عقيل صالح
في بداية القرن العشرين ,1916 تحديدا , اجتمعا مارك سايكس ( ممثل بريطانيا ) و فرنسوا بيكو ( ممثل فرنسا)- أثناء انهيار الإمبراطورية العثمانية ( رجل أوروبا المريض ) - ليرسما جغرافية العالم العربي , و تم التأكيد على هذه الإتفاقية في مؤتمر سان ريمو عام 1920.حظي العرب استقلالهم من ظل الهيمنة العثمانية ( التركية) و لكن هذه الإستقلالية لم تكن سوى شكلية لتصبح الدول العربية تابعة و مستعمرات للإمبريالية .تلك الحدود هي حدود رسمتها الإمبريالية ( Imperialism ) و هي حصراً حدود القرن العشرين .
السياسة الإستعمارية التي مارستها الإمبراطورية العثمانية تختلف عن السياسة الإستعمارية التي مارستها بريطانيا و فرنسا و الولايات المتحدة في القرن العشرين , ليس اسلوباً بل من الجوهر و المضمون. السياسة الإستعمارية العثمانية كانت قائمة على النهب , على غرار الإمبراطوريات العريقة , بينما السياسة الإستعمارية الإمبريالية قائمة على تصدير فوائض الإنتاج ( من رؤوس أموال و سلع ) من المركز الرأسمالي إلى دول الأطراف.
هذا التناقض , ما بين المراكز الإمبريالية و الدول المستعمرة و التابعة , احتدم و اشتعل بعد الحرب العالمية الثانية بفضل خروج الإتحاد السوفيتي كأقوى دولة في الأرض مواجهة الولايات المتحدة ( هذا ما يسميه الإقتصاديين و السياسيين بالعالم ذو القطبين Bipolar World ) , قوة الإتحاد السوفيتي تعني مركز هائل قوي يدعم ثورات التحرر الوطني التي هدفها التحرر من قبضة الإمبريالية نحو تنمية وطنية مستقلة مثل فيتنام و الهند و الصين و كوبا و مصر و الجزائر و سوريا و ليبيا و كمبوديا .
ثورات التحرر الوطني تمكنت بنجاح فك روابطها مع المراكز الإمبريالية , حيث اصبحت حرة و تقود تنمية وطنية مركزية يدعمها الإتحاد السوفيتي بالرغم من انحراف المسار السوفييتي ( بعد إنقلاب 1953 ) من الخط الإشتراكي نحو الخط العسكري ( اللإشتراكي و اللارأسمالي).
الضربة القاصمة التي اودت بحياة الإمبريالية الأمريكية كانت الحرب الفيتنامية. الإنتاج الأمريكي توجه نحو العسكرة , الإنفاق على الحرب كان هائلاً و تم توظيف أموال هائلة في محاولة إحتواء الإشتراكية من الإنتشار.
تحرر فيتنام بشكل كلي من القبضة الإمبريالية , و أيضاً معظم الدول المجاورة , يعني فقدان الإمبريالية لمحيطاتها , و هذا أدى إلى الإنهيار النقدي في 1971 , مما يعني إنهيار النظام الرأسمالي الإمبريالي في الولايات المتحدة. و يتبع هذا بعد عشرون سنة سقوط المنظومة الإشتراكية ( اللإشتراكية بعد 1961 ) .
يتفق معظم الناس ان العصر الحالي هو عصر العولمة (Globalization) , و ما أقوى صدى هذه الكلمة في المنابر الفكرية ! , الكل يستخدمها و الكل يعتقد ان يعرفها. و لكن , التأويل لا يعول على الإعتقاد الشخصي أو التصور الذاتي , بل يعول على الواقع الموضوعي الملموس على وجه الأرض.
التحليل المعاصر يقول ان العالم انتقل من عالم ثنائي القطب(Bipolar World) إلى عالم أحادي القطب ( Monopolar World ) , و لكن الوقائع تقول العكس حيث مثل هذا التحليل الذي قال ان العالم في القرن العشرين قائم على القطب الرأسمالي و القطب الإشتراكي يقول اليوم ان العالم قائم على قطب رأسمالي واحد بينما – في مثل الوقت – النظام الرأسمالي القائم على النقد واجه إنهياراً نقدياً مميتاً في 1971 و أنهار بشكل كلي و قد أعلن عنه نيكسون و تم التأكيد عليه في 1975 و 1976. الحقيقة تقول أن القطبين – الرأسمالي و الإشتراكي- قد أنهارا .
