العز بن عبد السلام أعظم رموز مقاومة العلماء العاملين المخلصين للحكام فى التاريخ الإسلامى، فقد سجل له التاريخ من المواقف ما لم يكن معهودا قبله ولم يجرؤ على تكراره أحد بعده، لقد بات كل المعارضين على مدار التاريخ الإسلامى والواقع والمستقبل عيالا على العز بن عبد السلام وشجاعته وقوته فى الحق، وقد بدأت معارضاته للطغاة عندما تحالف الصالح إسماعيل حاكم دمشق مع الصليبيين، ليساعدوه على الصالح نجم الدين أيوب ابن أخيه، حاكم مصر، وقد سلمهم قلعة صفد وقلعة الشقيف، وصيدا، ودخل الصليبيون دمشق فى عام 638هـ لشراء السلاح لقتال حاكم مصر -كما يروى الصلابى وعليه سيكون الاعتماد- فسُئل الشيخ العز عن بيع السلاح للفرنج، فقال: يَحْرم عليكم مبايعتهم، لأنكم تتحققون أنهم يشترونه، ليقاتلوا به إخوانكم المسلمين. ثم صعد الشيخ العز منبر المسجد الأموى الكبير، كما يروى السبكى فى «طبقات الشافعية» وذمَّ موالاة الأعداء، وقبّح الخيانة وذمَّ الأعمال الشائنة التى حصلت، وشنَّع على السلطان، وقطع الدعاء له بالخطبة وصار يدعو أمام الجماهير بما يوحى بخلعه والاستبدال به، ويقول: اللهم أبرم لهذه الأمة أمرا رَشَدا، تُعِزّ فيه وليَّك وتُذِلّ فيه عدوك ويُعمل فيه بطاعتك ويُنهَى فيه عن معصيتك. والناس يبتهلون بالتأمين والدعاء للمسلمين، والنصر على أعداء الله الملحدين
وكان الملك الصالح إسماعيل خارج دمشق، فلما وصل إليه الخبر أحسَّ بالخطر الذى يحدق به والثورة المتوقعة عليه، فسارع إلى إصدار أمر كتابى بعزل الشيخ العز من الخطابة والإفتاء وأمر باعتقاله، واعتقال الشيخ ابن الحاجب المالكى الذى شاركه الإنكار على فعل السلطان.
توجه الصالح إسماعيل فى حراسة الجيوش الصليبية ليحارب الصالح أيوب حاكم مصر، وحتى يضمن استقرار الأوضاع فى دمشق قبل خروجه أرسل إسماعيل إلى سلطان العلماء بعض أعوانه وأمره أن يتلطف مع الشيخ ويقايضه أن يترك الحديث فى السياسة مقابل الإفراج عنه، قال إسماعيل لرسوله: تتلطَّف به غاية التلطُّف، وتستنزله وتعده بالعودة إلى مناصبه على أحسن حال، فإن وافقك فتدخل به على، وإن خالف، فاعتقله فى خيمة إلى جانب خيمتى، فلما اجتمع رسول السلطان مع سلطان العلماء، شرع فى مسايسته وملاينته، ثم قال له: بينك وبين أن تعود إلى مناصبك وما كنت عليه وزيادة، أن تنكسر للسلطان وتقبّل يده لا غير. فقال له: يا مسكين، ما أرضاه أن يقبل يدى، فضلا أن أقبّل يده، يا قوم، أنتم فى وادٍ، وأنا فى وادٍ، والحمد لله الذى عافانى مما ابتلاكم به، فقال له: قد رسم لى إن لم تُوافق على ما يطلب منك وإلا اعتقلتك فقال: افعلوا ما بدا لكم، فأخذه واعتقله فى خيمة إلى جانب خيمة السلطان، فأخذ سلطان العلماء يقرأ القرآن، والسلطان يسمع، فقال يوما لملوك الصليبيين: أتسمعون هذا الشيخ الذى يقرأ القرآن؟ قالوا: نعم. قال السلطان، هذا أكبر قسوس المسلمين، وقد حبسته، لإنكاره على تسليمى لكم حصون المسلمين، وعزلته عن الخطابة بدمشق، وعن مناصبه، ثم أخرجته، فجاء القدس وقد جددت حبسه واعتقاله لأجلكم. فقال ملوك الفرنجة: والله لو كان هذا قسيسنا، لغسلنا رجليه، وشربنا مرقتها
