رغم ان كثيرا من مؤرخي الثورة الجزائرية يعطون وينصفون للعراق دورا داعما وهاما للثورة الجزائرية، لكن ذلك يبقى في اطار عام، وكحقيقة عامة قد تبدو معممة ومن غير تفاصيل منصفة للحكومات العراقية المتعاقبة خلال العهدين الملكي والجمهوري اثناء فترة اندلاع ثورة نوفمبر المباركة بين ( 1954-1962)، فترة انفجار الثورة الجزائرية المسلحة. فما بين العهدين الملكي ( سقط بثورة شعبية يوم 14 جويليه/تموز1958) وما بعده في العهد الجمهوري، خلال فترة حكم عبد الكريم قاسم، ثمة فرق كبير في الموقف العراقي من ثورة الجزائر،ولا يمكن المقارنة بينهما باي شكل من الاشكال. الا ان الثابت والمهم هنا في هذا المجال ان القوى الوطنية والشعبية العراقية بكل توجهاتها السياسية والايديولوجية اتسمت بثبات مواقفها من نضال العرب من اجل التحرر والاستقلال وظلت وفية لهذا الموقف سواء ازاء القضية الفلسطينية او في دعم الثورة الجزائرية والعمانية.
منذ السنوات التي سبقت الاعلان عن ثورة نوفمبر 1954 ارتأت جمعية العلماء المسلمين ان توسع نشاطها التعليمي خارج معهد بن باديس في قسنطينة بارسال البعثات من طلبتها الى الخارج. زاد عدد الطلبة المرسلين من قبل الجمعية زيادة مطردة سنة 1954 الى مصر والكويت والعراق وسوريا اضافة الى تونس. كان العراق في مقدمة الدول العربية التي رحبت بالبعثات الجزائرية موفرا امكانية القبول للطلبة الجزائريين والتعليم والدراسة في المدارس والمعاهد والجامعات العراقية. نقرأ في البصائر العدد 283 السنة السابعة اسماء بعثة جمعية العلماء المسلمين الى العراق الذين قبلوا للدراسة في الكليات العراقية، وخاصة دار المعلمين العالية ببغداد في عدد من التخصصات ، منهم الطلبة مسعود محمد العباسي، المولود شرحبيل، رابح منصر، ابو العيد دودو، الزرق موساوي، بشير كلشا، عبد المجيد بوذراع، الجموع المشري، الاخضر بو الطمين، عبد العزيز خليفة، وعبد القادر قريصات.(2).
منذ اللحظات الاولى لانطلاق ثورة الجزائر ربط العراقيون بين كفاحهم الوطني من اجل اسقاط العهد الملكي وطرد بريطانيا من العراق والنضال القومي من اجل تحرير فلسطين واستعادة الجزائر لاستقلالها، وعبروا بوضوح عن رفضهم للظلم الاستعماري اينما كان من وطننا العربي، لذلك احتلت القضية الجزائرية وثورتها صلب اهتمام النضال الوطني العراقي ، فالجماهير التي اكتوت بقمع السلطات الملكية المؤتمرة والمسيرة من قبل رجال الادارة الانجليزية وعملائها ربطت بين نضالها من اجل اسقاط الملكية واقامة النظام الجمهوري الديمقراطي في العراق مع واجباتها للوقوف مع الشعب الجزائري والفلسطيني.
ووجدت جميع القوى الوطنية العراقية الممثلة في عدد من الاحزاب والمنظمات والنقابات والاتحادات في الثورة الجزائرية في فعالياتها في هذا المجال تعبيرا عن وجدانها وطموحها هي ايضا لطرد المحتل والاستعمار الممثل في نفوذ بريطانيا وحليفاتها فرنسا والولايات المتحدة من العراق ورفض التدخل الاجنبي في تسيير الدولة العراقية وفق اهواء ورغبات السياسة الاستعمارية البريطانية من خلف حكومات عراقية عميلة مرتبطة باكثر من صيغة واتفاقية مع الغرب الاستعماري ، مكبلة العراق بعدد من الاتفاقيات والمعاهدات السياسية والاقتصادية والعسكرية غير المتكافئة لصالح بريطانيا ومن خلفها الولايات المتحدة الامريكية وفرنسا، من خلال انضمام العراق الى حلف المعاهدة المركزية " حلف بغداد"، ذلك الحلف الذي كانت تقوده الولايات المتحدة واستخدامه كحاجز دفاعي لنفوذها في جنوب غربي اسيا ضد النفوذ السوفيتي. ففي 14/10/1951 أصدرت كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا بيانا مشتركا حول قيادة الشرق الاوسط دعت فيه حكومات الدول العربية واسرائيل وجنوب افريقيا واستراليا ونيوزيلاند للاشتراك فيه على ان يكون مقر القيادة في مصر، وان تضع الدول المذكورة قواتها المسلحة وقواعدها العسكرية المختلفة وموانئها وطرق مواصلاتها تحت تصرف القائد العام للمنطقة.
