الهاشميون والدولة
الشريف الحسين بن علي
قاد الهاشميون حركة النهضة العربية الحديثة من اجل الاستقلال والسيادة العربية، وكانت البداية بإطلاق رصاصة الثورة العربية الكبرى في 10 حزيران/يونيو 1916م. لتبدأ مسيرة بناء الدولة العربية الكاملة بعد اكثر من اربعة قرون من التغييب والاستلاب.
تلك الحركة لا تنفصل عن حركة الوعي العربي التي أخذت تنمو وتتّسع آفاقها مع ازدياد نشاط الاحرار العرب الذين انتظموا في جمعيات استقلالية وكان معهم الامير فيصل الاول إبن الحسين، الذي كان حلقة الوصل بين العرب ووالده الشريف الحسين الذي اراده العرب ان يكون قائدا لحركة النهضة والثورة لمكانته الدينية والشرعية والتاريخية ولانه قد اراد للعرب الاستقلال والحرية منذ نهاية القرن التاسع عشر، فكان مصيره النفي الاول الى استنبول عام 1893م وليمكث فيها الى ان عاد اميرا على مكة المكرمة عام 1908م.
استمدّ الهاشميون صلاتهم القوية مع أعيان العرب انطلاقاً من الثقل الأخلاقي والسياسي الذي مثّلوه وقد تبوأوا الصدارة في تاريخ العرب الحديث بحكم مكانتهم الدينية، وكان لارتباطهم بمكة، أثر واضح في التقدّم بثبات وقوة لتمثيل آمال العرب في التحرر والاستقلال، وبناء دولة مستقلة في مطلع القرن العشرين.
السلالة والشرعية الدينية والتاريخية
يُعتبر قُصي بن كِلاب باني ومؤسس مجد هاشم القرشية، فكان للهاشميين شرف إدارة الحج، وعلى عاتقهم تقع أعمال الرفادة والسقاية ورفع اللواء. ويظهر أن نزعة الاستقلال كانت موجودة لديهم من خلال ريادتهم وقيادتهم السياسية و الاجتماعية، فأسسوا أول مكان للانتداء والاجتماع والتشاور، وهو دار الندوة، وكانوا يعقدون مجلسهم الذي يناقش السياسات العامة، وقسّموا مكة إلى أرباع وكانت هذه البداية مع نظام الدولة الذي عرفه بنو هاشم وارادوا تنظيم شؤون الناس على اساس العدل والمساواة، مثلما كان تأسيس الهاشميين لحلف الفضول الذي قاده بنو عبد مناف، وكان يهدف إلى توفير الأمن والاستقرار لمواكب الحج قبل الإسلام، ودفع الأذى عن الناس وتحقيق العدالة.
ظلّ حلف الفضول قيمة أساسية في مجتمع مكة بوصفه نموذجا للعمل الاجتماعي الإنساني، وقد شهد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم الحلف وهو ابن عشرين عاماً، وقيل خمسة وعشرين. وكان اجتماع الناس لأجله في دار عبدالله بن جدعان، وظلّ الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "لقد شهدتُ في دار عبدالله بن جدعان حلفاً لو دُعيتُ اليه في الإسلام لأجبت .. تحالفوا أن يردوا الفضول على أهلها وأن لا يعزّ – يغلب – ظالمٌ مظلوماً".
مبايعة الشريف الحسين بن علي (يسار الصورة) اميرا على مكة والحجاز وفي الصورة الوالي التركي، عام 1908.
هكذا كان أهل قريش وما يزالون، وما سيرة التاريخ وحوادثه وحقائقه إلا شواهد على تلك النزعة والقيمة الإنسانية التي رافقت مسيرتهم حتى اليوم، التي تتمثّل بإدراكهم العميق لقيمة إنسانية عالية الشأن، وهي قيمة الحرية المسؤولة و قيمة المجتمع المستقل والدولة ذات السيادة، وهذه بمجموعها من القيم التي يؤكدها الإسلام على الدوام.
احتفظ بنو هاشم بريادة السلالة القرشية، وظلّوا يمثِّلون طليعة المجتمع في مكة والمدينة، باعتبارهم صفوة أخلاقية وأهل الإدارة السياسية والاقتصادية، وقد حظوا بتقدير واحترام زوار البيت الحرام، وكان لرحلتَي الشتاء والصيف أطيب الأثر في أن عرف الناس في الحجاز و مصر واليمن والشام وأرض السواد مكانة الهاشميين ومنزلتهم التاريخية والدينية.
كان هاشم، جدّ الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أوسط الناس داراً في مكة وأعلاهم قدراً، وكان يهشم الثريد ويطعم الجوعى، وفي ذلك قال شاعرهم:
عمرو الذي هشم الثريد لقومه
ورجال مكة مسنتون سوانف
ومن هنا لُقِّب بهاشم، أي هاشم الثريد، وغلب ذلك على اسمه. وتنقّل بين البلاد حمّال أسفار جوّاب آفاق، حتى إذا ما ارتحل إلى غزّة وافته المنية فيها، لتحمل اسمه فيما بعد حتى اليوم، وقبره فيها شاهد على التاريخ وقد بنى الغزيّون مسجدا كبيرا عليه قائم الى يومنا هذا
الهاشميون في فجر الإسلام
كانت مكة أول العواصم وأهمها، وهي مع بداية البعثة في صدارة المدن العربية والممالك القديمة، بفضل ما حظيت به من مكانة سياسية وتنظيم إداري، وما كانت تشهده من حراك ثقافي ونشاط تجاري، وفيها كان يتبارى الشعراء وتُعلّق قصائدهم على جدران الكعبة.
إنها مكة عاصمة الكلمة العربية بامتياز، وفيها كانت معجزة التنزيل للقرآن الكريم الذي تنزل والمحفوظ بإذن الله ولقوله تعالى:
(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)
(الحجر، آية 9).
في مجتمع مكة المكرمة وفي ظل قوة العبادة الوثنية وسيطرة وسطوة وسلطان قريش، كانت ولادة الإسلام كرسالة دينية، وفلسفة عالمية، ودعوة إلى التسامح والمحبة والعدالة الإنسانية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن مكّة جاء البشير، بأن الله سبحانه وتعالى اصطفى من خلقه رسولاً ليُخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة ربِّ العباد، على قاعدة التوحيد وكلمة لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
انطلق الإسلام بالعشيرة الأولى، بني هاشم، الذين خاطب الله تعالى رسوله آمراً إياه أن يبدأ بهم
(وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِين)َ
(الشعراء، آية 214).
وكان على الهاشميين أن يواجهوا التحديات الأولى في سبيل البعثة، ليقدموا فيما بعد أول الشهداء وأكثرهم قدرا، فكانت أُحُد وحمزة سيد شهداء الجنة، ثم كانت مؤتة عام 13هـ التي روى جعفر الطيّار أرضها بدمائه الزكية، ثم كانت القادسية عام 15هـ، لتأمين الحدود الشرقية للدولة الإسلامية التي أخذت بالتوسع والامتداد، وبدأت آنذاك ملامح تشكل هوية الأمة الجديدة على قاعدة البر والتعاون والتعارف والتآلف، تطبيقاً لقوله تعالى:
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)
(الحجرات، آية 13).
العصور الإسلامية
يتحدر الهاشميون، أشراف مكة وآل البيت من أصولهم العربية العدنانية، ولم تشهد أيّة سلالة في التاريخ احتفاظاً بامتداد نسبها على النحو الذي اتصفّ به آل البيت خاصة، وكان لمركزهم الديني وتواصل خدمتهم وإدارتهم للحرم المكي سدنة وحماة أثره الممتد على مدى التاريخ سلالة جمعت المجد من كل أطرافه، وقد ابتدأ ليس فقط من رحلات الإيلاف ولا من سيرة محمد الأمين قبل أن يتنزل الوحي عليه، بل من موقع الهاشميين التاريخي بين قبائل العرب باعتبارهم قادة إصلاح ومشورة، وقد ترفعوا عن كل منصب إلا ما هو في خدمة أمة الإسلام بدءا من العشيرة الأقرب في أرض الحجاز فهم ما تقلدوا منصباً سياسياً أسوة بالأمويين والعباسيين أو الفاطميين، فقد احتفظوا بمكانتهم ونهضوا في خدمة الأمة اجتماعياً وكانوا أول الباذلين لأرواحهم في خدمة دعوة الإسلام الحنيف.
استمر جهاد آل البيت في حمل مشروع النهوض بالأمة على أساس المساواة والعدالة وتكريس حرية العقيدة، ومع أنهم نأوا بأنفسهم عن خصومات السياسة والعصبية، إلا أنهم واجهوا الصعاب، وتقلبات الأزمنة، وثبتوا عند حق الأمة ولم يميلوا عن الحق، متمسكين بكرامة المجتمع والإنسان وما عرفوا أبدا أن يقابلوا الأذى بمثله بل كان نهجهم التسامح وتأليف القلوب تيمنا بسيرة المصطفى عليه السلام.
في عصر بني أمية تحولت الحجاز معقلاً للزاهدين من الدنيا وكانت بيوت الهاشميين موئلاً لهم، ومع أن الأمويين رأوا فيهم منافساً، إلا أنهم في عصر بني العباس استردوا اعتبارهم السياسي حين رفع آل العباس شعار ثورتهم بالدعوة لآل البيت، وخلال هذه المرحلة الزمنية (40-656هـ/ 660-1258م) قدم الهاشميون الشهداء والعلماء والقادة لأمة الإسلام، وظل الهاشميون محل اهتمام من قبل خلفاء العباسيين والفاطميين والأيوبيين والمماليك. وقد حكموا مكة لفترة طويلة امتدت بين (598-1209هـ/ 1209-1925م) أي أنهم حكموا 716 سنة.
