بدأت العلاقة بين الدولة العثمانية وشبه جزيرة المورة (اليونان) عندما قام السلطان
محمد الفاتح بفتح تلك البلاد سنة (863هـ = 1458م) في حملته الهمايونية (السلطانية)
السابعة، حيث استطاع دخول مدينة أثينا التي يطلق عليها العثمانيون مدينة الحكماء.
وكان من سماحة محمد الفاتح أنه سمح للدوق اللاتيني فرانكو أن يأخذ كل ثروته ويذهب
إلى إيطاليا، ثم دخل الفاتح مدينة باترياس وأسس لواء تركيا، وسمح لأميرين يونانيين
بإدارة ثلثي المورة تحت الحماية العثمانية، وقام بهدم ما يقرب من 292 قلعة بمدفعيته من أصل 300 قلعة كانت موجودة في المورة.
ما قبل الثورة
-------------
كانت الشرارة الأولى لاندلاع الثورة اليونانية على الخلافة العثمانية في (10 من جمادى الأولى 1236 هـ = 12 من فبراير 1821م) وذلك عندما قام حوالي 10 آلاف مسلح بقيادة جرمانوس Germanos أسقف باتراس بحمل علم عليه صورة مريم العذراء وهو يصيح: "يا أيتها الأمة اليونانية.. هيا أفيقي واقتلي الأتراك"، وقام الثوار الذين كان يتزعمهم القساوسة والأساقفة بحصار قلعة المدينة.
اشتعلت الثورة في جميع اليونان على إثر هذه الشرارة التي كانت معدة بعناية بالغة. وساهم في دعمها الدول الأوربية، وفي مقدمتها روسيا القيصرية باعتبارها حامية المذهب الأرثوذكسي الذي كان يعتنقه اليونانيون.
وكان البطريرك الأرثوذكسي جريجوريوس المقيم في إستانبول هو المحرك الأول لهذه الثورة، ويجمع كل خيوطها في يديه.
تأثر عدد من الشباب اليوناني الذي كان خارج اليونان بشعارات الثورة الفرنسية، فأنشئوا العديد من الجمعيات في فرنسا والنمسا وغيرها من الدول الأوربية، كان أهمها: جمعية الفكرة العظمى.
قامت هذه الجمعيات اليونانية بأنشطة سرية داخل اليونان وغيرها، وأخذت تجند الكثير من اليونانيين لأفكارها، وكان من بين تلك الأهداف: إحياء الإمبراطورية البيزنطية، واسترداد إستانبول باعتبارها ملكا للأرثوذكس وإخراج الأتراك من أوربا، ودفعهم ثانية إلى قارة آسيا التي خرجوا منها.
رأت روسيا في الثورة اليونانية فرصة لتمزيق الدولة العثمانية التي تناصبها العداء، ورأى ألكسندر الأول قيصر روسيا أن مساندة اليونانيين ستخدم المصالح الروسية، حيث ستظهر الروس حماة للمذهب الأرثوذكسي في العالم، وهو ما سيقود إلى تأليب كثير من العناصر الأرثوذكسية داخل الدولة العثمانية، مما سيضعفها عن مواجهة روسيا في أي حرب مقبلة، خاصة أن الناطقين باللغة اليونانية ضمن الدولة العثمانية كانوا يتركزون في المورة وكريت وقبرص، وكان هؤلاء يشكلون ما يقرب من نصف سكان تلك المناطق، أي إنهم يتفوقون على العنصر التركي الموجود بين ظهرانيهم، مما يجعل أي ثورة ذات قوة وعنفوان ودموية في ذات الوقت.
الثورة في كل اليونان
-------------------
اشتعلت الثورة في أغلب مناطق اليونان في وقت واحد؛ حتى لا تقوى الحامية العثمانية على مواجهتها، خاصة مع إمدادات السلاح التي تدفقت على الثوار.