وفي 10/11/ 1951 اعلنت الدول الاستعمارية الثلاث مرة اخرى تصريحا توضيحيا حول المشروع: (ان الدفاع عن الشرق الاوسط أمر حيوي للعالم الحر ، وان تشكيل هذه القيادة من شأنه ان يجلب التقدم الاقتصادي والاجتماعي للمنطقة).(3).
وقد قوبل هذا المشروع، " مشروع قيادة الشرق الاوسط" بمقاومة عنيفة من الشعب العربي في اقطاره المختلفة مشرقا ومغربا، لاسباب عدة من اهمها : أنه سيجعل من الوطن العربي مركزا للقوات الامريكية والفرنسية والبريطانية، والعمل على إشراك اسرائيل في القيادة، والاعتراف بها كواقع لا بد منه).
وفي العراق تصاعد النضال الوطني الشعبي ضد المشاريع الاستعمارية والدعوة الى تشكيل جبهة وطنية ضد الاستعمار ومشاريعه، في حين ذهبت الحكومات الملكية العراقية في خدمة المصالح الاستعمارية، ووجدت في نوري السعيد الشخصية المحورية التي تحقق التنفيذ لمشاريع بريطانيا والغرب في العراق والمنطقة العربية.
عُرف عن نوري سعيد دهائه السياسي وتكتمه على علاقاته السرية وولائه المطلق لبريطانيا والمخططات الاستعمارية وتلاعبه في المواقف الوطنية بمظهر المخلص لها، خاصة من القضيتين الفلسطينية والجزائرية. فمنذ ان ألف وزارته السعيدية الحادية عشر في 15/9/1950 كان يضع مصير العراق كلية بيد بريطانيا والغرب الاستعماري.
في 5 جانفي/كانون الثاني1955، أي بعد شهرين من اندلاع الثورة الجزائرية الفت ممثل المملكة العربية السعودية في الامم المتحدة انظار الهيئة الدولية الى الحالة الخطيرة التي تسود الجزائر، غير ان الامم المتحدة انتهت دورتها في ذلك العام دون ان تلتفت الى الوضعية الجديدة التي تعيشها الجزائر. كانت فرنسا الاستعمارية تطرح المشكلة الجزائرية على انها قضية فرنسية داخلية، وانها لن تسمح لأي كان أن يتدخل فيها، لكن الكتلة الاسيوية الإفريقية، ومن بينها العراق اعادت طلبها مرة اخرى لمناقشة القضية الجزائرية في 26/7/1955 في الدورة التالية المقررة في اكتوبر من ذلك العام 1955. وتم قبول الطلب بأغلبية صوت واحد، أي 28 صوت مع و 27 صوتا ضد .
كانت الدول الثمانية والعشرين الموافقة على تسجيل القضية الجزائرية في جدول اعمال تلك الدورة حسب الترتيب الابجدي الانجليزي هي افغانستان، الارجنتين، بوليفيا، برمانيا، كوستاريكا، تشيكوسلوفاكيا، مصر، اليونان، غوانتيمالا، الهند، اندونيسيا، العراق، ايران، لبنان، الباكستان، الفليبين، بولونيا، المملكة العربية السعودية، سوريا، روسيا، الاورغواي، اليمن، يوغسلافيا، ليبيريا، المكسيك ، وروسيا البيضاء"بيلوروسيا". كان قبول مناقشة القضية الجزائرية في الامم المتحدة اول هزيمة دبلوماسية وسياسية لحكومة فرنسا ، مما اضطر وزير الخارجية الفرنسية أن ينسحب من تلك الجلسة ويمتنع من المشاركة في مناقشة المسائل الاخرى. (4).
ومع تصاعد كفاح الثوار الجزائريين تردد صدى نجاحات الثوار الجزائريين، وصارت حالة الغليان والسخط الشعبي في الجزائر والوطن العربي تنعكس على الشارع العراقي وحياة الناس، تتفاعل من خلالها القوى الوطنية في العراق وهي تربط نضالها الوطني لاسقاط الحكم الهاشمي في العراق الموالي لبريطانيا وصنيعتها مع النضال القومي المتمثل في تشكيل لجان المساندة مع الثورة الجزائرية ومتابعة الاحداث اليومية التي تصل اخبارها من الجزائر يوميا وبتعدد وتنوع الفعاليات السياسية في جميع مدن العراق من اقصاه الى اقصاه.
