها).

4- مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- (28/484 وبعدها).

5- حكم بناء المعابد والكنائس للشيخ إسماعيل الأنصاري تقديم الشيخ عبد العزيز بن باز -رحم الله الجميع-.

ما ينتقض به عقد الذمة:

عقد الذمة إذا تم عقده في حق المسلمين لازم، إذ لا يملك المسلمون أن ينقضوه بحال طالما التزم أهل الذمة بما عليهم. أما أهل الذمة فيجب عليهم الوفاء به ماداموا في دار الإسلام، وإذا نقضوه صاروا من أهل الحرب، يحل منهم ما يحل من أهل الحرب.

لذلك إذا أرادوا استمرارية عقد الذمة في حقهم فيلزمهم أن يمتنعوا من جملة أعمال فيها من المعاصي والفسق ما يسيء إلى شريعة الله وما يؤذي المسلمين في عقيدتهم وأخلاقهم ومشاعرهم، فأهل الذمة قد أحاطهم الإسلام بكل أسباب الرعاية والصون ودرأ عنهم كل مظاهر العدوان والشر فمن واجبهم أن لا يسيئوا إلى الدار التي يقيمون فيها حيث الأمان والسلام، وإلا انتقض عهدهم ونبذ إليهم، وصاروا حلال الدم والمال، ولذلك عني الفقهاء بذكر الأمور التي ينتقض بها عهد الذمة على النحو التالي:

1- الامتناع عن دفع الجزية للمسلمين: فإن رفض إعطاء الجزية فإن عهده انتقض وحل دمه وماله عند الجمهور خلافا للأحناف.

2- عدم الالتزام بحكم الإسلام: فالتزام أحكام الإسلام هو قبول كل ما يحكم به عليهم من أداء حق أو ترك محرم؛ لأن معنى عقد الذمة: إقرار بعض الكفار على كفرهم بشرط بذل الجزية والتزام أحكام الملة. لأنهم لو التزموا الملة لكانوا مسلمين، لكن التزام أحكام الملة، أي: ما حكمت به الشريعة الإسلامية عليهم من أداء الحقوق وترك المحرمات. فإن لم يلتزموا أحكام الملة، بأن صاروا يجهرون بشرب الخمر ويعلنونه، ولا يلتزمون بإقامة الحدود عليهم فيما يعتقدون تحريمه ولا يتورعون عن نكاح ذوات المحارم في غير المجوس؛ لأن المجوس يرون أن نكاح ذوات المحارم جائز، لكن اليهود والنصارى لا يرون ذلك، فإذا أبى التزام أحكام الإسلام انتقض عهده ونبذ إليه.

3- التعدي على مسلم بقتل أو فتنة في دينه: فإن تعدى الذمي على مسلم أو مسلمة بقتل فإن عهده ينتقض حتى لو عفا أولياء المقتول فإن عهده ينتقض؛ لأن أولياء المقتول إن طالبوا بالقصاص اقتص منه، وإلا لم يقتص منه، لكن بالنسبة للعهد ينتقض.

عن أنس -رضي الله عنه-: (أن يهوديا رض رأس جارية بين حجرين، قيل من فعل هذا بك؟ أفلان، أفلان؟؟ حتى سمي اليهودي، فأومأت برأسها، فأخذ اليهودي فاعترف، فأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- به فرض رأسه بين حجرين) رواه البخاري ومسلم.

4- التعدي على مسلمة بزنى أو إصابتها بنكاح: ثبت عن عمر -رضي الله عنه- أنه رفع إليه رجل أراد استكراه امرأة مسلمة على الزنى، فقال: "ما على هذا صالحناكم، فأمر به فصلب في بيت المقدس" رواه ابن أبي شيبة مختصرا والبيهقي والسياق له، وحسنه الألباني.

5- قطع الطريق على المسلمين: وذلك لعدم وفائه بمقتضى الذمة من أمن جانبه، فينتقض عهده بذلك.

6- التجسس على المسلمين: وهذا من أشر ما يكون إذا تعدى على المسلمين بالتجسس فينتقض عهده بذلك.

7- ذكر الله -تعالى- أو رسوله -صلى الله عليه وسلم- أو ذكر كتابه أو شريعته بسوء: قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في الاختيارات العلمية (319): "وإذا أبى أهل الذمة بذل الجزية أو الصغار أو التزام حكمنا ينقض عهده، ومن قطع الطريق على المسلمين أو تجسس عليهم أو أعان أهل الحرب على سبي المسلمين أو أسرهم وذهب بهم إلى دار الحرب ونحو ذلك مما فيه مضرة على المسلمين فهذا يقتل ولو أسلم".

وقال أيضا في الاختيارات (320): "وساب الرسول -صلى الله عليه وسلم- يقتل ولو أسلم وهو مذهب أحمد".

- عن علي -رضي الله عنه-: (أن يهودية كانت تشتم النبي -صلى الله عليه وسلم- وتقع فيه فخنقها رجل حتى ماتت فأبطل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دمها) رواه أبو داود، وصححه الألباني، ويشهد له حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-: (أن أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي صلى الله عليه وسلم وتقع فيه فينهاها فلا تنتهي ويزجرها فلا تنزجر قال فلما كانت ذات ليلة جعلت تقع في النبي -صلى الله عليه وسلم- وتشتمه فأخذ المغول -سيف قصير- فوضعه في بطنها واتكأ عليها فقتلها فوقع بين رجليها طفل فلطخت ما هناك بالدم فلما أصبح ذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فجمع الناس فقال أنشد الله رجلا فعل ما فعل لي عليه حق إلا قام فقام الأعمى يتخطى الناس وهو يتزلزل حتى قعد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أنا صاحبها كانت تشتمك وتقع فيك فأنهاها فلا تنتهي وأزجرها فلا تنزجر ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين وكانت بي رفيقة فلما كانت البارحة جعلت تشتمك وتقع فيك فأخذت المغول فوضعته في بطنها واتكأت عليها حتى قتلتها فقال النبي صلى الله عليه وسلم ألا اشهدوا أن دمها هدر) رواه أبو داود والنسائي، وصححه الألباني.

الواجب تجاه من انتقض عهده:

ذكر العلماء أن الذمي إذا انتقض عهده فأمره إلى الحاكم وهو مخير فيه كالأسير الحربي بين أن:

1- أن يسترقه -يجعله رقيقا-.

2- أو يقتله.

3- أو يمن عليه فيطلق سراحه.

4- أو يطلق سراحه بمال أو مصلحة للمسلمين.

وتخيير الإمام في هذه الأربعة حسب مصلحة المسلمين ولا يترك الأمر لهواه وشهوته. ويصير ماله فيء في الأصح ويصرف في مصالح المسلمين العامة.

قالوا: لأنه كافر لا أمان له، قدرنا عليه في دارنا بغير عقد ولا عهد.

قالوا: ولا ينتقض عهد نسائه ولا أولاده؛ وذلك لوجود النقض منه دونهم فاختص حكمه به فقط وهنا يتبعض الحكم لتبعض موجبه.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
 
شامل وكامل لا مجال للنقاش شكرا اخي عبد الله
واهلا بعودتك بعد غياب طويل
 
أهلا فيك أخى الزعيم
اسئل الله ان ينفعنا به منذ مده و انا كنت اريد بحثا فى هذه المسأله لكثرة الجدل فيها و إختلاط الأوراق و الحمد لله و جدت هذا البحث فى موقع طريق السلف بارك الله فى كاتب هذا المقال و جزاه الله عنا خير الجزاء
 
عودة
أعلى