يصف العديد من المؤرخين الإمبراطور الروسي بولس الأول بالمجنون لأسباب كثيرة أهمها محاولته تنظيم حملة للقوات الروسية إلى الهند. للوهلة الأولى تبدو هذه الحقيقية التاريخية غريبة حقاً... ويتساءل معظم الخبراء والمراقبين ما الذي نسيه الإمبراطور بولس الأول في بلاد تفصلها عن روسيا بحار ومحيطات؟ لكن إذا أمعنا النظر في أسباب هذه الحملة يصبح من الواضح أنها ليست مجرد فكرة إمبراطور معتوه وإنما عملية إستراتيجية مخطط لها
كفاح مشترك ضد عدو مشترك
لقد كانت الحملة على الهند من بنات أفكار نابليون الأول والتي حصلت على ترحيب وموافقة من بولس الأول حيث عبر الزعيمان عن رغبتهما مواجهة العدو المشترك الممثل بانكلترا تلك الدولة العظمي آنذاك سيدة البحار التي شكلت تهديداً لكلا الدولتين الطامعتين لأن تصبحا قوتان بحريتان في المنطقة ولتحقيق هذا الهدف كان من الضروري تقويض القوة الاقتصادية لانكلترا.
وفي هذا السياق يشير كل من البروفسور الفرنسي ايرنيست لافيس و الفريد رامبو في كتابهما بعنوان "تاريخ القرن التاسع عشر" قائلين: "بالطبع كان لابد لفكرة تقارب الدولتين أن تلد من أجل مواجهة صراع مشترك وللاستيلاء بشكل نهائي على الهند تلك الدولة التي تعتبر المصدر الرئيسي للثروة والقوة العسكرية الانكليزية هكذا ظهرت الخطة الكبيرة التي تنتمي دون أدنى شك إلى بونابرت الذي قام بدراستها بشكل دقيق وعرضها على بولس الأول.
يمكن اعتبار الحملة على مصر التي قام بها القنصل الأول هي نقطة بداية الحملة على الهند، ففي 19 من شهر أيار /مايو عام 1798 خرج جيش مهيب بقيادة بونابرت ضم 300 سفينة و10 ألاف شخص و35 ألف من القوات الاستطلاعية من مدينة تولون الفرنسية باتجاه مصر، وفي 30 من شهر حزيران/ يونيو بدأت عملية الإنزال في مدينة الإسكندرية. وهنا يتساءل المحللون ماذا أراد الفرنسيون من مصر؟ ومن خلال التحليل العسكري لتلك المنطقة نرى أنه بعد انهيار أول تحالف مناهض لفرنسا استمرت انكلترا وحدها في تنفيذ خططها الاستعمارية الإستراتيجية. يشار إلى أن القيادة كانت تعتزم تنظيم إنزال للقوات في الجزر البريطانية ولكن سرعان ما تم التخلي عن هذه الفكرة بسبب نقص في القوات والموارد الأساسية ومن هنا ظهرت خطة للاستيلاء على مصر وذلك بتوجيه ضربة لمهاجمة خطوط الاتصال بين انكلترا والهند.
ولقد كتب المؤرخ الروسي المعروف ديمتري ميريجكوفسكي بإعجاب في روايته سيرة نابليون الذاتية قائلاً: "عبر مصر إلى الهند لتوجيه ضربة مميتة لانكلترا التي تسيطر على العالم – هذه هي خطة بونابرت العملاقة".
أما المؤرخ الفرنسي جان تيولاراف المعاصر أشار في كتابه "نابليون أو أسطورة المخلص" قائلاً: لقد سمحت الحملة على مصر بتحقيق ثلاثة أهداف إستراتيجية: الاستيلاء على قناة السويس وبالتالي إغلاق أحد الممرات الواصلة بين الهند وانكلترا والحصول على مستعمرة جديدة والاستيلاء على قاعدة مهمة والتي تعتبر بوابة على الهند ذلك المصدر الرئيسي لازدهار انكلترا.
انتشال الجمر الملتهب بأيدي الغير
نعود إلى روسيا وبالتحديد إلى عهد حكم بولس الأول عندما شهدت البلاد مرحلة إعادة تقييم من هو الصديق ومن هو العدو ففي مطلع القرنين السابع عشر والثامن عشر أصبحت روسيا قوة حاسمة في أوروبا حيث قضت الحملة على إيطاليا بزعامة القائد العظيم الكسندر فاسيلوفيتش سوفوروف على الفتوحات الفرنسية في غضون ثلاثة أشهر.
