ما أكثر صفحات العِزِّ المَجْهولة في تاريخ الأمة الإسلامية، وما أَحْوَج الأمة الإسلامية إلى إزالة الغُبار عن تلك الصفحات، وإبرازها من خُدورها؛ رَفْعًا للهِمَم، واسْتِلْهامًا لمعاني العِزَّة والشُّمُوخ.
وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن فَتْح القُسْطنطينية سيسبق فَتْح روما[1]، وتَلَقَّف كثيرٌ من الخُلفاء، والأمراء، والمُلوك خَبَر التَّبْشِير بفَتْح المدينتين بنَفْسٍ تَتُوق إلى الفوز بشَرَف وقوع البُشْرى على أيديهم.
وقد تَوالَت مُحاولات فَتْح القسطنطينية في عصر بني أمية، وبني العباس، ثم أَلَحَّ العُثمانيون - لقُرب ديارهم منها - على فَتْحها، وراحوا وغَدَوا في غَزْوها، وحِصارها، وفَتْح ما يُحِيط بها من مدن، وحُصون، إلى أن حاز السُّلْطان محمد الثاني، ابن مُراد الثاني رحمه الله تعالى ذلك الشَّرَف، حتى صار يُعْرَف به دون غيره، وأَضْحَى لَقَبُ الفاتح له قرينًا، وأَمْسَتْ صِفَة الفَتْح به لَصِيقة[2].
ولكن محاولات فتح روما لا يَحْظى بمعرفتها الكثيرُ من مُطالِعي التاريخ الإسلامي، وتَخْفى أخبارُها عن بعض حُذَّاق الباحثين، فَضْلًا عمَّن دونهم في العلم من عُموم المسلمين.
وسوف نُدْلِي في هذه الحلقة من سلسلة صفحات مَنْسِيَّة في تاريخ الإسلام في إيطالية بدَلْونا في تعريف المسلمين بتلك الصفحة من صفحات العِزِّ، رَجاءَ أن تكون سببًا في إيقاظ هِمَمٍ، وشَدِّ عَزائِم، ومُداواة ما حَلَّ بالنُّفُوس من هَزائِم.
روما والأملاك البابوية:
لقد قام الأغالبة بحَمْلَة على روما، ودخلوها في صفر سنة 232 هـ-، الموافق لأغسطس 846 م، وكان ذلك في أيام الأمير أبي العباس محمد بن أبي عقال الأَغْلَب السَّعْدِي، رابع أُمراء الأَغالِبة، والذي حكم من سنة 226 إلى سنة 242 هـ-[3].
وأسرع البابا بطلب عون بحري من مدن كمبانيا المتحالفة، وكانت هذه فيما يظهر على استعداد للاستجابة لدعوته، فأرسلت أسطولا لحماية الشواطئ البابوية، غير أن عاصفة حطمت السفن الإسلامية قرب أوسيتا، فلم تعد لتلك المساعدة أية ضرورة.
وذكر المسيو رينو[4] أن المسلمين لما غزوا روما في تلك السنة - أي 846 م - صعدوا في نهر الطيبر[5]، ونَهَبوا[6] كنائس القِدِّيسَيْن: بُطْرُس، وبُولُس[7]، وغزوا أيضًا جنوة في تلك السنة، وعَطَّلُوا سُدود نَهْرِها، فنَفَر الأهالي، وقاتلوهم، وحَمَل الرُّهْبان، والقِسِّيْسُون السِّلاح.[8]
وذكر هنري بيرين[9] أن المسلمين قد حاصروا قلعة القديس آنج في غزاتهم المذكورة على روما.
وأضاف ديفز[10] أن المسلمين - الذين أَسْماهم بالقَراصِنة العرب - قد أنزلوا التَّخْريب في نفس العام بميناء أوستيا، وظاهر كلامه أن قريب من المدينة البابوية بروما؛ لأنه قَرَن غزوهما معًا.
وكان المسلمون قد غَزَوا سواحل سيفيتة فكشيا بقرب روما قبل ذلك التاريخ بمدة؛ فقد ذكر المسيو رينو[11] أن المسلمين لما غزوا كورسيكة في سنة 813 م، وأسروا، وغنموا، أَكْمَن لهم كونت أمبورياس قوة بحرية بقرب مدينة برينيان في طريق عودتهم، فغَنِمَت منهم ثمانية مراكب، كان فيها أكثر من خمسمائة أسير مسلم، فانتقم المسلمون عن ذلك باجتياح سواحل نيس، وبروفنس، وسيفيتة فكشيا بقرب روما.