خاف الملك إسماعيل اضطراب الناس عليه فأخرج العز من سجنه وأمر بإبعاده عن الخطابة فى الجوامع والإفتاء. فترك العزّ الشام وسافر إلى مص وعندما وصل إلى مصر سنة 639هـ، رحّب به الملك الصالح نجم الدين أيوب وأكرم مثواه، ثم ولاّه الخطابة والقضاء. وكان أول ما لاحظه العزّ بعد توليه القضاء قيام الأمراء المماليك، الذين اشتراهم نجم الدين أيوب ودفع ثمنهم من بيت مال المسلمين، واستعملهم فى خدمته وجيشه، وتصريف شؤون الدولة يمارسون البيع والشراء وهو تصرف باطل، لأن المملوك لا ينفذ تصرفه، فأخذ سلطان العلماء لا يمضى لهم بيعا ولا شراء فضايقهم ذلك، وشجر بينهم وبينه كلام حول هذا المعنى فقال لهم بائع الملوك: أنتم الآن أرقَّاء لا ينفذ لكم تصرف، وإن حكم الرق مستصحب عليكم لبيت مال المسلمين، وقد عزمت على بيعكم فاحتدم الأمر، وبائع الملوك مصمّم، لا يصح لهم بيع ولا شراء ولا نكاح، فتعطلت مصالحهم، وكان من جملتهم نائب السلطان الذى اشتاط غضبا، واحمر أنفه، فاجتمع مع شاكلته، وأرسلوا إلى بائع الملوك فقال: نعقد لكم مجلسا، ويُنادَى عليكم لبيت مال المسلمين، ويحصل عتقكم بطريق شرعى فرفعوا الأمر إلى السلطان، فبعث إليه، فلم يرجع، فخرجت من السلطان كلمة فيها غلظة، حاصلها الإنكار على الشيخ -رحمه الله- فى دخوله فى هذا الأمر، وأنه لا يتعلق به
فلما لم يستطع سلطان العلماء تحقيق العدل عزل نفسه عن القضاء وقرر الرحيل عن مصر، يروى الصلابى فحمل أهله، ومتاعه على حمار، وركب حمارا آخر، وخرج من القاهرة، وما إن انتشر الخبر بين الناس فى مصر، حتى تحركت جموع الناس وراءه، فلم تكد امرأة ولا صبى ولا رجل لا يؤبه إليه يتخلف، لا سيما العلماء، والصالحين، والتجار، وأمثالهم ولسان حالهم يقول: لا خير فى مصر إن لم يكن فيها العز بن عبد السلام وأمثاله. فرُفِعَت التقارير حول هذه الظاهرة إلى السلطان، وكانت التوصيات: متى رحل كل هؤلاء ذهب مُلْكك. فركب السلطان بنفسه، ولحقه واسترضاه، وطيّب قلبه، فرجع بشرط أن يُنادَى على ملوك مصر وأمرائها ويبيعهم، فأرسل إليه كبيرهم -نائب السلطان- بالملاطفة والشيخ لم يتغير، لأنه يريد إنفاذ حكم الله، عندئذ، انزعج نائب السلطان من ذلك وقال: كيف ينادى علينا هذا الشيخ ويبيعنا ونحن ملوك الأرض؟ والله لأضربنَّه بسيفى هذا، بنفسه فى جماعته. وجاء إلى بيت الشيخ، والسيف فى يده صلت، فطرق الباب فخرج إليه ولد الشيخ، فرأى أمرا جلدا، فعاد إلى أبيه، وأخبره الحال، فقال لولده فى ثبات وتواضع: يا ولدى، أبوك أقلُّ من أن يُقْتل فى سبيل الله؟ فلما رآه نائب السلطان، اهتزت يده وارتعدت فرائصه وسقط أرضا، فبكى، وسأل الشيخ أن يدعو له قائلا: يا سيدى! خيرا، أى شىء العمل؟ فقال الشيخ: أنادى عليكم وأبيعكم. قال نائب السلطان: ففيمَ تصرف ثمننا؟ قال الشيخ: فى مصالح المسلمين. قال نائب السلطان: من يقضيه؟ قال الشيخ: أنا. وأنفذ الله أمره على يد الشيخ -رحمه الله- فباع الملوك مناديا عليهم واحدا تلو الآخر، وغالى سلطان العلماء فى ثمنهم وقبضه وصرفه فى وجوه الخير التى تعود بالنفع على البلاد والعباد، وبعدها عُرف الشيخ العز بـ«بائع الملوك» واشتهر أمره فى الآفاق
