أ - نظرية الإمام محمد بن داود في الحب:
يقول الإمام محمد بن داود في كتابه الزهرة: قدذكرنا من أقاويل الشعراء في الهوى أنه يقع ابتداؤه من النظر والسماع، ثم نحن إن شاءالله ذاكرون ما في ذلك الأمر الذي أوقعه السماع والنظر؟ ولماذا وقع؟ وكيف إذ قد صحكونه عند العامة وخفي سببه عند الخاصة "عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف"؟
ويقول شعرًا:
يقول الإمام محمد بن داود في كتابه الزهرة: قدذكرنا من أقاويل الشعراء في الهوى أنه يقع ابتداؤه من النظر والسماع، ثم نحن إن شاءالله ذاكرون ما في ذلك الأمر الذي أوقعه السماع والنظر؟ ولماذا وقع؟ وكيف إذ قد صحكونه عند العامة وخفي سببه عند الخاصة "عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف"؟
ويقول شعرًا:
حملتجـبال الحـب فيـك وإنني
لأعجزعن حمل القميص وأضعف
وماالحب من حسن ولا من سماحة
ولكـنه شـيء به النـفس تكـلف
وهو يرى أن الحب الحقيقي هو الذي "لا يرى أنيتعطف إلى سواه، ولا يطلب الراحة إلا عند من ابتلاه".
ويقول: لو لم يصبر المحب على امتحان إلفه [محبوبه] (يشير إلى ما ذكره من معاناة المحبوب لما يعانيه محبه) لكان ذلك حظًاجزيلاً ودركًا جليلاً؛ فكيف وحال الصفاء إذا ابتدأت بين المتحابين بالمشاكلةالطبيعية (يقصد المشابهة الروحية)، ثم اتصلت بالحراسة عن الأخلاق الدينية (يقصد عفةالعاشقين عما يدنس حبهما)، ثم عذبت بالرعايات الاختبارية، ثم بلغت بهما الحال إلىحيث انقطعت بهما دونه الآمال؟
ب - نظرية الحب عند الإمام ابن حزم:
يقول الإمام ابن حزم في كتابه طوق الحمامة: "الحبأعزك الله أوله هزل وآخره جد. دقت معانيه لجلالتها عن أن توصف فلا تدرك حقيقتها إلابالمعاناة [لاحظ النظرية الفلسفية في ذلك القول فهو لا يفترض إدراك حقيقة الحب عندمن لم يعانِه، ومن ثم لا يجوز له الحكم عليه].
وقد اختلف الناس في ماهيته وقالوا وأطالوا، والذيأذهب إليه أنه اتصال بين أجزاء النفوس المقسومة في هذه الخليقة في أصل عنصرهاالرفيع. وقد علمنا أن سر التمازج والتباين في المخلوقات إنما هو الاتصال والانفصال. والشكل دأبًا يستدعي شكله، والمثل إلى مثله ساكن (أي كل شيء يسكن إلى نظيره)،وللمجانسة عمل محسوس وتأثير مشاهد، والتنافر في الأضداد، والموافقة في الأنداد [أيإن الوفاق يكون بين الأنداد، وهو يقصد بذلك أن الشبيه يتجاذب إلى شبيهه].
ثم يوضح أنه لا يقصد بذلك المشابهة في الشكل أوالأخلاق ولكن في ذات النفس، فيقول مشيرًا إلى كلامه السابق: "كل ذلك معلوم بالفطرةفي أحوال تصرف الإنسان وزوجه؛ فيسكن إليها. والله عز وجل يقول: {هُوَ الَّذِيخَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَإِلَيْهَا} (الأعراف: 189)، فجعل علة السكن أنها من خلقه [لاحظ جيدًا مدى ما يستحقههذا النص القرآني من تأمل]. ولو كان علة الحب حسن الصورة الجسدية لوجب ألا يستحبالأنقص من الصورة [أي لا يحب الإنسان الأقل منه جمالاً]. ونحن نجد كثيرًا ممن يؤثرالأدنى [يفضل الأقل جمالاً]، ويعلم فضل غيره، ولا نجد متحيدًا لقلبه عنه. ولو كانللموافقة في الأخلاق لما أحب المرء من لا يساعده ولا يوافقه [أي من لا يتوافق معهفي الأخلاق والطبع]، فعلمنا أنه شيء في ذات النفس [أي المشابهة في الجوهر الداخليلنفس الإنسان].
وربما كانت المحبة لسبب من الأسباب وتلك تفنىبفناء سببها [أي تنتهي بانتهاء سببها]؛ فمن وده لأمر ولى مع انقضائه" أ هـ.
ويعدد ابن حزم بعض ضروب المحبة وعلاقتهابأسبابها: محبة القرابة، ومحبة الألفة، ومحبة الاشتراك في المطالب، ومحبة التصاحبوالمعرفة، ومحبة البر يضعه المرء عند أخيه، ومحبة الطمع في جاه المحبوب، ومحبةالمتحابين لسر يجتمعان عليه يلزمهما ستره، ومحبة بلوغ اللذة وقضاء الوطر، ومحبةالعشق التي لا علة لها إلا ما ذكرنا من اتصال النفوس. فكل هذه الأجناس منقضية معانقضاء عللها وزائدة بزيادتها وناقصة بنقصانها، متأكدة بدنوها، فاترة ببعدها [أي أنكل هذه الأنواع من الحب تنقضي بانقضاء السبب المتعلقة به، وتزيد مع زيادته وتنقص معنقصانه]، حاشى محبة العشق الصحيح المتمكن من النفس؛ فهي التي لا فناء لها إلابالموت [أي أنه يستثني من ذلك العشق الصحيح المتمكن من النفس، وهو يرى -وانتبه لهذاالقول– أنه لا يفنى إلا بالموت].
