حرب العراق: عقدة أم سابقة؟
رغيد الصلح
رغيد الصلح
بعد عشر سنوات من حرب العراق الثانية، وعلى أعتاب ضربة محتملة ضد دمشق، تجدد النقاش حول النظرة إلى هذا الفصل من تاريخ العلاقات الدولية، وحول دور الولايات المتحدة في النظام الدولي . وتمحور النقاش حول وجهتي نظر: واحدة تقول بأن حرب العراق هي سابقة ينبغي الاهتداء بها إذا واجهت واشنطن تحديات دولية استثنائية . والأخرى تجد في تلك الحرب عقدة ينبغي دفنها والتخلص من إرثها . وبالطبع فإن لكل من هاتين النظرتين آثارها على موقف واشنطن تجاه الأوضاع العربية والسورية الراهنة .
لا بد من القول إن نسبة الذين ينظرون إلى حرب العراق كسابقة هي أقل بكثير من الذين يتعاملون معها كعقدة . ويقف ديك تشيني، نائب رئيس الجمهورية الأمريكي الأسبق، في مقدمة الذين ينظرون إلى الحرب كسابقة في التاريخ الأمريكي ويرى أن على واشنطن ألا تتردد في تكرارها في أية لحظة تتهدد فيها المصالح الأمريكية . ففي مناظرة تلفزيونية جرت عام ،2004 سئل تشيني عن تقييمه للحرب فأجاب أن ما فعلته الإدارة الأمريكية كان عين الصواب، وأنه لو طلبت نصيحته مجدداً بصدد خيار الحرب والسلم، لنصح باعتماد الطريق نفسه الذي سارت عليه تلك الإدارة من دون أي تعديل في الأسس أو في التفاصيل .
وعندما سئل تشيني في مؤتمر للمحافظين الأمريكيين عن الحرب بعد خمس سنوات من وقوعها، أجاب مؤكداً صواب الطريق الذي اختارته إدارة بوش في العراق . وأشار نائب الرئيس الأمريكي الأسبق إلى النجاحات التي حققتها استراتيجية “الاندفاع” التي طبقتها قوات الاحتلال الأمريكية قائلاً إن هذه الاستراتيجية سوف تؤدي إلى استتباب الأمور في العراق وأن نتائجها بدأت تظهر إلى العيان، إذ إن “قوى الحرية في العراق تنتصر”! يمثل ديك تشيني وجهة نظر صقورية ومتطرفة في السياسة الأمريكية، ولقد حظيت وجهة النظر هذه بتأييد واسع بعد الهجوم الإرهابي على مركز التجارة الدولي وخلال فترة التحضير لحرب العراق، كما أنها تحظى بتأييد أقلية صاخبة ونشيطة بين تجمعات المحافظين في الحزب الجمهوري، وبقايا المحافظين الجدد والمنظمات الصهيونية المؤيدة لحكومة نتنياهو . إلا أن أكثرية الأمريكيين باتت ترفض هذه النظرة .
الأغلبية من الأمريكيين اليوم تنظر إلى حرب العراق كسقطة أخلاقية أو سياسية أو الاثنتين معاً . والأغلبية منهم تنظر إلى التدخل الخارجي في سوريا أو غيرها وهي تحت وطأة “عقدة العراق” . ويصور أستاذ العلاقات الدولية الأمريكي جون مويلر، في مقال بعنوان “عقدة العراق” نشره في دورية “الشؤون الدولية” الأمريكية تلك العقدة بوضوح، ويرصد مشاعر الأمريكيين بدقة، إذ يقول إنهم أخذوا يودعون، تحت وطأة العقدة إياها مفاهيم “الأحادية” و”الحروب الاستباقية والوقائية” وعن الولايات المتحدة كوطن “لا يستغنى عنه” . كذلك تنبأ ميلر بأن واشنطن سوف تعتمد على التعاون الدولي إلى حد لا يليق بقوة عظمى، وأنها ستحذر التورط في حروب خارجية . وعبر وزير الدفاع الأمريكي الأسبق روبرت غيتس عن هذه الأجواء الحذرة بقوله إن “وزير الدفاع الأمريكي القادم الذي سوف ينصح الرئيس (أوباما) بإرسال جيش أمريكي بري إلى الشرق الأوسط بحاجة إلى إجراء فحوصات طبية في دماغه” (20/8/2011) وتؤيد مجلة “الإيكونوميست” النافذة في الولايات المتحدة وبريطانيا، هذه النظرة، تجاه “عقدة العراق” وتجاه أثرها على المسألة السورية، إذ تقول إن الأمريكيين “لن يهضموا المغامرات العسكرية، وإنهم حتى ولو رفعوا الأعلام الوطنية فإنهم يعربون عن شكهم الكبير في أي أمر يذكر بالعقدة العراقية” (31/8/2013) .