هذه الظاهرة تُفسر بسقوط أكبر طبقتين منتجيتين : البورجوازية و البروليتارية , و صعدت الطبقة الهامشية ,الطبقة الوسطى, الغير منتجة و ساد نمط انتاجها في الغرب في بلدان مثل الولايات المتحدة و فرنسا و بريطانيا و احتلت السلطة في الشرق في بلدان مثل روسيا و الصين .
قطبية عالمنا اليوم قائمة رئيسياً على الصين و الولايات المتحدة , بالرغم من التماثل الطبقي ما بين الدولتين إلا أن الدور الوظيفي للولايات المتحدة يختلف عن دور الصين . الولايات المتحدة بعد الإنهيار النقدي , و الخروج من معاهدة بريتون وودز , قد جعلت من عملتها العملة المهيمنة (Dollar King Currency) حيث باقي العملات ارتبطت إرتباطاً وثيقاً مع الدولار المهيمن , فإزاء الإنهيار النقدي تمكنت الولايات المتحدة من طبع الدولارات بشكل هائل و اللامتناهي من دون غطاء ذهبي , هذا بكل تأكيد أدى إلى خفض قيمة الدولار , و هنا يأتي دور الصين في كفالة الدولارات الزائفة.
هكذا تخّلق العالم اليوم من دون رأسمالية و لا إمبريالية و لا إستعمار و لا إشتراكية و لا تحرر وطني, العالم هو عالم الطبقة الوسطى اللامنتجة , التي تستهلك أكثر مما تنتج , التي تصبح ديونها أكثر من مجمل إنتاجها القومي.
و من البداهة استنتاج ان سقوط المنظومة الإمبريالية يعني حصراً سقوط الحدود التي رسمتها , و في هذا السياق : حدود العالم العربي ( اتفاقية سايكس بيكو).
الإمبراطورية العثمانية كانت إمبراطورية متهالكة رجعية و تفككت بعد الحرب العالمية الأولى بسبب تخلفها في التنمية الرأسمالية, و لهذا سماها قيصر روسيا بالرجل المريض. اليوم و العالم العربي تحكمة طغمات ديكتاتورية عصاباتية – خصوصاً في المشرق العربي- تمنع اي سبيل للتنمية , بل تقوم بنهب انتاج الشعب .
معهد واشنطن يطلق على العالم العربي اليوم بالرجل المريض . الغرب يرى ان العرب لا يريدون الطغاة و لا يريدون ان يعيشوا في حدود فرضتها عليهم الإمبريالية الفرنسية و البريطانية و لهذا يصبح من المهم جداً غرس الجذور الديموقراطية في العالم العربي بأداة العلاج تحت مسمى الفوضى الخلاقة, التي تتيح للناس ان يختاروا حدودهم الخاصة , مثل الأكراد و المسيحيين و المسلمين والعرب, و ان تتخلص من الطغم العصاباتية و تجد لنفسها حكماً أكثر ديموقراطياً و اقتصاداً أكثر انفتاحا على الصراع الطبقي.
الديموقراطية سيتم نشرها في الشرق الاوسط (الجديد) , لا مراء في ذلك, موضة العصاباتية اصبحت من الماضي, و غير موازية لمصالح الطبقة الوسطى الحاكمة في الولايات المتحدة التي تريد ان تحتفظ بهيمنة دولارها الملك و سيرورته بشكل متناغم , مع ذلك, العرب سيقعون – بعد حصولهم على الديموقراطية – في مثل المشكلة التي سقط فيها الغرب بعد إنهيار الرأسمالية في السبعينات.