وعندما رأى القائد العثماني في المورة هذه الاستعدادات وعنفوانها أخلى كثيرا من المدن في المروة تاركا العنصر التركي المسلم فريسة سهلة للثوار، فقتل الكثير من الأتراك المدنيين بشكل جماعي مثلما حدث في قلعة تربيوليجة في (9 من المحرم 1237 هـ =5 من أكتوبر 1821م) حيث قُتل 8 آلاف مدني تركي بشكل جماعي بمن فيهم الأطفال حديثو الولادة؛ إذ كان يسكن اليونان في تلك الفترة حوالي 50 ألف تركي، كان بعضهم مستوطنا لليونان منذ ما يقرب 400 عام أي منذ الفتح العثماني الأول لها، وبذلك استطاع الثوار السيطرة على المورة في حوالي 3 أسابيع.
ومع اشتداد الثورة في المورة بدأ المتطوعون يتدفقون إليها، فدخلها 3 آلاف متطوع من بينهم ابن رئيس الولايات المتحدة جورج واشنطن، كما ساهم الكثير من كبار شعراء أوربا وأدبائها في مساندة الثوار، وأصر الثوار على فكرة إحياء الإمبراطورية البيزنطية من جديد، وأعلن الثوار تأسيس اليونان التي تضم المورة وجزر كيكلاد وجزيرة آغري بوز، وتم انتخاب رئيس للدولة في (20 من ربيع الآخر 1237هـ= 13 من يناير 1822م)، وتشكيل جمعية وطنية من المدن الثائرة مكونة من 60 عضوا، وفي (1238هـ= 1823م) تم اتخاذ مدينة نوبلي عاصمة ومقرا للحكومة الثائرة.
وقد دخلت مدينة ساقيز الواقعة في بحر إيجه التي كان يقطنها حوالي 80 ألف نسمة في خط الثورة على العثمانيين، لكن القائد البحري العثماني زادة علي باشا استطاع إنهاء تمردها في (19 من رجب 1237 هـ=11 إبريل 1822م) وقتل الكثير من الثوار، وهو ما أثار مشاعر مثقفي أوربا، فنظموا الأشعار وألفوا الروايات في وحشية الأتراك.
تحديد الرأس وبتره
---------------------
تعجبت الدولة العثمانية من الدموية التي مارسها الثوار اليونانيون ضد الأتراك رغم أن الدولة العثمانية كفلت لهم حرية المذهب، وحالت دون سحق الكاثوليك للأرثوذكس في كثير من المناطق. وكان السلطان العثماني يعتبر نفسه حامي المذهب الأرثوذكسي.
استطاعت المخابرات العثمانية أن تحدد الرأس المدبر وهو البطريرك الأرثوذكسي جريجوريوس المقيم في إستانبول، فأمر السلطان العثماني محمود الثاني بتفتيش مقره بدقة، وعثر على أوراق تثبت ضلوعه في الثورة وقيامه بمراسلات مع الدول الأوربية وحثها على مساندة اليونانيين، ومن ذلك الرسالة التي بعث بها إلى قيصر روسيا يبين له كيفية هدم الدولة العثمانية.
وإمعانا في صرف الأنظار عنه أصدر جريجوريوس حرمانا كنسيا لكل من يشارك في تلك الثورة، لكن هذه الحيلة لم تخدع العثمانيين.
وقد أمر السلطان محمود الثاني بالقبض على جريجوريوس، حيث اعترف بجميع أنشطته في الثورة، ومن ثَم صدر الحكم بإعدامه ونفذ في يوم عيد الفصح عند الأرثوذكس (20 من رجب 1236 هـ= 22 من إبريل 1821م) في بطريركية فنار وظل معلقا 3 أيام، مكتوبا في عنقه لوحة بخيانته للدولة العثمانية، وتم تعيين بطريك جديد، وأغلق الباب الذي أعدم أمامه جريجوريوس، وأصر البطريرك الجديد ألا يفتح حتى يعدم أمامه رئيس حكومة أو دولة تركي، وما زال مغلقا من يومها، وأعدم عدد من القساوسة والأعيان الذين شاركوا في تلك الثورة.
ولم تستطع تشكيلات الإنشكارية العثمانية إخماد ثورة اليونان، وهو ما أثار غضب السلطان وجعله يعمل جديا على إلغائها وإنشاء جيش تركي حديث؛ ولذا قرر السلطان محمود الثاني الاستعانة بوالي مصر وجيشه للقضاء على تلك الثورة التي تهدد الوجود العثماني في أوربا.