تجلت في المظاهرات والاحتجاجات التي لم تتوقف على مدى سنوات الثورة الجزائرية، في ذروتها أثناء حركة الاحتجاج الواسعة والمظاهرات الشعبية العارمة التي شهدتها بغداد وكافة المدن العراقية إثر اختطاف السلطات الاستعمارية الفرنسية للطائرة التي كانت تحمل قادة الثورة الجزائرية الاربعة يوم 22/11/1956. كانت المظاهرات مناسبة ايضا للضغط على الحكومة العراقية والحكومات العربية من اجل العمل على ضمان سلامة وحياة الثوار الجزائريين المختطفين.
أعلنت جميع البيانات ولوائح الاحتجاج عن تهديد لمصالح فرنسا في الوطن العربي، وطالبت بقطع العلاقات الدبلوماسية مع فرنسا. كما اخذت لوائح المطالب الجماهيرية والشعبية تطالب بالضغط على الحكومة العراقية من اجل عرض القضية الجزائرية على هيئة الامم المتحدة في مطلع عام 1957.
كثيرا ماحاولت حكومة نوري السعيد ايجاد المبررات واطلاق الوعود لتحسين مساعدتها للثورة الجزائرية، كما هو الحال مع تصريح وزير المالية العراقية الذي أوردته صحيفة المجاهد: (صرح السيد نديم الباججي وزير المالية العراقي امام البرلمان بان الحكومة العراقية ستمنح مساعدة مادية للثورة الجزائرية أكثر مفعولا من تلك التي تمنحها حتى الان، متى تحسنت حالة الميزانية العراقية. من المعلوم ان الميزانية العراقية كانت تخصص للثورة الجزائرية مساعدة مالية قدرها 250.000 دينار عراقي، "أي 250 مليون من الفرنكات" ، لكن كثيرا من النواب كانوا يطالبون بزيادة ذلك المبلغ.... هذا وقد صرح وزير المالية العراقي ايضا ان حكومته تؤيد إحداث صندوق مشترك بين الدول العربية لمساعدة الشعب الجزائري على التغلب على الاستعمار الفرنسي.).(5).
تابعت صحيفة المجاهد، لسان حال الثورة الجزائرية، أخبار ضغط الرأي العام العراقي على حكومته في خبر آخر نقلته أيضا في العدد 18 الصادر في 15/2/1958: (...مازالت حملة مقاطعة فرنسا اقتصاديا يتسع نطاقها في العراق الشقيق، فقد حملت الانباء أن نائبا اقترح على الحكومة العراقية اثناء مناقشة الميزانية ان تخصص مبلغا ماليا ضخما لإعانة الثورة الجزائرية ، وان تقطع علائقها الاقتصادية مع فرنسا). ونقلت المجاهد عن صحيفة لوموند الفرنسية : ( لقد اجابت حكومة المملكة العراقية على اقتراح النائب: انها مستعدة لتنفيذ المقاطعة اذا ما تقررت المقاطعة في البلدان العربية). وتنقل صحيفة المجاهد في نفس العدد، ماجاء من اتهام، نقل عن لسان مراسل لوموند من بغداد:
(بان الحكومة تنصلت من جوهر الموضوع بهذا المبرر).
لقد اشتد الضغط الشعبي محتجا من تماهل الحكومة العراقية "حكومة نوري السعيد" في تنفيذ المطالب الشعبية الطامحة نحو دعم الثورة الجزائرية بالمزيد من الدعم. وأجمعت بيانات القوى الوطنية العراقية فرادى وجماعات في اطار قوى "جبهة الاتحاد الوطني"، على رفض تلكم الحجج الواهية لحكومة نوري السعيد، خاصة عندما اعلنت اعتذارها عن تقديم المزيد من المساعدة للجزائر، متحججة باصابة الميزانية العراقية باضرار جرّاء انقطاع تصدير النفط الى موانئ البحر المتوسط بعد ان نسف الانبوب النفطي احتجاجا على العدوان الثلاثي، الفرنسي- البريطاني- الاسرائيلي على مصر عام 1956.