والظاهر من كلام رينو أن غَزْو المسلمين لسواحل المدن المذكورة كان بعد التاريخ الذي ذكره - وهو 813 م - بفترة قليلة؛ لأنه رَتَّب الأحداث على بعضها، وفقًا لرُدود الفِعْل المُتَتابِعة من قبل المسلمين والنصارى.
ولكن أرشيبالد لويس قد ذكر مسارًا آخر للأحداث، ربط فيه بين الهجوم على المدن الساحلية المذكورة وبين الهجوم على روما في عام 846 م، فقال: لما حِيْل بين المسلمين وبين ما يَبْتَغون في تلك المنطقة[12]، تَحَوَّلوا إلى أراضي البابوية؛ ففي عام 846 م، أنزل المسلمون على السواحل قوات هزمت الحامِيات الموجودة في شيفيتا فكيا، ونوفا أوستيا، وأغارت قواتهم هذه على ضواحي روما ذاتها.[13]
[1] سُئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي المدينتين تُفتح أولًا: قسطنطينية أو رومية؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مدينة هرقل تُفْتَح أولًا" يعني قسطنطينية. أخرجه أحمد في مسنده (2/176)، وصَحَّحَه الحاكم، والذهبي، والألباني. انظر: السلسلة الصحيحة (ح4).
[2] سنذكر في هذه الحلقة من السلسلة إن شاء الله تعالى ما كان من عزمه - رحمه الله تعالى - على فتح روما بعد فتح القسطنطينية، وما اتخذه لذلك من تدابير.
[3]انظر: أطلس تاريخ الإسلام لحسين مؤنس (ص180).
[4] انظر: تاريخ غزوات العرب لشكيب أرسلان (ص152-ص155). وقد ذكر أمير البيان في حاشية (ص155) أن مسيو رينو قد نقل ذلك عن مجموعة البولنديين، وتاريخ مدينة نيس للمسيو لويس دورنت، وفي مخطوط لمؤلف اسمه أغيو فريدو محفوظ في مكتبة تورينو.
[5] وقع في الأصل (الطير)، ونهر التيبر، أو التيفر: هو ثاني أطول نهر في إيطاليا، ويبدأ من سلسلة جبال توسكان ويتدفق جنوبًا لمسافة 405 كم، وفي نهايته يعبر بمدينة روما، قبل أن يصب في البحر الأبيض المتوسط في منطقة أوستيا، وكان يعد وسيلة تجارة مهمة في العهود الرومانية.
[6]الأولى عند ترجمة العبارات المنقولة عن المستشرقين أن يراعى اختيار الألفاظ الغير قادحة، فالوصف الصحيح لأخذ الأموال، والتحف، وغيرها في مثل تلك الغزوات هو وصف الغنيمة، وهو وصف شرعي لما يغنمه المسلمون في غزوهم لديار الكفار، أما وصف النَّهْب، فيتَعَمَّد المستشرقون استخدامه لغَمْز المسلمين الغُزاة، وتصويرهم على كونهم مجموعة من اللصوص، وقُطَّاع الطرق، مع كونهم يُعَبِّرون عن نهبهم لثروات المسلمين بلفظ الاستعمار - وهو طلب عُمْران الأرض وإصلاحها - وهو في حقيقته استخراب، ولا زالوا يدلسون على الناس بوصف نهبهم البغيض لديار الإسلام بألفاظ معسولة، مثل: إعادة الإعمار، ونحوها.
[7] وقد ذكر ديفز في كتابه أوروبا في العصور الوسطى ذلك أيضًا (ص71).
[8] لا شك في أن تعويل المستشرقين على المصادر الأوروربية القديمة، ذات الطابع الكنسي، له دور كبير في محاولة إضْفاء صفة اللُّصُوصِيَّة على الغزاة المسلمين، والبطولة المزعومة على قساوسة النصارى ورهبانهم.
[9] تاريخ أوروبا في العصور الوسطى الحياة الاقتصادية والاجتماعية (ص.
[10] أوروبا في العصور الوسطى (ص71).
[11] انظر: تاريخ غزوات العرب لشكيب أرسلان (ص141،140).
[12] يقصد بذلك الإشارة إلى هزيمة المسلمين البحرية أمام تحالف مدن: نابولي، وأمالفي، وجايتا، وسرنتو في البحر الأدرياتيكي، والذي أفقدهم السيادة البحرية فيه لفترة من الزمن.