ومن عجائب شجاعته أمام السلاطين أن دخل سلطان العلماء العز بن عبد السلام يوم العيد القلعة، والسلطان نجم الدين أيوب بن الكامل فى زينته، وجنوده بين يديه، وأمراء الدولة تقبّل الأرض له، فالتفت سلطان العلماء إليه مناديا باسمه المجرَّد: يا أيُّوبُ، ما حُجتُك عند الله، إذا قال لك: ألم أُبَوّئ لك مصر، تبيح الخمور؟ فقال أيوب: هل جرى هذا؟ فرفع الشيخ عز الدين بن عبد السلام صوته: نعم، الحانة الفلانية تُباع فيها الخمور، وغيرها من المنكرات وأنت تتقلب فى نعمة هذه المملكة. فقال: سيّدى هذا أنا ما عملته، هذا من زمن أبى، فأجابه الشيخ عز الدين: أنت من الذين يقولون: «إنا وجدنا آباءنا على أمة» فأمر السلطان بإغلاق تلك الحانة
تعجب تلاميذه من شجاعته فسأله تلميذه الباجى: يا سيدى، كيف الحال؟ فقال الشيخ -رحمه الله-: يا بنى رأيته فى تلك العظمة، فأردت أن أهينه، لئلا تكبر نفسه، فتؤذيه فقال تلميذه، أما خفته؟ قال الشيخ والله يا بنى، استحضرت هيبة الله، فصار السلطان قدامى كالقط. ولم تتوقف عجائب الشيخ الجليل سلطان العلماء وبائع الملوك عند ذلك الحد، فحين هاجم التتار البلاد الإسلامية ودمروا بغداد، وأبادوا المسلمين وعظم خطرهم على العالم الإسلامى استشاره السلطان قطز بأمر المملكة وحرب التتار قال رحمه الله: أخرجوا وأنا ضامن لكم على الله النصر، فقال السلطان له: إن المال فى خزانتى قليل، وأنا أريد أن أقترض من أموال التجار ما أستعين به على قتال التتار، فقال: إنه إذا طرق العدو بلاد الإسلام وجب على الإمام قتالهم، وجاز لكم أن تأخذوا من الرعية ما تستعينون به على جهادكم بشرط أن لا يبقى فى بيت المال شىء، وأن تبيعوا ما لكم من الحوائص المذهَّبة، والآلات النفيسة، ويقتصر كل الجند على مركوب وسلاحه ويتساووا هم والعامة، وأما أخذ الأموال من العامة مع بقائه فى أيدى الجند من الأموال والآلآت الفاخرة فلا، وكان فى مجلس السلطان كبار العلماء والفقهاء والقضاة فأيدوا ما ذهب إليه ابن عبد السلام، فنفذ الملك والأمراء والجند فتوى العز وامتثلوا أمره، فأحضر الأمراء كافة ما يملكون من مال وحلى نسائهم، وأقسم كل واحد منهم أنه لا يملك شيئا فى الباطن، ولما جمعت هذه الأموال وضُربت سكت، وأنفقت فى تجهيز الجيش، ولم تكفِ هذه الأموال نفقة الجيش أخذ السلطان قطز دينارا واحدا من كل رجل قادر فى مصر، فجمع المال اللازم وأنزل الله نصره على عباده المؤمنين، وهزم التتار فى عين جالوت سنة 658هـ
وبعد عمر مديد ناهز ثلاثة وثمانين عاما فى الجهاد فى سبيل الله ونصرة الإسلام ونشر دعوته، توُفى العز بن عبد السلام فى العاشر من جمادى الأولى سنة 660هـ
لقد وُضع الشيخ تحت الإقامة الجبرية وسُجن وعُذّب، وكاد يُقتَل، كل ذلك ولم يضعف أو يَلِن فى معارضته للطغاة الجائرين، فرحم الله الشيخ رحمة واسعة.