واجهت القوى الوطنية العراقية مجتمعة بالاحتجاج والرفض سياسة حكومة نوري السعيد التي ادعت انها اضطرت الى عقد قرض مع شركات النفط لسد العجز في ميزانيتها، وهي محاولة لنوري السعيد اراد التنصل بها من التزام العراق لمساعدة الثورة الجزائرية، رغم ان للعراق ارصدة مالية معتبرة في البنوك البريطانية. أجبر الضغط الشعبي والشارع العراقي نوري السعيد، رئيس الحكومة، وعدد من اعضاء حكومته على الاعلان الصريح بدعم الثورة الجزائرية بكل الامكانيات، بما فيها السلاح. وفعلا ارسلت الشحنات من الاسلحة للثوار الجزائريين، لكن نوري السعيد حاول استغلال ظرف ارسال الاسلحة الى الثوار الجزائريين لاغراض تآمرية ضد نظام حكم جمال عبد الناصروالضلوع بمحاولات اغتياله، باستغلال رحلات الطائرات العراقية وهي في طريقها لارسال شحنات الاسلحة الى ثوار الجزائر، عندما كانت تهبط في نهاية مدرج مطار بيروت تقوم بالقاء عددا من صناديق الاسلحة. كان هناك من يقوم بنقلها الى سوريا من اجل استخدامها في عمليات تآمرية وانقلابية ضد حكومة الجمهورية العربية المتحدة . تلك العمليات كانت تتم باشراف العقيد الركن غازي الداغستاني، احد كبار قادة الجيش العراقي في العهد الملكي والذي حوكم على افعاله تلك وغيرها بعد انتصار ثورة 14جويليه/تموز 1958.(6).
اكتشف العراقيون خيانة حكومة نوري السعيد وخداعها واستغلالها لمشاعر شعبها والوطنيين تجاه ثورة الجزائر، وظلت تناور في سياستها المضللة بدعوتها من جهة لمقاطعة فرنسا اقتصاديا، ومن جهة اخرى بقائها في عضوية حلف بغداد" حلف المعاهدة المركزية" ، الذي كان في الواقع عبارة عن واجهة من الواجهات الاستعمارية مسيرة بقيادة بريطانيا والولايات المتحدة، وهو امتداد للحلف الاطلسي، الذي كان من أهم ادوات العدوان على الشعب الجزائري وثورته، تجلى عدوانه في الميدان السياسي والعسكري ودعمه لحكومة فرنسا الاستعمارية في محاولاتها فرض الاحتلال والاستعمار على الشعب الجزائري.(7).
لكن الاحداث لم تمهل حكومة المملكة العراقية للتخلص من الضغط الشعبي الكبير في العراق عليها، خصوصا عندما نقلت وكالات الانباء أخبار بشاعة المجزرة الدموية الناجمة عن الغارة الجوية في ساقية سيدي يوسف بتاريخ 8/2/1958 وما رافقها من رد فعل وغضب شعبي في العراق ليرتفع سقف المطالب الشعبية الى اعادة مناقشة موضوع مقاطعة فرنسا اقتصاديا ،حينها ارفق 34 نائبا في مجلس الامة اقتراحا للحكومة يقضي بتأميم الاسهم الفرنسية في شركة نفط العراق، اي مانسبته 23.75 % التي كانت تملكها فرنسا في استثمار البترول العراقي في شركة نفط العراق المساهمة مع بريطانيا والولايات المتحدة.
وبانتظار ذلك استمر الضغط الشعبي بالموازاة مع تنظيم حملات التبرع للثوار الجزائريين ونجاح حملة مقاطعة البضائع الفرنسية في الاسواق العراقية. وقد نقل صورة هذا الاحتجاج العارم مراسل لوموند بقوله : ( بدأت هذه الميول تتجلى في تصرفات رجل الشارع العراقي، فالتجار الفرنسيون بالعراق يصطدمون الان بأنواع من الاهانات في قضاء شؤونهم لدى الادارات والمتاجر العراقية... وهكذا فان فكرة "المقاطعة" تواصل تقدمها الى ان تحين ساعة تقريرها؛ خاصة وان ممثلي الجبهة "أي جبهة التحرير الجزائرية،" يزداد نشاطهم كل يوم وتتكاثر زياراتهم الى السلطات العراقية). (8).