ثم يقول الإمام ابن حزم: "فصحب ذلك أنه استحسانروحاني وامتزاج نفساني. فإن قال قائل: لو كان هذا كذلك لكانت المحبة بينهما مستوية؛إذ الجزءان مشتركان في الاتصال وحظهما واحد [أي أن هناك اعتراضًا يقول بأن بعضالمحبين لا تتساوى محبتهم مع محبة من يحبونهم]. وللجواب عن ذلك نقول: هذا لعمريمعارضة صحيحة، ولكن نفس الذي لا يحب من يحبه مكتنفة الجهات ببعض الأعراض الساترةوالحجب المحيطة بها من الطبائع الأرضية [أي معزولة عن حقيقة جزئها الآخر بما يحيطبها من تعلقات أرضية]، فلم تحس بالجزء الذي كانت تتصل به قبل حلولها؛ حيث هي لوتخلصت لاستويا في الاتصال والمحبة، ونفس المحب متخلصة [أي غير محاطة بالمتعلقاتالأرضية التي تحجبها عمن تحب] عاملة بمكان ما كان يشركها في المجاورة [يقصد ما كان يشركها في العالم العلوي]، طالبة له، قاصدة إليه، باحثة عنه، مشتهية لملاقاته،جاذبة له لو أمكنها كالمغنطيس والحديد.
ومن الدليل على هذا أيضًا أنك لا تجد اثنينيتحابان إلا وبينهما مشاكلة واتفاق في الصفات الطبيعية [أي الصفات الداخلة فيتكوينهما النفسي]؛ لا بد من هذا وإن قل. وكلما كثرت الأشباه زادت المجانسة، وتأكدتالمودة [أي كلما زادت المشابهة بين صفاتهما النفسية زاد التقارب وتأكدت المودةبينهما]. فانظر هذا تراه عيانًا، وهناك قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف" (سبقتخريجه).
ولو توقف الإمام ابن حزم في نظريته عند حدودتفسير تعلق أرواح المحبين بسبب المشابهة في ذوات نفوسهم؛ لاستطاع أن يكسب الكثير منالاطمئنان إلى نظريته، ولكان بذلك شديد القرب من النصوص التي يُستدل بها. أما حكايةأن الجزء كان متصلا بالآخر قبل حلوله في عالم الأرض؛ فهو أمر لم يقدم أدلة عليهسواء كان بالنقل (وهذا أمر عقائدي يجب الاستدلال عليه بالنصوص)، أو بالعقل.
ثم يقول الإمام ابن حزم: "أما العلة التي توقعالحب أبدًا في أكثر الأمر على الصورة الحسنة [أي أما حكاية أن الحب يقع دائمًا علىالصورة الجميلة]. فالظاهر أن النفس الحسنة تُولع بكل شيء حسن، وتميل إلى التصاويرالمتقنة؛ فهي إذا رأت بعضها تثبتت فيه [أي إذا رأت الجمال تعلقت به]، فإن ميزتوراءها شيئًا من أشكالها [أي إذا رأت وراء هذا الجمال شيئًا يتشابه مع صفاتهاالنفسية] اتصلت به، وصحت المحبة الحقيقية. وإن لم تميز وراءها شيئًا من أشكالها لميتجاوز حبها الصورة، وذلك هو الشهوة [أي إذا لم تجد وراء الجمال شيئًا يتفق معصفاتها لم تتجاوز حبها الجمال الخارجي إلى ما بداخل النفس من صفات روحية؛ ولذلكيكون تعلقها اشتهاءً جنسيًّا وليس حبًا].
جـ - نظرية الإمام ابن الجوزي في الحب:
يرى الإمام ابن الجوزي في كتابه "ذم الهوى" أنالعشق شدة ميل النفس إلى صورة تلائم طبعها؛ فإذ قوي فكرها فيها تصورت حصولها، وتمنتذلك؛ فيتجدد من شدة الفكر مرض.
وهو يذهب إلى ما ذهب إليه سابقوه بالنسبة لنظريةالمشاكلة؛ فيقول: ذكر بعض الحكماء أنه لا يقع العشق إلا لمجانس، وأنه يضعف ويقوىعلى قدر التشاكل، واستدل بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الأرواح جنود مجندة،فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف".
فإن قيل: إذا كان سبب العشق نوع موافقة بينالشخصين في الطباع؛ فكيف يحب أحدهما صاحبه والآخر لا يحبه؟! فالجواب: أنه يتفق فيطبع المعشوق ما يوافق طبع العاشق، ولا يتفق في طبع العاشق ما يلائم طبعالمعشوق.
وإذا كان سبب العشق اتفاقًا في الطباع بطل قول منقال: إن العشق لا يكون إلا للأشياء المستحسنة، وإنما يكون العشق لنوع مناسبةوملائمة. ثم قد يكون الشيء حسنًا عند شخص، وغير حسن عند آخر.
ويتأكد العشق بإدمان النظر وكثرة اللقاء وطولالحديث، فإن انضم إلى ذلك معانقة أو تقبيل فقد تم استحكامه.
د - نظرية الحب عند الإمام ابن القيم:
يقول الإمام ابن القيم في كتابه "نزهةالمشتاقين": الداعي إلى الحب قد يراد به الشعور الذي تتعبه الإرادة والميل؛ فذلكقائم بالمحب. وقد يُراد به السبب الذي لأجله وُجدت المحبة وتعلقت به، وذلك قائمبالمحبوب. ونحن نريد بالداعي مجموع الأمرين وهو ما قام بالمحبوب من الصفات التيتدعو إلى محبته، وما قام بالمحب من الشعور بها، والموافقة التي بين المحب والمحبوبوهي الرابطة بينهما.
فهاهنا أمور: وصف المحبوب وجماله، وشعور المحببه، والمناسبة: وهي العلاقة والملاءمة التي بين المحب والمحبوب؛ فمتى قويت الثلاثةوكملت قويت المحبة واستحكمت. ويكون نقصان المحبة وضعفها بحسب ضعف هذه الثلاثة أونقصها.. فمتى كان المحبوب في غاية الجمال وشعور المحب بجماله أتم شعور والمناسبةالتي بين الزوجين قوية؛ فذلك الحب اللازم الدائم. وقد يكون الجمال في نفسه ناقصًالكنه في عين المحب كامل؛ فتكون قوة محبته بحسب ذلك الجمال عنده، فإن حبك للشيءيُعمي ويصم، فلا يرى المحب أحدًا أحسن من محبوبه.