[13] انظر: تاريخ القوى البحرية والتجارية (ص216).
وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن فَتْح القُسْطنطينية سيسبق فَتْح روما[1]، وتَلَقَّف كثيرٌ من الخُلفاء، والأمراء، والمُلوك خَبَر التَّبْشِير بفَتْح المدينتين بنَفْسٍ تَتُوق إلى الفوز بشَرَف وقوع البُشْرى على أيديهم.
وقد تَوالَت مُحاولات فَتْح القسطنطينية في عصر بني أمية، وبني العباس، ثم أَلَحَّ العُثمانيون - لقُرب ديارهم منها - على فَتْحها، وراحوا وغَدَوا في غَزْوها، وحِصارها، وفَتْح ما يُحِيط بها من مدن، وحُصون، إلى أن حاز السُّلْطان محمد الثاني، ابن مُراد الثاني رحمه الله تعالى ذلك الشَّرَف، حتى صار يُعْرَف به دون غيره، وأَضْحَى لَقَبُ الفاتح له قرينًا، وأَمْسَتْ صِفَة الفَتْح به لَصِيقة[2].
ولكن محاولات فتح روما لا يَحْظى بمعرفتها الكثيرُ من مُطالِعي التاريخ الإسلامي، وتَخْفى أخبارُها عن بعض حُذَّاق الباحثين، فَضْلًا عمَّن دونهم في العلم من عُموم المسلمين.
وسوف نُدْلِي في هذه الحلقة من سلسلة صفحات مَنْسِيَّة في تاريخ الإسلام في إيطالية بدَلْونا في تعريف المسلمين بتلك الصفحة من صفحات العِزِّ، رَجاءَ أن تكون سببًا في إيقاظ هِمَمٍ، وشَدِّ عَزائِم، ومُداواة ما حَلَّ بالنُّفُوس من هَزائِم.
روما والأملاك البابوية:
لقد قام الأغالبة بحَمْلَة على روما، ودخلوها في صفر سنة 232 هـ-، الموافق لأغسطس 846 م، وكان ذلك في أيام الأمير أبي العباس محمد بن أبي عقال الأَغْلَب السَّعْدِي، رابع أُمراء الأَغالِبة، والذي حكم من سنة 226 إلى سنة 242 هـ-[3].
وأسرع البابا بطلب عون بحري من مدن كمبانيا المتحالفة، وكانت هذه فيما يظهر على استعداد للاستجابة لدعوته، فأرسلت أسطولا لحماية الشواطئ البابوية، غير أن عاصفة حطمت السفن الإسلامية قرب أوسيتا، فلم تعد لتلك المساعدة أية ضرورة.
وذكر المسيو رينو[4] أن المسلمين لما غزوا روما في تلك السنة - أي 846 م - صعدوا في نهر الطيبر[5]، ونَهَبوا[6] كنائس القِدِّيسَيْن: بُطْرُس، وبُولُس[7]، وغزوا أيضًا جنوة في تلك السنة، وعَطَّلُوا سُدود نَهْرِها، فنَفَر الأهالي، وقاتلوهم، وحَمَل الرُّهْبان، والقِسِّيْسُون السِّلاح.[8]
وذكر هنري بيرين[9] أن المسلمين قد حاصروا قلعة القديس آنج في غزاتهم المذكورة على روما.
وأضاف ديفز[10] أن المسلمين - الذين أَسْماهم بالقَراصِنة العرب - قد أنزلوا التَّخْريب في نفس العام بميناء أوستيا، وظاهر كلامه أن قريب من المدينة البابوية بروما؛ لأنه قَرَن غزوهما معًا.
وكان المسلمون قد غَزَوا سواحل سيفيتة فكشيا بقرب روما قبل ذلك التاريخ بمدة؛ فقد ذكر المسيو رينو[11] أن المسلمين لما غزوا كورسيكة في سنة 813 م، وأسروا، وغنموا، أَكْمَن لهم كونت أمبورياس قوة بحرية بقرب مدينة برينيان في طريق عودتهم، فغَنِمَت منهم ثمانية مراكب، كان فيها أكثر من خمسمائة أسير مسلم، فانتقم المسلمون عن ذلك باجتياح سواحل نيس، وبروفنس، وسيفيتة فكشيا بقرب روما.