مصر وثورة اليونان
----------------
رأى السلطان العثماني محمود الثاني أن الحرب أرهقت جيشه في اليونان، وأن ميزان القوة يميل بشدة نحو الثوار، خاصة بعدما شكلوا حكومة ثورية؛ ولذا استعان بمحمد علي وجيشه المصري الحديث للقضاء على تلك الثورة مقابل أن يمنحه بلاد اليونان.
وافق محمد علي، وبذل همة كبيرة في تجهيز حملة للقضاء على الثورة، فأعد جيشا بريا قويا بقيادة ابنه إبراهيم باشا يتكون من 17 ألف مقاتل من المشاة، وحوالي 700 فارس، وأسطولا بحريا من 51 سفينة حربية و146 سفينة نقل، وصوّر بعض الفرنسيين منظر الاستعدادات والأسطول المصري بالقول: "كأن الشرق أراد أن يغزو الغرب".
وقد أقلع الأسطول المصري من الإسكندرية في (ذي القعدة 1239 هـ= يوليو 1824م) إلى ميناء رودوس ثم إلى شواطئ الأناضول، حيث التقى بالأسطول التركي بقيادة خسرو باشا فتم اللقاء في ميناء بودروم.
المعركة بين البر والبحر
-------------------------
كان اليونانيون ماهرين بركوب البحر وقد طوروا سفنهم الصغيرة التي كانت تستخدم في الصيد للقيام بالعمليات الحربية، وكانوا أكفأ من أسطول خسرو باشا في القتال البحري، وقد اشتبك الأسطول المصري مع هذه السفن، وتم إغراق سفينتين مصريتين، وأدرك إبراهيم باشا أن هزيمة اليونانيين لن تكون في البحر، بل لا بد أن تجري في البر؛ ولذا أخذ يُعِدّ العدة للقتال على أرض اليونان نفسها.
استقر إبراهيم في جزيرة كريت، وأخذ يتحين الفرصة التي تخلو فيها المياه من السفن اليونانية ليهاجم الأراضي اليونانية، وتحقق له ما يريد حين وقع خلاف بين البحارة اليونانيين وزعمائهم، فانتهز الفرصة فأقلع بأسطوله ونزل في جنوب اليونان في (جمادى الآخرة 1240هـ = فبراير 1825م) واستطاع أن يفك الحصار عن القوات التركية التي كانت في ميناء كورون.
وقامت قوات من الجيش المصري بحصار مدينة نفارين من البر والبحر التي كانت تُعَد من أهم مواقع الثوار، وتكبد المصريون فيها خسائر فادحة، وقام إبراهيم بحصار مدينة مودن وهاجمه وهو في الطريق إليها فرقة مكونة من 3 آلاف ونصف يوناني فاقتتلوا قتالا شديدا انتصر فيه المصريون، ثم ما لبث أن اشتبك مع 9 آلاف مقاتل يوناني انتصر عليهم أيضا، وأبدى إبراهيم شجاعة وبسالة واضحة في القتال وخبرة عظيمة بالحرب.
وكانت تلك أول معركة يخوضها الجيش المصري في القارة الأوربية، ثم استولى إبراهيم على جزيرة إسفاختريا الإستراتيجية في (رمضان 1240 هـ=مايو 1825م)، كما استولوا على نفارين التي كانت من أهم قواعد الثوار.
وفي أثناء القتال البري لم تكف السفن اليونانية عن إثارة المتاعب للأسطول المصري حتى إن الكثير من السفن المصرية احترقت، وأمام الضغوط التي تعرض لها اليونانيون قام هؤلاء بمهاجمة السواحل المصرية، ووصلت بعض سفنهم إلى ساحل الإسكندرية، وكانت هذه السفن تعرف باسم الحراقات، وكانت تختلط مع سفن الأسطول ثم تشعل فيه النار، لكن هذه الحراقات لم تفلح في إحراق الأسطول المصري في الميناء.