واجهت سياسة حكومة نوري السعيد ضغط الشارع العراقي بالمناورة واستغلال الفرص للجم الاندفاع الشعبي وممثلي جبهة الاتحاد الوطني ونشاطهم في دعم الثورة الجزائرية، حتى واجهت استنكارا واسعا، لم تتوقعه، عندما اقدمت حكومة نوري السعيد على وقف برنامج الثورة الجزائرية الذي كانت تبثه الاذاعة العراقية مطلع عام 1958. كان استمرار الضغط الشعبي منظما عبر عن نفسه في كل مناسبة وخبر مرتبط بالثورة الجزائرية حتى تجاوز الكفاح الوطني العراقي مخططات نوري السعيد والسياسة البريطانية في العراق لتصبح القضية الجزائرية قضية كل فرد من افراد المجتمع العراقي عبر عنها في الالتزام الصارم في المظاهرات و الاحتفالات المقررة بيوم الجزائر.
منذ السنوات التي سبقت الاعلان عن ثورة نوفمبر 1954 ارتأت جمعية العلماء المسلمين ان توسع نشاطها التعليمي خارج معهد بن باديس في قسنطينة بارسال البعثات من طلبتها الى الخارج. زاد عدد الطلبة المرسلين من قبل الجمعية زيادة مطردة سنة 1954 الى مصر والكويت والعراق وسوريا اضافة الى تونس. كان العراق في مقدمة الدول العربية التي رحبت بالبعثات الجزائرية موفرا امكانية القبول للطلبة الجزائريين والتعليم والدراسة في المدارس والمعاهد والجامعات العراقية. نقرأ في البصائر العدد 283 السنة السابعة اسماء بعثة جمعية العلماء المسلمين الى العراق الذين قبلوا للدراسة في الكليات العراقية، وخاصة دار المعلمين العالية ببغداد في عدد من التخصصات ، منهم الطلبة مسعود محمد العباسي، المولود شرحبيل، رابح منصر، ابو العيد دودو، الزرق موساوي، بشير كلشا، عبد المجيد بوذراع، الجموع المشري، الاخضر بو الطمين، عبد العزيز خليفة، وعبد القادر قريصات.(2).
منذ اللحظات الاولى لانطلاق ثورة الجزائر ربط العراقيون بين كفاحهم الوطني من اجل اسقاط العهد الملكي وطرد بريطانيا من العراق والنضال القومي من اجل تحرير فلسطين واستعادة الجزائر لاستقلالها، وعبروا بوضوح عن رفضهم للظلم الاستعماري اينما كان من وطننا العربي، لذلك احتلت القضية الجزائرية وثورتها صلب اهتمام النضال الوطني العراقي ، فالجماهير التي اكتوت بقمع السلطات الملكية المؤتمرة والمسيرة من قبل رجال الادارة الانجليزية وعملائها ربطت بين نضالها من اجل اسقاط الملكية واقامة النظام الجمهوري الديمقراطي في العراق مع واجباتها للوقوف مع الشعب الجزائري والفلسطيني.
ووجدت جميع القوى الوطنية العراقية الممثلة في عدد من الاحزاب والمنظمات والنقابات والاتحادات في الثورة الجزائرية في فعالياتها في هذا المجال تعبيرا عن وجدانها وطموحها هي ايضا لطرد المحتل والاستعمار الممثل في نفوذ بريطانيا وحليفاتها فرنسا والولايات المتحدة من العراق ورفض التدخل الاجنبي في تسيير الدولة العراقية وفق اهواء ورغبات السياسة الاستعمارية البريطانية من خلف حكومات عراقية عميلة مرتبطة باكثر من صيغة واتفاقية مع الغرب الاستعماري ، مكبلة العراق بعدد من الاتفاقيات والمعاهدات السياسية والاقتصادية والعسكرية غير المتكافئة لصالح بريطانيا ومن خلفها الولايات المتحدة الامريكية وفرنسا، من خلال انضمام العراق الى حلف المعاهدة المركزية " حلف بغداد"، ذلك الحلف الذي كانت تقوده الولايات المتحدة واستخدامه كحاجز دفاعي لنفوذها في جنوب غربي اسيا ضد النفوذ السوفيتي. ففي 14/10/1951 أصدرت كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا بيانا مشتركا حول قيادة الشرق الاوسط دعت فيه حكومات الدول العربية واسرائيل وجنوب افريقيا واستراليا ونيوزيلاند للاشتراك فيه على ان يكون مقر القيادة في مصر، وان تضع الدول المذكورة قواتها المسلحة وقواعدها العسكرية المختلفة وموانئها وطرق مواصلاتها تحت تصرف القائد العام للمنطقة.