ما يمكن معرفته هو ان الفوضى الخلاقة أو الشرق الأوسط الجديد ( مثل المعنى ) ليس مشروعاً امبريالياً إستعمارياً , لأن المعاني العلمية لهذه المصطلحات لا تنطبق على الشرق الأوسط الجديد , أولاً لأن الشرق الأوسط الجديد لم ينادي بإحتلال الدول العربية , الولايات المتحدة سارعت بالخروج من العراق و اليوم تسارع الخروج من أفغانستان , و فوق هذا , الولايات المتحدة لم تأخذ النفط العراقي , و لماذا تأخذ ؟ دول الخليج العربي أصدقاء الولايات المتحدة و بمقدورهم مساعدة صديقتهم في أي وقت, و فوق هذا , الولايات المتحدة اساساً تعول على كندا , وفينزويلا, والمكسيك, و نيجيرا للنفط. ثانياً , الولايات المتحدة لم ترسل أي سلع أو رؤوس أموال للعراق – على سبيل المثال- بل خسرت أكثرمن ترليون دولار على الحرب و ناهيك عن الخسائر البشرية و الجرحى.
من يريد ان يتحدث عن إمبريالية الولايات المتحدة يجب ان يطبق المعنى العلمي للإمبريالية على افعال الولايات المتحدة اليوم.
الفكر العربي لا يستقطب أفكارٍ كتلك , بل يلازم فكرة ((التوسع الصهيوني)) و ((المشروع الإمبريالي)) لأنه لا يعرف فحوى تلك المفاهيم الجديدة , بل يتطرف ليدافع عن حدود رسمها عدوه اللدود : الإستعمار.
الإستعمار و الإمبريالية لا يتم قياسهما بالوحشية او التوسع بل يتم قياسهما قياساً علميا , و هذا القياس لا ينطبق على سياسات الدول الرأسمالية الكلاسيكية اليوم.
هذه الخدمات ليست مجانية-عودة إلى مسألة الديموقراطية في الشرق الأوسط -أعني الغرب لا يفعل ذلك بدواعي فائض الإنسانية , حيث ليس هناك شيء يتحرك من دون الإقتصاد (أو البناء التحتي Base ), الإقتصاد دائماً يجر السياسة , و الأمر ينطبق على سقوط سايكس بيكو و الفوضى الخلاقة .
التركيبة الإقتصادية الغربية تعتمد على إنتاج الخدمات (Service Production) فضلاً عن الإنتاج السلعي ( Commodity Production ),و من المعروف – او من البديهي – ان الإنتاج الخدمي لا يدخل السوق ليس شأن السلع الحقيقية التي لها قيمة تبادلية. الخدمات يتم إستهلاكها في ذات الوقت و لا يتم مبادلتها في السوق, الخدمات يتم إنتاجها بشكل فردي بينما السلع يتم إنتاجها بشكل جماعي.
و لهذا تحدث نيكسون في عام 1971 – بعد الإنهيار النقدي – عن زيادة الرفاهية للشعب الأمريكي, لأنه كان يعلم علم اليقين ان دولة الرفاهية ( أو دولة الرفاه Welfare State) غير ممكنة من دون طباعة الدولارات بشكل كثيف غير مغطاه بالذهب , و كان يعلم ان هذه الرفاهية لا تستطيع ان تتحقق من دون الإستدانة المتزايدة , وكان يعلم ان لا يمكن تحقيق هذه الرفاهية من دون زيادة إنتاج الخدمات.
مشكلات الإستدانة عديدة , بعيدة عن مرمى موضوعنا الحالي , و لكن بشكل عام الإستدانة تعني الإستهلاك و اللإنتاج خصوصاً في بلد الدولار , الذي يحتل صفة الملك . الولايات المتحدة تحتاج ان تستدين بشكل مستمر لكي تستطيع ان توفر لشعبها الرفاهية ( الزائفة ) و لكي تغطي طباعة دولاراتها المستمرة.
الطبقة الوسطى الحاكمة في الولايات المتحدة تعلم انها لا تستطيع ان تحظى على الوئام العالمي من دون التخلص من الطغمة العسكرية العصاباتية العربية , لسببين , الأول : تلك الطغم مجها التاريخ, الثاني : تلك الطغم تمنع القوى الإنتاجية ان تتحرك بأريحية, لأنها تستولي على مجمل الإنتاج بشكل عام لصالحها, مما يعني إنسداد الشريان الإقتصادي العالمي. فقدان التفاهم ما بين الشرق الأوسط و الطبقة الوسطى الغربية جعل الغرب يتبنى مشروعاً لإزالة الطغم الحاكمة العسكرية العربية , و أن توفر لشعوب المنطقة فرصة لرسم حدودها الخاصة. هذا المشروع يقتضي بالضرورة زرع الديموقراطية في الشرق الأوسط لأن الديموقراطية وحدها ستسمح للقوى الإنتاجية ان تعمل في مجال الإنتاج بأكثر راحة, و هذا بلا شك سيعزز مَلكية الدولار أكثر فأكثر, و سيفتح ايضاً جسر المديونية ما بين الغرب و الشرق بشكل أكبر.