وعندما استولى المصريون على ميناء نفارين، اعتصم الثوار وعددهم 5 آلاف بقيادة بتروبك في ميناء كلاماتا، وكان هؤلاء من سكان الجبال المشهورين بالقتال والشجاعة، واستطاع إبراهيم الانتصار عليهم ودخول المدينة، ثم فتح مدينة تريبولتسا عاصمة المورة آنذاك والتي كانت من المعاقل المنيعة وكانت تقع في منطقة جبلية وعرة، وقتل 500 ثائر، ثم فتح مدينة ميسولونجي في (رمضان 1241 هـ= إبريل 1826م)، وقد اتفق أهل هذه المدينة عندما أدركوا الهزيمة وكان عددهم ألفين على الدخول في مخزن للذخيرة وأن يشعلوا فيه النار ففعلوا ما تواصوا به فقتلوا جميعا، أما المصريون فقتل في هذه المدينة ألفا جندي.
استقلال اسمي ثم رسمي
-------------------------
استطاعت القوات المصرية أن تدخل اليأس في نفوس الثوار، حتى جاء عام (1241 هـ=1827م) وليس في أيدي الثوار سوى نوبلي وأثينا وعدد آخر من الجزر البسيطة، فقام الثوار بنشاط قرصنة كبير في البحر استدعى من محمد علي تجريد حملة جديدة إلى اليونان للقضاء على آخر معاقل الثوار.
خرج عدة آلاف من الجنود من الإسكندرية في حملة بحرية كبيرة في (المحرم 1242 هـ=أغسطس 1827م) بقيادة الأميرال محرم بك وكانت مكونة من 18 سفينة مصرية و16 سفينة تركية و4 سفن تونسية، والتقت تلك العمارة البحرية بأسطول عثماني جاء من الأستانة بقيادة الأميرال طاهر باشا وعدده 32 سفينة، وتولى إبراهيم باشا القيادة العامة لقوات البر والبحر، وأخذ يتأهب للقيام بحملة على جزيرة هيدرا أهم معاقل الثوار اليونانيين.
ولمواجهة المصريين رسا أسطول أوربي لعدد من دول أوربا بالقرب من جزيرة هيدرا بهدف منع الأسطولين المصري والتركي من الإنزال في هيدرا، لكن شاءت الأقدار أن يتم الإنزال في ميناء نفارين دون علم من أسطول الحلفاء، وبدأت أساطيل الحلفاء في التحرش بالأسطول المصري حتى انتهى الأمر بوقعة نفارين في (11 من ربيع الأول 1243 هـ= 20 من أكتوبر 1827م) التي دمر فيها العمارتان البحريتان المصرية والتركية، وبلغ عدد القتلى 3 آلاف مصري وتركي، بينما لم يخسر الحلفاء سوى 140 قتيلا.
وأمام هذا الوضع العسكري الصعب أمر إبراهيم باشا بإخلاء معظم مدن المورة، وتحصن في ثغري كورون ومودون، وقامت الدول الأوربية بعمليات ضد الدولة العثمانية، فأعلنت روسيا عليها الحرب واحتلت أدرنة، وأرسلت فرنسا جيشا إلى اليونان مكونا من 18 ألف جندي لإجلاء المصريين عنها.
رأى محمد علي أن لا فائدة لمصر من القتال في اليونان بعد أن فقدت أسطولها وانقطعت المواصلات بين مصر وقواتها في اليونان، وأن محاولة استرجاع اليونان ليس ممكنا في ظل نزول جيش فرنسي على الأراضي اليونانية، كما أن مصر تعرضت لخطر عندما قام القائد الإنجليزي كودرنجتون بالتهديد بتخريب مدينة الإسكندرية إذا لم تسحب مصر قواتها من اليونان، فتم إخلاء الجيش المصري من اليونان في ( ربيع الآخر 1244 هـ= أكتوبر 1828م) بعدما خسر ما يقرب من 30 ألف رجل من أصل 42 ألفا ذهبوا إلى اليونان.
تسببت الحرب الروسية في توقيع معاهدة أدرنة في (16 من ربيع الأول 1245 هـ= 14 من سبتمبر 1829م) والتي وافقت فيها تركيا على الاعتراف باستقلال اليونان استقلالا داخليا، وألا يكون لتركيا عليها إلا السيادة الاسمية فقط، وهو ما مهد لاستقلال اليونان رسميا بعد ذلك.