وفي 10/11/ 1951 اعلنت الدول الاستعمارية الثلاث مرة اخرى تصريحا توضيحيا حول المشروع: (ان الدفاع عن الشرق الاوسط أمر حيوي للعالم الحر ، وان تشكيل هذه القيادة من شأنه ان يجلب التقدم الاقتصادي والاجتماعي للمنطقة).(3).
وقد قوبل هذا المشروع، " مشروع قيادة الشرق الاوسط" بمقاومة عنيفة من الشعب العربي في اقطاره المختلفة مشرقا ومغربا، لاسباب عدة من اهمها : أنه سيجعل من الوطن العربي مركزا للقوات الامريكية والفرنسية والبريطانية، والعمل على إشراك اسرائيل في القيادة، والاعتراف بها كواقع لا بد منه).
وفي العراق تصاعد النضال الوطني الشعبي ضد المشاريع الاستعمارية والدعوة الى تشكيل جبهة وطنية ضد الاستعمار ومشاريعه، في حين ذهبت الحكومات الملكية العراقية في خدمة المصالح الاستعمارية، ووجدت في نوري السعيد الشخصية المحورية التي تحقق التنفيذ لمشاريع بريطانيا والغرب في العراق والمنطقة العربية.
عُرف عن نوري سعيد دهائه السياسي وتكتمه على علاقاته السرية وولائه المطلق لبريطانيا والمخططات الاستعمارية وتلاعبه في المواقف الوطنية بمظهر المخلص لها، خاصة من القضيتين الفلسطينية والجزائرية. فمنذ ان ألف وزارته السعيدية الحادية عشر في 15/9/1950 كان يضع مصير العراق كلية بيد بريطانيا والغرب الاستعماري.
في 5 جانفي/كانون الثاني1955، أي بعد شهرين من اندلاع الثورة الجزائرية الفت ممثل المملكة العربية السعودية في الامم المتحدة انظار الهيئة الدولية الى الحالة الخطيرة التي تسود الجزائر، غير ان الامم المتحدة انتهت دورتها في ذلك العام دون ان تلتفت الى الوضعية الجديدة التي تعيشها الجزائر. كانت فرنسا الاستعمارية تطرح المشكلة الجزائرية على انها قضية فرنسية داخلية، وانها لن تسمح لأي كان أن يتدخل فيها، لكن الكتلة الاسيوية الإفريقية، ومن بينها العراق اعادت طلبها مرة اخرى لمناقشة القضية الجزائرية في 26/7/1955 في الدورة التالية المقررة في اكتوبر من ذلك العام 1955. وتم قبول الطلب بأغلبية صوت واحد، أي 28 صوت مع و 27 صوتا ضد .
كانت الدول الثمانية والعشرين الموافقة على تسجيل القضية الجزائرية في جدول اعمال تلك الدورة حسب الترتيب الابجدي الانجليزي هي افغانستان، الارجنتين، بوليفيا، برمانيا، كوستاريكا، تشيكوسلوفاكيا، مصر، اليونان، غوانتيمالا، الهند، اندونيسيا، العراق، ايران، لبنان، الباكستان، الفليبين، بولونيا، المملكة العربية السعودية، سوريا، روسيا، الاورغواي، اليمن، يوغسلافيا، ليبيريا، المكسيك ، وروسيا البيضاء"بيلوروسيا". كان قبول مناقشة القضية الجزائرية في الامم المتحدة اول هزيمة دبلوماسية وسياسية لحكومة فرنسا ، مما اضطر وزير الخارجية الفرنسية أن ينسحب من تلك الجلسة ويمتنع من المشاركة في مناقشة المسائل الاخرى. (4).
ومع تصاعد كفاح الثوار الجزائريين تردد صدى نجاحات الثوار الجزائريين، وصارت حالة الغليان والسخط الشعبي في الجزائر والوطن العربي تنعكس على الشارع العراقي وحياة الناس، تتفاعل من خلالها القوى الوطنية في العراق وهي تربط نضالها الوطني لاسقاط الحكم الهاشمي في العراق الموالي لبريطانيا وصنيعتها مع النضال القومي المتمثل في تشكيل لجان المساندة مع الثورة الجزائرية ومتابعة الاحداث اليومية التي تصل اخبارها من الجزائر يوميا وبتعدد وتنوع الفعاليات السياسية في جميع مدن العراق من اقصاه الى اقصاه.