يتذكر الأمريكيون هذه العقدة إذا لمسوا مظاهر الإعداد المحكم لإرسال الجيوش البرية إلى شرق المتوسط، وإذا وجدوا أنفسهم عرضة لعملية التعبئة الإعلامية لخوض الحروب الكبرى التي مارستها إدارة جورج بوش قبل حرب العراق . على النقيض من ذلك فإن إدارة أوباما طفقت تؤكد باستمرار أنها إذا قررت التدخل العسكري في سوريا، فسوف يكون محدوداً في الزمان والمكان ولن يتخطى أهدافاً محددة تصيب نظام الأسد بأضرار كبيرة ولكنها لا تسقطه .
هذه التطمينات تهدئ من مخاوف الذين لا يريدون أي تدخل في سوريا يكرر تجربة العراق . ولكن هل تكفي هذه التطمينات؟ هل يكفي أن تؤكد واشنطن أنها لن تدخل حرباً شاملة في سوريا حتى تقنع الرأي العام بأنها لن تكرر حرب العراق؟ صحيح أن إدارة أوباما لا تحضّر الأجواء لمثل هذا التدخل كما فعلت إدارة بوش قبل دخول حرب العراق . مع ذلك فهناك مخاوف من أن تبدأ العمليات العسكرية في سوريا بتدخل محدود ثم لا تلبث أن تتطور، تحت وطأة ديناميكية الصراع العسكري، إلى حرب مفتوحة . هذا ما حدث في حرب فيتنام التي عادت تفاصيلها إلى الشاشات السياسية وإلى أذهان الأمريكيين خلال الأسبوع الماضي . ففي الثامن والعشرين من شهر أغسطس/ آب الفائت، احتفل الأمريكيون بذكرى مرور نصف قرن على مظاهرة الحقوق المدنية الشهيرة في واشنطن التي لعبت دوراً مهماً وحاسماً في إنهاء حروب الولايات المتحدة في شبه الجزيرة الفيتنامية . بدأت الحرب هناك بتدخل أمريكي محدود، ثم لم تلبث أن تطورت إلى حرب مفتوحة وشاملة فرضت على واشنطن إرسال قرابة أربعمئة ألف جندي إلى فيتنام وإلى خسارة عشرات الآلاف من الجنود الأمريكيين في الحرب .