محمد الفاتح بفتح تلك البلاد سنة (863هـ = 1458م) في حملته الهمايونية (السلطانية)
السابعة، حيث استطاع دخول مدينة أثينا التي يطلق عليها العثمانيون مدينة الحكماء.
وكان من سماحة محمد الفاتح أنه سمح للدوق اللاتيني فرانكو أن يأخذ كل ثروته ويذهب
إلى إيطاليا، ثم دخل الفاتح مدينة باترياس وأسس لواء تركيا، وسمح لأميرين يونانيين
بإدارة ثلثي المورة تحت الحماية العثمانية، وقام بهدم ما يقرب من 292 قلعة بمدفعيته من أصل 300 قلعة كانت موجودة في المورة.
ما قبل الثورة
-------------
كانت الشرارة الأولى لاندلاع الثورة اليونانية على الخلافة العثمانية في (10 من جمادى الأولى 1236 هـ = 12 من فبراير 1821م) وذلك عندما قام حوالي 10 آلاف مسلح بقيادة جرمانوس Germanos أسقف باتراس بحمل علم عليه صورة مريم العذراء وهو يصيح: "يا أيتها الأمة اليونانية.. هيا أفيقي واقتلي الأتراك"، وقام الثوار الذين كان يتزعمهم القساوسة والأساقفة بحصار قلعة المدينة.
اشتعلت الثورة في جميع اليونان على إثر هذه الشرارة التي كانت معدة بعناية بالغة. وساهم في دعمها الدول الأوربية، وفي مقدمتها روسيا القيصرية باعتبارها حامية المذهب الأرثوذكسي الذي كان يعتنقه اليونانيون.
وكان البطريرك الأرثوذكسي جريجوريوس المقيم في إستانبول هو المحرك الأول لهذه الثورة، ويجمع كل خيوطها في يديه.
تأثر عدد من الشباب اليوناني الذي كان خارج اليونان بشعارات الثورة الفرنسية، فأنشئوا العديد من الجمعيات في فرنسا والنمسا وغيرها من الدول الأوربية، كان أهمها: جمعية الفكرة العظمى.
قامت هذه الجمعيات اليونانية بأنشطة سرية داخل اليونان وغيرها، وأخذت تجند الكثير من اليونانيين لأفكارها، وكان من بين تلك الأهداف: إحياء الإمبراطورية البيزنطية، واسترداد إستانبول باعتبارها ملكا للأرثوذكس وإخراج الأتراك من أوربا، ودفعهم ثانية إلى قارة آسيا التي خرجوا منها.
رأت روسيا في الثورة اليونانية فرصة لتمزيق الدولة العثمانية التي تناصبها العداء، ورأى ألكسندر الأول قيصر روسيا أن مساندة اليونانيين ستخدم المصالح الروسية، حيث ستظهر الروس حماة للمذهب الأرثوذكسي في العالم، وهو ما سيقود إلى تأليب كثير من العناصر الأرثوذكسية داخل الدولة العثمانية، مما سيضعفها عن مواجهة روسيا في أي حرب مقبلة، خاصة أن الناطقين باللغة اليونانية ضمن الدولة العثمانية كانوا يتركزون في المورة وكريت وقبرص، وكان هؤلاء يشكلون ما يقرب من نصف سكان تلك المناطق، أي إنهم يتفوقون على العنصر التركي الموجود بين ظهرانيهم، مما يجعل أي ثورة ذات قوة وعنفوان ودموية في ذات الوقت.
الثورة في كل اليونان
-------------------
اشتعلت الثورة في أغلب مناطق اليونان في وقت واحد؛ حتى لا تقوى الحامية العثمانية على مواجهتها، خاصة مع إمدادات السلاح التي تدفقت على الثوار.