وقد يكون الجمال موفورًا، لكنه ناقص الشعور بهفتضعف محبته له [أي قد يكون أحدهما ناقص الشعور بجمال الآخر فتقل محبته له]. وإذاوُجد ذلك كله وانتفت المناسبة والعلاقة التي بينهما لم تستحكم المحبة، وربما لم تقعألبتة. فإن التناسب الذي بين الأرواح من أقوى أسباب المحبة فكل امرئ يصبو إلى مايناسبه. وهذه المناسبة [أي الشيء الذي يقارب بينهما] إما أصلية: من أصل الخلقة [أيأصيلة متعلقة بنفسه] أو عارضة بسبب المجاورة أو الاشتراك في أمر من الأمور [أي غيرمتعلقة بالنفس وإنما هي أمر خارجي اشترك بينهما]. فأما التناسب الأصلي فهو اتفاقأخلاق، وتشاكل أرواح، وشوق كل نفس إلى مشاكلها. فإن شبيه الشيء ينجذب إليه بالطبع؛فتكون الروحان متشاكلتين في أصل الخلق؛ فتنجذب كل منهما إلى الأخرى بالطبع. وقد يقع الانجذاب والميل بالخاصية [بخصوصيةمعينة] وهذا لا يُعلَّل ولا يُعرف سببه كانجذاب الحديد إلى الحجر المغناطيس. ولاريب أن وقوع هذا القدر بين الأرواح أعظم من وقوعه بين الجمادات. وهذا الذي حمل بعضالناس على أن قال: "إن العشق لا يقف على الحسن والجمال، ولا يلزم من عدمه [أي لايلزم من يفقد الجمال ألا يُحب]، إنما هو تشاكل النفوس وتمازجها في الطباع المخلوقة [أي تشابه النفوس في طباعها، وهذا أهم تحديد في سبب الحب عند الإمام ابن القيم]. وقد قال بعضهم لمحبوبه: صادفت فيك جوهر نفسي، وشاكلتها في كل أحوالها؛ فانبعثت نفسيإليك، وكأنما هويت نفسي.
فإذا كانت المحبة بالمشاكلة والمناسبة ثبتتوتمكنت ولم يزلها إلا مانع أقوى من السبب، وإذا لم تكن بالمشاكلة [التشابه بينها فيالصفات الداخلية] فإنما هي محبة لغرض من الأغراض تزول عند انقضائه وتضمحل. فمن أحبكلأمر ولى عنك عند انقضائه فداعي المحبة وباعثها إن كان غرضًا للمحب لم يكن لمحبتهبقاء، وإن كان أمرا قائما بالمحبوب سريع الزوال والانتقال زالت محبته بزواله،والمقصود أن المحبة تستدعي مشاكلة ومناسبة.
وقد ذكر الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله تعالى- في مسنده من حديث عائشة رضي الله عنها أن امرأة كانت تدخل على قريش فتضحكهم، فقدمتالمدينة فنزلت على امرأة تضحك الناس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: على من نزلتفلانة، فقالت: على فلانة المضحكة، فقال: "الأرواح جنود مجندة.. ما تعارف منها ائتلفوما تناكر منها اختلف"، وأصل الحديث في الصحيح. وأنت إذا تأملت الوجود لا تكاد تجداثنين يتحابان إلا بينهما مشاكلة أو اتفاق في فعل أو حال أو مقصد. فإذا اختلفتالمقاصد والأوصاف والأفعال والطرائق لم يكن هناك إلا النُفرة والبعد بينالقلوب.
وأما عن مصدر المشاكلة والاتفاق بين الزوجين فهذالا يكون إلا من الجانبين ولا بد. فلو فتش المحب -المحبة الصادقة- قلب المحبوب لوجدعنده من محبته نظير ما عنده أو دونه أو فوقه (لاحظ مدى إصرار الإمام ابن القيم ومنقبله الإمام ابن حزم على مسألة حتمية حب المحبوب لمحبه).
ودواعي المحبة تجتمع معًا فمتى كان جميل الصورةجميل الأخلاق والشيم والأوصاف كان الداعي منه أقوى. وداعي الحب من المحب أربعةأشياء:
أولها النظر. والنظر إما بالعين، وإما بالقلبإذا وُصف له. فكثير من الناس يحب غيره، وفني فيه محبة وما رآه، لكن وُصف له. ولهذانهى الرسول صلى الله عليه وسلم المرأة أن تنعت لزوجها المرأة حتى كأنه ينظر إليها،والحديث في الصحيح.
وثانيها: الاستحسان. فإن لم يورث نظره استحسانالم تقع المحبة.
وثالثها: الفكر في المنظور وحديث النفس به، فإنشغل عنه بغيره مما هو أهم عنده منه لم يعلق حبه بقلبه، وإن كان لا يعدم خطراتوسوائح [أيتبقى له من حبه خطرات وسوائح].
ورابعها: الطمع في وصل هذا المحبوب.
فإذا وجد النظر والاستحسان والفكر والطمع؛ هاجتبلابله وأمكن من معشوقه مقاتله واستحكم داؤه، وعجز عن الأطباء دواؤه.
وفي سياق شرح الإمام ابن القيم لنظريته في الحبيورد مسألة أثر الجماع [والمقصود به هنا العملية الجنسية على وجه التحديد] في الحبهل يطفئه؟ أم يزيد من قوته؟
وبعد أن يورد الرأيين المتعارضين في ذلك يقول: "الخطاب بين الفريقين أن الجماع الحرام يفسد الحب، ولا بد أن تنتهي المحبة بينهماإلى المعاداة والتباغض والقلى، كما هو مشاهد بالعيان. فكل محبة لغير الله آخرها قلىوبغض؛ فكيف إذا قارنها ما هو من أكبر الكبائر، وهذه عداوة بين يدي العداوة الكبرىالتي قال الله تعالى فيها: {الأخلاَّء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين} (الزخرف:67).