العصر الحديث
كانت سنة 1516م نقطة انعطاف وتحول في تاريخ المشرق العربي، حين دخلت جيوش السلطان سليم الأول العثماني بلاد الشام ومصر بعد انتصارها على المماليك في معركة مرج دابق عام 1516م، باسطة سلطان الدولة العثمانية ونفوذها عليهما كونهما إقليمين عربيين استراتيجيين، عقائدياً بالنسبة للحجاز واقتصادياً بالنسبة لليمن، وكان أشراف مكة قد ألزموا أنفسهم برغم كل تقلبات السياسة وهم سدنة المقدسات الإسلامية بالإعلان عن مباركتهم للسلطان سليم الأول، فكانوا أول من أيد وبارك الاعتراف بالسلطان سليم الأول سلطاناً عثمانياً على الأقاليم العربية، فقد أعلن محمد الثاني ابن بركات شريف مكة (1512-1566م) عن مباركته وتأييده، فأقره السلطان سليم شريفاً وحاكماً، وتلقب السلطان العثماني يومها بلقب (خادم الحرمين الشريفين).
ظلت الحجاز طوال العهد العثماني 1516-1916م تحت إدارة وحكم الهاشميين حتى رأى الهاشميون انحراف الأتراك عن مبادىء الإسلام واتجاههم إلى نزعه طورانية متشددة للقومية التركية. ومما راع الهاشميين تعسفُ ولاة الدولة في حكم رعايا الأمة وتعليق أعواد المشانق لأحرار العرب في دمشق، والمبالغة في تعذيب الناس وإرهابهم.
جيش الثورة العربية الكبرى خلال الزحف عام 1916.
ولما كان القتل والتهجير والتضييق على الأحرار العرب هي الممارسة التي سادت، إضافة إلى التضييق الاقتصادي ووطأة الضرائب وفرض التجنيد الإجباري، ولان الأتراك قد عادوا إلى الطورانية العنصرية التي تدعو إلى تتريك كل العناصر المحكومة تتريكا كاملا يشمل اللغة والثقافة والجنسية، ولان العالم بدأ يشهد حركات الاستقلال والسيادة وكل أمة تسعى إلى تكوين كيانها على أرضها وفقا لثقافتها الأصيلة ولغتها وتاريخها، فقد تحرك العرب ليكون لهم السيادة والاستقلال خاصة أنهم هم من ادخل النور في قلوب من يحكمونهم، وأنهم الأصل الذي يجب أن يسود وقد توجهوا إلى الشريف الحسين بن علي زعيما وقائدا من أول من دعا الى الاستقلال والسيادة فاستجاب لرغبات أحرار العرب الذين اجتمعوا في دمشق عام 1915م ومعهم الأمير فيصل بن الحسين، الذين صاغوا ميثاق دمشق الذي حدد مطالب العرب بالاستقلال وتأسيس دولة ذات سيادة ولها حدودها العربية الكاملة، فتبناه الشريف الحسين بن علي في سبيل حرية العرب ونهضتهم وجاء إعلان الثورة العربية الكبرى في العاشر من حزيران/يونيو عام 1916م لتكون ثورة التغيير والنهضة ووقف ومحو آثار أربعة قرون من التراجع والانحدار والوهن في روح الأمة، وإيذاناً باستعادة الروح العربية لهويتها وسيادتها.
الهاشميون وبناء الدولة الحديثة
بدأت الثورة العربية في يوم السبت العاشر من حزيران/يونيو لعام 1916م، وبدأت معها مسيرة الحرية والنهضة، إذ كانت الدولة العثمانية طلبت من الشريف الحسين بن علي بعد هزيمتها الفادحة في القوقاز في 15 كانون الثاني/يناير 1915م أن يعلن الجهاد المقدس باسم السلطان محمد رشاد الخامس وأن يعد قوات متطوعة من العرب ويرسلهم إلى سوريا، وأن يتعاون مع الوالي وهيب بيك في جمع وتجنيد العرب وتسليحهم وإعدادهم للالتحاق في الجبهات.
جيش الثورة العربية الكبرى خلال الزحف عام 1916.
فجاء جواب الشريف الحسين أمير مكة في برقية أرسلها إلى الصدر الأعظم جاء فيها:
نلبي ما تطلبه الدولة العلية إذا استجابت لمطالب العرب وهي:
إعلان العفو عن المحكومين السياسيين العرب.
منح سوريا إدارة لامركزية وأيضاً العراق.
اعتبار الشرافة بمكة معترفاً بها بحق الموروث.
ومن هنا كانت بداية الأزمة السياسية التي سرّعت في إعلان الثورة، وكان البريطانيون يواصلون مساعيهم لكسب العرب إلى جانبهم، فعرض السير هنري مكماهون المفوض السامي البريطاني في رسالة إلى الشريف الهاشمي الحسين بن علي في نيسان/ابريل 1915م استعداد بريطانيا لمساعدة العرب لنيل الاستقلال، وتلاها عدة رسائل عرفت باسم "رسائل حسين – مكماهون"، فوافق الشريف الحسين على الدخول في مفاوضات على أساس التحرير وتوحيد العرب وإعلان الاستقلال.
مثل الحسين بن علي خياراً عربيا فقد توجهت إليه أنظار الأحرار العرب في بلاد الشام والعراق وشمال أفريقيا الذين يتوقون ليوم الاستقلال ورأوا في الحسين تجسيداً للمكانة الدينية والخبرة السياسية والثقل المعنوي لدى المسلمين كافة.
وافقت بريطانيا على مطالب الحسين بن علي الذي شدد على ضرورة اعتبار فلسطين أرضاً عربية خالصة، في مواجهة ادعاءات بريطانية أرادت إخراج فلسطين من حدود الدولة العربية وبخاصة القدس العربية. في تلك اللحظة كان جمال باشا السفاح يصدر أحكام الإعدام الجائرة والعشوائية في بيروت ودمشق في السادس من أيار/مايو 1916م، وزج في السجون أعداداً كبيرة من الشخصيات الوطنية العربية، وكانت هذه إعلانا للصيحة العربية التي أطلقها الأمير فيصل من دمشق فجر اليوم الدامي بإعدام الأحرار العرب حين صاح يومها (طاب الموت يا عرب). فكانت مسيرة الثورة العربية في تحرير الأرض والإنسان، وخاضت الجيوش الشمالية بقيادة الأمير فيصل والشرقية بقيادة الأمير عبدالله والجنوبية بقيادة الأمير علي معارك في جبهات الحجاز في مكة والمدينة والطائف وجدة وعلى طول ساحل البحر الأحمر وفي جبهة الأردن في العقبة والطفيلة ومعان والأزرق والشوبك ووادي موسى والحسا وغيرها وفي جبهة سوريا الشمالية في الطريق إلى دمشق وحتى حمص وحلب والى آخر نقطة في الشمال وهي المسلمية.
انتهت الحرب العالمية الأولى وجاء مؤتمر لندن 1918م ثم مؤتمر باريس 1919م وشارك الامير فيصل بن الحسين ممثلاً عن العرب، وظهرت تطورات سياسية وبرزت أطماع لم تكن متوقعة فخاض العرب حربا من نوع جديد في الدفاع عن الاستقلال العربي والدولة والسيادة. فكانت حركة الأمير عبدالله بن الحسين من الحجاز إلى معان ثم إلى عمان لتبقى راية الثورة والعروبة والاستقلال تخفق بكل معاني النهضة والدولة الكاملة، فكان لقاء الأمير عبدالله بن الحسين بعد سلسلة من الاتصالات ومعه بعض قيادات حركة الاستقلال العربي ومنهم رشيد بيك طليع وغالب الشعلان وعوني عبد الهادي، مع وزير المستعمرات البريطانية ونستون تشرشل والمندوب السامي البريطاني السير هربرت صموئيل في القدس بتاريخ 29 آذار/مارس 1921م.
خاض الأمير عبدالله بن الحسين مفاوضات شاقة في ظل قرارات واتفاقيات مسبقة تهدف الى تمزيق الأرض العربية، إضافة لخطورة ما جاء في صك الانتداب الصادر عن عصبة الأمم الذي يضع ارض شرق الأردن ضمن الوعود التي ستنفذ على حساب ارض العرب.
وبخبرته السياسية ورؤيته للمستقبل استطاع الأمير عبدالله أن يعقد اتفاقا للبدء بتأسيس دولة في شرق الأردن مع تعديل صك الانتداب الذي نص على الاعتراف بأرض شرق الأردن كأرض عربية فتسنى للأمير عبدالله أن يعلن الدولة الأردنية المستقلة باسم حكومة شرقي الأردن التي تطورت إلى المملكة الأردنية الهاشمية.
أدوار تاريخية
تميزت السلالة الهاشمية التي حكمت ووجهت العرب في التاريخ الحديث، التي بها بدأ فصل بناء الدولة العربية الحديثة بما يلي:
أنها سلالة عربية من أعرق سلالة في تاريخ العرب فضلاً عن أنها من السلالات القديمة في التاريخ العربي، وقد تجلى دورها من خلال إسهامها في توظيف مكانتها الرفيعة في خدمة كل العرب والمسلمين.
شكل الهاشميون لبنة الأساس في بناء مكون الدولة العربية في سوريا والعراق والأردن، واستطاعوا أن يحفظوا البلاد العربية وتجنيبها الكثير من النوازل. وحالوا دون انقسام الصف العربي، استمراراً لدورهم التاريخي الذي بدأ بحلف الفضول ودار الندوة الى تنظيم شؤون الحج وخدمة بيت الله العتيق.
يحفظ التاريخ العربي تضحيات الهاشميين في سبيل الاستقلال والحرية للعرب، وامتازوا بالزهد والايثار والتضحية وتكريس كل الجهود لخدمة خير وصالح الأمتين العربية والاسلامية والدفاع عن مصالحهما في كل المحافل الدولية .
يشكل الهاشميون مرجعية فاضلة وقادرة على التعامل مع الأحداث الكبرى ومستوعبة لحركة السياسة العالمية ومدركة لطبيعة الأوزان التفاوضية في القضايا الدولية، وهذا ما ظهر في مفاوضات الشريف الحسين مع السير مكماهون عامي 1915و1916م ودور الامير فيصل الاول في مؤتمر باريس وموقفه من مقررات مؤتمر سان ريمو و لقاء عبد الله – تشرشل في القدس عام 1921م، حين أشار عبدالله المؤسس إلى ضرورة مراجعة أحزاب البلاد وأهلها فيما يخص عروض تشرشل عليه وفي التأكيد على رفض وعد بلفور.