ميزانية الولايات المتحدة العسكرية وصلت إلى اقصى حدودها, و لهذا تحتاج في كل حين إلى آخر ان تفتعل حرباً , أو ان تفتعل صفقات بيع و شراء الإسلحة بينها و بين الدول الآخرى من اجل ان لا يتكدس إنتاجها العسكري, الذي لا هو إنتاج رأسمالي و لا إنتاج إشتراكي . و تحتاج أمريكا لهذه الحروب لتقول للعالم ان دولارها الزائف لا يزال على قيد الحياة و لا يزال قويا, الحروب اليوم اصبحت الغطاء الوحيد للدولار الأمريكي.
مشروع الطبقة الوسطى الغربية لا يُفسر إلا بإنهيار الرأسمالية في الربع الأخير من القرن العشرين , و إنهيار سايكس بيكو ليس الا تعبيراً واضحاً عن إنهيار الإمبريالية مع نجاح ثورات التحرر الوطني.
ما تستطيع العين الثاقبة ان ترى خلال هذه الفوضى هو ان مشروع الطبقة الوسطى مشروع فوضوي يُفسر بالشح الإنتاجي الصناعي السلعي في الغرب و زيادة مديونيتها و زيف عملتها الملك.
الحروب, والعولمة, والفوضى الخلاقة ( و الشرق الأوسط الجديد),وإنهيار سايكس بيكو , ليست سوى ردات فعل طبيعية لظاهرة شاذة و هي إنهيار الرأسمالية نحو الخدماتية اللامنتجة.
يجب على العرب ان يفكروا بشكل جدي في رؤية الأمور بشكلها العلمي و ليس كما أعتادوا : النظرة المثالية الساذجة!.
للامانة منقول
في بداية القرن العشرين ,1916 تحديدا , اجتمعا مارك سايكس ( ممثل بريطانيا ) و فرنسوا بيكو ( ممثل فرنسا)- أثناء انهيار الإمبراطورية العثمانية ( رجل أوروبا المريض ) - ليرسما جغرافية العالم العربي , و تم التأكيد على هذه الإتفاقية في مؤتمر سان ريمو عام 1920.حظي العرب استقلالهم من ظل الهيمنة العثمانية ( التركية) و لكن هذه الإستقلالية لم تكن سوى شكلية لتصبح الدول العربية تابعة و مستعمرات للإمبريالية .تلك الحدود هي حدود رسمتها الإمبريالية ( Imperialism ) و هي حصراً حدود القرن العشرين .
السياسة الإستعمارية التي مارستها الإمبراطورية العثمانية تختلف عن السياسة الإستعمارية التي مارستها بريطانيا و فرنسا و الولايات المتحدة في القرن العشرين , ليس اسلوباً بل من الجوهر و المضمون. السياسة الإستعمارية العثمانية كانت قائمة على النهب , على غرار الإمبراطوريات العريقة , بينما السياسة الإستعمارية الإمبريالية قائمة على تصدير فوائض الإنتاج ( من رؤوس أموال و سلع ) من المركز الرأسمالي إلى دول الأطراف.
هذا التناقض , ما بين المراكز الإمبريالية و الدول المستعمرة و التابعة , احتدم و اشتعل بعد الحرب العالمية الثانية بفضل خروج الإتحاد السوفيتي كأقوى دولة في الأرض مواجهة الولايات المتحدة ( هذا ما يسميه الإقتصاديين و السياسيين بالعالم ذو القطبين Bipolar World ) , قوة الإتحاد السوفيتي تعني مركز هائل قوي يدعم ثورات التحرر الوطني التي هدفها التحرر من قبضة الإمبريالية نحو تنمية وطنية مستقلة مثل فيتنام و الهند و الصين و كوبا و مصر و الجزائر و سوريا و ليبيا و كمبوديا .