وأما الجماع المباح فإنه يزيد الحب إذا صادف مرادالمحب فإنه إذا ذاق لذته وطعمه أوجب له ذلك رغبة أخرى لم تكن حاصلة قبلالذوق".
هـ – ما نذهب إليه في نظرية الحب:
نعم، المشابهة هي علة الحب، ولكن المشابهة في أيشيء.. هذا هو السؤال؟ فالذي نذهب إليه أن هناك عدة مشابهات قد تكون هي علة الحب بيننفسي العاشقين. ولكن أهم هذه المشابهات هي المشابهة في قوة نفس المحبوبين لا من حيثنظر المجتمع ولكن من نظر المحبوب، وكذلك من حيث نظر محبوبه إلى نفسه وإليه، سواءاتفقت هذه الرؤية مع رؤية الواقع الاجتماعي لها أو لم تتفق. أي إن الفيصل في تقريرهذه الحالة هما العاشقان فقط لا بدافع من بيئة تحيط بهما.
والقاعدة الأساسية أن النفس الأولى تجذب حولهاالنفس المماثلة لها في القوة، والنفوس الأقل منها قوة. وهذا هو تفسير أن
النفسالواحدة قد تحبها عدة نفوس كما يحدث في الواقع، ولكن الطبيعي ألا تحب هي من بينهاإلا نفسًا واحدة.
هذه المشاهدة الواقعية هي التي تجعلنا ندفع تلكالنظرية التي تقول إن المحبوب لا بد أن يكون محبًا لمن يحبه. وفي الحقيقة فإن هذهالنظرية ليست نظرية ابن حزم فقط ومن وافقه على ذلك من الإسلاميين، ولكنها نظرية لهامؤداها في الفكر الإنساني بوجه عام. فدوستويفسكي وهو واحد من أهم الروائيين فيتاريخ الإنسانية، وكازانوفا وهو واحد من أكثر الناس خبرة بالنساء يذهبان إلى أنه لاتوجد امرأة في الوجود تستطيع أن تقاوم رجلاً يديم النظر إليها. فالناتج عن كون أنالنفس الواحدة قد تكون محبوبة من أكثر من نفس بينما هي تحب من بينها إلا نفسًاواحدة أن هناك من يحب ولا يُحب في نفس الوقت.
والمحبوب بدوره يحب إما نفسًا تماثله في القوة،وإما نفسًا أقوى منها. فإذا وقع التماثل تحقق السكن، وإلا فإن النفس الأقل قوة تسعىلتحقيق التماثل مع النفس الأولى، وإن كانت هي نفسها ترى أنها تماثلها في القوة. ومنهنا يأتي المعنى الذي قاله البعض بأن العاشق يحقق صورة نفسه؛ لأنه يسعى لتحقيق قوةذاته كما يمكن أن تكون، وهو يرى أن هذه الصورة هي التي تماثل المعشوق في القوة،فيكون سعيه إلى التماثل مع قوة محبوبه هو في نفس الوقت سعيه إلى تحقيق صورة ذاتهالتي يرى إمكانية تحقيقها، وكلما اقترب التماثل تحقق السكن، فإذا تحقق التآلفوالسكن تقاربت صفات المحبوبين، ويثور بينهما التساؤل: هل صفاته هي صفاته هو نفسه أمصفات محبوبه؛ لأن المزج جعل من ذاتيهما كينونة واحدة، وداخل هذه الكينونة الواحدةلا يعود أحدهما يدري الفرق بين صفاته وصفات محبوبه.
من الذي وضع هذا في طريق ذاك؟ ومن الذي وضع ذاكفي طريق هذا؟ ومن الذي جعلهما يعتقدان أنهما متماثلان في قوة ذات كل منهما هذاالتماثل مع أن ذلك أمر ذاتي وليس موضوعيًا؟ الإجابة عن ذلك مستحيلة؛ لأن هذه الأمورأمور قدرية لا يعلمها إلا الله.
وعملية اكتمال التماثل في الصفات الأخرى حتىيتحقق المزج بين نفسي العاشقين أمر عجيب، لأنه بعد حدوث التآلف بين المحبوبين فإنكل محب يكون منجذبًا إلى أن تشابه صفاته صفات محبوبه؛ حتى يقتربا في كل صفة إلىنقاط التماس، ثم إلى المطابقة الجزئية، ثم إلى التطابق التام في كل الصفات.
فإن كان أحدهما شرسًا والآخر موادعًا وجدتهمايلتقيان عند نقطة ما بين الشراسة والوداعة.
وإذا ثبت أحدهما على صفة من الصفات نتيجة اقتناعما وجدت الآخر ينتقل إليها ولو بعد عنتٍ، خصوصا إذا كانت أقرب إلى الروحية. بل الذييحدث أن صدق الحب بينهما وتعمقه يؤديان بهما إلى أن حدوث طفرة روحية لهما معافتطهرهما وتسمو بهما إلى مدارج عليا من الإيمان. فإذا كان أحدهما متكبرًا والآخرمتواضعًا؛ وجدت المتكبر يغدو متواضعًا والمتواضع يغدو أكثر ترفعًا، أو جدت المتكبرغدا متواضعًا إذا ثبت الثاني على حاله، وربما انتقل الاثنان إلى درجات أكبر منالتواضع.
والحكاية أظهر بالنسبة للانهماك على مادياتالدنيا. فإذا كان أحدهما متكالبًا على ماديات الدنيا وبهرجها والآخر زاهدًا وجدتالأول اقترب من الثاني وصار أكثر زهدًا، ووجدت الثاني اقترب من الأول وصار أكثرتنعمًا. فإذا ثبت الثاني على موقفه وجدت الأول انتقل إلى موقف الثاني، بل قد يرقيانمعا إلى درجات أكبر من الزهد والروحانية.
هذا التآلف بين المحبوبين يصنع هذه الدرجةالرائعة من التماثل في الصفات الروحية؛ حتى يحدث المزج التام بينهما؛ فلا تعلم ماهي الصفات الخاصة بهذا أو بذاك وبماذا يتشابه أحدهما بالآخر.