وكان الملك الصالح إسماعيل خارج دمشق، فلما وصل إليه الخبر أحسَّ بالخطر الذى يحدق به والثورة المتوقعة عليه، فسارع إلى إصدار أمر كتابى بعزل الشيخ العز من الخطابة والإفتاء وأمر باعتقاله، واعتقال الشيخ ابن الحاجب المالكى الذى شاركه الإنكار على فعل السلطان.
توجه الصالح إسماعيل فى حراسة الجيوش الصليبية ليحارب الصالح أيوب حاكم مصر، وحتى يضمن استقرار الأوضاع فى دمشق قبل خروجه أرسل إسماعيل إلى سلطان العلماء بعض أعوانه وأمره أن يتلطف مع الشيخ ويقايضه أن يترك الحديث فى السياسة مقابل الإفراج عنه، قال إسماعيل لرسوله: تتلطَّف به غاية التلطُّف، وتستنزله وتعده بالعودة إلى مناصبه على أحسن حال، فإن وافقك فتدخل به على، وإن خالف، فاعتقله فى خيمة إلى جانب خيمتى، فلما اجتمع رسول السلطان مع سلطان العلماء، شرع فى مسايسته وملاينته، ثم قال له: بينك وبين أن تعود إلى مناصبك وما كنت عليه وزيادة، أن تنكسر للسلطان وتقبّل يده لا غير. فقال له: يا مسكين، ما أرضاه أن يقبل يدى، فضلا أن أقبّل يده، يا قوم، أنتم فى وادٍ، وأنا فى وادٍ، والحمد لله الذى عافانى مما ابتلاكم به، فقال له: قد رسم لى إن لم تُوافق على ما يطلب منك وإلا اعتقلتك فقال: افعلوا ما بدا لكم، فأخذه واعتقله فى خيمة إلى جانب خيمة السلطان، فأخذ سلطان العلماء يقرأ القرآن، والسلطان يسمع، فقال يوما لملوك الصليبيين: أتسمعون هذا الشيخ الذى يقرأ القرآن؟ قالوا: نعم. قال السلطان، هذا أكبر قسوس المسلمين، وقد حبسته، لإنكاره على تسليمى لكم حصون المسلمين، وعزلته عن الخطابة بدمشق، وعن مناصبه، ثم أخرجته، فجاء القدس وقد جددت حبسه واعتقاله لأجلكم. فقال ملوك الفرنجة: والله لو كان هذا قسيسنا، لغسلنا رجليه، وشربنا مرقتها
خاف الملك إسماعيل اضطراب الناس عليه فأخرج العز من سجنه وأمر بإبعاده عن الخطابة فى الجوامع والإفتاء. فترك العزّ الشام وسافر إلى مص وعندما وصل إلى مصر سنة 639هـ، رحّب به الملك الصالح نجم الدين أيوب وأكرم مثواه، ثم ولاّه الخطابة والقضاء. وكان أول ما لاحظه العزّ بعد توليه القضاء قيام الأمراء المماليك، الذين اشتراهم نجم الدين أيوب ودفع ثمنهم من بيت مال المسلمين، واستعملهم فى خدمته وجيشه، وتصريف شؤون الدولة يمارسون البيع والشراء وهو تصرف باطل، لأن المملوك لا ينفذ تصرفه، فأخذ سلطان العلماء لا يمضى لهم بيعا ولا شراء فضايقهم ذلك، وشجر بينهم وبينه كلام حول هذا المعنى فقال لهم بائع الملوك: أنتم الآن أرقَّاء لا ينفذ لكم تصرف، وإن حكم الرق مستصحب عليكم لبيت مال المسلمين، وقد عزمت