تجلت في المظاهرات والاحتجاجات التي لم تتوقف على مدى سنوات الثورة الجزائرية، في ذروتها أثناء حركة الاحتجاج الواسعة والمظاهرات الشعبية العارمة التي شهدتها بغداد وكافة المدن العراقية إثر اختطاف السلطات الاستعمارية الفرنسية للطائرة التي كانت تحمل قادة الثورة الجزائرية الاربعة يوم 22/11/1956. كانت المظاهرات مناسبة ايضا للضغط على الحكومة العراقية والحكومات العربية من اجل العمل على ضمان سلامة وحياة الثوار الجزائريين المختطفين.
أعلنت جميع البيانات ولوائح الاحتجاج عن تهديد لمصالح فرنسا في الوطن العربي، وطالبت بقطع العلاقات الدبلوماسية مع فرنسا. كما اخذت لوائح المطالب الجماهيرية والشعبية تطالب بالضغط على الحكومة العراقية من اجل عرض القضية الجزائرية على هيئة الامم المتحدة في مطلع عام 1957.
كثيرا ماحاولت حكومة نوري السعيد ايجاد المبررات واطلاق الوعود لتحسين مساعدتها للثورة الجزائرية، كما هو الحال مع تصريح وزير المالية العراقية الذي أوردته صحيفة المجاهد: (صرح السيد نديم الباججي وزير المالية العراقي امام البرلمان بان الحكومة العراقية ستمنح مساعدة مادية للثورة الجزائرية أكثر مفعولا من تلك التي تمنحها حتى الان، متى تحسنت حالة الميزانية العراقية. من المعلوم ان الميزانية العراقية كانت تخصص للثورة الجزائرية مساعدة مالية قدرها 250.000 دينار عراقي، "أي 250 مليون من الفرنكات" ، لكن كثيرا من النواب كانوا يطالبون بزيادة ذلك المبلغ.... هذا وقد صرح وزير المالية العراقي ايضا ان حكومته تؤيد إحداث صندوق مشترك بين الدول العربية لمساعدة الشعب الجزائري على التغلب على الاستعمار الفرنسي.).(5).
تابعت صحيفة المجاهد، لسان حال الثورة الجزائرية، أخبار ضغط الرأي العام العراقي على حكومته في خبر آخر نقلته أيضا في العدد 18 الصادر في 15/2/1958: (...مازالت حملة مقاطعة فرنسا اقتصاديا يتسع نطاقها في العراق الشقيق، فقد حملت الانباء أن نائبا اقترح على الحكومة العراقية اثناء مناقشة الميزانية ان تخصص مبلغا ماليا ضخما لإعانة الثورة الجزائرية ، وان تقطع علائقها الاقتصادية مع فرنسا). ونقلت المجاهد عن صحيفة لوموند الفرنسية : ( لقد اجابت حكومة المملكة العراقية على اقتراح النائب: انها مستعدة لتنفيذ المقاطعة اذا ما تقررت المقاطعة في البلدان العربية). وتنقل صحيفة المجاهد في نفس العدد، ماجاء من اتهام، نقل عن لسان مراسل لوموند من بغداد:
(بان الحكومة تنصلت من جوهر الموضوع بهذا المبرر).
لقد اشتد الضغط الشعبي محتجا من تماهل الحكومة العراقية "حكومة نوري السعيد" في تنفيذ المطالب الشعبية الطامحة نحو دعم الثورة الجزائرية بالمزيد من الدعم. وأجمعت بيانات القوى الوطنية العراقية فرادى وجماعات في اطار قوى "جبهة الاتحاد الوطني"، على رفض تلكم الحجج الواهية لحكومة نوري السعيد، خاصة عندما اعلنت اعتذارها عن تقديم المزيد من المساعدة للجزائر، متحججة باصابة الميزانية العراقية باضرار جرّاء انقطاع تصدير النفط الى موانئ البحر المتوسط بعد ان نسف الانبوب النفطي احتجاجا على العدوان الثلاثي، الفرنسي- البريطاني- الاسرائيلي على مصر عام 1956.