بل الأغرب من ذلك أن التشابه بينهما يكون أيضًافي حركة الأعضاء وعاداتها فتجدهما يتشابهان في طريقة السير والأكل والكلام والضحكبل في كل التصرفات والأفعال.
ولكن العجب العجاب هو تشابههما في الشكل أيضًا،وتفسير ذلك أن صفات النفس الداخلية للإنسان تنعكس على ملامحه إلى الدرجة التي يبلغمعها الأمر أن تترك آثارها المادية عليها؛ ولذلك فإنه عند حدوث العشق والتآلفوالتماثل الداخلي بين روحي العاشقين، فإن هذا التماثل النفسي ينعكس على ملامحهماويترك آثاره عليهما
ويقول: لو لم يصبر المحب على امتحان إلفه [محبوبه] (يشير إلى ما ذكره من معاناة المحبوب لما يعانيه محبه) لكان ذلك حظًاجزيلاً ودركًا جليلاً؛ فكيف وحال الصفاء إذا ابتدأت بين المتحابين بالمشاكلةالطبيعية (يقصد المشابهة الروحية)، ثم اتصلت بالحراسة عن الأخلاق الدينية (يقصد عفةالعاشقين عما يدنس حبهما)، ثم عذبت بالرعايات الاختبارية، ثم بلغت بهما الحال إلىحيث انقطعت بهما دونه الآمال؟
ب - نظرية الحب عند الإمام ابن حزم:
يقول الإمام ابن حزم في كتابه طوق الحمامة: "الحبأعزك الله أوله هزل وآخره جد. دقت معانيه لجلالتها عن أن توصف فلا تدرك حقيقتها إلابالمعاناة [لاحظ النظرية الفلسفية في ذلك القول فهو لا يفترض إدراك حقيقة الحب عندمن لم يعانِه، ومن ثم لا يجوز له الحكم عليه].
وقد اختلف الناس في ماهيته وقالوا وأطالوا، والذيأذهب إليه أنه اتصال بين أجزاء النفوس المقسومة في هذه الخليقة في أصل عنصرهاالرفيع. وقد علمنا أن سر التمازج والتباين في المخلوقات إنما هو الاتصال والانفصال. والشكل دأبًا يستدعي شكله، والمثل إلى مثله ساكن (أي كل شيء يسكن إلى نظيره)،وللمجانسة عمل محسوس وتأثير مشاهد، والتنافر في الأضداد، والموافقة في الأنداد [أيإن الوفاق يكون بين الأنداد، وهو يقصد بذلك أن الشبيه يتجاذب إلى شبيهه].
ثم يوضح أنه لا يقصد بذلك المشابهة في الشكل أوالأخلاق ولكن في ذات النفس، فيقول مشيرًا إلى كلامه السابق: "كل ذلك معلوم بالفطرةفي أحوال تصرف الإنسان وزوجه؛ فيسكن إليها. والله عز وجل يقول: {هُوَ الَّذِيخَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَإِلَيْهَا} (الأعراف: 189)، فجعل علة السكن أنها من خلقه [لاحظ جيدًا مدى ما يستحقههذا النص القرآني من تأمل]. ولو كان علة الحب حسن الصورة الجسدية لوجب ألا يستحبالأنقص من الصورة [أي لا يحب الإنسان الأقل منه جمالاً]. ونحن نجد كثيرًا ممن يؤثرالأدنى [يفضل الأقل جمالاً]، ويعلم فضل غيره، ولا نجد متحيدًا لقلبه عنه. ولو كانللموافقة في الأخلاق لما أحب المرء من لا يساعده ولا يوافقه [أي من لا يتوافق معهفي الأخلاق والطبع]، فعلمنا أنه شيء في ذات النفس [أي المشابهة في الجوهر الداخليلنفس الإنسان].
وربما كانت المحبة لسبب من الأسباب وتلك تفنىبفناء سببها [أي تنتهي بانتهاء سببها]؛ فمن وده لأمر ولى مع انقضائه" أ هـ.
ويعدد ابن حزم بعض ضروب المحبة وعلاقتهابأسبابها: محبة القرابة، ومحبة الألفة، ومحبة الاشتراك في المطالب، ومحبة التصاحبوالمعرفة، ومحبة البر يضعه المرء عند أخيه، ومحبة الطمع في جاه المحبوب، ومحبةالمتحابين لسر يجتمعان عليه يلزمهما ستره، ومحبة بلوغ اللذة وقضاء الوطر، ومحبةالعشق التي لا علة لها إلا ما ذكرنا من اتصال النفوس. فكل هذه الأجناس منقضية معانقضاء عللها وزائدة بزيادتها وناقصة بنقصانها، متأكدة بدنوها، فاترة ببعدها [أي أنكل هذه الأنواع من الحب تنقضي بانقضاء السبب المتعلقة به، وتزيد مع زيادته وتنقص معنقصانه]، حاشى محبة العشق الصحيح المتمكن من النفس؛ فهي التي لا فناء لها إلابالموت [أي أنه يستثني من ذلك العشق الصحيح المتمكن من النفس، وهو يرى -وانتبه لهذاالقول– أنه لا يفنى إلا بالموت].
ثم يقول الإمام ابن حزم: "فصحب ذلك أنه استحسانروحاني وامتزاج نفساني. فإن قال قائل: لو كان هذا كذلك لكانت المحبة بينهما مستوية؛إذ الجزءان مشتركان في الاتصال وحظهما واحد [أي أن هناك اعتراضًا يقول بأن بعضالمحبين لا تتساوى محبتهم مع محبة من يحبونهم]. وللجواب عن ذلك نقول: هذا لعمريمعارضة صحيحة، ولكن نفس الذي لا يحب من يحبه مكتنفة الجهات ببعض الأعراض الساترةوالحجب المحيطة بها من الطبائع الأرضية [أي معزولة عن حقيقة جزئها الآخر بما يحيطبها من تعلقات أرضية]، فلم تحس بالجزء الذي كانت تتصل به قبل حلولها؛ حيث هي لوتخلصت لاستويا في الاتصال والمحبة، ونفس المحب متخلصة [أي غير محاطة بالمتعلقاتالأرضية التي تحجبها عمن تحب] عاملة بمكان ما كان يشركها في المجاورة [يقصد ما كان يشركها في العالم العلوي]، طالبة له، قاصدة إليه، باحثة عنه، مشتهية لملاقاته،جاذبة له لو أمكنها كالمغنطيس والحديد.