بدا للجميع أن نابليون قد انتهى أمره، ولكن... فجأة غيرت روسيا موقفها وانحازت باتجاه فرنسا وبعثرت الأوراق السياسية في أوروبا، ولهذا يعتبر العديد من المؤرخين بأن سياسة بولس الأول الخارجية كانت متناقضة ومتعارضة فيما بينهما.
لم يكن تحول سياسة بولس الأول الخارجية محض صدفة حتى أن المؤرخين الذين قاموا بدراسة فترة حكم نابليون بونابرت ذكروا ما لا يقل عن أربعة أسباب ساهمت في تقارب بين الإمبراطور الفرنسي والإمبراطور الروسي.
السبب الأول هو عرفاناً بالجميل، فبعد الهزيمة التي لحقت بوحدات من الجيش الروسي بقيادة كورساكوف في خريف عام 1789 أبلغ نابليون الإمبراطور بولس الأول بأنه يرغب في الإفراج عن جميع الأسرى الروس وإعادتهم إلى وطنهم. وبالفعل في شهر كانون الأول /ديسمبر من عام 1800 لم يأمر بونابرت من باريس فقط بالإفراج عن 6 ألاف أسير روسي ولكنه أمر أيضاً في حياكة الألبسة لهم على حساب الخزنة الفرنسية وتم إعادة الأسلحة لهم، ولهذا كان رد بولس لبونابرت هو أنه موافق على إحلال السلام كرغبة منه أن يعود الهدوء والأمن لأوروبا.
السبب الثاني لتحول سياسة بولس الأول هو سعي الحلفاء المناهضين لنابليون لتحقيق أهدافهم على حساب مصالح روسيا. وبرأي المؤرخة آناستاسيا غولوفانتشينكو فإن التحالف الروسي الفرنسي كان حاجة ماسة لروسيا مشيرة: "نحن تخلصنا من الحاجة لانتشال الجمر الملتهب بأيدي الغير".
الكسندر فاسيلوفيتش سوفوروف
الطريق إلى الجنوب الشرقي
قام القائد العسكري العظيم سوفوروف بعبور جبال الألب على رأس قوات روسية نمساوية في شهر أيلول/سبتمبر من عام 1799، لكن وفي شهر تشرين الأول/أكتوبر قطعت روسيا تحالفها مع النمسا بسبب عدم تنفيذ الأخيرة بالتزاماتها، وعلى أثر ذلك تم سحب القوات الروسية من أوروبا. على الرغم من هذا كله لم يكن السلوك الغادر للحلفاء المناهضين للفرنسيين هو السبب الأساسي الذي أثر على قرار بولس الأول، فالسبب الثالث والأكثر أهمية هو العلاقات الوطيدة القديمة التي كانت تربط روسيا وفرنسا لفترة طويلة من الزمن والتي كانت قائمة في عهد حكم الملكة اليزابيت الأولى ويكاترينا الثانية.
السبب الأخير هو تنظيم الحملة المشتركة على الهند والتي كان نجاحها أمر مهم لكلا الإمبراطوريتين. وهنا ينبغي أن نتذكر أن حكام الإمبراطورية الروسية كانوا قد وجهوا بوصلتهم أكثر من مرة باتجاه الهند منذ عهد القيصر بطرس الأول لكن هذه المحاولة انتهت بشكل مأساوي. إليكم ما كتبه الجنرال بوتو في كتابه "الحرب القوقازية" بهذا الشأن قائلاً: "وجه بطرس جل اهتمامه لمنطقة سواحل بحر القزوين وقرر بإجراء دراسات للضفاف الشرقية لهذا البحر، ومن هنا بدأ بالبحث عن طريق تجارية باتجاه الهند. يشار إلى أن الأمير بيكوفيتش-تشيركاسكي كان منفذ هذه الفكرة الجهنمية، وفي عام 1716 أبحر بيكوفيتش من مدينة أستراخان وبدأ بتركيز قوة عسكرية بالقرب من مصب نهر يايكا، ومن القوقاز تم تخصيص فوج مؤلف من 500 من الفرسان لهذه الحملة وجزء من القوات القوزاقية"ّ. ولكن تم تدمير الفوج بقيادة الأمير تشيركاسكي أثناء المعارك مع الخيوانيين، وعلى الرغم من ذلك تابع الحكام الروس طريقهم إلى الجنوب الشرقي واستمرت يكاترينا الثانية ما بدأه القيصر بطرس الأول.