واجهت القوى الوطنية العراقية مجتمعة بالاحتجاج والرفض سياسة حكومة نوري السعيد التي ادعت انها اضطرت الى عقد قرض مع شركات النفط لسد العجز في ميزانيتها، وهي محاولة لنوري السعيد اراد التنصل بها من التزام العراق لمساعدة الثورة الجزائرية، رغم ان للعراق ارصدة مالية معتبرة في البنوك البريطانية. أجبر الضغط الشعبي والشارع العراقي نوري السعيد، رئيس الحكومة، وعدد من اعضاء حكومته على الاعلان الصريح بدعم الثورة الجزائرية بكل الامكانيات، بما فيها السلاح. وفعلا ارسلت الشحنات من الاسلحة للثوار الجزائريين، لكن نوري السعيد حاول استغلال ظرف ارسال الاسلحة الى الثوار الجزائريين لاغراض تآمرية ضد نظام حكم جمال عبد الناصروالضلوع بمحاولات اغتياله، باستغلال رحلات الطائرات العراقية وهي في طريقها لارسال شحنات الاسلحة الى ثوار الجزائر، عندما كانت تهبط في نهاية مدرج مطار بيروت تقوم بالقاء عددا من صناديق الاسلحة. كان هناك من يقوم بنقلها الى سوريا من اجل استخدامها في عمليات تآمرية وانقلابية ضد حكومة الجمهورية العربية المتحدة . تلك العمليات كانت تتم باشراف العقيد الركن غازي الداغستاني، احد كبار قادة الجيش العراقي في العهد الملكي والذي حوكم على افعاله تلك وغيرها بعد انتصار ثورة 14جويليه/تموز 1958.(6).
اكتشف العراقيون خيانة حكومة نوري السعيد وخداعها واستغلالها لمشاعر شعبها والوطنيين تجاه ثورة الجزائر، وظلت تناور في سياستها المضللة بدعوتها من جهة لمقاطعة فرنسا اقتصاديا، ومن جهة اخرى بقائها في عضوية حلف بغداد" حلف المعاهدة المركزية" ، الذي كان في الواقع عبارة عن واجهة من الواجهات الاستعمارية مسيرة بقيادة بريطانيا والولايات المتحدة، وهو امتداد للحلف الاطلسي، الذي كان من أهم ادوات العدوان على الشعب الجزائري وثورته، تجلى عدوانه في الميدان السياسي والعسكري ودعمه لحكومة فرنسا الاستعمارية في محاولاتها فرض الاحتلال والاستعمار على الشعب الجزائري.(7).
لكن الاحداث لم تمهل حكومة المملكة العراقية للتخلص من الضغط الشعبي الكبير في العراق عليها، خصوصا عندما نقلت وكالات الانباء أخبار بشاعة المجزرة الدموية الناجمة عن الغارة الجوية في ساقية سيدي يوسف بتاريخ 8/2/1958 وما رافقها من رد فعل وغضب شعبي في العراق ليرتفع سقف المطالب الشعبية الى اعادة مناقشة موضوع مقاطعة فرنسا اقتصاديا ،حينها ارفق 34 نائبا في مجلس الامة اقتراحا للحكومة يقضي بتأميم الاسهم الفرنسية في شركة نفط العراق، اي مانسبته 23.75 % التي كانت تملكها فرنسا في استثمار البترول العراقي في شركة نفط العراق المساهمة مع بريطانيا والولايات المتحدة.
وبانتظار ذلك استمر الضغط الشعبي بالموازاة مع تنظيم حملات التبرع للثوار الجزائريين ونجاح حملة مقاطعة البضائع الفرنسية في الاسواق العراقية. وقد نقل صورة هذا الاحتجاج العارم مراسل لوموند بقوله : ( بدأت هذه الميول تتجلى في تصرفات رجل الشارع العراقي، فالتجار الفرنسيون بالعراق يصطدمون الان بأنواع من الاهانات في قضاء شؤونهم لدى الادارات والمتاجر العراقية... وهكذا فان فكرة "المقاطعة" تواصل تقدمها الى ان تحين ساعة تقريرها؛ خاصة وان ممثلي الجبهة "أي جبهة التحرير الجزائرية،" يزداد نشاطهم كل يوم وتتكاثر زياراتهم الى السلطات العراقية). (8).
واجهت سياسة حكومة نوري السعيد ضغط الشارع العراقي بالمناورة واستغلال الفرص للجم الاندفاع الشعبي وممثلي جبهة الاتحاد الوطني ونشاطهم في دعم الثورة الجزائرية، حتى واجهت استنكارا واسعا، لم تتوقعه، عندما اقدمت حكومة نوري السعيد على وقف برنامج الثورة الجزائرية الذي كانت تبثه الاذاعة العراقية مطلع عام 1958. كان استمرار الضغط الشعبي منظما عبر عن نفسه في كل مناسبة وخبر مرتبط بالثورة الجزائرية حتى تجاوز الكفاح الوطني العراقي مخططات نوري السعيد والسياسة البريطانية في العراق لتصبح القضية الجزائرية قضية كل فرد من افراد المجتمع العراقي عبر عنها في الالتزام الصارم في المظاهرات و الاحتفالات المقررة بيوم الجزائر.