ومن الدليل على هذا أيضًا أنك لا تجد اثنينيتحابان إلا وبينهما مشاكلة واتفاق في الصفات الطبيعية [أي الصفات الداخلة فيتكوينهما النفسي]؛ لا بد من هذا وإن قل. وكلما كثرت الأشباه زادت المجانسة، وتأكدتالمودة [أي كلما زادت المشابهة بين صفاتهما النفسية زاد التقارب وتأكدت المودةبينهما]. فانظر هذا تراه عيانًا، وهناك قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف" (سبقتخريجه).
ولو توقف الإمام ابن حزم في نظريته عند حدودتفسير تعلق أرواح المحبين بسبب المشابهة في ذوات نفوسهم؛ لاستطاع أن يكسب الكثير منالاطمئنان إلى نظريته، ولكان بذلك شديد القرب من النصوص التي يُستدل بها. أما حكايةأن الجزء كان متصلا بالآخر قبل حلوله في عالم الأرض؛ فهو أمر لم يقدم أدلة عليهسواء كان بالنقل (وهذا أمر عقائدي يجب الاستدلال عليه بالنصوص)، أو بالعقل.
ثم يقول الإمام ابن حزم: "أما العلة التي توقعالحب أبدًا في أكثر الأمر على الصورة الحسنة [أي أما حكاية أن الحب يقع دائمًا علىالصورة الجميلة]. فالظاهر أن النفس الحسنة تُولع بكل شيء حسن، وتميل إلى التصاويرالمتقنة؛ فهي إذا رأت بعضها تثبتت فيه [أي إذا رأت الجمال تعلقت به]، فإن ميزتوراءها شيئًا من أشكالها [أي إذا رأت وراء هذا الجمال شيئًا يتشابه مع صفاتهاالنفسية] اتصلت به، وصحت المحبة الحقيقية. وإن لم تميز وراءها شيئًا من أشكالها لميتجاوز حبها الصورة، وذلك هو الشهوة [أي إذا لم تجد وراء الجمال شيئًا يتفق معصفاتها لم تتجاوز حبها الجمال الخارجي إلى ما بداخل النفس من صفات روحية؛ ولذلكيكون تعلقها اشتهاءً جنسيًّا وليس حبًا].
جـ - نظرية الإمام ابن الجوزي في الحب:
يرى الإمام ابن الجوزي في كتابه "ذم الهوى" أنالعشق شدة ميل النفس إلى صورة تلائم طبعها؛ فإذ قوي فكرها فيها تصورت حصولها، وتمنتذلك؛ فيتجدد من شدة الفكر مرض.
وهو يذهب إلى ما ذهب إليه سابقوه بالنسبة لنظريةالمشاكلة؛ فيقول: ذكر بعض الحكماء أنه لا يقع العشق إلا لمجانس، وأنه يضعف ويقوىعلى قدر التشاكل، واستدل بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الأرواح جنود مجندة،فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف".
فإن قيل: إذا كان سبب العشق نوع موافقة بينالشخصين في الطباع؛ فكيف يحب أحدهما صاحبه والآخر لا يحبه؟! فالجواب: أنه يتفق فيطبع المعشوق ما يوافق طبع العاشق، ولا يتفق في طبع العاشق ما يلائم طبعالمعشوق.
وإذا كان سبب العشق اتفاقًا في الطباع بطل قول منقال: إن العشق لا يكون إلا للأشياء المستحسنة، وإنما يكون العشق لنوع مناسبةوملائمة. ثم قد يكون الشيء حسنًا عند شخص، وغير حسن عند آخر.
ويتأكد العشق بإدمان النظر وكثرة اللقاء وطولالحديث، فإن انضم إلى ذلك معانقة أو تقبيل فقد تم استحكامه.
د - نظرية الحب عند الإمام ابن القيم:
يقول الإمام ابن القيم في كتابه "نزهةالمشتاقين": الداعي إلى الحب قد يراد به الشعور الذي تتعبه الإرادة والميل؛ فذلكقائم بالمحب. وقد يُراد به السبب الذي لأجله وُجدت المحبة وتعلقت به، وذلك قائمبالمحبوب. ونحن نريد بالداعي مجموع الأمرين وهو ما قام بالمحبوب من الصفات التيتدعو إلى محبته، وما قام بالمحب من الشعور بها، والموافقة التي بين المحب والمحبوبوهي الرابطة بينهما.
فهاهنا أمور: وصف المحبوب وجماله، وشعور المحببه، والمناسبة: وهي العلاقة والملاءمة التي بين المحب والمحبوب؛ فمتى قويت الثلاثةوكملت قويت المحبة واستحكمت. ويكون نقصان المحبة وضعفها بحسب ضعف هذه الثلاثة أونقصها.. فمتى كان المحبوب في غاية الجمال وشعور المحب بجماله أتم شعور والمناسبةالتي بين الزوجين قوية؛ فذلك الحب اللازم الدائم. وقد يكون الجمال في نفسه ناقصًالكنه في عين المحب كامل؛ فتكون قوة محبته بحسب ذلك الجمال عنده، فإن حبك للشيءيُعمي ويصم، فلا يرى المحب أحدًا أحسن من محبوبه.