وأخيراً جاء دور القيصر بولس الأول الذي حاول ببدء بناء جسر إلى الهند قبل أن يبرم اتفاق مع نابليون حول حملة مشتركة على الهند. أما فيما يتعلق من الهدف لاحتلال مصر من قبل قوات نابليون فهو من أجل الاستيلاء على قناة السويس وقطع الطريق الأقصر بالنسبة لانكلترا باتجاه الهند. وهنا حاول بولس الأول الحصول على حصن في قلب البحر المتوسط على إحدى الطرق المؤدية بين انكلترا ومستعمرتها الغنية في جزر الهند الشرقية.
معلومات جديدة تغير الصورة العامة
في 12 "24" من شهر كانون الثاني/يناير لعام 1801 أمر الإمبراطور بولس الأول الجنرال أرلوف في سلاح الفرسان بالتحرك باتجاه نهر إندوس والمستعمرات البريطانية عبر بخارى وخوارزم. وقد تألف جيش أرلوف من حوالي 22 ألف من جنود القوزاق و12 مدفعية و41 فوج وسريتين من سلاح الفرسان حيث كان الطريق صعباً بسبب عدم التحضير الكافي له وبسبب الطرقات الوعرة وسوء الأحوال الجوية وبرأي المؤرخين ما قبل الثورة فإن هذه الحملة تعد من أغبى الحملات بكل المقاييس.
ولكن اليوم وبعد الحصول على معلومات إضافية حول الإجراءات الفعلية التي قام بها بولس الأول ونابليون من أجل تنظيم حملة عسكرية إلى الهند فإن اعتبار حملة قائد قوات القوزاق أرلوف بالعمل الغبي أصبح يتغير. وذكر المؤرخ ناتان أدلمان في كتابه "حد العصور" عن خطة احتلال الهند والتي كشفت عن معلومات تفيد بأن وحدات من جيش القوزاق التي أصبحت جزء صغير من القوات الروسية الفرنسية توزعت على الشكل التالي: "35 ألف من قوات المشاة الفرنسية مع المدفعية، حيث توجب على هذه القوات بزعامة الجنرال ميسّون أحد أفضل القادة الفرنسيين أن تتحرك باتجاه نهر الدانوب عبر البحر الأسود وتاغانروغ وتساريتسن وأستراخان .... وكان على القوات الفرنسية أن تنضم إلى القوات الروسية المؤلفة من 35 ألف جندي في مصب نهر الفولغا. بعد ذلك كان على القوات المشتركة عبور بحر القزوين وإنزال جنودها في أستراباد". عن صحة هذه الأحداث يمكن التحقق عن طريق الاطلاع على كتاب للمؤرخ المعروف تارل بعنوان "نابليون" والذي جاء فيه: "لقد كانت الهند الهاجس الدائم لنابليون بدءً من الحملة المصرية وانتهاءً بالسنوات الأخيرة من حكمه... حيث بدء نابليون بالتخطيط بعد إبرامه اتفاقية سلام مع روسيا لهذه الحملة عن طريق زحفه بجيش فرنسي إلى جنوب روسيا من أجل لقاء القوات الروسية وضم الجيشين تحت لوائه متجهاً إلى الهند عبر آسيا الوسطى.
قصة المؤامرة
كان من الممكن أن تصبح تداعيات التحالف بين روسيا وفرنسا في نهاية القرن السابع عشر خطيرة جداً بالنسبة لإنكلترا، وهذا الخطر يكمن في فقدان الهند البلد التي جعلت من المملكة المتحدة قوة بحرية مزدهرة. ولهذا اتخذت انكلترا جميع التدابير وبذلت كل الجهود من أجل إفشال المخطط الروسي الفرنسي الهادف للاستيلاء على الهند، حيث قام السفير الانكليزي بتمويل الكونت بالين وقدم له الذهب من أجل اغتيال بولس الأول.
وفي ليلة الحادي عشر من شهر آذار/مارس من عام 1801 تم اغتيال الإمبراطور الروسي.
جدير بالذكر أن الأدب التاريخي أشار إلى فشل الحملة الروسية على الهند، أما الواقع يقول أن الإمبراطور الكسندر الأول أمر على الفور لدى تسلمه عرش السلطة بسحب جميع القوات وعودتها إلى الوطن.
يشير المراقبون إلى أن حقائق حقبة بولس الأول مازالت مشوهة. يعتقد الكثيرون بأن الإمبراطور كان متهوراً من خلال الأساليب التي اتبعها من أجل تمجيد بلاده بشتى الوسائل. ولكن حان الوقت لاحياء أحداث الماضي وعلينا أن ندرك من هو المستفيد من تحريف وتشويه صفحات تاريخنا الوطني.