الملوك الهاشميون: الشهداء والمشرعون وقادة البناء
يقول عجاج نويهض في مقدمة كتاب محمد العجلوني، ذكريات عن الثورة العربية الكبرى:
"كانت ثورة الحسين غايتها تحرير الأقطار العربية الآسيوية وإنالة العرب استقلالهم وتمكنهم من بناء الدولة العربية الكبرى التي فقدوها منذ قرون، فيستأنفون حياتهم الحرة، كأمة كريمة".
جيش الثورة العربية الكبرى خلال الزحف عام 1916.
ويقول الملك المؤسس عبدالله الأول ابن الحسين رحمه الله:
"نحن آل البيت إنما السبب في كل الممالك والزعامات العربية التي نراها اليوم".
وهذه صورة من الرؤى الهاشمية والثوابت والتأكيد على الحق العربي فهم الهاشميون الدعاة إلى الحق، الرافضون للظلم، المتسامون عن مطالب الدنيا، الكاظمون الغيظ، وأنهم في كل محفل يدعون إلى تحقيق حياة أفضل للإنسان العربي بكل كرامة وعزة مع نبذ العنف والتطرف، وهي سيرة بدأها الحسين بن علي ومضت دستور حياة من الملك المؤسس عبدالله الأول إلى جلالة الملك عبدالله الثاني.
الملك المؤسس (1882 - 1951م)
جاء أرض الأردن مجاهداً، وغادر الدنيا شهيدا، خاطب العرب وأهل بلاد الشام حين وصوله معان قادما من الحجاز ليقود حركة النهضة من جديد وانتصارا لعرش أخيه الملك فيصل الاول في سوريا بقوله:
[ ..كيف ترضون بأن تكون العاصمة الأموية مستعمرة فرنسية، إن رضيتم بذلك فالجزيرة لا ترضى وستأتيكم غضبى، وإن غايتنا الوحدة كما يعلم الله. أتينا لبذل المهج دونكم لا لتخريب البلاد ... أتاكم المستعمر ليسلبكم النعم الثلاث: الإيمان والحرية والذكورية ... أتاكم ليسرقكم فتكونوا غير أحرار ...]
21 تشرين الثاني/نوفمبر 1921م/ 11 ربيع أول 1339هـ
وقضى جلالة الملك عبدالله المؤسس شهيداً على أرض القدس التي حفظها وافتداها في العشرين من تموز 1951م يوم كان ذاهباً لأداء صلاة الجمعة التي كان يحرص على أدائها في المسجد الأقصى وكان برفقته حفيده الشاب جلالة المغفور له الملك الحسين بن طلال طيب الله ثراه.
ساعة ذاك كان القدر يواجه الملك المؤسس، ويفتح عين الشاب الملك الحسين أمام حدث كبير ومصاب جلل، قال عنه الملك الحسين بعدها: في هذا اليوم قد تساوت عندي قيم الحياة والموت.
جلالة الملك عبدالله المؤسس عربي النشأة، وقد تلقى علومه في مكة واستنبول، فمنحته الأولى الإيمان العميق، ومركزية الوعي وحمل طموحات المسلمين وآمالهم، وأعطته الثانية الخبرة في السياسة والحنكة والحكمة.
كانت ولادة الملك المؤسس في مكة المكرمة في الرابع من نيسان/ أبريل من عام 1882م، ومنذ الطفولة اطلع الأمير عبدالله على تاريخ القبائل وأعراف البدو، فنال من ثقافتهم وعرف العادات القبلية، وكان لذلك أثره البالغ في شخصيته فيما بعد، إذ غدا قصر رغدان الذي بني عام 1927م في عمان موئلاً للشعراء والأدباء الذين بادلهم الشعر وناظرهم فيه.
تجسدت في شخصية جلالة الملك المؤسس الخبرة السياسية والقدرة الفائقة على اجتياز الأزمات والتدخل الحاسم، فخلال الثورة العربية غدا الملك المؤسس، واحداً من قادتها، وبعد أن أعلن فيصل ملكاً على سوريا ظل الأمير عبدالله في صحبة والده في مكة، ولكن نهاية الحكم العربي في دمشق بعد معركة ميسلون24 تموز/يوليو 1920، دفعت به للقدوم إلى شرق الأردن لتبقى راية الثورة العربية مرفوعة و لتأسيس قاعدة انطلاق لدعم الثوار العرب ضد الانتداب الفرنسي وتحرير البلاد السورية.
وصول الامير عبدالله بن الحسين إلى عمان عام 1921.
قبيل ظهر يوم الأربعاء (2 آذار/مارس 1921م / 22 جمادى الآخرة 1339هـ) وصل الأمير عبدالله عمان قادماً من معان فاستقبله أهلها وأعيانها، وصارت عمان مركزا، وقد تجددت النهضة فيها وقبلة أحرار العرب في المنطقة العربية بأسرها وخاطب الأمير مستقبليه قائلاً:
[فاعلموا أنه ما جاء بي إلا حميتي وما تحَمّلَه والدي من العبء الثقيل، فأنا أُدركُ الواجب عليَّ، ولو كان لي سبعون نفساً لبذلتها في سبيل الأمة ولما عددت نفسي فعلتُ شيئاً، كونوا على ثقة بأننا نبذل النفوس والأموال في سبيل الوطن]
بوصول الأمير عبدالله الى عمان انتهى عهد الحكومات المحلية التي انتظمت تحت الراية الهاشمية، وشرع الأمير عبد الله بإقامة نظام سياسي وحكم مركزي. فعين عوني عبد الهادي رئيساً لديوانه ثم أرسل مع الشيخ كامل القصاب رسالة إلى أعضاء حزب الاتحاد السوري وأحزاب الجالية السورية في مصر، ليعلمهم بأهدافه وقد وصل كامل القصاب مصر يوم 18 آذار/مارس 1921م وجاء في الرسالة:
[حضرات الأفاضل أعضاء حزب الاتحاد السوري وأحزاب الجالية السورية العربية بمصر حفظهم المولى. السلام عليكم، .... فقد حملت إليكم الأنباء ولا ريب خبر قدومي عمان الذي لم يبعثني عليه غير رغبتي بتحرير البلاد السورية وإنقاذها مما ألم بها...]
وبهذا فان الملك عبدالله المؤسس أراد تكريس المطلب العربي بضرورة الاستقلال وأراد تأكيد استمرارية النهج الثوري العربي النهضوي، الذي جاءت به الثورة العربية، وكان عليه أن يواجه في سبيل ذلك الصعاب والتحديات.
خلال فترة حكمه التي استمرت طيلة السنوات الثلاثين 1921-1951م عمل الملك المؤسس على تحقيق إنجازات سياسية هامة، ومنها:
تحقيق الاعتراف السياسي الدولي بإمارة شرق الأردن.
إصدار القانون الأساسي سنة 1928م كأول دستور لإمارة شرق الأردن مع توقيع اتفاقية دولية هي المعاهدة الأردنية البريطانية.
إجراء الانتخابات لأول مجلس تشريعي أردني عام 1929م.
تأسيس الجيش العربي ورعاية نشأته وتطوره.
دعم حركة الاستقلاليين العرب باستقبالهم في عمان وإنشاء حزب الاستقلال وفتح الآفاق السياسية أمام تطور الوعي
السياسي الأردني، وتأسيس أحزاب سياسية وطنية.
تكريس هيبة الدولة وبناء مؤسساتها.
إعلان إمارة الأردن مملكة مستقلة في 25 أيار/مايو 1946م.
تحقيق وحدة الضفتين كأول نموذج حقيقي لوحدة عربية.
الملك عبدالله بن الحسين يوقع على إعلان الاستقلال في 25 أيار/مايو 1946 في قصر رغدان.
وبعد الاستقلال التام كان القرار الاردني العربي المستقل، فكانت البداية في القمة العربية الأولى في أنشاص في 28 أيار/مايو 1948م، ثم جاءت نكبة 1948م لتضع الأردن في مواجهة الحدث وتداعياته، فجاء الدفاع عن القدس من قبل أبطال الجيش العربي في باب الواد واللطرون وفي كل بقاع فلسطين ونقف عند مقتطفات من صور التضحية والبطولة في عام 1948م ما يلي:
[.. في ليلة 18 أيار ترأس الملك عبد الله جلسة عاجلة لمجلس الوزراء، وحضرها رئيس هيئة الأركان ومساعده، وعرض الملك عليهم خطورة الموقف في القدس وقال إنه يتحمل مسؤولية التدخل في القدس فتقرر أن يتقدم الجيش العربي]
وصدر الأمر يوم 18 أيار/مايو للكتيبة السادسة المرابطة في أريحا بالزحف إلى القدس وقوامها ثلاث سرايا مشاة توزعت على المواقع المهمة للمدينة وأبوابها الرئيسة، واستقبل أهالي القدس وفلسطين الجيش العربي ورأوا في جنوده رجالاً بواسل وقد حققوا النصر وحافظوا على القدس عربية واجزاء من فلسطين عرفت فيما بعد باسم الضفة الغربية .
بعد النكبة، أدرك العرب فداحة النتيجة، ورأوا في موقف الأردن الشجاع المدافع عنهم خير ضمانة لحماية ما تبقى من أرضهم، فتحرك الأخوة الفلسطينيون باتجاه الشقيق الأقرب الأردن، فتصاعدت الدعوة للوحدة مع الأردن وكان المؤتمر الفلسطيني المنعقد في عمان بتاريخ 1 تشرين الأول/اكتوبر 1948 برئاسة الشيخ سليمان التاجي الفاروقي طالب الملك عبدالله بأنه مفوض تفويضاً تاماً مطلقاً في أن يتحدث باسم عرب فلسطين وأن يفاوض عنهم ... وقد مهّد ذلك المناخ السياسي إلى عقد مؤتمر أريحا في الأول من كانون الأول/ديسمبر 1948م بحضور أعيان فلسطين وزعمائها ووجهائها وقرروا:
القبول بالوحدة الفلسطينية الأردنية.
مبايعة المؤتمر الملك عبد الله المعظم ملكاً على فلسطين كلها.
بعد ذلك مضى الأردن بقرار الوحدة وأجريت انتخابات جديدة في الأول من كانون الثاني/ يناير 1950م وانتخب المجلس نواباً عن فلسطين كلها والأردن وشكلت حكومة جديدة بتاريخ 12 نيسان 1950 برئاسة سعيد باشا المفتي.