وعندما رأى القائد العثماني في المورة هذه الاستعدادات وعنفوانها أخلى كثيرا من المدن في المروة تاركا العنصر التركي المسلم فريسة سهلة للثوار، فقتل الكثير من الأتراك المدنيين بشكل جماعي مثلما حدث في قلعة تربيوليجة في (9 من المحرم 1237 هـ =5 من أكتوبر 1821م) حيث قُتل 8 آلاف مدني تركي بشكل جماعي بمن فيهم الأطفال حديثو الولادة؛ إذ كان يسكن اليونان في تلك الفترة حوالي 50 ألف تركي، كان بعضهم مستوطنا لليونان منذ ما يقرب 400 عام أي منذ الفتح العثماني الأول لها، وبذلك استطاع الثوار السيطرة على المورة في حوالي 3 أسابيع.
ومع اشتداد الثورة في المورة بدأ المتطوعون يتدفقون إليها، فدخلها 3 آلاف متطوع من بينهم ابن رئيس الولايات المتحدة جورج واشنطن، كما ساهم الكثير من كبار شعراء أوربا وأدبائها في مساندة الثوار، وأصر الثوار على فكرة إحياء الإمبراطورية البيزنطية من جديد، وأعلن الثوار تأسيس اليونان التي تضم المورة وجزر كيكلاد وجزيرة آغري بوز، وتم انتخاب رئيس للدولة في (20 من ربيع الآخر 1237هـ= 13 من يناير 1822م)، وتشكيل جمعية وطنية من المدن الثائرة مكونة من 60 عضوا، وفي (1238هـ= 1823م) تم اتخاذ مدينة نوبلي عاصمة ومقرا للحكومة الثائرة.
وقد دخلت مدينة ساقيز الواقعة في بحر إيجه التي كان يقطنها حوالي 80 ألف نسمة في خط الثورة على العثمانيين، لكن القائد البحري العثماني زادة علي باشا استطاع إنهاء تمردها في (19 من رجب 1237 هـ=11 إبريل 1822م) وقتل الكثير من الثوار، وهو ما أثار مشاعر مثقفي أوربا، فنظموا الأشعار وألفوا الروايات في وحشية الأتراك.
تحديد الرأس وبتره
---------------------
تعجبت الدولة العثمانية من الدموية التي مارسها الثوار اليونانيون ضد الأتراك رغم أن الدولة العثمانية كفلت لهم حرية المذهب، وحالت دون سحق الكاثوليك للأرثوذكس في كثير من المناطق. وكان السلطان العثماني يعتبر نفسه حامي المذهب الأرثوذكسي.
استطاعت المخابرات العثمانية أن تحدد الرأس المدبر وهو البطريرك الأرثوذكسي جريجوريوس المقيم في إستانبول، فأمر السلطان العثماني محمود الثاني بتفتيش مقره بدقة، وعثر على أوراق تثبت ضلوعه في الثورة وقيامه بمراسلات مع الدول الأوربية وحثها على مساندة اليونانيين، ومن ذلك الرسالة التي بعث بها إلى قيصر روسيا يبين له كيفية هدم الدولة العثمانية.
وإمعانا في صرف الأنظار عنه أصدر جريجوريوس حرمانا كنسيا لكل من يشارك في تلك الثورة، لكن هذه الحيلة لم تخدع العثمانيين.
وقد أمر السلطان محمود الثاني بالقبض على جريجوريوس، حيث اعترف بجميع أنشطته في الثورة، ومن ثَم صدر الحكم بإعدامه ونفذ في يوم عيد الفصح عند الأرثوذكس (20 من رجب 1236 هـ= 22 من إبريل 1821م) في بطريركية فنار وظل معلقا 3 أيام، مكتوبا في عنقه لوحة بخيانته للدولة العثمانية، وتم تعيين بطريك جديد، وأغلق الباب الذي أعدم أمامه جريجوريوس، وأصر البطريرك الجديد ألا يفتح حتى يعدم أمامه رئيس حكومة أو دولة تركي، وما زال مغلقا من يومها، وأعدم عدد من القساوسة والأعيان الذين شاركوا في تلك الثورة.
ولم تستطع تشكيلات الإنشكارية العثمانية إخماد ثورة اليونان، وهو ما أثار غضب السلطان وجعله يعمل جديا على إلغائها وإنشاء جيش تركي حديث؛ ولذا قرر السلطان محمود الثاني الاستعانة بوالي مصر وجيشه للقضاء على تلك الثورة التي تهدد الوجود العثماني في أوربا.