على بيعكم فاحتدم الأمر، وبائع الملوك مصمّم، لا يصح لهم بيع ولا شراء ولا نكاح، فتعطلت مصالحهم، وكان من جملتهم نائب السلطان الذى اشتاط غضبا، واحمر أنفه، فاجتمع مع شاكلته، وأرسلوا إلى بائع الملوك فقال: نعقد لكم مجلسا، ويُنادَى عليكم لبيت مال المسلمين، ويحصل عتقكم بطريق شرعى فرفعوا الأمر إلى السلطان، فبعث إليه، فلم يرجع، فخرجت من السلطان كلمة فيها غلظة، حاصلها الإنكار على الشيخ -رحمه الله- فى دخوله فى هذا الأمر، وأنه لا يتعلق به
فلما لم يستطع سلطان العلماء تحقيق العدل عزل نفسه عن القضاء وقرر الرحيل عن مصر، يروى الصلابى فحمل أهله، ومتاعه على حمار، وركب حمارا آخر، وخرج من القاهرة، وما إن انتشر الخبر بين الناس فى مصر، حتى تحركت جموع الناس وراءه، فلم تكد امرأة ولا صبى ولا رجل لا يؤبه إليه يتخلف، لا سيما العلماء، والصالحين، والتجار، وأمثالهم ولسان حالهم يقول: لا خير فى مصر إن لم يكن فيها العز بن عبد السلام وأمثاله. فرُفِعَت التقارير حول هذه الظاهرة إلى السلطان، وكانت التوصيات: متى رحل كل هؤلاء ذهب مُلْكك. فركب السلطان بنفسه، ولحقه واسترضاه، وطيّب قلبه، فرجع بشرط أن يُنادَى على ملوك مصر وأمرائها ويبيعهم، فأرسل إليه كبيرهم -نائب السلطان- بالملاطفة والشيخ لم يتغير، لأنه يريد إنفاذ حكم الله، عندئذ، انزعج نائب السلطان من ذلك وقال: كيف ينادى علينا هذا الشيخ ويبيعنا ونحن ملوك الأرض؟ والله لأضربنَّه بسيفى هذا، بنفسه فى جماعته. وجاء إلى بيت الشيخ، والسيف فى يده صلت، فطرق الباب فخرج إليه ولد الشيخ، فرأى أمرا جلدا، فعاد إلى أبيه، وأخبره الحال، فقال لولده فى ثبات وتواضع: يا ولدى، أبوك أقلُّ من أن يُقْتل فى سبيل الله؟ فلما رآه نائب السلطان، اهتزت يده وارتعدت فرائصه وسقط أرضا، فبكى، وسأل الشيخ أن يدعو له قائلا: يا سيدى! خيرا، أى شىء العمل؟ فقال الشيخ: أنادى عليكم وأبيعكم. قال نائب السلطان: ففيمَ تصرف ثمننا؟ قال الشيخ: فى مصالح المسلمين. قال نائب السلطان: من يقضيه؟ قال الشيخ: أنا. وأنفذ الله أمره على يد الشيخ -رحمه الله- فباع الملوك مناديا عليهم واحدا تلو الآخر، وغالى سلطان العلماء فى ثمنهم وقبضه وصرفه فى وجوه الخير التى تعود بالنفع على البلاد والعباد، وبعدها عُرف الشيخ العز بـ«بائع الملوك» واشتهر أمره فى الآفاق