لم يمهل القدر الملك المؤسس طويلاً، وكان جلالته مواظباً على أداء صلاة الجمعة في القدس، وفي يوم الجمعة العشرين من تموز/يوليو 1951م استشهد جلالته على أرض القدس الطاهرة التي دافع عنها فسال دمه الزكي عند عتبات المسجد الأقصى وعلى مقربة من ضريح والده الشريف الحسين الذي ضحى بعرشه على أن يفرط بذرة من ارض القدس وفلسطين.
الملك طلال بن عبدالله (1909 - 1972م)
أرسى الملك المؤسس أُسس الحكم على قواعد الوسطية والاعتدال والمساواة وليواصل الملك طلال بن عبدالله مسيرة البناء والحكم بنهج الخير والتطلع الى المستقبل.
خلال أقل من سنة حكمها جلالة الملك طلال رحمه الله، أنجز الدستور الأردني لعام 1952م الذي جسد آفاق التطور السياسي المرتكز إلى ضرورة مشاركة الشعب في صنع القرار من خلال العملية الديمقراطية الكاملة وإجراء انتخابات دورية لمجلس الأمة. وأقر في عهد جلالته حق التعليم المجاني وأنجزت العديد من التشريعات، وسعى جلالته إلى توطيد العلاقات الأردنية مع السعودية وسوريا ومصر، ولكن تعذر استمراره في الحكم بسبب مرضه، فكان القرار الدستوري بتشكيل مجلس الوصاية في 11 آب/اغسطس 1952م ريثما يبلغ الملك الحسين السن القانونية بموجب الدستور وهو ذات اليوم الذي تمت فيه المبايعة لجلالته ملكا على المملكة الأردنية الهاشمية.
الملك الحسين بن طلال (1935 - 1999م)
ولد جلالة المغفور له الملك الحسين بن طلال طيب الله ثراه في عمان في 14 تشرين الثاني/نوفمبر عام 1935، وتربى في البيت الهاشمي وقد حظي برعاية جده الملك المؤسس وتلقى علومه التربوية والعسكرية في مدارس الاردن وخارجها.
وفي الحادي عشر من آب/أغسطس من عام 1952 اعتلى جلالة الملك الحسين العرش، وفي الثاني من أيار/مايو 1953م تولى جلالته سلطاته الدستورية في ظروف عربية ودولية حرجة ودقيقة، ورغم كل هذا وخلال فترة حكمه استطاع أن يحقق أعلى مستويات النهوض المدنية والسياسية وأن يكون الباني لأردن الاعتدال والوسطية وان يحقق أفضل نوعية حياة لشعبه، وان يستمر الأردن بأداء دوره العربي والإقليمي بتكامل وتأثير وبرؤية المستقبل والخير لبني الإنسان من حيث التطور في مستوى الخدمات والتعليم والتقدم العلمي.
الملك الحسين بن طلال في لباس العرش عام 1953.
على مدى سبعة وأربعين عاما من قيادة جلالته فقد شهد الأردن تقدما ملموسا في كل المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وكان جلالته يرحمه الله يركز على الارتفاع بالمستوى المعيشي للمواطن الأردني وقد رفع جلالته شعار (الإنسان أغلى ما نملك) ركيزة أساسية في توجيه الخطط التنموية والتأكيد على ضرورة توزيع مكتسبات التنمية لتشمل كل المناطق وجميع فئات الشعب الأردني.
وأولى جلالته القوات المسلحة الأردنية الاهتمام الخاص، وقد عاش جلالته أحداث حرب حزيران وما آلت إليه من نتائج أثرت على خطط التنمية الأردنية، ولكن جلالة الملك الحسين يرحمه الله مضى في محو لآثارالحرب بدلا من حزيران وتنفيذ خطط النهوض حتى كان يوم المحو الأكبر في معركة الكرامة الأردنية في 21 آذار/مارس 1968م حين حقق الجيش العربي الأردني أعظم انتصار أعاد روح الثقة والانتصار لكل العرب.
وعلى الصعيد الإقليمي والعربي فقد كان الأردن من المؤسسين لجامعة الدول العربية والملتزم والمحترم لقراراتها، وقد أدى جلالة الملك الحسين بن طلال طيب الله ثراه دورا مسؤولا في وحدة الصف العربي ودعم القضايا العربية خاصة القضية المركزية فلسطين، وكان موقفه واضحا من بداية المسألة العراقية بالدعوة الواضحة بان يكون الحل عربيا وإلا فان المنطقة ستشهد كوارث لا حد لها.
ورعى جلالته مسيرة الحياة السياسية وتعزيز نهج الديمقراطية وقد واجه الأردن مسألة دستورية بسبب احتلال الضفة الغربية منه الأردن فكان الميثاق الوطني الأردني ومجالس الشورى لملء الفراغ الدستوري، وعندما كانت إرادة الأشقاء بان يتولوا المسؤولية بأنفسهم كان القرار الأردني في مؤتمر الرباط عام 1974 بالاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلا شرعيا ووحيدا للشعب الفلسطيني، وليتبع ذلك قرار فك الارتباط القانوني والإداري عام 1988، وبالتالي تسنى للأردن استئناف مسيرته الديمقراطية الدستورية، فكان عام 1989 بداية الديمقراطية الأردنية الحديثة على قاعدة التعددية السياسية وتأكيد نهج الشورى وتوسيع قاعدة المشاركة السياسية لتشمل المرأة، مرشحة وناخبة.
كان جلالة المغفور له الملك الحسين طيب الله ثراه رجل حرب وسلام، ويمتاز بالشجاعة وبعد الرؤيا، فقد أجاب عن سؤال وجّهه إليه محاوره في كتابه "مهنتي كملك":
[...ثمة نقطة لست اتفق وإياك إطلاقاً عليها، عندما قلت بأن عام 1967م كان حربي وأن عام 1973م لم يكن مثل ذلك. فمنذ سنين كانت جميع المعارك التي خاضتها الشعوب العربية هي معاركي، كانت جميعها تعنيني ... ]
ويضيف الحسين:
[..لقد قاتل الهاشميون منذ أربعة أجيال، في سبيل القضية نفسها والهدف والغاية نفسهما، كان الشريف الحسين في مكة أول من رفع الراية ثم جاء بعده الملك عبد الله وتلاه والدي، أما أنا من أبناء الجيل الرابع الذي قاتل في القضية نفسها والهدف والغاية نفسهما ...]
شجرة العائلة
الهاشميون والقدس
احتفظ الهاشميون بسلالتهم المقدسة تاريخياً في مكة منذ سنة 8هـ/629م وحتى بداية القرن العشرين، ولم نشهد في التاريخ السلالي العربي مثل تلك السلالة التي ينتمي إليها جلالة الملك عبدالله الثاني. فقد ارتبطت المقدسات الإسلامية بالهاشميين فحفظوا لها مكانتها ونأوا بها عن خصومات السياسة.
أوجد الهاشميون عقداً شرعياً وأخلاقياً بينهم والمقدسات الإسلامية التي كانت مهوى أفئدة أمة الإسلام، وكان حالهم مع القدس الشريف أولى القبلتين متلازما مع التأكيد دوما على تبنيهم لرسالتهم التي ناضلوا من اجلها وهي حرية الشعوب والحفاظ على كرامة الأمة، ومع قيام الدولة الأردنية ظلت الولاية الهاشمية على المقدسات العربية والإسلامية في مدينة القدس الشريف بمساجدها وكنائسها.
تضم القدس الشرقية أهم المقدسات الإسلامية وأَجلُّها قدراً، ففيها الحرم القدسي الشريف الذي يحوي مسجدين وأضرحة كثيرة للأنبياء والأولياء والصالحين، وتراثاً معمارياً إسلامياً من المدارس والسبل والزوايا والأسواق والمكتبات.
تعد قبة الصخرة المشرفة التي أتمّ بناءها الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان سنة 691م التي أخذت قدسيتها بسبب معراج الرسول محمد صلى الله عليه وسلم منها إلى السموات العلى، أحد أبرز معالم المعجزة الخالدة للرسول عليه الصلاة والسلام في رحلة الإسراء والمعراج، وتعد حادثة الإسراء والمعراج مناسبة إسلامية عالمية تصادف في السابع والعشرين من شهر رجب من كل سنة هجرية.
أما الركن الآخر من أركان الحرم الشريف فهو المسجد الأقصى الذي أسس في أيام الخليفة الراشدي الثاني عمر بن الخطاب، وأقيمت بعد ذلك قبة الصخرة إلى جانبه. وللجغرافي العربي الشهير المقدسي وصف بديع لقبة الصخرة إذ يقول:
[..فإذا بزغت عليها الشمس أشرقت القبة وتلألأت المنطقة ورأيت شيئاً عجيباً وعلى الجملة لم أرَ في الإسلام ولا سمعت أنّ في الشرق مثل هذه القبة.. ]
عبر تاريخ المسلمين حظيت القدس باهتمام خاص، وأضحت محجاً للمؤمنين وراح الرحالة يجيدون في وصف المدينة؛ فهذا الرحالة ناصري خسرو يصفها فيقول:
[...هي مدينة مشيدة على قمة جبل ليس بها ماء غير الأمطار وأراضيها ذات عيون، وأما المدينة فليس بها عين ماء وهي مدينة كبيرة وبها أسواق عالية..]
ويقول المؤرخ العربي نقولا زيادة:
[في أواخر القرن الخامس الهجري، الحادي عشر الميلادي احتل الإفرنج القدس، التي ظلت في أيديهم حتى استرجعها صلاح الدين الأيوبي سنة 583هـ/1187م. وخلال أزمنة التاريخ الإسلامي دخلت القدس في حكم الأيوبيين ثم المماليك ومن ثم العثمانيون، وهي مركز مرموق للمسلمين فيها أهم مراكزهم الدينية وفيها كنيسة القيامة، يقول الجغرافي العربي المقدسي في فضائل بيت المقدس، وأما الفضل فلأنها عرضة القيامة ومنها المحشر وإليها المنشر، وإنما فضلت مكة والمدينة والكعبة بالنبي صلى الله عليه وسلم، ويوم القيامة تزفان إليها فتحوي الفضل كله.]