ثورات التحرر الوطني تمكنت بنجاح فك روابطها مع المراكز الإمبريالية , حيث اصبحت حرة و تقود تنمية وطنية مركزية يدعمها الإتحاد السوفيتي بالرغم من انحراف المسار السوفييتي ( بعد إنقلاب 1953 ) من الخط الإشتراكي نحو الخط العسكري ( اللإشتراكي و اللارأسمالي).
الضربة القاصمة التي اودت بحياة الإمبريالية الأمريكية كانت الحرب الفيتنامية. الإنتاج الأمريكي توجه نحو العسكرة , الإنفاق على الحرب كان هائلاً و تم توظيف أموال هائلة في محاولة إحتواء الإشتراكية من الإنتشار.
تحرر فيتنام بشكل كلي من القبضة الإمبريالية , و أيضاً معظم الدول المجاورة , يعني فقدان الإمبريالية لمحيطاتها , و هذا أدى إلى الإنهيار النقدي في 1971 , مما يعني إنهيار النظام الرأسمالي الإمبريالي في الولايات المتحدة. و يتبع هذا بعد عشرون سنة سقوط المنظومة الإشتراكية ( اللإشتراكية بعد 1961 ) .
يتفق معظم الناس ان العصر الحالي هو عصر العولمة (Globalization) , و ما أقوى صدى هذه الكلمة في المنابر الفكرية ! , الكل يستخدمها و الكل يعتقد ان يعرفها. و لكن , التأويل لا يعول على الإعتقاد الشخصي أو التصور الذاتي , بل يعول على الواقع الموضوعي الملموس على وجه الأرض.
التحليل المعاصر يقول ان العالم انتقل من عالم ثنائي القطب(Bipolar World) إلى عالم أحادي القطب ( Monopolar World ) , و لكن الوقائع تقول العكس حيث مثل هذا التحليل الذي قال ان العالم في القرن العشرين قائم على القطب الرأسمالي و القطب الإشتراكي يقول اليوم ان العالم قائم على قطب رأسمالي واحد بينما – في مثل الوقت – النظام الرأسمالي القائم على النقد واجه إنهياراً نقدياً مميتاً في 1971 و أنهار بشكل كلي و قد أعلن عنه نيكسون و تم التأكيد عليه في 1975 و 1976. الحقيقة تقول أن القطبين – الرأسمالي و الإشتراكي- قد أنهارا .
هذه الظاهرة تُفسر بسقوط أكبر طبقتين منتجيتين : البورجوازية و البروليتارية , و صعدت الطبقة الهامشية ,الطبقة الوسطى, الغير منتجة و ساد نمط انتاجها في الغرب في بلدان مثل الولايات المتحدة و فرنسا و بريطانيا و احتلت السلطة في الشرق في بلدان مثل روسيا و الصين .
قطبية عالمنا اليوم قائمة رئيسياً على الصين و الولايات المتحدة , بالرغم من التماثل الطبقي ما بين الدولتين إلا أن الدور الوظيفي للولايات المتحدة يختلف عن دور الصين . الولايات المتحدة بعد الإنهيار النقدي , و الخروج من معاهدة بريتون وودز , قد جعلت من عملتها العملة المهيمنة (Dollar King Currency) حيث باقي العملات ارتبطت إرتباطاً وثيقاً مع الدولار المهيمن , فإزاء الإنهيار النقدي تمكنت الولايات المتحدة من طبع الدولارات بشكل هائل و اللامتناهي من دون غطاء ذهبي , هذا بكل تأكيد أدى إلى خفض قيمة الدولار , و هنا يأتي دور الصين في كفالة الدولارات الزائفة.
هكذا تخّلق العالم اليوم من دون رأسمالية و لا إمبريالية و لا إستعمار و لا إشتراكية و لا تحرر وطني, العالم هو عالم الطبقة الوسطى اللامنتجة , التي تستهلك أكثر مما تنتج , التي تصبح ديونها أكثر من مجمل إنتاجها القومي.
و من البداهة استنتاج ان سقوط المنظومة الإمبريالية يعني حصراً سقوط الحدود التي رسمتها , و في هذا السياق : حدود العالم العربي ( اتفاقية سايكس بيكو).