وقد يكون الجمال موفورًا، لكنه ناقص الشعور بهفتضعف محبته له [أي قد يكون أحدهما ناقص الشعور بجمال الآخر فتقل محبته له]. وإذاوُجد ذلك كله وانتفت المناسبة والعلاقة التي بينهما لم تستحكم المحبة، وربما لم تقعألبتة. فإن التناسب الذي بين الأرواح من أقوى أسباب المحبة فكل امرئ يصبو إلى مايناسبه. وهذه المناسبة [أي الشيء الذي يقارب بينهما] إما أصلية: من أصل الخلقة [أيأصيلة متعلقة بنفسه] أو عارضة بسبب المجاورة أو الاشتراك في أمر من الأمور [أي غيرمتعلقة بالنفس وإنما هي أمر خارجي اشترك بينهما]. فأما التناسب الأصلي فهو اتفاقأخلاق، وتشاكل أرواح، وشوق كل نفس إلى مشاكلها. فإن شبيه الشيء ينجذب إليه بالطبع؛فتكون الروحان متشاكلتين في أصل الخلق؛ فتنجذب كل منهما إلى الأخرى بالطبع. وقد يقع الانجذاب والميل بالخاصية [بخصوصيةمعينة] وهذا لا يُعلَّل ولا يُعرف سببه كانجذاب الحديد إلى الحجر المغناطيس. ولاريب أن وقوع هذا القدر بين الأرواح أعظم من وقوعه بين الجمادات. وهذا الذي حمل بعضالناس على أن قال: "إن العشق لا يقف على الحسن والجمال، ولا يلزم من عدمه [أي لايلزم من يفقد الجمال ألا يُحب]، إنما هو تشاكل النفوس وتمازجها في الطباع المخلوقة [أي تشابه النفوس في طباعها، وهذا أهم تحديد في سبب الحب عند الإمام ابن القيم]. وقد قال بعضهم لمحبوبه: صادفت فيك جوهر نفسي، وشاكلتها في كل أحوالها؛ فانبعثت نفسيإليك، وكأنما هويت نفسي.
فإذا كانت المحبة بالمشاكلة والمناسبة ثبتتوتمكنت ولم يزلها إلا مانع أقوى من السبب، وإذا لم تكن بالمشاكلة [التشابه بينها فيالصفات الداخلية] فإنما هي محبة لغرض من الأغراض تزول عند انقضائه وتضمحل. فمن أحبكلأمر ولى عنك عند انقضائه فداعي المحبة وباعثها إن كان غرضًا للمحب لم يكن لمحبتهبقاء، وإن كان أمرا قائما بالمحبوب سريع الزوال والانتقال زالت محبته بزواله،والمقصود أن المحبة تستدعي مشاكلة ومناسبة.
وقد ذكر الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله تعالى- في مسنده من حديث عائشة رضي الله عنها أن امرأة كانت تدخل على قريش فتضحكهم، فقدمتالمدينة فنزلت على امرأة تضحك الناس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: على من نزلتفلانة، فقالت: على فلانة المضحكة، فقال: "الأرواح جنود مجندة.. ما تعارف منها ائتلفوما تناكر منها اختلف"، وأصل الحديث في الصحيح. وأنت إذا تأملت الوجود لا تكاد تجداثنين يتحابان إلا بينهما مشاكلة أو اتفاق في فعل أو حال أو مقصد. فإذا اختلفتالمقاصد والأوصاف والأفعال والطرائق لم يكن هناك إلا النُفرة والبعد بينالقلوب.
وأما عن مصدر المشاكلة والاتفاق بين الزوجين فهذالا يكون إلا من الجانبين ولا بد. فلو فتش المحب -المحبة الصادقة- قلب المحبوب لوجدعنده من محبته نظير ما عنده أو دونه أو فوقه (لاحظ مدى إصرار الإمام ابن القيم ومنقبله الإمام ابن حزم على مسألة حتمية حب المحبوب لمحبه).
ودواعي المحبة تجتمع معًا فمتى كان جميل الصورةجميل الأخلاق والشيم والأوصاف كان الداعي منه أقوى. وداعي الحب من المحب أربعةأشياء:
أولها النظر. والنظر إما بالعين، وإما بالقلبإذا وُصف له. فكثير من الناس يحب غيره، وفني فيه محبة وما رآه، لكن وُصف له. ولهذانهى الرسول صلى الله عليه وسلم المرأة أن تنعت لزوجها المرأة حتى كأنه ينظر إليها،والحديث في الصحيح.
وثانيها: الاستحسان. فإن لم يورث نظره استحسانالم تقع المحبة.
وثالثها: الفكر في المنظور وحديث النفس به، فإنشغل عنه بغيره مما هو أهم عنده منه لم يعلق حبه بقلبه، وإن كان لا يعدم خطراتوسوائح [أيتبقى له من حبه خطرات وسوائح].
ورابعها: الطمع في وصل هذا المحبوب.
فإذا وجد النظر والاستحسان والفكر والطمع؛ هاجتبلابله وأمكن من معشوقه مقاتله واستحكم داؤه، وعجز عن الأطباء دواؤه.
وفي سياق شرح الإمام ابن القيم لنظريته في الحبيورد مسألة أثر الجماع [والمقصود به هنا العملية الجنسية على وجه التحديد] في الحبهل يطفئه؟ أم يزيد من قوته؟
وبعد أن يورد الرأيين المتعارضين في ذلك يقول: "الخطاب بين الفريقين أن الجماع الحرام يفسد الحب، ولا بد أن تنتهي المحبة بينهماإلى المعاداة والتباغض والقلى، كما هو مشاهد بالعيان. فكل محبة لغير الله آخرها قلىوبغض؛ فكيف إذا قارنها ما هو من أكبر الكبائر، وهذه عداوة بين يدي العداوة الكبرىالتي قال الله تعالى فيها: {الأخلاَّء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين} (الزخرف:67).
وأما الجماع المباح فإنه يزيد الحب إذا صادف مرادالمحب فإنه إذا ذاق لذته وطعمه أوجب له ذلك رغبة أخرى لم تكن حاصلة قبلالذوق".
هـ – ما نذهب إليه في نظرية الحب:
نعم، المشابهة هي علة الحب، ولكن المشابهة في أيشيء.. هذا هو السؤال؟ فالذي نذهب إليه أن هناك عدة مشابهات قد تكون هي علة الحب بيننفسي العاشقين. ولكن أهم هذه المشابهات هي المشابهة في قوة نفس المحبوبين لا من حيثنظر المجتمع ولكن من نظر المحبوب، وكذلك من حيث نظر محبوبه إلى نفسه وإليه، سواءاتفقت هذه الرؤية مع رؤية الواقع الاجتماعي لها أو لم تتفق. أي إن الفيصل في تقريرهذه الحالة هما العاشقان فقط لا بدافع من بيئة تحيط بهما.