الشريف الحسين بن علي
قاد الهاشميون حركة النهضة العربية الحديثة من اجل الاستقلال والسيادة العربية، وكانت البداية بإطلاق رصاصة الثورة العربية الكبرى في 10 حزيران/يونيو 1916م. لتبدأ مسيرة بناء الدولة العربية الكاملة بعد اكثر من اربعة قرون من التغييب والاستلاب.
تلك الحركة لا تنفصل عن حركة الوعي العربي التي أخذت تنمو وتتّسع آفاقها مع ازدياد نشاط الاحرار العرب الذين انتظموا في جمعيات استقلالية وكان معهم الامير فيصل الاول إبن الحسين، الذي كان حلقة الوصل بين العرب ووالده الشريف الحسين الذي اراده العرب ان يكون قائدا لحركة النهضة والثورة لمكانته الدينية والشرعية والتاريخية ولانه قد اراد للعرب الاستقلال والحرية منذ نهاية القرن التاسع عشر، فكان مصيره النفي الاول الى استنبول عام 1893م وليمكث فيها الى ان عاد اميرا على مكة المكرمة عام 1908م.
استمدّ الهاشميون صلاتهم القوية مع أعيان العرب انطلاقاً من الثقل الأخلاقي والسياسي الذي مثّلوه وقد تبوأوا الصدارة في تاريخ العرب الحديث بحكم مكانتهم الدينية، وكان لارتباطهم بمكة، أثر واضح في التقدّم بثبات وقوة لتمثيل آمال العرب في التحرر والاستقلال، وبناء دولة مستقلة في مطلع القرن العشرين.
السلالة والشرعية الدينية والتاريخية
يُعتبر قُصي بن كِلاب باني ومؤسس مجد هاشم القرشية، فكان للهاشميين شرف إدارة الحج، وعلى عاتقهم تقع أعمال الرفادة والسقاية ورفع اللواء. ويظهر أن نزعة الاستقلال كانت موجودة لديهم من خلال ريادتهم وقيادتهم السياسية و الاجتماعية، فأسسوا أول مكان للانتداء والاجتماع والتشاور، وهو دار الندوة، وكانوا يعقدون مجلسهم الذي يناقش السياسات العامة، وقسّموا مكة إلى أرباع وكانت هذه البداية مع نظام الدولة الذي عرفه بنو هاشم وارادوا تنظيم شؤون الناس على اساس العدل والمساواة، مثلما كان تأسيس الهاشميين لحلف الفضول الذي قاده بنو عبد مناف، وكان يهدف إلى توفير الأمن والاستقرار لمواكب الحج قبل الإسلام، ودفع الأذى عن الناس وتحقيق العدالة.
ظلّ حلف الفضول قيمة أساسية في مجتمع مكة بوصفه نموذجا للعمل الاجتماعي الإنساني، وقد شهد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم الحلف وهو ابن عشرين عاماً، وقيل خمسة وعشرين. وكان اجتماع الناس لأجله في دار عبدالله بن جدعان، وظلّ الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "لقد شهدتُ في دار عبدالله بن جدعان حلفاً لو دُعيتُ اليه في الإسلام لأجبت .. تحالفوا أن يردوا الفضول على أهلها وأن لا يعزّ – يغلب – ظالمٌ مظلوماً".
مبايعة الشريف الحسين بن علي (يسار الصورة) اميرا على مكة والحجاز وفي الصورة الوالي التركي، عام 1908.
هكذا كان أهل قريش وما يزالون، وما سيرة التاريخ وحوادثه وحقائقه إلا شواهد على تلك النزعة والقيمة الإنسانية التي رافقت مسيرتهم حتى اليوم، التي تتمثّل بإدراكهم العميق لقيمة إنسانية عالية الشأن، وهي قيمة الحرية المسؤولة و قيمة المجتمع المستقل والدولة ذات السيادة، وهذه بمجموعها من القيم التي يؤكدها الإسلام على الدوام.
احتفظ بنو هاشم بريادة السلالة القرشية، وظلّوا يمثِّلون طليعة المجتمع في مكة والمدينة، باعتبارهم صفوة أخلاقية وأهل الإدارة السياسية والاقتصادية، وقد حظوا بتقدير واحترام زوار البيت الحرام، وكان لرحلتَي الشتاء والصيف أطيب الأثر في أن عرف الناس في الحجاز و مصر واليمن والشام وأرض السواد مكانة الهاشميين ومنزلتهم التاريخية والدينية.
كان هاشم، جدّ الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أوسط الناس داراً في مكة وأعلاهم قدراً، وكان يهشم الثريد ويطعم الجوعى، وفي ذلك قال شاعرهم:
عمرو الذي هشم الثريد لقومه
ورجال مكة مسنتون سوانف
ومن هنا لُقِّب بهاشم، أي هاشم الثريد، وغلب ذلك على اسمه. وتنقّل بين البلاد حمّال أسفار جوّاب آفاق، حتى إذا ما ارتحل إلى غزّة وافته المنية فيها، لتحمل اسمه فيما بعد حتى اليوم، وقبره فيها شاهد على التاريخ وقد بنى الغزيّون مسجدا كبيرا عليه قائم الى يومنا هذا
الهاشميون في فجر الإسلام
كانت مكة أول العواصم وأهمها، وهي مع بداية البعثة في صدارة المدن العربية والممالك القديمة، بفضل ما حظيت به من مكانة سياسية وتنظيم إداري، وما كانت تشهده من حراك ثقافي ونشاط تجاري، وفيها كان يتبارى الشعراء وتُعلّق قصائدهم على جدران الكعبة.
إنها مكة عاصمة الكلمة العربية بامتياز، وفيها كانت معجزة التنزيل للقرآن الكريم الذي تنزل والمحفوظ بإذن الله ولقوله تعالى:
(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)
(الحجر، آية 9).
في مجتمع مكة المكرمة وفي ظل قوة العبادة الوثنية وسيطرة وسطوة وسلطان قريش، كانت ولادة الإسلام كرسالة دينية، وفلسفة عالمية، ودعوة إلى التسامح والمحبة والعدالة الإنسانية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن مكّة جاء البشير، بأن الله سبحانه وتعالى اصطفى من خلقه رسولاً ليُخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة ربِّ العباد، على قاعدة التوحيد وكلمة لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
انطلق الإسلام بالعشيرة الأولى، بني هاشم، الذين خاطب الله تعالى رسوله آمراً إياه أن يبدأ بهم
(وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِين)َ
(الشعراء، آية 214).
وكان على الهاشميين أن يواجهوا التحديات الأولى في سبيل البعثة، ليقدموا فيما بعد أول الشهداء وأكثرهم قدرا، فكانت أُحُد وحمزة سيد شهداء الجنة، ثم كانت مؤتة عام 13هـ التي روى جعفر الطيّار أرضها بدمائه الزكية، ثم كانت القادسية عام 15هـ، لتأمين الحدود الشرقية للدولة الإسلامية التي أخذت بالتوسع والامتداد، وبدأت آنذاك ملامح تشكل هوية الأمة الجديدة على قاعدة البر والتعاون والتعارف والتآلف، تطبيقاً لقوله تعالى:
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)
(الحجرات، آية 13).
العصور الإسلامية
يتحدر الهاشميون، أشراف مكة وآل البيت من أصولهم العربية العدنانية، ولم تشهد أيّة سلالة في التاريخ احتفاظاً بامتداد نسبها على النحو الذي اتصفّ به آل البيت خاصة، وكان لمركزهم الديني وتواصل خدمتهم وإدارتهم للحرم المكي سدنة وحماة أثره الممتد على مدى التاريخ سلالة جمعت المجد من كل أطرافه، وقد ابتدأ ليس فقط من رحلات الإيلاف ولا من سيرة محمد الأمين قبل أن يتنزل الوحي عليه، بل من موقع الهاشميين التاريخي بين قبائل العرب باعتبارهم قادة إصلاح ومشورة، وقد ترفعوا عن كل منصب إلا ما هو في خدمة أمة الإسلام بدءا من العشيرة الأقرب في أرض الحجاز فهم ما تقلدوا منصباً سياسياً أسوة بالأمويين والعباسيين أو الفاطميين، فقد احتفظوا بمكانتهم ونهضوا في خدمة الأمة اجتماعياً وكانوا أول الباذلين لأرواحهم في خدمة دعوة الإسلام الحنيف.
استمر جهاد آل البيت في حمل مشروع النهوض بالأمة على أساس المساواة والعدالة وتكريس حرية العقيدة، ومع أنهم نأوا بأنفسهم عن خصومات السياسة والعصبية، إلا أنهم واجهوا الصعاب، وتقلبات الأزمنة، وثبتوا عند حق الأمة ولم يميلوا عن الحق، متمسكين بكرامة المجتمع والإنسان وما عرفوا أبدا أن يقابلوا الأذى بمثله بل كان نهجهم التسامح وتأليف القلوب تيمنا بسيرة المصطفى عليه السلام.
في عصر بني أمية تحولت الحجاز معقلاً للزاهدين من الدنيا وكانت بيوت الهاشميين موئلاً لهم، ومع أن الأمويين رأوا فيهم منافساً، إلا أنهم في عصر بني العباس استردوا اعتبارهم السياسي حين رفع آل العباس شعار ثورتهم بالدعوة لآل البيت، وخلال هذه المرحلة الزمنية (40-656هـ/ 660-1258م) قدم الهاشميون الشهداء والعلماء والقادة لأمة الإسلام، وظل الهاشميون محل اهتمام من قبل خلفاء العباسيين والفاطميين والأيوبيين والمماليك. وقد حكموا مكة لفترة طويلة امتدت بين (598-1209هـ/ 1209-1925م) أي أنهم حكموا 716 سنة.