الإمبراطورية العثمانية كانت إمبراطورية متهالكة رجعية و تفككت بعد الحرب العالمية الأولى بسبب تخلفها في التنمية الرأسمالية, و لهذا سماها قيصر روسيا بالرجل المريض. اليوم و العالم العربي تحكمة طغمات ديكتاتورية عصاباتية – خصوصاً في المشرق العربي- تمنع اي سبيل للتنمية , بل تقوم بنهب انتاج الشعب .
معهد واشنطن يطلق على العالم العربي اليوم بالرجل المريض . الغرب يرى ان العرب لا يريدون الطغاة و لا يريدون ان يعيشوا في حدود فرضتها عليهم الإمبريالية الفرنسية و البريطانية و لهذا يصبح من المهم جداً غرس الجذور الديموقراطية في العالم العربي بأداة العلاج تحت مسمى الفوضى الخلاقة, التي تتيح للناس ان يختاروا حدودهم الخاصة , مثل الأكراد و المسيحيين و المسلمين والعرب, و ان تتخلص من الطغم العصاباتية و تجد لنفسها حكماً أكثر ديموقراطياً و اقتصاداً أكثر انفتاحا على الصراع الطبقي.
الديموقراطية سيتم نشرها في الشرق الاوسط (الجديد) , لا مراء في ذلك, موضة العصاباتية اصبحت من الماضي, و غير موازية لمصالح الطبقة الوسطى الحاكمة في الولايات المتحدة التي تريد ان تحتفظ بهيمنة دولارها الملك و سيرورته بشكل متناغم , مع ذلك, العرب سيقعون – بعد حصولهم على الديموقراطية – في مثل المشكلة التي سقط فيها الغرب بعد إنهيار الرأسمالية في السبعينات.
ما يمكن معرفته هو ان الفوضى الخلاقة أو الشرق الأوسط الجديد ( مثل المعنى ) ليس مشروعاً امبريالياً إستعمارياً , لأن المعاني العلمية لهذه المصطلحات لا تنطبق على الشرق الأوسط الجديد , أولاً لأن الشرق الأوسط الجديد لم ينادي بإحتلال الدول العربية , الولايات المتحدة سارعت بالخروج من العراق و اليوم تسارع الخروج من أفغانستان , و فوق هذا , الولايات المتحدة لم تأخذ النفط العراقي , و لماذا تأخذ ؟ دول الخليج العربي أصدقاء الولايات المتحدة و بمقدورهم مساعدة صديقتهم في أي وقت, و فوق هذا , الولايات المتحدة اساساً تعول على كندا , وفينزويلا, والمكسيك, و نيجيرا للنفط. ثانياً , الولايات المتحدة لم ترسل أي سلع أو رؤوس أموال للعراق – على سبيل المثال- بل خسرت أكثرمن ترليون دولار على الحرب و ناهيك عن الخسائر البشرية و الجرحى.
من يريد ان يتحدث عن إمبريالية الولايات المتحدة يجب ان يطبق المعنى العلمي للإمبريالية على افعال الولايات المتحدة اليوم.
الفكر العربي لا يستقطب أفكارٍ كتلك , بل يلازم فكرة ((التوسع الصهيوني)) و ((المشروع الإمبريالي)) لأنه لا يعرف فحوى تلك المفاهيم الجديدة , بل يتطرف ليدافع عن حدود رسمها عدوه اللدود : الإستعمار.
الإستعمار و الإمبريالية لا يتم قياسهما بالوحشية او التوسع بل يتم قياسهما قياساً علميا , و هذا القياس لا ينطبق على سياسات الدول الرأسمالية الكلاسيكية اليوم.
هذه الخدمات ليست مجانية-عودة إلى مسألة الديموقراطية في الشرق الأوسط -أعني الغرب لا يفعل ذلك بدواعي فائض الإنسانية , حيث ليس هناك شيء يتحرك من دون الإقتصاد (أو البناء التحتي Base ), الإقتصاد دائماً يجر السياسة , و الأمر ينطبق على سقوط سايكس بيكو و الفوضى الخلاقة .
التركيبة الإقتصادية الغربية تعتمد على إنتاج الخدمات (Service Production) فضلاً عن الإنتاج السلعي ( Commodity Production ),و من المعروف – او من البديهي – ان الإنتاج الخدمي لا يدخل السوق ليس شأن السلع الحقيقية التي لها قيمة تبادلية. الخدمات يتم إستهلاكها في ذات الوقت و لا يتم مبادلتها في السوق, الخدمات يتم إنتاجها بشكل فردي بينما السلع يتم إنتاجها بشكل جماعي.