مصر وثورة اليونان
----------------
رأى السلطان العثماني محمود الثاني أن الحرب أرهقت جيشه في اليونان، وأن ميزان القوة يميل بشدة نحو الثوار، خاصة بعدما شكلوا حكومة ثورية؛ ولذا استعان بمحمد علي وجيشه المصري الحديث للقضاء على تلك الثورة مقابل أن يمنحه بلاد اليونان.
وافق محمد علي، وبذل همة كبيرة في تجهيز حملة للقضاء على الثورة، فأعد جيشا بريا قويا بقيادة ابنه إبراهيم باشا يتكون من 17 ألف مقاتل من المشاة، وحوالي 700 فارس، وأسطولا بحريا من 51 سفينة حربية و146 سفينة نقل، وصوّر بعض الفرنسيين منظر الاستعدادات والأسطول المصري بالقول: "كأن الشرق أراد أن يغزو الغرب".
وقد أقلع الأسطول المصري من الإسكندرية في (ذي القعدة 1239 هـ= يوليو 1824م) إلى ميناء رودوس ثم إلى شواطئ الأناضول، حيث التقى بالأسطول التركي بقيادة خسرو باشا فتم اللقاء في ميناء بودروم.
المعركة بين البر والبحر
-------------------------
كان اليونانيون ماهرين بركوب البحر وقد طوروا سفنهم الصغيرة التي كانت تستخدم في الصيد للقيام بالعمليات الحربية، وكانوا أكفأ من أسطول خسرو باشا في القتال البحري، وقد اشتبك الأسطول المصري مع هذه السفن، وتم إغراق سفينتين مصريتين، وأدرك إبراهيم باشا أن هزيمة اليونانيين لن تكون في البحر، بل لا بد أن تجري في البر؛ ولذا أخذ يُعِدّ العدة للقتال على أرض اليونان نفسها.
استقر إبراهيم في جزيرة كريت، وأخذ يتحين الفرصة التي تخلو فيها المياه من السفن اليونانية ليهاجم الأراضي اليونانية، وتحقق له ما يريد حين وقع خلاف بين البحارة اليونانيين وزعمائهم، فانتهز الفرصة فأقلع بأسطوله ونزل في جنوب اليونان في (جمادى الآخرة 1240هـ = فبراير 1825م) واستطاع أن يفك الحصار عن القوات التركية التي كانت في ميناء كورون.
وقامت قوات من الجيش المصري بحصار مدينة نفارين من البر والبحر التي كانت تُعَد من أهم مواقع الثوار، وتكبد المصريون فيها خسائر فادحة، وقام إبراهيم بحصار مدينة مودن وهاجمه وهو في الطريق إليها فرقة مكونة من 3 آلاف ونصف يوناني فاقتتلوا قتالا شديدا انتصر فيه المصريون، ثم ما لبث أن اشتبك مع 9 آلاف مقاتل يوناني انتصر عليهم أيضا، وأبدى إبراهيم شجاعة وبسالة واضحة في القتال وخبرة عظيمة بالحرب.
وكانت تلك أول معركة يخوضها الجيش المصري في القارة الأوربية، ثم استولى إبراهيم على جزيرة إسفاختريا الإستراتيجية في (رمضان 1240 هـ=مايو 1825م)، كما استولوا على نفارين التي كانت من أهم قواعد الثوار.
وفي أثناء القتال البري لم تكف السفن اليونانية عن إثارة المتاعب للأسطول المصري حتى إن الكثير من السفن المصرية احترقت، وأمام الضغوط التي تعرض لها اليونانيون قام هؤلاء بمهاجمة السواحل المصرية، ووصلت بعض سفنهم إلى ساحل الإسكندرية، وكانت هذه السفن تعرف باسم الحراقات، وكانت تختلط مع سفن الأسطول ثم تشعل فيه النار، لكن هذه الحراقات لم تفلح في إحراق الأسطول المصري في الميناء.