والقاعدة الأساسية أن النفس الأولى تجذب حولهاالنفس المماثلة لها في القوة، والنفوس الأقل منها قوة. وهذا هو تفسير أن
النفسالواحدة قد تحبها عدة نفوس كما يحدث في الواقع، ولكن الطبيعي ألا تحب هي من بينهاإلا نفسًا واحدة.
هذه المشاهدة الواقعية هي التي تجعلنا ندفع تلكالنظرية التي تقول إن المحبوب لا بد أن يكون محبًا لمن يحبه. وفي الحقيقة فإن هذهالنظرية ليست نظرية ابن حزم فقط ومن وافقه على ذلك من الإسلاميين، ولكنها نظرية لهامؤداها في الفكر الإنساني بوجه عام. فدوستويفسكي وهو واحد من أهم الروائيين فيتاريخ الإنسانية، وكازانوفا وهو واحد من أكثر الناس خبرة بالنساء يذهبان إلى أنه لاتوجد امرأة في الوجود تستطيع أن تقاوم رجلاً يديم النظر إليها. فالناتج عن كون أنالنفس الواحدة قد تكون محبوبة من أكثر من نفس بينما هي تحب من بينها إلا نفسًاواحدة أن هناك من يحب ولا يُحب في نفس الوقت.
والمحبوب بدوره يحب إما نفسًا تماثله في القوة،وإما نفسًا أقوى منها. فإذا وقع التماثل تحقق السكن، وإلا فإن النفس الأقل قوة تسعىلتحقيق التماثل مع النفس الأولى، وإن كانت هي نفسها ترى أنها تماثلها في القوة. ومنهنا يأتي المعنى الذي قاله البعض بأن العاشق يحقق صورة نفسه؛ لأنه يسعى لتحقيق قوةذاته كما يمكن أن تكون، وهو يرى أن هذه الصورة هي التي تماثل المعشوق في القوة،فيكون سعيه إلى التماثل مع قوة محبوبه هو في نفس الوقت سعيه إلى تحقيق صورة ذاتهالتي يرى إمكانية تحقيقها، وكلما اقترب التماثل تحقق السكن، فإذا تحقق التآلفوالسكن تقاربت صفات المحبوبين، ويثور بينهما التساؤل: هل صفاته هي صفاته هو نفسه أمصفات محبوبه؛ لأن المزج جعل من ذاتيهما كينونة واحدة، وداخل هذه الكينونة الواحدةلا يعود أحدهما يدري الفرق بين صفاته وصفات محبوبه.
من الذي وضع هذا في طريق ذاك؟ ومن الذي وضع ذاكفي طريق هذا؟ ومن الذي جعلهما يعتقدان أنهما متماثلان في قوة ذات كل منهما هذاالتماثل مع أن ذلك أمر ذاتي وليس موضوعيًا؟ الإجابة عن ذلك مستحيلة؛ لأن هذه الأمورأمور قدرية لا يعلمها إلا الله.
وعملية اكتمال التماثل في الصفات الأخرى حتىيتحقق المزج بين نفسي العاشقين أمر عجيب، لأنه بعد حدوث التآلف بين المحبوبين فإنكل محب يكون منجذبًا إلى أن تشابه صفاته صفات محبوبه؛ حتى يقتربا في كل صفة إلىنقاط التماس، ثم إلى المطابقة الجزئية، ثم إلى التطابق التام في كل الصفات.
فإن كان أحدهما شرسًا والآخر موادعًا وجدتهمايلتقيان عند نقطة ما بين الشراسة والوداعة.
وإذا ثبت أحدهما على صفة من الصفات نتيجة اقتناعما وجدت الآخر ينتقل إليها ولو بعد عنتٍ، خصوصا إذا كانت أقرب إلى الروحية. بل الذييحدث أن صدق الحب بينهما وتعمقه يؤديان بهما إلى أن حدوث طفرة روحية لهما معافتطهرهما وتسمو بهما إلى مدارج عليا من الإيمان. فإذا كان أحدهما متكبرًا والآخرمتواضعًا؛ وجدت المتكبر يغدو متواضعًا والمتواضع يغدو أكثر ترفعًا، أو جدت المتكبرغدا متواضعًا إذا ثبت الثاني على حاله، وربما انتقل الاثنان إلى درجات أكبر منالتواضع.
والحكاية أظهر بالنسبة للانهماك على مادياتالدنيا. فإذا كان أحدهما متكالبًا على ماديات الدنيا وبهرجها والآخر زاهدًا وجدتالأول اقترب من الثاني وصار أكثر زهدًا، ووجدت الثاني اقترب من الأول وصار أكثرتنعمًا. فإذا ثبت الثاني على موقفه وجدت الأول انتقل إلى موقف الثاني، بل قد يرقيانمعا إلى درجات أكبر من الزهد والروحانية.
هذا التآلف بين المحبوبين يصنع هذه الدرجةالرائعة من التماثل في الصفات الروحية؛ حتى يحدث المزج التام بينهما؛ فلا تعلم ماهي الصفات الخاصة بهذا أو بذاك وبماذا يتشابه أحدهما بالآخر.
بل الأغرب من ذلك أن التشابه بينهما يكون أيضًافي حركة الأعضاء وعاداتها فتجدهما يتشابهان في طريقة السير والأكل والكلام والضحكبل في كل التصرفات والأفعال.
ولكن العجب العجاب هو تشابههما في الشكل أيضًا،وتفسير ذلك أن صفات النفس الداخلية للإنسان تنعكس على ملامحه إلى الدرجة التي يبلغمعها الأمر أن تترك آثارها المادية عليها؛ ولذلك فإنه عند حدوث العشق والتآلفوالتماثل الداخلي بين روحي العاشقين، فإن هذا التماثل النفسي ينعكس على ملامحهماويترك آثاره عليهما