العصر الحديث
كانت سنة 1516م نقطة انعطاف وتحول في تاريخ المشرق العربي، حين دخلت جيوش السلطان سليم الأول العثماني بلاد الشام ومصر بعد انتصارها على المماليك في معركة مرج دابق عام 1516م، باسطة سلطان الدولة العثمانية ونفوذها عليهما كونهما إقليمين عربيين استراتيجيين، عقائدياً بالنسبة للحجاز واقتصادياً بالنسبة لليمن، وكان أشراف مكة قد ألزموا أنفسهم برغم كل تقلبات السياسة وهم سدنة المقدسات الإسلامية بالإعلان عن مباركتهم للسلطان سليم الأول، فكانوا أول من أيد وبارك الاعتراف بالسلطان سليم الأول سلطاناً عثمانياً على الأقاليم العربية، فقد أعلن محمد الثاني ابن بركات شريف مكة (1512-1566م) عن مباركته وتأييده، فأقره السلطان سليم شريفاً وحاكماً، وتلقب السلطان العثماني يومها بلقب (خادم الحرمين الشريفين).
ظلت الحجاز طوال العهد العثماني 1516-1916م تحت إدارة وحكم الهاشميين حتى رأى الهاشميون انحراف الأتراك عن مبادىء الإسلام واتجاههم إلى نزعه طورانية متشددة للقومية التركية. ومما راع الهاشميين تعسفُ ولاة الدولة في حكم رعايا الأمة وتعليق أعواد المشانق لأحرار العرب في دمشق، والمبالغة في تعذيب الناس وإرهابهم.
جيش الثورة العربية الكبرى خلال الزحف عام 1916.
ولما كان القتل والتهجير والتضييق على الأحرار العرب هي الممارسة التي سادت، إضافة إلى التضييق الاقتصادي ووطأة الضرائب وفرض التجنيد الإجباري، ولان الأتراك قد عادوا إلى الطورانية العنصرية التي تدعو إلى تتريك كل العناصر المحكومة تتريكا كاملا يشمل اللغة والثقافة والجنسية، ولان العالم بدأ يشهد حركات الاستقلال والسيادة وكل أمة تسعى إلى تكوين كيانها على أرضها وفقا لثقافتها الأصيلة ولغتها وتاريخها، فقد تحرك العرب ليكون لهم السيادة والاستقلال خاصة أنهم هم من ادخل النور في قلوب من يحكمونهم، وأنهم الأصل الذي يجب أن يسود وقد توجهوا إلى الشريف الحسين بن علي زعيما وقائدا من أول من دعا الى الاستقلال والسيادة فاستجاب لرغبات أحرار العرب الذين اجتمعوا في دمشق عام 1915م ومعهم الأمير فيصل بن الحسين، الذين صاغوا ميثاق دمشق الذي حدد مطالب العرب بالاستقلال وتأسيس دولة ذات سيادة ولها حدودها العربية الكاملة، فتبناه الشريف الحسين بن علي في سبيل حرية العرب ونهضتهم وجاء إعلان الثورة العربية الكبرى في العاشر من حزيران/يونيو عام 1916م لتكون ثورة التغيير والنهضة ووقف ومحو آثار أربعة قرون من التراجع والانحدار والوهن في روح الأمة، وإيذاناً باستعادة الروح العربية لهويتها وسيادتها.
الهاشميون وبناء الدولة الحديثة
بدأت الثورة العربية في يوم السبت العاشر من حزيران/يونيو لعام 1916م، وبدأت معها مسيرة الحرية والنهضة، إذ كانت الدولة العثمانية طلبت من الشريف الحسين بن علي بعد هزيمتها الفادحة في القوقاز في 15 كانون الثاني/يناير 1915م أن يعلن الجهاد المقدس باسم السلطان محمد رشاد الخامس وأن يعد قوات متطوعة من العرب ويرسلهم إلى سوريا، وأن يتعاون مع الوالي وهيب بيك في جمع وتجنيد العرب وتسليحهم وإعدادهم للالتحاق في الجبهات.
جيش الثورة العربية الكبرى خلال الزحف عام 1916.
فجاء جواب الشريف الحسين أمير مكة في برقية أرسلها إلى الصدر الأعظم جاء فيها:
نلبي ما تطلبه الدولة العلية إذا استجابت لمطالب العرب وهي:
إعلان العفو عن المحكومين السياسيين العرب.
منح سوريا إدارة لامركزية وأيضاً العراق.
اعتبار الشرافة بمكة معترفاً بها بحق الموروث.
ومن هنا كانت بداية الأزمة السياسية التي سرّعت في إعلان الثورة، وكان البريطانيون يواصلون مساعيهم لكسب العرب إلى جانبهم، فعرض السير هنري مكماهون المفوض السامي البريطاني في رسالة إلى الشريف الهاشمي الحسين بن علي في نيسان/ابريل 1915م استعداد بريطانيا لمساعدة العرب لنيل الاستقلال، وتلاها عدة رسائل عرفت باسم "رسائل حسين – مكماهون"، فوافق الشريف الحسين على الدخول في مفاوضات على أساس التحرير وتوحيد العرب وإعلان الاستقلال.
مثل الحسين بن علي خياراً عربيا فقد توجهت إليه أنظار الأحرار العرب في بلاد الشام والعراق وشمال أفريقيا الذين يتوقون ليوم الاستقلال ورأوا في الحسين تجسيداً للمكانة الدينية والخبرة السياسية والثقل المعنوي لدى المسلمين كافة.
وافقت بريطانيا على مطالب الحسين بن علي الذي شدد على ضرورة اعتبار فلسطين أرضاً عربية خالصة، في مواجهة ادعاءات بريطانية أرادت إخراج فلسطين من حدود الدولة العربية وبخاصة القدس العربية. في تلك اللحظة كان جمال باشا السفاح يصدر أحكام الإعدام الجائرة والعشوائية في بيروت ودمشق في السادس من أيار/مايو 1916م، وزج في السجون أعداداً كبيرة من الشخصيات الوطنية العربية، وكانت هذه إعلانا للصيحة العربية التي أطلقها الأمير فيصل من دمشق فجر اليوم الدامي بإعدام الأحرار العرب حين صاح يومها (طاب الموت يا عرب). فكانت مسيرة الثورة العربية في تحرير الأرض والإنسان، وخاضت الجيوش الشمالية بقيادة الأمير فيصل والشرقية بقيادة الأمير عبدالله والجنوبية بقيادة الأمير علي معارك في جبهات الحجاز في مكة والمدينة والطائف وجدة وعلى طول ساحل البحر الأحمر وفي جبهة الأردن في العقبة والطفيلة ومعان والأزرق والشوبك ووادي موسى والحسا وغيرها وفي جبهة سوريا الشمالية في الطريق إلى دمشق وحتى حمص وحلب والى آخر نقطة في الشمال وهي المسلمية.
انتهت الحرب العالمية الأولى وجاء مؤتمر لندن 1918م ثم مؤتمر باريس 1919م وشارك الامير فيصل بن الحسين ممثلاً عن العرب، وظهرت تطورات سياسية وبرزت أطماع لم تكن متوقعة فخاض العرب حربا من نوع جديد في الدفاع عن الاستقلال العربي والدولة والسيادة. فكانت حركة الأمير عبدالله بن الحسين من الحجاز إلى معان ثم إلى عمان لتبقى راية الثورة والعروبة والاستقلال تخفق بكل معاني النهضة والدولة الكاملة، فكان لقاء الأمير عبدالله بن الحسين بعد سلسلة من الاتصالات ومعه بعض قيادات حركة الاستقلال العربي ومنهم رشيد بيك طليع وغالب الشعلان وعوني عبد الهادي، مع وزير المستعمرات البريطانية ونستون تشرشل والمندوب السامي البريطاني السير هربرت صموئيل في القدس بتاريخ 29 آذار/مارس 1921م.
خاض الأمير عبدالله بن الحسين مفاوضات شاقة في ظل قرارات واتفاقيات مسبقة تهدف الى تمزيق الأرض العربية، إضافة لخطورة ما جاء في صك الانتداب الصادر عن عصبة الأمم الذي يضع ارض شرق الأردن ضمن الوعود التي ستنفذ على حساب ارض العرب.
وبخبرته السياسية ورؤيته للمستقبل استطاع الأمير عبدالله أن يعقد اتفاقا للبدء بتأسيس دولة في شرق الأردن مع تعديل صك الانتداب الذي نص على الاعتراف بأرض شرق الأردن كأرض عربية فتسنى للأمير عبدالله أن يعلن الدولة الأردنية المستقلة باسم حكومة شرقي الأردن التي تطورت إلى المملكة الأردنية الهاشمية.
أدوار تاريخية
تميزت السلالة الهاشمية التي حكمت ووجهت العرب في التاريخ الحديث، التي بها بدأ فصل بناء الدولة العربية الحديثة بما يلي:
أنها سلالة عربية من أعرق سلالة في تاريخ العرب فضلاً عن أنها من السلالات القديمة في التاريخ العربي، وقد تجلى دورها من خلال إسهامها في توظيف مكانتها الرفيعة في خدمة كل العرب والمسلمين.
شكل الهاشميون لبنة الأساس في بناء مكون الدولة العربية في سوريا والعراق والأردن، واستطاعوا أن يحفظوا البلاد العربية وتجنيبها الكثير من النوازل. وحالوا دون انقسام الصف العربي، استمراراً لدورهم التاريخي الذي بدأ بحلف الفضول ودار الندوة الى تنظيم شؤون الحج وخدمة بيت الله العتيق.
يحفظ التاريخ العربي تضحيات الهاشميين في سبيل الاستقلال والحرية للعرب، وامتازوا بالزهد والايثار والتضحية وتكريس كل الجهود لخدمة خير وصالح الأمتين العربية والاسلامية والدفاع عن مصالحهما في كل المحافل الدولية .
يشكل الهاشميون مرجعية فاضلة وقادرة على التعامل مع الأحداث الكبرى ومستوعبة لحركة السياسة العالمية ومدركة لطبيعة الأوزان التفاوضية في القضايا الدولية، وهذا ما ظهر في مفاوضات الشريف الحسين مع السير مكماهون عامي 1915و1916م ودور الامير فيصل الاول في مؤتمر باريس وموقفه من مقررات مؤتمر سان ريمو و لقاء عبد الله – تشرشل في القدس عام 1921م، حين أشار عبدالله المؤسس إلى ضرورة مراجعة أحزاب البلاد وأهلها فيما يخص عروض تشرشل عليه وفي التأكيد على رفض وعد بلفور.