تؤكد واشنطن أنها سوف تحذر تكرار تجربتي فيتنام والعراق، وأنها سوف تعمل على تجنيب الأمريكيين إضافة عقدة سورية على عقدتي العراق وفيتنام . وإذا كان هناك من نموذج للتدخل الأمريكي في سوريا، فإن المعنيين بالأمر في واشنطن يقولون إنه سوف يكون أقرب إلى استخدام القصف الجوي كما حصل في كوسوفو . ولقد نجح التدخل العسكري هناك، وفي نهاية المطاف، في إسقاط الحكومة الصربية بزعامة ميلوسوفيتش . ولكن ذلك النجاح كان مرهوناً بظروف معينة منها انكفاء روسيا والصين عن مسرح الصراع الأوروبي . أما الموضوع السوري فهو مختلف . ثم إن واشنطن تمكنت من تحمل كلفة الحرب في وقت كانت فيه الولايات المتحدة تمر بفترة ازدهار اقتصادي خلافاً لما هو الوضع حالياً . وفي مطلق الحالات هل تنجح واشنطن في تجنب المفاجآت والتطورات غير المحسوبة التي يمكن أن تؤثر في مجرى القتال؟ هل يجد الرئيس أوباما نفسه يجر الولايات المتحدة إلى حرب في سوريا بعد أن دخل البيت الأبيض وفي يمينه وعد بإنهاء حربها في العراق؟
* نقلا عن "الخليج" الإماراتية
لا بد من القول إن نسبة الذين ينظرون إلى حرب العراق كسابقة هي أقل بكثير من الذين يتعاملون معها كعقدة . ويقف ديك تشيني، نائب رئيس الجمهورية الأمريكي الأسبق، في مقدمة الذين ينظرون إلى الحرب كسابقة في التاريخ الأمريكي ويرى أن على واشنطن ألا تتردد في تكرارها في أية لحظة تتهدد فيها المصالح الأمريكية . ففي مناظرة تلفزيونية جرت عام ،2004 سئل تشيني عن تقييمه للحرب فأجاب أن ما فعلته الإدارة الأمريكية كان عين الصواب، وأنه لو طلبت نصيحته مجدداً بصدد خيار الحرب والسلم، لنصح باعتماد الطريق نفسه الذي سارت عليه تلك الإدارة من دون أي تعديل في الأسس أو في التفاصيل .
وعندما سئل تشيني في مؤتمر للمحافظين الأمريكيين عن الحرب بعد خمس سنوات من وقوعها، أجاب مؤكداً صواب الطريق الذي اختارته إدارة بوش في العراق . وأشار نائب الرئيس الأمريكي الأسبق إلى النجاحات التي حققتها استراتيجية “الاندفاع” التي طبقتها قوات الاحتلال الأمريكية قائلاً إن هذه الاستراتيجية سوف تؤدي إلى استتباب الأمور في العراق وأن نتائجها بدأت تظهر إلى العيان، إذ إن “قوى الحرية في العراق تنتصر”! يمثل ديك تشيني وجهة نظر صقورية ومتطرفة في السياسة الأمريكية، ولقد حظيت وجهة النظر هذه بتأييد واسع بعد الهجوم الإرهابي على مركز التجارة الدولي وخلال فترة التحضير لحرب العراق، كما أنها تحظى بتأييد أقلية صاخبة ونشيطة بين تجمعات المحافظين في الحزب الجمهوري، وبقايا المحافظين الجدد والمنظمات الصهيونية المؤيدة لحكومة نتنياهو . إلا أن أكثرية الأمريكيين باتت ترفض هذه النظرة .
الأغلبية من الأمريكيين اليوم تنظر إلى حرب العراق كسقطة أخلاقية أو سياسية أو الاثنتين معاً . والأغلبية منهم تنظر إلى التدخل الخارجي في سوريا أو غيرها وهي تحت وطأة “عقدة العراق” . ويصور أستاذ العلاقات الدولية الأمريكي جون مويلر، في مقال بعنوان “عقدة العراق” نشره في دورية “الشؤون الدولية” الأمريكية تلك العقدة بوضوح، ويرصد مشاعر الأمريكيين بدقة، إذ يقول إنهم أخذوا يودعون، تحت وطأة العقدة إياها مفاهيم “الأحادية” و”الحروب الاستباقية والوقائية” وعن الولايات المتحدة كوطن “لا يستغنى عنه” . كذلك تنبأ ميلر بأن واشنطن سوف تعتمد على التعاون الدولي إلى حد لا يليق بقوة عظمى، وأنها ستحذر التورط في حروب خارجية . وعبر وزير الدفاع الأمريكي الأسبق روبرت غيتس عن هذه الأجواء الحذرة بقوله إن “وزير الدفاع الأمريكي القادم الذي سوف ينصح الرئيس (أوباما) بإرسال جيش أمريكي بري إلى الشرق الأوسط بحاجة إلى إجراء فحوصات طبية في دماغه” (20/8/2011) وتؤيد مجلة “الإيكونوميست” النافذة في الولايات المتحدة وبريطانيا، هذه النظرة، تجاه “عقدة العراق” وتجاه أثرها على المسألة السورية، إذ تقول إن الأمريكيين “لن يهضموا المغامرات العسكرية، وإنهم حتى ولو رفعوا الأعلام الوطنية فإنهم يعربون عن شكهم الكبير في أي أمر يذكر بالعقدة العراقية” (31/8/2013) .