والظاهر من كلام رينو أن غَزْو المسلمين لسواحل المدن المذكورة كان بعد التاريخ الذي ذكره - وهو 813 م - بفترة قليلة؛ لأنه رَتَّب الأحداث على بعضها، وفقًا لرُدود الفِعْل المُتَتابِعة من قبل المسلمين والنصارى.
ولكن أرشيبالد لويس قد ذكر مسارًا آخر للأحداث، ربط فيه بين الهجوم على المدن الساحلية المذكورة وبين الهجوم على روما في عام 846 م، فقال: لما حِيْل بين المسلمين وبين ما يَبْتَغون في تلك المنطقة[12]، تَحَوَّلوا إلى أراضي البابوية؛ ففي عام 846 م، أنزل المسلمون على السواحل قوات هزمت الحامِيات الموجودة في شيفيتا فكيا، ونوفا أوستيا، وأغارت قواتهم هذه على ضواحي روما ذاتها.[13]
[1] سُئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي المدينتين تُفتح أولًا: قسطنطينية أو رومية؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مدينة هرقل تُفْتَح أولًا" يعني قسطنطينية. أخرجه أحمد في مسنده (2/176)، وصَحَّحَه الحاكم، والذهبي، والألباني. انظر: السلسلة الصحيحة (ح4).
[2] سنذكر في هذه الحلقة من السلسلة إن شاء الله تعالى ما كان من عزمه - رحمه الله تعالى - على فتح روما بعد فتح القسطنطينية، وما اتخذه لذلك من تدابير.
[3]انظر: أطلس تاريخ الإسلام لحسين مؤنس (ص180).
[4] انظر: تاريخ غزوات العرب لشكيب أرسلان (ص152-ص155). وقد ذكر أمير البيان في حاشية (ص155) أن مسيو رينو قد نقل ذلك عن مجموعة البولنديين، وتاريخ مدينة نيس للمسيو لويس دورنت، وفي مخطوط لمؤلف اسمه أغيو فريدو محفوظ في مكتبة تورينو.
[5] وقع في الأصل (الطير)، ونهر التيبر، أو التيفر: هو ثاني أطول نهر في إيطاليا، ويبدأ من سلسلة جبال توسكان ويتدفق جنوبًا لمسافة 405 كم، وفي نهايته يعبر بمدينة روما، قبل أن يصب في البحر الأبيض المتوسط في منطقة أوستيا، وكان يعد وسيلة تجارة مهمة في العهود الرومانية.
[6]الأولى عند ترجمة العبارات المنقولة عن المستشرقين أن يراعى اختيار الألفاظ الغير قادحة، فالوصف الصحيح لأخذ الأموال، والتحف، وغيرها في مثل تلك الغزوات هو وصف الغنيمة، وهو وصف شرعي لما يغنمه المسلمون في غزوهم لديار الكفار، أما وصف النَّهْب، فيتَعَمَّد المستشرقون استخدامه لغَمْز المسلمين الغُزاة، وتصويرهم على كونهم مجموعة من اللصوص، وقُطَّاع الطرق، مع كونهم يُعَبِّرون عن نهبهم لثروات المسلمين بلفظ الاستعمار - وهو طلب عُمْران الأرض وإصلاحها - وهو في حقيقته استخراب، ولا زالوا يدلسون على الناس بوصف نهبهم البغيض لديار الإسلام بألفاظ معسولة، مثل: إعادة الإعمار، ونحوها.
[7] وقد ذكر ديفز في كتابه أوروبا في العصور الوسطى ذلك أيضًا (ص71).
[8] لا شك في أن تعويل المستشرقين على المصادر الأوروربية القديمة، ذات الطابع الكنسي، له دور كبير في محاولة إضْفاء صفة اللُّصُوصِيَّة على الغزاة المسلمين، والبطولة المزعومة على قساوسة النصارى ورهبانهم.
[9] تاريخ أوروبا في العصور الوسطى الحياة الاقتصادية والاجتماعية (ص.
[10] أوروبا في العصور الوسطى (ص71).
[11] انظر: تاريخ غزوات العرب لشكيب أرسلان (ص141،140).
[12] يقصد بذلك الإشارة إلى هزيمة المسلمين البحرية أمام تحالف مدن: نابولي، وأمالفي، وجايتا، وسرنتو في البحر الأدرياتيكي، والذي أفقدهم السيادة البحرية فيه لفترة من الزمن.
[13] انظر: تاريخ القوى البحرية والتجارية (ص216).