الملوك الهاشميون: الشهداء والمشرعون وقادة البناء
يقول عجاج نويهض في مقدمة كتاب محمد العجلوني، ذكريات عن الثورة العربية الكبرى:
"كانت ثورة الحسين غايتها تحرير الأقطار العربية الآسيوية وإنالة العرب استقلالهم وتمكنهم من بناء الدولة العربية الكبرى التي فقدوها منذ قرون، فيستأنفون حياتهم الحرة، كأمة كريمة".
جيش الثورة العربية الكبرى خلال الزحف عام 1916.
ويقول الملك المؤسس عبدالله الأول ابن الحسين رحمه الله:
"نحن آل البيت إنما السبب في كل الممالك والزعامات العربية التي نراها اليوم".
وهذه صورة من الرؤى الهاشمية والثوابت والتأكيد على الحق العربي فهم الهاشميون الدعاة إلى الحق، الرافضون للظلم، المتسامون عن مطالب الدنيا، الكاظمون الغيظ، وأنهم في كل محفل يدعون إلى تحقيق حياة أفضل للإنسان العربي بكل كرامة وعزة مع نبذ العنف والتطرف، وهي سيرة بدأها الحسين بن علي ومضت دستور حياة من الملك المؤسس عبدالله الأول إلى جلالة الملك عبدالله الثاني.
الملك المؤسس (1882 - 1951م)
جاء أرض الأردن مجاهداً، وغادر الدنيا شهيدا، خاطب العرب وأهل بلاد الشام حين وصوله معان قادما من الحجاز ليقود حركة النهضة من جديد وانتصارا لعرش أخيه الملك فيصل الاول في سوريا بقوله:
[ ..كيف ترضون بأن تكون العاصمة الأموية مستعمرة فرنسية، إن رضيتم بذلك فالجزيرة لا ترضى وستأتيكم غضبى، وإن غايتنا الوحدة كما يعلم الله. أتينا لبذل المهج دونكم لا لتخريب البلاد ... أتاكم المستعمر ليسلبكم النعم الثلاث: الإيمان والحرية والذكورية ... أتاكم ليسرقكم فتكونوا غير أحرار ...]
21 تشرين الثاني/نوفمبر 1921م/ 11 ربيع أول 1339هـ
وقضى جلالة الملك عبدالله المؤسس شهيداً على أرض القدس التي حفظها وافتداها في العشرين من تموز 1951م يوم كان ذاهباً لأداء صلاة الجمعة التي كان يحرص على أدائها في المسجد الأقصى وكان برفقته حفيده الشاب جلالة المغفور له الملك الحسين بن طلال طيب الله ثراه.
ساعة ذاك كان القدر يواجه الملك المؤسس، ويفتح عين الشاب الملك الحسين أمام حدث كبير ومصاب جلل، قال عنه الملك الحسين بعدها: في هذا اليوم قد تساوت عندي قيم الحياة والموت.
جلالة الملك عبدالله المؤسس عربي النشأة، وقد تلقى علومه في مكة واستنبول، فمنحته الأولى الإيمان العميق، ومركزية الوعي وحمل طموحات المسلمين وآمالهم، وأعطته الثانية الخبرة في السياسة والحنكة والحكمة.
كانت ولادة الملك المؤسس في مكة المكرمة في الرابع من نيسان/ أبريل من عام 1882م، ومنذ الطفولة اطلع الأمير عبدالله على تاريخ القبائل وأعراف البدو، فنال من ثقافتهم وعرف العادات القبلية، وكان لذلك أثره البالغ في شخصيته فيما بعد، إذ غدا قصر رغدان الذي بني عام 1927م في عمان موئلاً للشعراء والأدباء الذين بادلهم الشعر وناظرهم فيه.
تجسدت في شخصية جلالة الملك المؤسس الخبرة السياسية والقدرة الفائقة على اجتياز الأزمات والتدخل الحاسم، فخلال الثورة العربية غدا الملك المؤسس، واحداً من قادتها، وبعد أن أعلن فيصل ملكاً على سوريا ظل الأمير عبدالله في صحبة والده في مكة، ولكن نهاية الحكم العربي في دمشق بعد معركة ميسلون24 تموز/يوليو 1920، دفعت به للقدوم إلى شرق الأردن لتبقى راية الثورة العربية مرفوعة و لتأسيس قاعدة انطلاق لدعم الثوار العرب ضد الانتداب الفرنسي وتحرير البلاد السورية.
وصول الامير عبدالله بن الحسين إلى عمان عام 1921.
قبيل ظهر يوم الأربعاء (2 آذار/مارس 1921م / 22 جمادى الآخرة 1339هـ) وصل الأمير عبدالله عمان قادماً من معان فاستقبله أهلها وأعيانها، وصارت عمان مركزا، وقد تجددت النهضة فيها وقبلة أحرار العرب في المنطقة العربية بأسرها وخاطب الأمير مستقبليه قائلاً:
[فاعلموا أنه ما جاء بي إلا حميتي وما تحَمّلَه والدي من العبء الثقيل، فأنا أُدركُ الواجب عليَّ، ولو كان لي سبعون نفساً لبذلتها في سبيل الأمة ولما عددت نفسي فعلتُ شيئاً، كونوا على ثقة بأننا نبذل النفوس والأموال في سبيل الوطن]
بوصول الأمير عبدالله الى عمان انتهى عهد الحكومات المحلية التي انتظمت تحت الراية الهاشمية، وشرع الأمير عبد الله بإقامة نظام سياسي وحكم مركزي. فعين عوني عبد الهادي رئيساً لديوانه ثم أرسل مع الشيخ كامل القصاب رسالة إلى أعضاء حزب الاتحاد السوري وأحزاب الجالية السورية في مصر، ليعلمهم بأهدافه وقد وصل كامل القصاب مصر يوم 18 آذار/مارس 1921م وجاء في الرسالة:
[حضرات الأفاضل أعضاء حزب الاتحاد السوري وأحزاب الجالية السورية العربية بمصر حفظهم المولى. السلام عليكم، .... فقد حملت إليكم الأنباء ولا ريب خبر قدومي عمان الذي لم يبعثني عليه غير رغبتي بتحرير البلاد السورية وإنقاذها مما ألم بها...]
وبهذا فان الملك عبدالله المؤسس أراد تكريس المطلب العربي بضرورة الاستقلال وأراد تأكيد استمرارية النهج الثوري العربي النهضوي، الذي جاءت به الثورة العربية، وكان عليه أن يواجه في سبيل ذلك الصعاب والتحديات.
خلال فترة حكمه التي استمرت طيلة السنوات الثلاثين 1921-1951م عمل الملك المؤسس على تحقيق إنجازات سياسية هامة، ومنها:
تحقيق الاعتراف السياسي الدولي بإمارة شرق الأردن.
إصدار القانون الأساسي سنة 1928م كأول دستور لإمارة شرق الأردن مع توقيع اتفاقية دولية هي المعاهدة الأردنية البريطانية.
إجراء الانتخابات لأول مجلس تشريعي أردني عام 1929م.
تأسيس الجيش العربي ورعاية نشأته وتطوره.
دعم حركة الاستقلاليين العرب باستقبالهم في عمان وإنشاء حزب الاستقلال وفتح الآفاق السياسية أمام تطور الوعي
السياسي الأردني، وتأسيس أحزاب سياسية وطنية.
تكريس هيبة الدولة وبناء مؤسساتها.
إعلان إمارة الأردن مملكة مستقلة في 25 أيار/مايو 1946م.
تحقيق وحدة الضفتين كأول نموذج حقيقي لوحدة عربية.
الملك عبدالله بن الحسين يوقع على إعلان الاستقلال في 25 أيار/مايو 1946 في قصر رغدان.
وبعد الاستقلال التام كان القرار الاردني العربي المستقل، فكانت البداية في القمة العربية الأولى في أنشاص في 28 أيار/مايو 1948م، ثم جاءت نكبة 1948م لتضع الأردن في مواجهة الحدث وتداعياته، فجاء الدفاع عن القدس من قبل أبطال الجيش العربي في باب الواد واللطرون وفي كل بقاع فلسطين ونقف عند مقتطفات من صور التضحية والبطولة في عام 1948م ما يلي:
[.. في ليلة 18 أيار ترأس الملك عبد الله جلسة عاجلة لمجلس الوزراء، وحضرها رئيس هيئة الأركان ومساعده، وعرض الملك عليهم خطورة الموقف في القدس وقال إنه يتحمل مسؤولية التدخل في القدس فتقرر أن يتقدم الجيش العربي]
وصدر الأمر يوم 18 أيار/مايو للكتيبة السادسة المرابطة في أريحا بالزحف إلى القدس وقوامها ثلاث سرايا مشاة توزعت على المواقع المهمة للمدينة وأبوابها الرئيسة، واستقبل أهالي القدس وفلسطين الجيش العربي ورأوا في جنوده رجالاً بواسل وقد حققوا النصر وحافظوا على القدس عربية واجزاء من فلسطين عرفت فيما بعد باسم الضفة الغربية .
بعد النكبة، أدرك العرب فداحة النتيجة، ورأوا في موقف الأردن الشجاع المدافع عنهم خير ضمانة لحماية ما تبقى من أرضهم، فتحرك الأخوة الفلسطينيون باتجاه الشقيق الأقرب الأردن، فتصاعدت الدعوة للوحدة مع الأردن وكان المؤتمر الفلسطيني المنعقد في عمان بتاريخ 1 تشرين الأول/اكتوبر 1948 برئاسة الشيخ سليمان التاجي الفاروقي طالب الملك عبدالله بأنه مفوض تفويضاً تاماً مطلقاً في أن يتحدث باسم عرب فلسطين وأن يفاوض عنهم ... وقد مهّد ذلك المناخ السياسي إلى عقد مؤتمر أريحا في الأول من كانون الأول/ديسمبر 1948م بحضور أعيان فلسطين وزعمائها ووجهائها وقرروا:
القبول بالوحدة الفلسطينية الأردنية.
مبايعة المؤتمر الملك عبد الله المعظم ملكاً على فلسطين كلها.
بعد ذلك مضى الأردن بقرار الوحدة وأجريت انتخابات جديدة في الأول من كانون الثاني/ يناير 1950م وانتخب المجلس نواباً عن فلسطين كلها والأردن وشكلت حكومة جديدة بتاريخ 12 نيسان 1950 برئاسة سعيد باشا المفتي.