و لهذا تحدث نيكسون في عام 1971 – بعد الإنهيار النقدي – عن زيادة الرفاهية للشعب الأمريكي, لأنه كان يعلم علم اليقين ان دولة الرفاهية ( أو دولة الرفاه Welfare State) غير ممكنة من دون طباعة الدولارات بشكل كثيف غير مغطاه بالذهب , و كان يعلم ان هذه الرفاهية لا تستطيع ان تتحقق من دون الإستدانة المتزايدة , وكان يعلم ان لا يمكن تحقيق هذه الرفاهية من دون زيادة إنتاج الخدمات.
مشكلات الإستدانة عديدة , بعيدة عن مرمى موضوعنا الحالي , و لكن بشكل عام الإستدانة تعني الإستهلاك و اللإنتاج خصوصاً في بلد الدولار , الذي يحتل صفة الملك . الولايات المتحدة تحتاج ان تستدين بشكل مستمر لكي تستطيع ان توفر لشعبها الرفاهية ( الزائفة ) و لكي تغطي طباعة دولاراتها المستمرة.
الطبقة الوسطى الحاكمة في الولايات المتحدة تعلم انها لا تستطيع ان تحظى على الوئام العالمي من دون التخلص من الطغمة العسكرية العصاباتية العربية , لسببين , الأول : تلك الطغم مجها التاريخ, الثاني : تلك الطغم تمنع القوى الإنتاجية ان تتحرك بأريحية, لأنها تستولي على مجمل الإنتاج بشكل عام لصالحها, مما يعني إنسداد الشريان الإقتصادي العالمي. فقدان التفاهم ما بين الشرق الأوسط و الطبقة الوسطى الغربية جعل الغرب يتبنى مشروعاً لإزالة الطغم الحاكمة العسكرية العربية , و أن توفر لشعوب المنطقة فرصة لرسم حدودها الخاصة. هذا المشروع يقتضي بالضرورة زرع الديموقراطية في الشرق الأوسط لأن الديموقراطية وحدها ستسمح للقوى الإنتاجية ان تعمل في مجال الإنتاج بأكثر راحة, و هذا بلا شك سيعزز مَلكية الدولار أكثر فأكثر, و سيفتح ايضاً جسر المديونية ما بين الغرب و الشرق بشكل أكبر.
ميزانية الولايات المتحدة العسكرية وصلت إلى اقصى حدودها, و لهذا تحتاج في كل حين إلى آخر ان تفتعل حرباً , أو ان تفتعل صفقات بيع و شراء الإسلحة بينها و بين الدول الآخرى من اجل ان لا يتكدس إنتاجها العسكري, الذي لا هو إنتاج رأسمالي و لا إنتاج إشتراكي . و تحتاج أمريكا لهذه الحروب لتقول للعالم ان دولارها الزائف لا يزال على قيد الحياة و لا يزال قويا, الحروب اليوم اصبحت الغطاء الوحيد للدولار الأمريكي.
مشروع الطبقة الوسطى الغربية لا يُفسر إلا بإنهيار الرأسمالية في الربع الأخير من القرن العشرين , و إنهيار سايكس بيكو ليس الا تعبيراً واضحاً عن إنهيار الإمبريالية مع نجاح ثورات التحرر الوطني.
ما تستطيع العين الثاقبة ان ترى خلال هذه الفوضى هو ان مشروع الطبقة الوسطى مشروع فوضوي يُفسر بالشح الإنتاجي الصناعي السلعي في الغرب و زيادة مديونيتها و زيف عملتها الملك.
الحروب, والعولمة, والفوضى الخلاقة ( و الشرق الأوسط الجديد),وإنهيار سايكس بيكو , ليست سوى ردات فعل طبيعية لظاهرة شاذة و هي إنهيار الرأسمالية نحو الخدماتية اللامنتجة.
يجب على العرب ان يفكروا بشكل جدي في رؤية الأمور بشكلها العلمي و ليس كما أعتادوا : النظرة المثالية الساذجة!.
للامانة منقول