ومن عجائب شجاعته أمام السلاطين أن دخل سلطان العلماء العز بن عبد السلام يوم العيد القلعة، والسلطان نجم الدين أيوب بن الكامل فى زينته، وجنوده بين يديه، وأمراء الدولة تقبّل الأرض له، فالتفت سلطان العلماء إليه مناديا باسمه المجرَّد: يا أيُّوبُ، ما حُجتُك عند الله، إذا قال لك: ألم أُبَوّئ لك مصر، تبيح الخمور؟ فقال أيوب: هل جرى هذا؟ فرفع الشيخ عز الدين بن عبد السلام صوته: نعم، الحانة الفلانية تُباع فيها الخمور، وغيرها من المنكرات وأنت تتقلب فى نعمة هذه المملكة. فقال: سيّدى هذا أنا ما عملته، هذا من زمن أبى، فأجابه الشيخ عز الدين: أنت من الذين يقولون: «إنا وجدنا آباءنا على أمة» فأمر السلطان بإغلاق تلك الحانة
تعجب تلاميذه من شجاعته فسأله تلميذه الباجى: يا سيدى، كيف الحال؟ فقال الشيخ -رحمه الله-: يا بنى رأيته فى تلك العظمة، فأردت أن أهينه، لئلا تكبر نفسه، فتؤذيه فقال تلميذه، أما خفته؟ قال الشيخ والله يا بنى، استحضرت هيبة الله، فصار السلطان قدامى كالقط. ولم تتوقف عجائب الشيخ الجليل سلطان العلماء وبائع الملوك عند ذلك الحد، فحين هاجم التتار البلاد الإسلامية ودمروا بغداد، وأبادوا المسلمين وعظم خطرهم على العالم الإسلامى استشاره السلطان قطز بأمر المملكة وحرب التتار قال رحمه الله: أخرجوا وأنا ضامن لكم على الله النصر، فقال السلطان له: إن المال فى خزانتى قليل، وأنا أريد أن أقترض من أموال التجار ما أستعين به على قتال التتار، فقال: إنه إذا طرق العدو بلاد الإسلام وجب على الإمام قتالهم، وجاز لكم أن تأخذوا من الرعية ما تستعينون به على جهادكم بشرط أن لا يبقى فى بيت المال شىء، وأن تبيعوا ما لكم من الحوائص المذهَّبة، والآلات النفيسة، ويقتصر كل الجند على مركوب وسلاحه ويتساووا هم والعامة، وأما أخذ الأموال من العامة مع بقائه فى أيدى الجند من الأموال والآلآت الفاخرة فلا، وكان فى مجلس السلطان كبار العلماء والفقهاء والقضاة فأيدوا ما ذهب إليه ابن عبد السلام، فنفذ الملك والأمراء والجند فتوى العز وامتثلوا أمره، فأحضر الأمراء كافة ما يملكون من مال وحلى نسائهم، وأقسم كل واحد منهم أنه لا يملك شيئا فى الباطن، ولما جمعت هذه الأموال وضُربت سكت، وأنفقت فى تجهيز الجيش، ولم تكفِ هذه الأموال نفقة الجيش أخذ السلطان قطز دينارا واحدا من كل رجل قادر فى مصر، فجمع المال اللازم وأنزل الله نصره على عباده المؤمنين، وهزم التتار فى عين جالوت سنة 658هـ
وبعد عمر مديد ناهز ثلاثة وثمانين عاما فى الجهاد فى سبيل الله ونصرة الإسلام ونشر دعوته، توُفى العز بن عبد السلام فى العاشر من جمادى الأولى سنة 660هـ
لقد وُضع الشيخ تحت الإقامة الجبرية وسُجن وعُذّب، وكاد يُقتَل، كل ذلك ولم يضعف أو يَلِن فى معارضته للطغاة الجائرين، فرحم الله الشيخ رحمة واسعة.