لم يمهل القدر الملك المؤسس طويلاً، وكان جلالته مواظباً على أداء صلاة الجمعة في القدس، وفي يوم الجمعة العشرين من تموز/يوليو 1951م استشهد جلالته على أرض القدس الطاهرة التي دافع عنها فسال دمه الزكي عند عتبات المسجد الأقصى وعلى مقربة من ضريح والده الشريف الحسين الذي ضحى بعرشه على أن يفرط بذرة من ارض القدس وفلسطين.
الملك طلال بن عبدالله (1909 - 1972م)
أرسى الملك المؤسس أُسس الحكم على قواعد الوسطية والاعتدال والمساواة وليواصل الملك طلال بن عبدالله مسيرة البناء والحكم بنهج الخير والتطلع الى المستقبل.
خلال أقل من سنة حكمها جلالة الملك طلال رحمه الله، أنجز الدستور الأردني لعام 1952م الذي جسد آفاق التطور السياسي المرتكز إلى ضرورة مشاركة الشعب في صنع القرار من خلال العملية الديمقراطية الكاملة وإجراء انتخابات دورية لمجلس الأمة. وأقر في عهد جلالته حق التعليم المجاني وأنجزت العديد من التشريعات، وسعى جلالته إلى توطيد العلاقات الأردنية مع السعودية وسوريا ومصر، ولكن تعذر استمراره في الحكم بسبب مرضه، فكان القرار الدستوري بتشكيل مجلس الوصاية في 11 آب/اغسطس 1952م ريثما يبلغ الملك الحسين السن القانونية بموجب الدستور وهو ذات اليوم الذي تمت فيه المبايعة لجلالته ملكا على المملكة الأردنية الهاشمية.
الملك الحسين بن طلال (1935 - 1999م)
ولد جلالة المغفور له الملك الحسين بن طلال طيب الله ثراه في عمان في 14 تشرين الثاني/نوفمبر عام 1935، وتربى في البيت الهاشمي وقد حظي برعاية جده الملك المؤسس وتلقى علومه التربوية والعسكرية في مدارس الاردن وخارجها.
وفي الحادي عشر من آب/أغسطس من عام 1952 اعتلى جلالة الملك الحسين العرش، وفي الثاني من أيار/مايو 1953م تولى جلالته سلطاته الدستورية في ظروف عربية ودولية حرجة ودقيقة، ورغم كل هذا وخلال فترة حكمه استطاع أن يحقق أعلى مستويات النهوض المدنية والسياسية وأن يكون الباني لأردن الاعتدال والوسطية وان يحقق أفضل نوعية حياة لشعبه، وان يستمر الأردن بأداء دوره العربي والإقليمي بتكامل وتأثير وبرؤية المستقبل والخير لبني الإنسان من حيث التطور في مستوى الخدمات والتعليم والتقدم العلمي.
الملك الحسين بن طلال في لباس العرش عام 1953.
على مدى سبعة وأربعين عاما من قيادة جلالته فقد شهد الأردن تقدما ملموسا في كل المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وكان جلالته يرحمه الله يركز على الارتفاع بالمستوى المعيشي للمواطن الأردني وقد رفع جلالته شعار (الإنسان أغلى ما نملك) ركيزة أساسية في توجيه الخطط التنموية والتأكيد على ضرورة توزيع مكتسبات التنمية لتشمل كل المناطق وجميع فئات الشعب الأردني.
وأولى جلالته القوات المسلحة الأردنية الاهتمام الخاص، وقد عاش جلالته أحداث حرب حزيران وما آلت إليه من نتائج أثرت على خطط التنمية الأردنية، ولكن جلالة الملك الحسين يرحمه الله مضى في محو لآثارالحرب بدلا من حزيران وتنفيذ خطط النهوض حتى كان يوم المحو الأكبر في معركة الكرامة الأردنية في 21 آذار/مارس 1968م حين حقق الجيش العربي الأردني أعظم انتصار أعاد روح الثقة والانتصار لكل العرب.
وعلى الصعيد الإقليمي والعربي فقد كان الأردن من المؤسسين لجامعة الدول العربية والملتزم والمحترم لقراراتها، وقد أدى جلالة الملك الحسين بن طلال طيب الله ثراه دورا مسؤولا في وحدة الصف العربي ودعم القضايا العربية خاصة القضية المركزية فلسطين، وكان موقفه واضحا من بداية المسألة العراقية بالدعوة الواضحة بان يكون الحل عربيا وإلا فان المنطقة ستشهد كوارث لا حد لها.
ورعى جلالته مسيرة الحياة السياسية وتعزيز نهج الديمقراطية وقد واجه الأردن مسألة دستورية بسبب احتلال الضفة الغربية منه الأردن فكان الميثاق الوطني الأردني ومجالس الشورى لملء الفراغ الدستوري، وعندما كانت إرادة الأشقاء بان يتولوا المسؤولية بأنفسهم كان القرار الأردني في مؤتمر الرباط عام 1974 بالاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلا شرعيا ووحيدا للشعب الفلسطيني، وليتبع ذلك قرار فك الارتباط القانوني والإداري عام 1988، وبالتالي تسنى للأردن استئناف مسيرته الديمقراطية الدستورية، فكان عام 1989 بداية الديمقراطية الأردنية الحديثة على قاعدة التعددية السياسية وتأكيد نهج الشورى وتوسيع قاعدة المشاركة السياسية لتشمل المرأة، مرشحة وناخبة.
كان جلالة المغفور له الملك الحسين طيب الله ثراه رجل حرب وسلام، ويمتاز بالشجاعة وبعد الرؤيا، فقد أجاب عن سؤال وجّهه إليه محاوره في كتابه "مهنتي كملك":
[...ثمة نقطة لست اتفق وإياك إطلاقاً عليها، عندما قلت بأن عام 1967م كان حربي وأن عام 1973م لم يكن مثل ذلك. فمنذ سنين كانت جميع المعارك التي خاضتها الشعوب العربية هي معاركي، كانت جميعها تعنيني ... ]
ويضيف الحسين:
[..لقد قاتل الهاشميون منذ أربعة أجيال، في سبيل القضية نفسها والهدف والغاية نفسهما، كان الشريف الحسين في مكة أول من رفع الراية ثم جاء بعده الملك عبد الله وتلاه والدي، أما أنا من أبناء الجيل الرابع الذي قاتل في القضية نفسها والهدف والغاية نفسهما ...]
شجرة العائلة
الهاشميون والقدس
احتفظ الهاشميون بسلالتهم المقدسة تاريخياً في مكة منذ سنة 8هـ/629م وحتى بداية القرن العشرين، ولم نشهد في التاريخ السلالي العربي مثل تلك السلالة التي ينتمي إليها جلالة الملك عبدالله الثاني. فقد ارتبطت المقدسات الإسلامية بالهاشميين فحفظوا لها مكانتها ونأوا بها عن خصومات السياسة.
أوجد الهاشميون عقداً شرعياً وأخلاقياً بينهم والمقدسات الإسلامية التي كانت مهوى أفئدة أمة الإسلام، وكان حالهم مع القدس الشريف أولى القبلتين متلازما مع التأكيد دوما على تبنيهم لرسالتهم التي ناضلوا من اجلها وهي حرية الشعوب والحفاظ على كرامة الأمة، ومع قيام الدولة الأردنية ظلت الولاية الهاشمية على المقدسات العربية والإسلامية في مدينة القدس الشريف بمساجدها وكنائسها.
تضم القدس الشرقية أهم المقدسات الإسلامية وأَجلُّها قدراً، ففيها الحرم القدسي الشريف الذي يحوي مسجدين وأضرحة كثيرة للأنبياء والأولياء والصالحين، وتراثاً معمارياً إسلامياً من المدارس والسبل والزوايا والأسواق والمكتبات.
تعد قبة الصخرة المشرفة التي أتمّ بناءها الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان سنة 691م التي أخذت قدسيتها بسبب معراج الرسول محمد صلى الله عليه وسلم منها إلى السموات العلى، أحد أبرز معالم المعجزة الخالدة للرسول عليه الصلاة والسلام في رحلة الإسراء والمعراج، وتعد حادثة الإسراء والمعراج مناسبة إسلامية عالمية تصادف في السابع والعشرين من شهر رجب من كل سنة هجرية.
أما الركن الآخر من أركان الحرم الشريف فهو المسجد الأقصى الذي أسس في أيام الخليفة الراشدي الثاني عمر بن الخطاب، وأقيمت بعد ذلك قبة الصخرة إلى جانبه. وللجغرافي العربي الشهير المقدسي وصف بديع لقبة الصخرة إذ يقول:
[..فإذا بزغت عليها الشمس أشرقت القبة وتلألأت المنطقة ورأيت شيئاً عجيباً وعلى الجملة لم أرَ في الإسلام ولا سمعت أنّ في الشرق مثل هذه القبة.. ]
عبر تاريخ المسلمين حظيت القدس باهتمام خاص، وأضحت محجاً للمؤمنين وراح الرحالة يجيدون في وصف المدينة؛ فهذا الرحالة ناصري خسرو يصفها فيقول:
[...هي مدينة مشيدة على قمة جبل ليس بها ماء غير الأمطار وأراضيها ذات عيون، وأما المدينة فليس بها عين ماء وهي مدينة كبيرة وبها أسواق عالية..]
ويقول المؤرخ العربي نقولا زيادة:
[في أواخر القرن الخامس الهجري، الحادي عشر الميلادي احتل الإفرنج القدس، التي ظلت في أيديهم حتى استرجعها صلاح الدين الأيوبي سنة 583هـ/1187م. وخلال أزمنة التاريخ الإسلامي دخلت القدس في حكم الأيوبيين ثم المماليك ومن ثم العثمانيون، وهي مركز مرموق للمسلمين فيها أهم مراكزهم الدينية وفيها كنيسة القيامة، يقول الجغرافي العربي المقدسي في فضائل بيت المقدس، وأما الفضل فلأنها عرضة القيامة ومنها المحشر وإليها المنشر، وإنما فضلت مكة والمدينة والكعبة بالنبي صلى الله عليه وسلم، ويوم القيامة تزفان إليها فتحوي الفضل كله.]