وعندما استولى المصريون على ميناء نفارين، اعتصم الثوار وعددهم 5 آلاف بقيادة بتروبك في ميناء كلاماتا، وكان هؤلاء من سكان الجبال المشهورين بالقتال والشجاعة، واستطاع إبراهيم الانتصار عليهم ودخول المدينة، ثم فتح مدينة تريبولتسا عاصمة المورة آنذاك والتي كانت من المعاقل المنيعة وكانت تقع في منطقة جبلية وعرة، وقتل 500 ثائر، ثم فتح مدينة ميسولونجي في (رمضان 1241 هـ= إبريل 1826م)، وقد اتفق أهل هذه المدينة عندما أدركوا الهزيمة وكان عددهم ألفين على الدخول في مخزن للذخيرة وأن يشعلوا فيه النار ففعلوا ما تواصوا به فقتلوا جميعا، أما المصريون فقتل في هذه المدينة ألفا جندي.
استقلال اسمي ثم رسمي
-------------------------
استطاعت القوات المصرية أن تدخل اليأس في نفوس الثوار، حتى جاء عام (1241 هـ=1827م) وليس في أيدي الثوار سوى نوبلي وأثينا وعدد آخر من الجزر البسيطة، فقام الثوار بنشاط قرصنة كبير في البحر استدعى من محمد علي تجريد حملة جديدة إلى اليونان للقضاء على آخر معاقل الثوار.
خرج عدة آلاف من الجنود من الإسكندرية في حملة بحرية كبيرة في (المحرم 1242 هـ=أغسطس 1827م) بقيادة الأميرال محرم بك وكانت مكونة من 18 سفينة مصرية و16 سفينة تركية و4 سفن تونسية، والتقت تلك العمارة البحرية بأسطول عثماني جاء من الأستانة بقيادة الأميرال طاهر باشا وعدده 32 سفينة، وتولى إبراهيم باشا القيادة العامة لقوات البر والبحر، وأخذ يتأهب للقيام بحملة على جزيرة هيدرا أهم معاقل الثوار اليونانيين.
ولمواجهة المصريين رسا أسطول أوربي لعدد من دول أوربا بالقرب من جزيرة هيدرا بهدف منع الأسطولين المصري والتركي من الإنزال في هيدرا، لكن شاءت الأقدار أن يتم الإنزال في ميناء نفارين دون علم من أسطول الحلفاء، وبدأت أساطيل الحلفاء في التحرش بالأسطول المصري حتى انتهى الأمر بوقعة نفارين في (11 من ربيع الأول 1243 هـ= 20 من أكتوبر 1827م) التي دمر فيها العمارتان البحريتان المصرية والتركية، وبلغ عدد القتلى 3 آلاف مصري وتركي، بينما لم يخسر الحلفاء سوى 140 قتيلا.
وأمام هذا الوضع العسكري الصعب أمر إبراهيم باشا بإخلاء معظم مدن المورة، وتحصن في ثغري كورون ومودون، وقامت الدول الأوربية بعمليات ضد الدولة العثمانية، فأعلنت روسيا عليها الحرب واحتلت أدرنة، وأرسلت فرنسا جيشا إلى اليونان مكونا من 18 ألف جندي لإجلاء المصريين عنها.
رأى محمد علي أن لا فائدة لمصر من القتال في اليونان بعد أن فقدت أسطولها وانقطعت المواصلات بين مصر وقواتها في اليونان، وأن محاولة استرجاع اليونان ليس ممكنا في ظل نزول جيش فرنسي على الأراضي اليونانية، كما أن مصر تعرضت لخطر عندما قام القائد الإنجليزي كودرنجتون بالتهديد بتخريب مدينة الإسكندرية إذا لم تسحب مصر قواتها من اليونان، فتم إخلاء الجيش المصري من اليونان في ( ربيع الآخر 1244 هـ= أكتوبر 1828م) بعدما خسر ما يقرب من 30 ألف رجل من أصل 42 ألفا ذهبوا إلى اليونان.
تسببت الحرب الروسية في توقيع معاهدة أدرنة في (16 من ربيع الأول 1245 هـ= 14 من سبتمبر 1829م) والتي وافقت فيها تركيا على الاعتراف باستقلال اليونان استقلالا داخليا، وألا يكون لتركيا عليها إلا السيادة الاسمية فقط، وهو ما مهد لاستقلال اليونان رسميا بعد ذلك.