يتذكر الأمريكيون هذه العقدة إذا لمسوا مظاهر الإعداد المحكم لإرسال الجيوش البرية إلى شرق المتوسط، وإذا وجدوا أنفسهم عرضة لعملية التعبئة الإعلامية لخوض الحروب الكبرى التي مارستها إدارة جورج بوش قبل حرب العراق . على النقيض من ذلك فإن إدارة أوباما طفقت تؤكد باستمرار أنها إذا قررت التدخل العسكري في سوريا، فسوف يكون محدوداً في الزمان والمكان ولن يتخطى أهدافاً محددة تصيب نظام الأسد بأضرار كبيرة ولكنها لا تسقطه .
هذه التطمينات تهدئ من مخاوف الذين لا يريدون أي تدخل في سوريا يكرر تجربة العراق . ولكن هل تكفي هذه التطمينات؟ هل يكفي أن تؤكد واشنطن أنها لن تدخل حرباً شاملة في سوريا حتى تقنع الرأي العام بأنها لن تكرر حرب العراق؟ صحيح أن إدارة أوباما لا تحضّر الأجواء لمثل هذا التدخل كما فعلت إدارة بوش قبل دخول حرب العراق . مع ذلك فهناك مخاوف من أن تبدأ العمليات العسكرية في سوريا بتدخل محدود ثم لا تلبث أن تتطور، تحت وطأة ديناميكية الصراع العسكري، إلى حرب مفتوحة . هذا ما حدث في حرب فيتنام التي عادت تفاصيلها إلى الشاشات السياسية وإلى أذهان الأمريكيين خلال الأسبوع الماضي . ففي الثامن والعشرين من شهر أغسطس/ آب الفائت، احتفل الأمريكيون بذكرى مرور نصف قرن على مظاهرة الحقوق المدنية الشهيرة في واشنطن التي لعبت دوراً مهماً وحاسماً في إنهاء حروب الولايات المتحدة في شبه الجزيرة الفيتنامية . بدأت الحرب هناك بتدخل أمريكي محدود، ثم لم تلبث أن تطورت إلى حرب مفتوحة وشاملة فرضت على واشنطن إرسال قرابة أربعمئة ألف جندي إلى فيتنام وإلى خسارة عشرات الآلاف من الجنود الأمريكيين في الحرب .
تؤكد واشنطن أنها سوف تحذر تكرار تجربتي فيتنام والعراق، وأنها سوف تعمل على تجنيب الأمريكيين إضافة عقدة سورية على عقدتي العراق وفيتنام . وإذا كان هناك من نموذج للتدخل الأمريكي في سوريا، فإن المعنيين بالأمر في واشنطن يقولون إنه سوف يكون أقرب إلى استخدام القصف الجوي كما حصل في كوسوفو . ولقد نجح التدخل العسكري هناك، وفي نهاية المطاف، في إسقاط الحكومة الصربية بزعامة ميلوسوفيتش . ولكن ذلك النجاح كان مرهوناً بظروف معينة منها انكفاء روسيا والصين عن مسرح الصراع الأوروبي . أما الموضوع السوري فهو مختلف . ثم إن واشنطن تمكنت من تحمل كلفة الحرب في وقت كانت فيه الولايات المتحدة تمر بفترة ازدهار اقتصادي خلافاً لما هو الوضع حالياً . وفي مطلق الحالات هل تنجح واشنطن في تجنب المفاجآت والتطورات غير المحسوبة التي يمكن أن تؤثر في مجرى القتال؟ هل يجد الرئيس أوباما نفسه يجر الولايات المتحدة إلى حرب في سوريا بعد أن دخل البيت الأبيض وفي يمينه وعد بإنهاء حربها في العراق؟
* نقلا عن "الخليج" الإماراتية
التعديل الأخير: