الضربات العسكرية بين التقنين والتفنين
اللواء الركن (م)- كمال علي شد يد
طائرات حربية حظي النظام الدولي الجديد بخصائص استراتيجية عدة، سوف تركّز فيها على الصعيد العسكري فحسب، حيث أوجد هذا النظام مفاهيم جديدة للحروب، من خلال افتراض أن يكون للأمم المتحدة دور جديد بعيد عن فلسفة سيطرة الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن على مقدّرات العالم، وتوجيهها صوب مصالحهم العليا، ولذا فإننا نجد اختلافاً كبيراً في شكل الحروب وتجميع القوات بها من الدول، وكذا أهدافها والمهام المحقّقة لها، فضلاً عن التهيئة والتحضير السياسي لها، بحيث أصبحت الحروب تُخاض لأسباب غريبة على الأذن السياسية والعسكرية، مثل: الحرب ضد الإرهاب، والحرب لإيقاف تطوّر أسلحة الدمار الشامل، والحرب لتحقيق العقوبات الاقتصادية، والحروب العرقية والعصبية، والحروب لمساعدة الأقليات على الانفصال، وحروب الطاقة، والحروب الميكيافيلية عموماً
جرت العادة على أن يستخدم السياسيون والإعلاميون مصطلح الضربة العسكرية في إشارة ضمنية لشن عمل عسكري ضد دولة أو مجموعة متجاورة جغرافياً، وأحياناً ما يقوم بعض العسكريين بتناول المصطلح نفسه أيضاً للهدف نفسه، في حين أن المتخصصين غالباً ما يستعملون المصطلح الصحيح، وهو القيام بعملية عسكرية، مثلما قامت الولايات المتحدة وحلفاؤها بتوجيه ضربة عسكرية ضد العراق عام 1992م، لإجباره على عدم تجاوز منطقة الحظر المفروضة عليه، وكذا عندما قام حلف شمال الأطلسي بتوجيه ضربة عسكرية ضد الصرب، عقاباً لهم على ما قاموا به من أعمال وحشية ضد مسلمي البوسنة وكوسوفو عام 1995م، وكذا عندما قامت بأعمال عسكرية، منها: حروب أوغندا، أو عمليات عسكرية على العراق عام 1990-1991م، لتحرير الكويت طبقاً لقرارات مجلس الأمن، وإعمالاً لقواعد الفصل السابع من ميثاق المنظمة، وكذا في عملية غزوها للعراق عام 2003م، بدعوى عدم انصياعه لتدمير منشآته النووية طبقاً لتقرير (باتلر) الدبلوماسي الأسترالي والمفتش في الوقت نفسه وكذا العملية العسكرية ضد أفغانستان عام 2001م لضرب تنظيم القاعدة ... وغيرها وغيرها منذ نهاية الحرب الباردة، وهي كثيرة ومتنوعة، أي أن الأمم المتحدة عندما تتحدث في هذا الشأن، فإنها تقول القيام بعمل عسكري، وفي الاستراتيجية تقول الحرب، وهنا بمفهومها الشامل، وأن الفن العملياتي حينما يتحدث فإنه يقول العملية العسكرية غالباً للفيلق، وذلك حتى نصل إلى الموقعات والمعارك وأعمال القتال، ولكلٍ من هذه المصطلحات معنى محدد وواضح وثابت، بحيث يشكِّل في النهاية لغة استراتيجية عملياتية تكتيكية ومحددة، ولذا سوف يتم استعراض المفاهيم المشار إليها، مع إيضاح العلاقة بين الضربات العسكرية وهذه المصطلحات بشكل موجز وسهل.
الضربات العسكرية: تعريفها وأنواعها ومكوناتها
تعتبر الضربة العسكرية هي أحد المكونات الرئيسة للعملية العسكرية، سواء العملية الاستراتيجية Stratigic، أو التعبوية، أو العملياتية Operational، وقد تحتوي العملية على ضربة، أو اثنتين، أو أكثر، بحيث عندما يتخذ القرار تكون ترويسته باختصار هي: قدرة القيام مثلاً بالقوات بعملية هجومية لتدمير العدو، وتحقيق ذلك في مهمة مباشرة بالوصول إلى .... ونهائية بالوصول إلى ... محققاً الهدف من العملية من خلال نسقين: النسق الأول: يتكون من ...... والثاني: من .....، وذلك من خلال (2) ضربتين رئيستين في اتجاه الجانب الأيسر، وفرعيتين في اتجاه الجانب الأيمن، مركِّزاً المجهود الرئيس على الجانب الأيسر ...إلخ.
ولعل أفضل وأحدث مثال على ذلك هو عملية (عاصفة الصحراء) لتحرير الكويت، حيث كانت خطة التحالف أو الائتلاف على وجه الدقة هي: القيام بعملية هجومية استراتيجية في نسق استراتيجي واحد واحتياط، من خلال توجيه عدة ضربات رئيسة عميقة وأخرى قريبة، كانت الضربة الرئيسة فيها تتم بقوات الفيلق الثامن عشر على الجانب الأيسر من داخل الأراضي العراقية، وأخرى رئيسة بقوات الفيلق السابع أيضاً على الجانب الأيسر من الداخل، مجاوراً للحدود الكويتية، وعدد (3) ضربات أخرى من اليسار لليمين، ضربة مصرية (بقوة فرقتين)، وضربة سعودية كويتية سورية (بقوة فرقتين)، و (3) لواءات، ثم ضربة بقوات مشاة البحرية (بقوة فرقتين)، ثم ضربة سعودية مع قوات مجلس التعاون الخليجي على الساحل.
ونظراً لزيادة عدد الضربات في هذه العملية، فقد تم تقسيم نطاق الهجوم إلى عدة قطاعات، بحيث يحتوي كل قطاع على (من 2 3) ضربات، كما تم تقسيم مواجهة الحدود الكويتية إلى ثلاثة قطاعات تابعة لقيادة القوات المشتركة ومسرح العمليات، وكان كل قطاع منها يحتوي على ضربتين. وقد كان هذا التقسيم من أجل سهولة القيادة، والسيطرة على المسرح، وضماناً لتنفيذ المهام دون تداخل بين مناطق عمل القوات، ودون الدخول في تفاصيل العملية، فإن تفصيل الضربات والتخطيط لها وهو موضوعنا كان قمة في الفن والعلم العسكريين من جانب قيادات التحالف والقوات المشتركة، مما انطبع على نجاح العملية وإنجازها في ذلك الوقت القياسي، وهو المائة ساعة من 25 28 فبراير 1991م.
والسؤال المنطقي هنا من جانب القارئ الكريم هو: لماذا تُرسَم أسهم الضربات وبينها فواصل على خريطة الضربات؟ ولماذا تصل نهايات الأسهم إلى نقاط مختلفة العمق من الخط الأمامي لدفاعات العدو؟ والسبب بوضوح هو أنه على المستوى الاستراتيجي والعملياتي فإنه عادة ما لم يتم الالتزام بالمسافات بين الوحدات الفرعية الصغرى، وهي الفصيلة، والسرية، والكتيبة، بمعنى أنه عندما يُحدَّد منطقة لهجوم الكتيبة تكون في العادة هي مواجهة سرية مشاة، وقطاع هجوم اللواء يكون مواجهة كتيبة معادية... وهكذا، ولكن على المستويات العليا حينما نريد أن نهاجم مثلاً على مواجهة (300) كلم فعادة لا يضع العدو فيها (100) لواء، باعتبار أن كل منها يحتل (3) كلم، لأنه عادة ما تكون الأرض غير صالحة كلها للدفاع التقليدي، فضلاً عن عدم وجود قوات تكفي لاستخدام هذا الأسلوب في الحساب، ولذا فإنه على المستويات الكبرى تُخصص القوات للهجوم على محاور تحقق تعاوناً فيما بينها، كما أنه يصعب أو يستحيل توفير قوات لتغطية هجوم كل المواجهة، ولذا فإنه تُخصص القوات للهجوم على المحاور، وعلى أكثر الاتجاهات ضعفاً للعدو، ومن ثم تُرسم الأسهم عليها وعلى المسافات والأعماق التي تفرضها المحاور وقوات العدو، وهذا ما يُطلَق عليه: الضربات العسكرية، وهذا يصدق علي التعريف السابق بأنها هي مكونات العملية العسكرية.
وحتى يكتمل تعريف الضربة، فإن الضربة هي عبارة عن مزيج من الحركة والنيران، أي أن قوات الضربة القائمة بالهجوم يجب أن تتميز بأنها قائمة دائماً بأعمال الحركة، أي المناورة من مكان إلى آخر، لتحسين أوضاعها الهجومية طولية وعرضية، فضلاً عن تمتعها بقوة نيران كبيرة، سواء كانت هذه النيران برية من المدفعيات والصواريخ، أو جوية من القاذفات والقاذفات المقاتلة والمروحيات المسلحة بالصواريخ المضادة للدبابات؛ أو من نيران البحرية، سواء المدمرات، أو الفرقاطات، أو البوارج، أو غيرها؛ سيما في حالة مهاجمة القوات بحذاء الساحل الكويتي في اتجاه العاصمة الكويت. وهنا يجب ملاحظة شيء هام، وهو أن عملية طي الأرض وحدها لا تكفي لتحقيق المهام والأهداف، لأن ترك العدو بدون إنزال عقوبة النيران عليه تجعله يناور ويقابلك بعد ذلك في العمق، أي أنه يجب أن يكون هناك توازن فيما بين المناورة وطي الأرض والنيران.
ويعتقد كثير من القادة أن سرعة الوصول إلى عمق العدو بالتعاون مع الضربات الأخرى، يمكن أن يوقعه في الحصار، ويمكن تركه للأنساق الثانية لتدميره في عملية منفصلة عن عملية الهجوم. وعموماً لا توجد أخطاء في مفاهيم الفن العسكري واستخدامه، لأن كل موقف يكون له ما يبرره، والقائد الميداني عادة ما تكون له قرارات يجب أن تحترم من جانب القيادة الأعلى ولا يفرض عليه ما يرفضه، ولكن يُترك له هامش للمناقشة والإقناع، وعموماً هناك مقولة فلسفية عسكرية مؤداها: أنه كلما قل المستوى العسكري المُنفِّذ، كلما قلّت درجة مرونته لضيق مواجهة هجومة واعتياده كليةً على مستوى تدريب أفراده؛ وكلما زاد المستوى العسكري المُنفِّذ، كلما زادت المرونة نتيجة لتفعيل الفن والإبداع العسكري، وأن معركته ستكون معركة عقول أكثر مما هي معركة مستويات تدريبية وتكتيكات، والتزام بقوانين القتال الموضوعة.
مكوّنات العملية العسكرية
تتكون العملية الاستراتيجية {مستوى القوات المسلّحة غالباً} من عملية واحدة أو عمليتين، يمكن أن تكونا في اتجاه استراتيجي واحد، ولكن لكلٍ منهما نطاق هجومي، بحيث يكون مجموع مواجهة النطاقين مساوياً للمواجهة الكلية للقوات المسلحة، كما يمكن في هذه الحالة أن يكون عمق العملية الواحدة مساوياً لعمق العملية الاستراتيجية للقوات المسلحة. وقد تكون العمليات متتابعة، أي تتم الأولى لتحقيق المهمة المباشرة للقوات المسلحة، في حين تدفع الثانية لاستكمال المهمة العامة، ويطلق عليها المهمة النهائية للقوات المسلحة، والتي عادة ما تنطبق على الحدود السياسية للدولة. كما يمكن أن تُنفّذ المهمة المباشرة من خلال عمليتين تعبويتين متوازيتين، ثم تدفع قوات النسق الثاني مستندة على خط المهمة المباشرة للعمليات التعبوية، لتحقيق المهمة النهائية، وليس بالضرورة أن تكون على كل المواجهة، بمعنى أنها يمكن أن تكون على اتجاه واحد لاستكمال تدمير القوات المعادية واستعادة خط الحدود السياسية. وعادة ما تحتوي خطوط المهام المباشرة على أهداف حيوية استراتيجية، مثل: المدن السياسية، أو الإدارية، أو الاقتصادية... أو غيرها، أو موانئ بحرية هامة، أو قواعد جوية، أو مجموعة منها.
وكما أن هناك عمليات عسكرية برية، فإن هناك عمليات أفرع رئيسة للقوات المسلحة مستقلة، ويُطلق عليها المسمَّى نفسه، كأن تكون عملية جوية مستقلة، وقد تكون مدعومة بقوات بحرية أو برية صغيرة نسبياً بحسب طبيعة ومهام العملية .. وهكذا. ولعل هذا ليس غريباً، فلدينا في التاريخ أمثلة جيدة عن العمليات المستقلة للأفرع الرئيسة، فمثلاً الحرب الجوية التي سبقت عملية عاصفة الصحراء لتحرير الكويت، وهي هنا حرب لأنه قد اشترك فيها أكثر من (4000) طائرة من قواعد عدة في الخليج، ومن سطح الأسطول، ومن المحيط الهندي (دييجو جارسيا)، ومن البحر الأحمر، وشرق البحر المتوسط، ولندن، والقواعد الخاصة بملف الناتو في أوروبا؛ وكذا الضربة الجوية التي قام بها الأطلسي في كوسوفو والصرب بسبب التمييز والتطهير العرقي ضد المسلمين هناك وكذا الضربة الجوية لقوات الائتلاف ضد العراق عام 1992م لعدم التزامه بمنطقة الحظر الجوي المفروضة على طائراته، وهو المهزوم في الحرب. ومن الأمثلة على العمليات البحرية المستقلة: عملية الإنزال البحري الأمريكي على سواحل (مقاديشو) في الصومال عام 1997م، وهناك عمليات تاريخية، مثل: ضرب جزر (هاواي) عام 1941م بواسطة القوات الجوية اليابانية، حيث ألحقت اليابان بالولايات المتحدة ضربة أفقدتها السيطرة في المحيط الهادي.
وتتكون العملية العسكرية التعبوية من موقعة أو أكثر، بحسب سير العمليات ومعارك وأعمال قتال، وتتألف الموقعة من مجموعات معارك، والمعركة من مجموعة من أعمال القتال. والموقعة أكبر من المعركة، وأصغر من العملية العسكرية، وأقرب مثال لها هو عندما يقوم قائد الفيلق بدفع فرقة النسق الثاني المدعومة لتطوير هجوم فرق النسق الأول التي حققت مهامها، فإنه يطلق على قيادته للنسق الثاني بقيادة الموقعة.
ومن هذا العرض يتضح أن فِرَق النسق الأول تقوم بمعارك ضد العدو، في حين أن لواءاتها تقوم بأعمال قتال، والعملية تستغرق من (5 10) أيام، والموقعة قد تستغرق من 2 3 أيام، في حين أن المعركة للفرقة تحدد مهمتها بيوم واحد ويجدد بحسب الموقف، سواء للفرقة نفسها أو استبدالها، أما اللواء الذي يقوم بأعمال قتال، فإن مهمته تحدد بعدة ساعات، وكل هذا مرتبط بالمستويات اللوجيستية التي يحملها اللواء والفرقة .. وهكذا.
أنواع الضربات العسكرية من حيث التخطيط وعلاقتها بالعدو
الضربات الجبهية، وهي تلك الضربات التي تحددها طبيعة المسرح والأرض، ولا توجد فيها مرونة كبيرة، لتوجيهها من أحد الأجناب، أو من الجنبين معاً، وتكون فيها مواجهة العدو كلها صالحة للهجوم، وفيها ظهور متبادل فيما بينها وبين بعضها، ولعل أقرب مثال ونموذج عن تطبيق ذلك هو ما حدث في حرب أكتوبر 1973م من عبور قناة السويس إلى الشاطئ الشرقي، حيث كان لإسرائيل خطوط دفاعية متصلة وحصينة على طول المواجهة التي بلغت (160) كلم في ذاك الوقت، مما أجبر المصريين على تنفيذ الضربات جميعاً بالمواجهة على طول الجبهة، ورغم أن ذلك كان يفقد القوات المصرية عنصر المفاجأة، إلاّ أنها استطاعت من خلال خطة خداع استراتيجي تعبوي تكتيكي أن تخدع العدو عن وجود نية للحرب من جانب المصريين، أما الضربات على الجنب أو الأجناب فهي تحقِّق ميزة كبيرة للغاية في المناورة والتعاون مع القوات القائمة بالضربة الأمامية، كما أنها تحقق قدراً كبيراً من المفاجأة، وحصر إمكانات الطرف الآخر في المناورة وتوجيهها إلى مناطق قتل مدبَّرة، وهذا ما حدث تماماً من جانب أعمال الفيلق الثامن عشر بالتعاون مع الفرقة الفرنسية التي كانت تقوم بتأمين الجانب الأيسر للفيلق، فضلاً عن تعاون الفيلق (18) أمريكي مع الفيلق السابع المختلط القائم بالهجوم بالمواجهة نسبياً. وعموماً فإن ضربات الجنب لها مسميات عديدة ومهام متنوعة وأعماق مختلفة، ولكن بشرط أن تتعاون إما فيما بينها إذا كانت الفكرة مبنية على ذلك، أو فيما بينها وبين قوات الضربة الأمامية لتحقيق أفضل النتائج وأسرعها.
وكما أنه توجد هناك ضربات مختلفة الأسماء، ففي الوقت نفسه توجد هناك ضربات مضادة، وهي الأعمال التي يقوم بها المدافِع لتدمير العدو المخترق بعد إيقافه وحصاره، وتنطبق عليها المسميات نفسها، حيث إن الإجراء الرئيس الذي يقوم به قائد الفيلق المدافع هو القيام بالضربة المضادة، ويطلق عليها هنا الموقعة الرئيسة؛ وفي حالة تحقيق نجاح كبير في هذه الموقعة أو الضربة المضادة، يمكن التحوُّل للهجوم ومطاردة العدو حتى خط الحدود السياسية، وهذه الحالة الإيجابية لا تتم إلاّ بموافقة القائد العام للقوات المسلحة، لأن فيها قدراً من المخاطرة يتطلب قراراً سيادياً واضحاً، وأهم مثال قريب عن هذا الموضوع هو عندما نجح قائد قوات التحالف في مطاردة العراقيين حتى دخلوا إلى حدودهم الجنوبية في البصرة، كان القائد الأمريكي (شوارتسكوف) يرغب في اتخاذ خط داخل الأراضي العراقية، ولكن الرئيس (بوش) الأب باعتباره قائد ومنسّق قوات الحلفاء الأعلى رفض ذلك، وخشي من دخول سياسي قد يعقِّد الأصول الدبلوماسية والشرعية للعملية، واعتبر أن ما تحقق يعتبر حلماً كبيراً، قياساً بالنتائج المبهرة وضعف الخسائر لأقل من الحدود الدنيا. وبطبيعة الحال يتخذ مثل هذا الخط داخل أراضي الطرف الآخر بهدف إما: التفاوض على أي مسألة معلقة، أو للضغط من أجل تمرير موضوع معين.
والنوع الثالث: هو الضربات المسبقة والضربات الوقائية، وكلاهما يتم شنّه على العدو قبل ما يقوم بأعماله التعرّضية ضد قواتنا، فالضربة المسبقة أو ما يُطلق عليها الاستباقية أحياناً تشن على العدو في ميدان العمليات بعد ما يجهّز نفسه تماماً للأعمال التعرّضية، بحيث يمكن للضربة المسبقة في هذه الحالة أن تحبط العملية الهجومية تماماً، أو جزئياً، أو تؤخرها، وفي جميع الأحوال، فهذا يعود بالنفع على قواتنا، وبطبيعة الحال يشكِّل لها تجميع من القوات يختلف عن تجميع القوات المهاجمة، والتجميع باختصار يعتمد اعتماداً رئيساً على الطيران، والصواريخ، وأحياناً البحرية إذا كان المكان قريباً من الساحل وبعض الوحدات المدرعة، وقد يشترك بها بعض الوحدات المُبَرّة جواً، ويطلق عليها باللغة الإنجليزية Pri-Impitive Blow. وعادة ما تركّز الضربة المسبقة على الأنساق الأولى، ومراكز القيادة والسيطرة، والأهداف الحيوية القريبة من خط الجبهة، مثل: المطارات، والموانئ، والمدن السياسية والإدارية... وغيرها، وعادة ما تتم هذه العملية أثناء الفترة أو المرحلة الافتتاحية للحرب، والمرحلة الافتتاحية تُعرَّف بأنها هي الفاصل الزمني بين بدء أعمال القتال، ودفع القوات الرئيسة لميدان العمليات ، وعادة ما يحدد للضربة المسبقة حجم التدمير المطلوب في العدو، وهي النسب التالية:
أمالضربة الوقائية، فتتم في غير أوقات الحرب بهدف إحباط نية العدو في شن الحرب مستقبلاً، أي أنه يمكن أن تتم في السلم قبل النوايا المحتملة للعدو، أي في غضون عدة أشهر أو عدة سنوات، في حين أن الضربة المسبقة تتم قبل هجومه بعدة أيام، وأفضل مثال عن الضربة الوقائية هو ضرب المفاعل النووي العراقي عام 1981م بواسطة إسرائيل.
عناصر ومكونات الضربة
المقصود هنا من هذا الموضوع هو التعرُّض لشكل عناصر ومكونات الضربة، ليس من جانب حجم القوات المشتركة، ولكن من ناحية شكل المكوِّن الرئيس للضربة، وهو المناورة والنيران اللتان تتحدان لتنفيذ هدف واحد ومهمة واحدة، ويشترط في استخدامهما تحقيق التوازن العام فيما بين قواتهما، بحيث لا تتفوق إحداهما على الثانية إلاّ في حدود ضيقة، ربما تخدم طبيعة تطوُّر الموقف في ميدان المعركة.
فالنيران تبدأ بها المعركة وتنتهي بها، وتتخللها المناورة بطبيعة الحال، وتعتبر قدرات ومهارات القادة هي العامل الحاسم في تحقيق النصر من خلال القدرات الإبداعية أو الفنية لهم، ولذا إذا وضعنا عدداً من القادة تحت الظروف نفسها من حيث الأرض والقوات والنيران؛ فإن النتائج ستكون مختلفة، لأنها لن تعتمد فقط على العلوم العسكرية وقوانين خدمة الميدان، ولكنها سوف تعتمد على الفروق الفردية بينهم Individual Diferenes، وهذا مما يفسر كيف ينجح قادة ويفشل آخرون، أو كيف ينجح قادة أكثر من غيرهم. وتعتبر النيران هي جوهر ومضمون أعمال القتال في الميدان، ولذا فإن توقيع عقوبة الجزاء النيراني على العدو هي العامل المؤثّر الذي يساعد على تحقيق المبادرة من خلال المناورات التي يجب أن تسبقها النيران، وتصاحبها وتستر انسحابها عند الضرورة؛ والنيران تنتج من كافة أسلحة القوات المسلحة الجوية، والبحرية، والبرية، والصاروخية التي يجب أن تنسِّق جيداً فيما بينها، لتحقيق أكبر تأثير ممكن على العدو.
أما المناورة، فقد أضافت بعداً جديداً في مفهوم مضاعفة القوة، وهو الأمر الذي يمكن تكراره في عملية واحدة من خلال استخدام وحدات الإبرار الجوي، وقوات المظليين، والصاعقة، باستخدام وسائل النقل الحديثة، وهي: الطائرات، والعموديات، والعموديات المسلحة. وعادة ما تتم المناورة بهدف النقل المنظّم لأعمال القتال من مكان لآخر، لتحقيق أفضل فائدة ممكنة من خصائصها التكتيكية والفنية، أي أنها تعتبر أسلوب اقتراب غير مباشر وسريع من أهداف وتجميعات العدو المتمركزة في عمق الدفاعات، كما أنها تجري بغرض مواجهة النقص، أو الخلل المفاجئ في حجم القوات، والتغيُّر الحاد في الموقف العملياتي في المسرح؛ وعموماً فإن المناورة هي الآلية الوحيدة التي تمكِّن القائد من الوصول إلى أجناب ومؤخرة العدو، وتحرمه من التفكير المنظّم لمواجهة أعمال قواتنا، وتمنعه من عمليات إعادة التجميع لمواجهة التقلُّب الحاد في الموقف الذي فرضته مناورة قواتنا الناجحة.
وللمناورة أشكال عديدة، فهي تتم إما على هيئة التفاف، أو تطويق، أو أمامية؛ فالالتفاف يتم على أجناب ومؤخرة العدو في تعاون نيراني وتكتيكي مع القوات العاملة في المواجهة، بمعنى أن تكون الأسلحة الموجودة لدى الطرفين قادرة على الوصول لعمق الطرف الآخر، ومن ثم معاونته وتأمينه؛ أما التعاون التكتيكي، فيعني أن يكون في قدرة القوات المتعاونة الإمكانات التكتيكية، مثل: المواجهات، والأعماق، والمدرعات، والمركبات، والمستويات اللوجيستية المحمولة معهم، والتي تمكنهم من القتال مستقلاً حتى تحقيق المهام الموضوعة لهم، ولذا فإن عملية التعاون عادة ما تكون مرتبطة بالمهمة المباشرة للفرقة أو اللواء مثلاً، وهي تتم في الهجوم كما تتم أيضاً في الدفاع عند التمكّن من حصار العدو بعد اختراقه للدفاعات. هذا بالنسبة للالتفاف، أما التطويق فهو التفاف أكثر عمقاً، ويمكن لعمليات التطويق أن تقوم بالكثير بشرط توفُّر القائد المبدع وليس القائد العلمي فقط؛ فيمكن للقوات القائمة بالتطويق أن تقوم بضرب الأنساق الثانية وحرمانها من القيام بالضربات المضادة التي يمكنها أن تحسم العملية، كما يمكنها فصل وتجزئة هذه الأنساق عن بعضها. وغالباً ما تقع أعمال حصار للعدو نتيجة للتطويق الناجح، وقد تكون القوات المحاصرة كبيرة، كما وصلت في معارك شمال أفريقيا إلى حجم فيلق، نتيجة نجاح القائد البريطاني (مونتجمري) في القيام بعمليات مناورة بعيدة المدى في الشمال الأفريقي، ولذا فليس غريباً على (مونتجمري وروميل) أن يُطلق عليهما ألقاب عديدة تؤكّد قدرتهما على الفن والعلم معاً، وتوظيفهما في سيمفونية جميلة للخروج بخطط عمليات غير تقليدية كان لها أكبر الأثر في قلب ميزان القوى في ذلك المسرح عدة مرات أثناء فترة الحرب
العالمية الثانية. وكما قلنا من قبل: إن هذا الإبداع، وتلك المرونة، يزدادان كلما كبر المستوى للقوات المنفِّذة والعكس صحيح. أما المناورة الأمامية فتتم من خلال عمليات الاختراق، أو التسلل، أو القتال التعطيلي، أو الارتداد عند اللجوء إليه؛ والتسلل هو تحرُّك مستتر للقوات، والقتال التعطيلي هو ما يتم أمام الدفاعات؛ والتخلُّص طواعية من موقف غير مناسب يعتبر ارتداداً لاتخاذ أوضاع أفضل تتيح للقوات حرية العمل فيما بعد؛ والارتداد هو عملية عسكرية كاملة الأركان من حيث التحضير، والتنظيم، والإدارة.
علاقة الضربة بالعملية والحرب
الحرب هي الصورة الشاملة والكاملة للصراع، لأن الحرب لا تُعدّ لها القوات المسلحة فحسب، ولكن أيضاً الاقتصاد، والشعب، والسياسة، وأراضي الدولة، أي أن كل العناصر السابقة تُعدّ وتدعم القوات المسلحة في الحرب، ولكن بطبيعة الحال فإن العسكرية تتبع السياسة، بمعنى أن السياسة والاستراتيجية العامة للدولة هي الأساس، بحيث إذا لم تنجح في تحقيقها بالوسائل الدبلوماسية فإنها تلجأ للقوات العسكرية لتنفيذها، ويعدّ مثال مصر في صراعها مع إسرائيل دليلاً واضحاً على هذا المفهوم، لأنه بعد صدور قرار مجلس الأمن رقم (242) لإعادة الأراضي العربية التي احتلتها إسرائيل في حرب 1967م، لم تنفِّذ إسرائيل القرار، وعند زيادة وطأة حرب الاستنزاف المصرية ضد إسرائيل، خصوصاً بعد معركة (رأس العش) في يونيو 1967م وهو شهر الانسحاب والتي تمت في وضح النهار وحصلت فيها القوات المصرية على أول أسير إسرائيلي؛ وكذا قيام القوات الجوية المصرية بضربة جوية مركّزة في يوم 14 يوليو 1967م أسقطت فيها الطائرات الفانتوم الإسرائيلية الأمريكية الصنع، الأمر الذي دفع الولايات المتحدة لأن يتقدم وزير خارجيتها (روجرز) بمبادرته الخامسة، لتنفيذ القرار الذي لم توافق عليه إسرائيل في المبادرات الأربع السابقة، والذي وافقت عليها إسرائيل لتقوم بالانسحاب بعد زيادة خسائرها في انسحابها عند الضرورة، والنيران الاستنزاف. ثم بعد إغراق مدمرتها إيلات في أكتوبر 1967م، حيث كانت أول حرب صاروخية بحرية تُستخدم فيها الصواريخ البحرية، كل هذا قد أدى بعد موافقة إسرائيل على مبادرة تنفيذ القرار إلى توقُّف الوسائل العسكرية في الصراع، حيث توقّف إطلاق النيران بين الطرفين وبدأت الجهود الدبلوماسية، حيث إن أهداف الحرب السياسية هي تحرير شبه جزيرة سيناء، وهو ما يؤكد تبعية العسكرية للسياسة.
أما العملية فهي إما تعبوية (عملياتية) أو استراتيجية، وما يتبادر هنا إلى الذهن، فما هو إذن الفرق بين الحرب والعملية الاستراتيجية؟ الواقع أن العملية الاستراتيجية تقودها القوات المسلحة، وأقصد القائد العام، ولكن في اتجاه استراتيجي واحد، فمثلاً في مصر الاتجاه الاستراتيجي هو الشمال الشرقي، بالإضافة إلى الاتجاه الغربي والجنوبي، ولكن في هذه الحالة لا تستخدم القوات المسلحة بالكامل وليست بكل إمكاناتها، أما الحرب فإن مواجهتها أكبر، وأعماقها أكبر، والإعداد السياسي والاقتصادي والاجتماعي والمعنوي أكبر، ويقودها القائد الأعلى للقوات المسلحة من خلال مجلس أعلى للحرب، أو الدفاع حسب دستور الدولة وغالباً ما يكون هو أكبر سلطة في البلاد: إما رئيس الجمهورية، أو سلطان، أو ملك، أو أمير للبلاد.
وقد تتكون العملية الاستراتيجية من عدة عمليات تعبوية، وذلك بحسب مسرح العمليات، وطبيعة الأرض، وعدد الأهداف الحيوية الهامة، كما ورد ذكرها من قبل. وقد تشتمل الحرب على عدة مسارح عمليات يُطلق عليها جميعاً مسرح الحرب لمجموعة من الدول المتعاونة، والتي غالباً ما تكون متجاورة جغرافياً، هذا فضلاً عن احتمال أن يشترك معهم بعض الحلفاء أو الدول الشقيقة أو الصديقة. هذا عن علاقة العملية بالحرب، أما الضربة فهي جزء من العملية سواء التعبوية أو الاستراتيجية، أي أن الضربة يمكن لها أن تحتوي على عدة ضربات، كما ورد ذكره في نموذج عاصفة الصحراء في حرب تحرير الكويت عام 1990-1991م، وفي عملية غزو العراق عام 2003م، المعروفة بعملية "حرية العراق"، فقد كانت الخطة موضوعة على أساس توجيه ضربة تعبوية من الجنوب بواسطة الفرقة (3) مشاة الميكانيكية، وتقابلها الفرقة (4) الميكانيكية من الشمال من الاتجاه التركي، فضلاً عن ضربتين أخريين، الأولى بواسطة فرقة (1)، والفرقة (2) مشاة أسطول عبرالأهواز على الجانب الأيمن، الفرقة (82)، الفرقة (101) إبرار جوي من الغرب على الاتجاه العام غرب بغداد، وحيث إن التعداد العام للقوات كان في حدود (140) ألف رجل. فالعملية من ناحية الحجم تعتبر تعبوية، في حين أن القيادة كانت استراتيجية، ويمكن أن يُطلق عليها عموماً: (ضربة استراتيجية)، على أساس أنها ترتبط أساساً بالموقف السياسي والحلفاء، وما إلى غير ذلك.
خاتمة
تُعدّ الأسس العامة، وقوانين القتال، وقواعد خدمة الميدان هي المرشد والموجّه الأساس للتخطيط للحرب والعملية بنوعيها، وكذلك للضربات والموقعات والمعارك وأعمال القتال في النهاية، ولكن ما تجب الإشارة إليه هو عدم حرمان القادة على المستويات العليا وضباط الأركان العامة والخاصة من حرية الرأي فيما يتعلق باستخدام القوات، والمعروف عنهم أساساً المهارات والإبداعات، مع الارتباط بالأسس العسكرية العلمية للتخطيط، طالما أن أفكارهم مُبرّرة وتنال استحسان جموع ضباط هيئات القيادة والأركان. ولعلي لا أبالغ لو قلت إن خطة التحالف في عاصفة الصحراء مأخوذة عن قانون القتال الأمريكي الذي تم تطويره عقب حرب أكتوبر 1973م في 20-8-1982م، ومرة ثانية في عام 1983م، وعُرف باسم FM 100-15، وتناوله أيضاً حلف شمال الأطلسي، حيث عمَّق المفهوم الأمريكي للوصول إلى فكر يتلاءم مع قدرات وإمكانات القوات العاملة في المسرح الأوروبي، حيث أُطلق عليها أي على هذه النظرية "نظرية قتال الأنساق الثانية"، وكلتا النظريتين تتحدان في ضرورة قتال الأنساق الثانية في وقت مبكر، إما مع الأنساق الأولى أو قبلها أو بعدها بوقت قليل قبل دفعها للاشتباك، ولكنهما تختلفان في الوسائل لتنفيذ ذلك، وهذا موضوع آخر يناسب المسارح الصحراوية في منطقة الشرق الأسط قاطبة، ومأخوذة عن نماذج المناورة الأمريكية في (الكروكيات) المرفقة، وهذا ليس بخطأ لأن هذه القوانين بملحقاتها قد وضعت للاستعانة في تخطيط العمليات، باعتبار أنها ناتج دروس الحروب السابقة ليس في أمريكا وحدها، بل في كل العالم، ولولا تطبيق هذه الإرشادات ما نجحت قوات الائتلاف من قوات مشتركة عربية وتحالف في تحقيق ذلك النصر الباهر بكل المقاييس المعروفة
المراجع:
1. موسوعة تاريخ العالم، الجزء الأول، وليم لانجر، ترجمة: د. محمد زيادة، مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة.
2. أوروبا في القرنين 19 و 20 أ.ج جرانت، هارولد تمبرلي، ترجمة: بهاء فهمي، وعزت عبدالكريم، الناشر: مؤسسة سجل العرب، الطبعة السادسة.
3. كتاب: "الجغرافيا العسكرية للشرق الأوسط"، القاهرة، وزارة الدفاع المصرية.
4. كتاب: "مقاتل من الصحراء"، الفريق الأول- خالد بن سلطان، القاهرة، 1996م.
5. التقريرالاستراتيجي الخليجي، مجلس التعاون، الرياض 2000م.
6. عناصر القوة الظاهرة للدولة، د. سمير بهاء الدين، القاهرة، 1988م.
7. مقالة: "النظام العالمي والحرب الباردة"، مجلة الحرس الوطني السعودي، مارس 2001م، الرياض، اللواء الركن- كمال شديد.
8. "الحرب الباردة وحروب الأمم المتحدة"، مارس، وأبريل 2000م، مجلة الجندي، دبي، اللواء الركن- كمال شديد.
9. "الحرب والعولمة"، 6 أجزاء من يناير يونيو 2001م، دبي، المؤلف نفسه.
10. الدفاع المتحرك في المسارح الصحراوية، الحرس الوطني السعودي، يونيو 2000م، الرياض، المؤلف نفسه.
11. مجموعة مؤلفات عديدة للمؤلف عن الموضوع نفسه.
http://www.kkmaq.gov.sa/Detail.asp?InNewsItemID=189377
اللواء الركن (م)- كمال علي شد يد
طائرات حربية حظي النظام الدولي الجديد بخصائص استراتيجية عدة، سوف تركّز فيها على الصعيد العسكري فحسب، حيث أوجد هذا النظام مفاهيم جديدة للحروب، من خلال افتراض أن يكون للأمم المتحدة دور جديد بعيد عن فلسفة سيطرة الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن على مقدّرات العالم، وتوجيهها صوب مصالحهم العليا، ولذا فإننا نجد اختلافاً كبيراً في شكل الحروب وتجميع القوات بها من الدول، وكذا أهدافها والمهام المحقّقة لها، فضلاً عن التهيئة والتحضير السياسي لها، بحيث أصبحت الحروب تُخاض لأسباب غريبة على الأذن السياسية والعسكرية، مثل: الحرب ضد الإرهاب، والحرب لإيقاف تطوّر أسلحة الدمار الشامل، والحرب لتحقيق العقوبات الاقتصادية، والحروب العرقية والعصبية، والحروب لمساعدة الأقليات على الانفصال، وحروب الطاقة، والحروب الميكيافيلية عموماً
جرت العادة على أن يستخدم السياسيون والإعلاميون مصطلح الضربة العسكرية في إشارة ضمنية لشن عمل عسكري ضد دولة أو مجموعة متجاورة جغرافياً، وأحياناً ما يقوم بعض العسكريين بتناول المصطلح نفسه أيضاً للهدف نفسه، في حين أن المتخصصين غالباً ما يستعملون المصطلح الصحيح، وهو القيام بعملية عسكرية، مثلما قامت الولايات المتحدة وحلفاؤها بتوجيه ضربة عسكرية ضد العراق عام 1992م، لإجباره على عدم تجاوز منطقة الحظر المفروضة عليه، وكذا عندما قام حلف شمال الأطلسي بتوجيه ضربة عسكرية ضد الصرب، عقاباً لهم على ما قاموا به من أعمال وحشية ضد مسلمي البوسنة وكوسوفو عام 1995م، وكذا عندما قامت بأعمال عسكرية، منها: حروب أوغندا، أو عمليات عسكرية على العراق عام 1990-1991م، لتحرير الكويت طبقاً لقرارات مجلس الأمن، وإعمالاً لقواعد الفصل السابع من ميثاق المنظمة، وكذا في عملية غزوها للعراق عام 2003م، بدعوى عدم انصياعه لتدمير منشآته النووية طبقاً لتقرير (باتلر) الدبلوماسي الأسترالي والمفتش في الوقت نفسه وكذا العملية العسكرية ضد أفغانستان عام 2001م لضرب تنظيم القاعدة ... وغيرها وغيرها منذ نهاية الحرب الباردة، وهي كثيرة ومتنوعة، أي أن الأمم المتحدة عندما تتحدث في هذا الشأن، فإنها تقول القيام بعمل عسكري، وفي الاستراتيجية تقول الحرب، وهنا بمفهومها الشامل، وأن الفن العملياتي حينما يتحدث فإنه يقول العملية العسكرية غالباً للفيلق، وذلك حتى نصل إلى الموقعات والمعارك وأعمال القتال، ولكلٍ من هذه المصطلحات معنى محدد وواضح وثابت، بحيث يشكِّل في النهاية لغة استراتيجية عملياتية تكتيكية ومحددة، ولذا سوف يتم استعراض المفاهيم المشار إليها، مع إيضاح العلاقة بين الضربات العسكرية وهذه المصطلحات بشكل موجز وسهل.
الضربات العسكرية: تعريفها وأنواعها ومكوناتها
تعتبر الضربة العسكرية هي أحد المكونات الرئيسة للعملية العسكرية، سواء العملية الاستراتيجية Stratigic، أو التعبوية، أو العملياتية Operational، وقد تحتوي العملية على ضربة، أو اثنتين، أو أكثر، بحيث عندما يتخذ القرار تكون ترويسته باختصار هي: قدرة القيام مثلاً بالقوات بعملية هجومية لتدمير العدو، وتحقيق ذلك في مهمة مباشرة بالوصول إلى .... ونهائية بالوصول إلى ... محققاً الهدف من العملية من خلال نسقين: النسق الأول: يتكون من ...... والثاني: من .....، وذلك من خلال (2) ضربتين رئيستين في اتجاه الجانب الأيسر، وفرعيتين في اتجاه الجانب الأيمن، مركِّزاً المجهود الرئيس على الجانب الأيسر ...إلخ.
ولعل أفضل وأحدث مثال على ذلك هو عملية (عاصفة الصحراء) لتحرير الكويت، حيث كانت خطة التحالف أو الائتلاف على وجه الدقة هي: القيام بعملية هجومية استراتيجية في نسق استراتيجي واحد واحتياط، من خلال توجيه عدة ضربات رئيسة عميقة وأخرى قريبة، كانت الضربة الرئيسة فيها تتم بقوات الفيلق الثامن عشر على الجانب الأيسر من داخل الأراضي العراقية، وأخرى رئيسة بقوات الفيلق السابع أيضاً على الجانب الأيسر من الداخل، مجاوراً للحدود الكويتية، وعدد (3) ضربات أخرى من اليسار لليمين، ضربة مصرية (بقوة فرقتين)، وضربة سعودية كويتية سورية (بقوة فرقتين)، و (3) لواءات، ثم ضربة بقوات مشاة البحرية (بقوة فرقتين)، ثم ضربة سعودية مع قوات مجلس التعاون الخليجي على الساحل.
ونظراً لزيادة عدد الضربات في هذه العملية، فقد تم تقسيم نطاق الهجوم إلى عدة قطاعات، بحيث يحتوي كل قطاع على (من 2 3) ضربات، كما تم تقسيم مواجهة الحدود الكويتية إلى ثلاثة قطاعات تابعة لقيادة القوات المشتركة ومسرح العمليات، وكان كل قطاع منها يحتوي على ضربتين. وقد كان هذا التقسيم من أجل سهولة القيادة، والسيطرة على المسرح، وضماناً لتنفيذ المهام دون تداخل بين مناطق عمل القوات، ودون الدخول في تفاصيل العملية، فإن تفصيل الضربات والتخطيط لها وهو موضوعنا كان قمة في الفن والعلم العسكريين من جانب قيادات التحالف والقوات المشتركة، مما انطبع على نجاح العملية وإنجازها في ذلك الوقت القياسي، وهو المائة ساعة من 25 28 فبراير 1991م.
والسؤال المنطقي هنا من جانب القارئ الكريم هو: لماذا تُرسَم أسهم الضربات وبينها فواصل على خريطة الضربات؟ ولماذا تصل نهايات الأسهم إلى نقاط مختلفة العمق من الخط الأمامي لدفاعات العدو؟ والسبب بوضوح هو أنه على المستوى الاستراتيجي والعملياتي فإنه عادة ما لم يتم الالتزام بالمسافات بين الوحدات الفرعية الصغرى، وهي الفصيلة، والسرية، والكتيبة، بمعنى أنه عندما يُحدَّد منطقة لهجوم الكتيبة تكون في العادة هي مواجهة سرية مشاة، وقطاع هجوم اللواء يكون مواجهة كتيبة معادية... وهكذا، ولكن على المستويات العليا حينما نريد أن نهاجم مثلاً على مواجهة (300) كلم فعادة لا يضع العدو فيها (100) لواء، باعتبار أن كل منها يحتل (3) كلم، لأنه عادة ما تكون الأرض غير صالحة كلها للدفاع التقليدي، فضلاً عن عدم وجود قوات تكفي لاستخدام هذا الأسلوب في الحساب، ولذا فإنه على المستويات الكبرى تُخصص القوات للهجوم على محاور تحقق تعاوناً فيما بينها، كما أنه يصعب أو يستحيل توفير قوات لتغطية هجوم كل المواجهة، ولذا فإنه تُخصص القوات للهجوم على المحاور، وعلى أكثر الاتجاهات ضعفاً للعدو، ومن ثم تُرسم الأسهم عليها وعلى المسافات والأعماق التي تفرضها المحاور وقوات العدو، وهذا ما يُطلَق عليه: الضربات العسكرية، وهذا يصدق علي التعريف السابق بأنها هي مكونات العملية العسكرية.
وحتى يكتمل تعريف الضربة، فإن الضربة هي عبارة عن مزيج من الحركة والنيران، أي أن قوات الضربة القائمة بالهجوم يجب أن تتميز بأنها قائمة دائماً بأعمال الحركة، أي المناورة من مكان إلى آخر، لتحسين أوضاعها الهجومية طولية وعرضية، فضلاً عن تمتعها بقوة نيران كبيرة، سواء كانت هذه النيران برية من المدفعيات والصواريخ، أو جوية من القاذفات والقاذفات المقاتلة والمروحيات المسلحة بالصواريخ المضادة للدبابات؛ أو من نيران البحرية، سواء المدمرات، أو الفرقاطات، أو البوارج، أو غيرها؛ سيما في حالة مهاجمة القوات بحذاء الساحل الكويتي في اتجاه العاصمة الكويت. وهنا يجب ملاحظة شيء هام، وهو أن عملية طي الأرض وحدها لا تكفي لتحقيق المهام والأهداف، لأن ترك العدو بدون إنزال عقوبة النيران عليه تجعله يناور ويقابلك بعد ذلك في العمق، أي أنه يجب أن يكون هناك توازن فيما بين المناورة وطي الأرض والنيران.
ويعتقد كثير من القادة أن سرعة الوصول إلى عمق العدو بالتعاون مع الضربات الأخرى، يمكن أن يوقعه في الحصار، ويمكن تركه للأنساق الثانية لتدميره في عملية منفصلة عن عملية الهجوم. وعموماً لا توجد أخطاء في مفاهيم الفن العسكري واستخدامه، لأن كل موقف يكون له ما يبرره، والقائد الميداني عادة ما تكون له قرارات يجب أن تحترم من جانب القيادة الأعلى ولا يفرض عليه ما يرفضه، ولكن يُترك له هامش للمناقشة والإقناع، وعموماً هناك مقولة فلسفية عسكرية مؤداها: أنه كلما قل المستوى العسكري المُنفِّذ، كلما قلّت درجة مرونته لضيق مواجهة هجومة واعتياده كليةً على مستوى تدريب أفراده؛ وكلما زاد المستوى العسكري المُنفِّذ، كلما زادت المرونة نتيجة لتفعيل الفن والإبداع العسكري، وأن معركته ستكون معركة عقول أكثر مما هي معركة مستويات تدريبية وتكتيكات، والتزام بقوانين القتال الموضوعة.
مكوّنات العملية العسكرية
تتكون العملية الاستراتيجية {مستوى القوات المسلّحة غالباً} من عملية واحدة أو عمليتين، يمكن أن تكونا في اتجاه استراتيجي واحد، ولكن لكلٍ منهما نطاق هجومي، بحيث يكون مجموع مواجهة النطاقين مساوياً للمواجهة الكلية للقوات المسلحة، كما يمكن في هذه الحالة أن يكون عمق العملية الواحدة مساوياً لعمق العملية الاستراتيجية للقوات المسلحة. وقد تكون العمليات متتابعة، أي تتم الأولى لتحقيق المهمة المباشرة للقوات المسلحة، في حين تدفع الثانية لاستكمال المهمة العامة، ويطلق عليها المهمة النهائية للقوات المسلحة، والتي عادة ما تنطبق على الحدود السياسية للدولة. كما يمكن أن تُنفّذ المهمة المباشرة من خلال عمليتين تعبويتين متوازيتين، ثم تدفع قوات النسق الثاني مستندة على خط المهمة المباشرة للعمليات التعبوية، لتحقيق المهمة النهائية، وليس بالضرورة أن تكون على كل المواجهة، بمعنى أنها يمكن أن تكون على اتجاه واحد لاستكمال تدمير القوات المعادية واستعادة خط الحدود السياسية. وعادة ما تحتوي خطوط المهام المباشرة على أهداف حيوية استراتيجية، مثل: المدن السياسية، أو الإدارية، أو الاقتصادية... أو غيرها، أو موانئ بحرية هامة، أو قواعد جوية، أو مجموعة منها.
وكما أن هناك عمليات عسكرية برية، فإن هناك عمليات أفرع رئيسة للقوات المسلحة مستقلة، ويُطلق عليها المسمَّى نفسه، كأن تكون عملية جوية مستقلة، وقد تكون مدعومة بقوات بحرية أو برية صغيرة نسبياً بحسب طبيعة ومهام العملية .. وهكذا. ولعل هذا ليس غريباً، فلدينا في التاريخ أمثلة جيدة عن العمليات المستقلة للأفرع الرئيسة، فمثلاً الحرب الجوية التي سبقت عملية عاصفة الصحراء لتحرير الكويت، وهي هنا حرب لأنه قد اشترك فيها أكثر من (4000) طائرة من قواعد عدة في الخليج، ومن سطح الأسطول، ومن المحيط الهندي (دييجو جارسيا)، ومن البحر الأحمر، وشرق البحر المتوسط، ولندن، والقواعد الخاصة بملف الناتو في أوروبا؛ وكذا الضربة الجوية التي قام بها الأطلسي في كوسوفو والصرب بسبب التمييز والتطهير العرقي ضد المسلمين هناك وكذا الضربة الجوية لقوات الائتلاف ضد العراق عام 1992م لعدم التزامه بمنطقة الحظر الجوي المفروضة على طائراته، وهو المهزوم في الحرب. ومن الأمثلة على العمليات البحرية المستقلة: عملية الإنزال البحري الأمريكي على سواحل (مقاديشو) في الصومال عام 1997م، وهناك عمليات تاريخية، مثل: ضرب جزر (هاواي) عام 1941م بواسطة القوات الجوية اليابانية، حيث ألحقت اليابان بالولايات المتحدة ضربة أفقدتها السيطرة في المحيط الهادي.
وتتكون العملية العسكرية التعبوية من موقعة أو أكثر، بحسب سير العمليات ومعارك وأعمال قتال، وتتألف الموقعة من مجموعات معارك، والمعركة من مجموعة من أعمال القتال. والموقعة أكبر من المعركة، وأصغر من العملية العسكرية، وأقرب مثال لها هو عندما يقوم قائد الفيلق بدفع فرقة النسق الثاني المدعومة لتطوير هجوم فرق النسق الأول التي حققت مهامها، فإنه يطلق على قيادته للنسق الثاني بقيادة الموقعة.
ومن هذا العرض يتضح أن فِرَق النسق الأول تقوم بمعارك ضد العدو، في حين أن لواءاتها تقوم بأعمال قتال، والعملية تستغرق من (5 10) أيام، والموقعة قد تستغرق من 2 3 أيام، في حين أن المعركة للفرقة تحدد مهمتها بيوم واحد ويجدد بحسب الموقف، سواء للفرقة نفسها أو استبدالها، أما اللواء الذي يقوم بأعمال قتال، فإن مهمته تحدد بعدة ساعات، وكل هذا مرتبط بالمستويات اللوجيستية التي يحملها اللواء والفرقة .. وهكذا.
أنواع الضربات العسكرية من حيث التخطيط وعلاقتها بالعدو
الضربات الجبهية، وهي تلك الضربات التي تحددها طبيعة المسرح والأرض، ولا توجد فيها مرونة كبيرة، لتوجيهها من أحد الأجناب، أو من الجنبين معاً، وتكون فيها مواجهة العدو كلها صالحة للهجوم، وفيها ظهور متبادل فيما بينها وبين بعضها، ولعل أقرب مثال ونموذج عن تطبيق ذلك هو ما حدث في حرب أكتوبر 1973م من عبور قناة السويس إلى الشاطئ الشرقي، حيث كان لإسرائيل خطوط دفاعية متصلة وحصينة على طول المواجهة التي بلغت (160) كلم في ذاك الوقت، مما أجبر المصريين على تنفيذ الضربات جميعاً بالمواجهة على طول الجبهة، ورغم أن ذلك كان يفقد القوات المصرية عنصر المفاجأة، إلاّ أنها استطاعت من خلال خطة خداع استراتيجي تعبوي تكتيكي أن تخدع العدو عن وجود نية للحرب من جانب المصريين، أما الضربات على الجنب أو الأجناب فهي تحقِّق ميزة كبيرة للغاية في المناورة والتعاون مع القوات القائمة بالضربة الأمامية، كما أنها تحقق قدراً كبيراً من المفاجأة، وحصر إمكانات الطرف الآخر في المناورة وتوجيهها إلى مناطق قتل مدبَّرة، وهذا ما حدث تماماً من جانب أعمال الفيلق الثامن عشر بالتعاون مع الفرقة الفرنسية التي كانت تقوم بتأمين الجانب الأيسر للفيلق، فضلاً عن تعاون الفيلق (18) أمريكي مع الفيلق السابع المختلط القائم بالهجوم بالمواجهة نسبياً. وعموماً فإن ضربات الجنب لها مسميات عديدة ومهام متنوعة وأعماق مختلفة، ولكن بشرط أن تتعاون إما فيما بينها إذا كانت الفكرة مبنية على ذلك، أو فيما بينها وبين قوات الضربة الأمامية لتحقيق أفضل النتائج وأسرعها.
وكما أنه توجد هناك ضربات مختلفة الأسماء، ففي الوقت نفسه توجد هناك ضربات مضادة، وهي الأعمال التي يقوم بها المدافِع لتدمير العدو المخترق بعد إيقافه وحصاره، وتنطبق عليها المسميات نفسها، حيث إن الإجراء الرئيس الذي يقوم به قائد الفيلق المدافع هو القيام بالضربة المضادة، ويطلق عليها هنا الموقعة الرئيسة؛ وفي حالة تحقيق نجاح كبير في هذه الموقعة أو الضربة المضادة، يمكن التحوُّل للهجوم ومطاردة العدو حتى خط الحدود السياسية، وهذه الحالة الإيجابية لا تتم إلاّ بموافقة القائد العام للقوات المسلحة، لأن فيها قدراً من المخاطرة يتطلب قراراً سيادياً واضحاً، وأهم مثال قريب عن هذا الموضوع هو عندما نجح قائد قوات التحالف في مطاردة العراقيين حتى دخلوا إلى حدودهم الجنوبية في البصرة، كان القائد الأمريكي (شوارتسكوف) يرغب في اتخاذ خط داخل الأراضي العراقية، ولكن الرئيس (بوش) الأب باعتباره قائد ومنسّق قوات الحلفاء الأعلى رفض ذلك، وخشي من دخول سياسي قد يعقِّد الأصول الدبلوماسية والشرعية للعملية، واعتبر أن ما تحقق يعتبر حلماً كبيراً، قياساً بالنتائج المبهرة وضعف الخسائر لأقل من الحدود الدنيا. وبطبيعة الحال يتخذ مثل هذا الخط داخل أراضي الطرف الآخر بهدف إما: التفاوض على أي مسألة معلقة، أو للضغط من أجل تمرير موضوع معين.
والنوع الثالث: هو الضربات المسبقة والضربات الوقائية، وكلاهما يتم شنّه على العدو قبل ما يقوم بأعماله التعرّضية ضد قواتنا، فالضربة المسبقة أو ما يُطلق عليها الاستباقية أحياناً تشن على العدو في ميدان العمليات بعد ما يجهّز نفسه تماماً للأعمال التعرّضية، بحيث يمكن للضربة المسبقة في هذه الحالة أن تحبط العملية الهجومية تماماً، أو جزئياً، أو تؤخرها، وفي جميع الأحوال، فهذا يعود بالنفع على قواتنا، وبطبيعة الحال يشكِّل لها تجميع من القوات يختلف عن تجميع القوات المهاجمة، والتجميع باختصار يعتمد اعتماداً رئيساً على الطيران، والصواريخ، وأحياناً البحرية إذا كان المكان قريباً من الساحل وبعض الوحدات المدرعة، وقد يشترك بها بعض الوحدات المُبَرّة جواً، ويطلق عليها باللغة الإنجليزية Pri-Impitive Blow. وعادة ما تركّز الضربة المسبقة على الأنساق الأولى، ومراكز القيادة والسيطرة، والأهداف الحيوية القريبة من خط الجبهة، مثل: المطارات، والموانئ، والمدن السياسية والإدارية... وغيرها، وعادة ما تتم هذه العملية أثناء الفترة أو المرحلة الافتتاحية للحرب، والمرحلة الافتتاحية تُعرَّف بأنها هي الفاصل الزمني بين بدء أعمال القتال، ودفع القوات الرئيسة لميدان العمليات ، وعادة ما يحدد للضربة المسبقة حجم التدمير المطلوب في العدو، وهي النسب التالية:
أمالضربة الوقائية، فتتم في غير أوقات الحرب بهدف إحباط نية العدو في شن الحرب مستقبلاً، أي أنه يمكن أن تتم في السلم قبل النوايا المحتملة للعدو، أي في غضون عدة أشهر أو عدة سنوات، في حين أن الضربة المسبقة تتم قبل هجومه بعدة أيام، وأفضل مثال عن الضربة الوقائية هو ضرب المفاعل النووي العراقي عام 1981م بواسطة إسرائيل.
عناصر ومكونات الضربة
المقصود هنا من هذا الموضوع هو التعرُّض لشكل عناصر ومكونات الضربة، ليس من جانب حجم القوات المشتركة، ولكن من ناحية شكل المكوِّن الرئيس للضربة، وهو المناورة والنيران اللتان تتحدان لتنفيذ هدف واحد ومهمة واحدة، ويشترط في استخدامهما تحقيق التوازن العام فيما بين قواتهما، بحيث لا تتفوق إحداهما على الثانية إلاّ في حدود ضيقة، ربما تخدم طبيعة تطوُّر الموقف في ميدان المعركة.
فالنيران تبدأ بها المعركة وتنتهي بها، وتتخللها المناورة بطبيعة الحال، وتعتبر قدرات ومهارات القادة هي العامل الحاسم في تحقيق النصر من خلال القدرات الإبداعية أو الفنية لهم، ولذا إذا وضعنا عدداً من القادة تحت الظروف نفسها من حيث الأرض والقوات والنيران؛ فإن النتائج ستكون مختلفة، لأنها لن تعتمد فقط على العلوم العسكرية وقوانين خدمة الميدان، ولكنها سوف تعتمد على الفروق الفردية بينهم Individual Diferenes، وهذا مما يفسر كيف ينجح قادة ويفشل آخرون، أو كيف ينجح قادة أكثر من غيرهم. وتعتبر النيران هي جوهر ومضمون أعمال القتال في الميدان، ولذا فإن توقيع عقوبة الجزاء النيراني على العدو هي العامل المؤثّر الذي يساعد على تحقيق المبادرة من خلال المناورات التي يجب أن تسبقها النيران، وتصاحبها وتستر انسحابها عند الضرورة؛ والنيران تنتج من كافة أسلحة القوات المسلحة الجوية، والبحرية، والبرية، والصاروخية التي يجب أن تنسِّق جيداً فيما بينها، لتحقيق أكبر تأثير ممكن على العدو.
أما المناورة، فقد أضافت بعداً جديداً في مفهوم مضاعفة القوة، وهو الأمر الذي يمكن تكراره في عملية واحدة من خلال استخدام وحدات الإبرار الجوي، وقوات المظليين، والصاعقة، باستخدام وسائل النقل الحديثة، وهي: الطائرات، والعموديات، والعموديات المسلحة. وعادة ما تتم المناورة بهدف النقل المنظّم لأعمال القتال من مكان لآخر، لتحقيق أفضل فائدة ممكنة من خصائصها التكتيكية والفنية، أي أنها تعتبر أسلوب اقتراب غير مباشر وسريع من أهداف وتجميعات العدو المتمركزة في عمق الدفاعات، كما أنها تجري بغرض مواجهة النقص، أو الخلل المفاجئ في حجم القوات، والتغيُّر الحاد في الموقف العملياتي في المسرح؛ وعموماً فإن المناورة هي الآلية الوحيدة التي تمكِّن القائد من الوصول إلى أجناب ومؤخرة العدو، وتحرمه من التفكير المنظّم لمواجهة أعمال قواتنا، وتمنعه من عمليات إعادة التجميع لمواجهة التقلُّب الحاد في الموقف الذي فرضته مناورة قواتنا الناجحة.
وللمناورة أشكال عديدة، فهي تتم إما على هيئة التفاف، أو تطويق، أو أمامية؛ فالالتفاف يتم على أجناب ومؤخرة العدو في تعاون نيراني وتكتيكي مع القوات العاملة في المواجهة، بمعنى أن تكون الأسلحة الموجودة لدى الطرفين قادرة على الوصول لعمق الطرف الآخر، ومن ثم معاونته وتأمينه؛ أما التعاون التكتيكي، فيعني أن يكون في قدرة القوات المتعاونة الإمكانات التكتيكية، مثل: المواجهات، والأعماق، والمدرعات، والمركبات، والمستويات اللوجيستية المحمولة معهم، والتي تمكنهم من القتال مستقلاً حتى تحقيق المهام الموضوعة لهم، ولذا فإن عملية التعاون عادة ما تكون مرتبطة بالمهمة المباشرة للفرقة أو اللواء مثلاً، وهي تتم في الهجوم كما تتم أيضاً في الدفاع عند التمكّن من حصار العدو بعد اختراقه للدفاعات. هذا بالنسبة للالتفاف، أما التطويق فهو التفاف أكثر عمقاً، ويمكن لعمليات التطويق أن تقوم بالكثير بشرط توفُّر القائد المبدع وليس القائد العلمي فقط؛ فيمكن للقوات القائمة بالتطويق أن تقوم بضرب الأنساق الثانية وحرمانها من القيام بالضربات المضادة التي يمكنها أن تحسم العملية، كما يمكنها فصل وتجزئة هذه الأنساق عن بعضها. وغالباً ما تقع أعمال حصار للعدو نتيجة للتطويق الناجح، وقد تكون القوات المحاصرة كبيرة، كما وصلت في معارك شمال أفريقيا إلى حجم فيلق، نتيجة نجاح القائد البريطاني (مونتجمري) في القيام بعمليات مناورة بعيدة المدى في الشمال الأفريقي، ولذا فليس غريباً على (مونتجمري وروميل) أن يُطلق عليهما ألقاب عديدة تؤكّد قدرتهما على الفن والعلم معاً، وتوظيفهما في سيمفونية جميلة للخروج بخطط عمليات غير تقليدية كان لها أكبر الأثر في قلب ميزان القوى في ذلك المسرح عدة مرات أثناء فترة الحرب
العالمية الثانية. وكما قلنا من قبل: إن هذا الإبداع، وتلك المرونة، يزدادان كلما كبر المستوى للقوات المنفِّذة والعكس صحيح. أما المناورة الأمامية فتتم من خلال عمليات الاختراق، أو التسلل، أو القتال التعطيلي، أو الارتداد عند اللجوء إليه؛ والتسلل هو تحرُّك مستتر للقوات، والقتال التعطيلي هو ما يتم أمام الدفاعات؛ والتخلُّص طواعية من موقف غير مناسب يعتبر ارتداداً لاتخاذ أوضاع أفضل تتيح للقوات حرية العمل فيما بعد؛ والارتداد هو عملية عسكرية كاملة الأركان من حيث التحضير، والتنظيم، والإدارة.
علاقة الضربة بالعملية والحرب
الحرب هي الصورة الشاملة والكاملة للصراع، لأن الحرب لا تُعدّ لها القوات المسلحة فحسب، ولكن أيضاً الاقتصاد، والشعب، والسياسة، وأراضي الدولة، أي أن كل العناصر السابقة تُعدّ وتدعم القوات المسلحة في الحرب، ولكن بطبيعة الحال فإن العسكرية تتبع السياسة، بمعنى أن السياسة والاستراتيجية العامة للدولة هي الأساس، بحيث إذا لم تنجح في تحقيقها بالوسائل الدبلوماسية فإنها تلجأ للقوات العسكرية لتنفيذها، ويعدّ مثال مصر في صراعها مع إسرائيل دليلاً واضحاً على هذا المفهوم، لأنه بعد صدور قرار مجلس الأمن رقم (242) لإعادة الأراضي العربية التي احتلتها إسرائيل في حرب 1967م، لم تنفِّذ إسرائيل القرار، وعند زيادة وطأة حرب الاستنزاف المصرية ضد إسرائيل، خصوصاً بعد معركة (رأس العش) في يونيو 1967م وهو شهر الانسحاب والتي تمت في وضح النهار وحصلت فيها القوات المصرية على أول أسير إسرائيلي؛ وكذا قيام القوات الجوية المصرية بضربة جوية مركّزة في يوم 14 يوليو 1967م أسقطت فيها الطائرات الفانتوم الإسرائيلية الأمريكية الصنع، الأمر الذي دفع الولايات المتحدة لأن يتقدم وزير خارجيتها (روجرز) بمبادرته الخامسة، لتنفيذ القرار الذي لم توافق عليه إسرائيل في المبادرات الأربع السابقة، والذي وافقت عليها إسرائيل لتقوم بالانسحاب بعد زيادة خسائرها في انسحابها عند الضرورة، والنيران الاستنزاف. ثم بعد إغراق مدمرتها إيلات في أكتوبر 1967م، حيث كانت أول حرب صاروخية بحرية تُستخدم فيها الصواريخ البحرية، كل هذا قد أدى بعد موافقة إسرائيل على مبادرة تنفيذ القرار إلى توقُّف الوسائل العسكرية في الصراع، حيث توقّف إطلاق النيران بين الطرفين وبدأت الجهود الدبلوماسية، حيث إن أهداف الحرب السياسية هي تحرير شبه جزيرة سيناء، وهو ما يؤكد تبعية العسكرية للسياسة.
أما العملية فهي إما تعبوية (عملياتية) أو استراتيجية، وما يتبادر هنا إلى الذهن، فما هو إذن الفرق بين الحرب والعملية الاستراتيجية؟ الواقع أن العملية الاستراتيجية تقودها القوات المسلحة، وأقصد القائد العام، ولكن في اتجاه استراتيجي واحد، فمثلاً في مصر الاتجاه الاستراتيجي هو الشمال الشرقي، بالإضافة إلى الاتجاه الغربي والجنوبي، ولكن في هذه الحالة لا تستخدم القوات المسلحة بالكامل وليست بكل إمكاناتها، أما الحرب فإن مواجهتها أكبر، وأعماقها أكبر، والإعداد السياسي والاقتصادي والاجتماعي والمعنوي أكبر، ويقودها القائد الأعلى للقوات المسلحة من خلال مجلس أعلى للحرب، أو الدفاع حسب دستور الدولة وغالباً ما يكون هو أكبر سلطة في البلاد: إما رئيس الجمهورية، أو سلطان، أو ملك، أو أمير للبلاد.
وقد تتكون العملية الاستراتيجية من عدة عمليات تعبوية، وذلك بحسب مسرح العمليات، وطبيعة الأرض، وعدد الأهداف الحيوية الهامة، كما ورد ذكرها من قبل. وقد تشتمل الحرب على عدة مسارح عمليات يُطلق عليها جميعاً مسرح الحرب لمجموعة من الدول المتعاونة، والتي غالباً ما تكون متجاورة جغرافياً، هذا فضلاً عن احتمال أن يشترك معهم بعض الحلفاء أو الدول الشقيقة أو الصديقة. هذا عن علاقة العملية بالحرب، أما الضربة فهي جزء من العملية سواء التعبوية أو الاستراتيجية، أي أن الضربة يمكن لها أن تحتوي على عدة ضربات، كما ورد ذكره في نموذج عاصفة الصحراء في حرب تحرير الكويت عام 1990-1991م، وفي عملية غزو العراق عام 2003م، المعروفة بعملية "حرية العراق"، فقد كانت الخطة موضوعة على أساس توجيه ضربة تعبوية من الجنوب بواسطة الفرقة (3) مشاة الميكانيكية، وتقابلها الفرقة (4) الميكانيكية من الشمال من الاتجاه التركي، فضلاً عن ضربتين أخريين، الأولى بواسطة فرقة (1)، والفرقة (2) مشاة أسطول عبرالأهواز على الجانب الأيمن، الفرقة (82)، الفرقة (101) إبرار جوي من الغرب على الاتجاه العام غرب بغداد، وحيث إن التعداد العام للقوات كان في حدود (140) ألف رجل. فالعملية من ناحية الحجم تعتبر تعبوية، في حين أن القيادة كانت استراتيجية، ويمكن أن يُطلق عليها عموماً: (ضربة استراتيجية)، على أساس أنها ترتبط أساساً بالموقف السياسي والحلفاء، وما إلى غير ذلك.
خاتمة
تُعدّ الأسس العامة، وقوانين القتال، وقواعد خدمة الميدان هي المرشد والموجّه الأساس للتخطيط للحرب والعملية بنوعيها، وكذلك للضربات والموقعات والمعارك وأعمال القتال في النهاية، ولكن ما تجب الإشارة إليه هو عدم حرمان القادة على المستويات العليا وضباط الأركان العامة والخاصة من حرية الرأي فيما يتعلق باستخدام القوات، والمعروف عنهم أساساً المهارات والإبداعات، مع الارتباط بالأسس العسكرية العلمية للتخطيط، طالما أن أفكارهم مُبرّرة وتنال استحسان جموع ضباط هيئات القيادة والأركان. ولعلي لا أبالغ لو قلت إن خطة التحالف في عاصفة الصحراء مأخوذة عن قانون القتال الأمريكي الذي تم تطويره عقب حرب أكتوبر 1973م في 20-8-1982م، ومرة ثانية في عام 1983م، وعُرف باسم FM 100-15، وتناوله أيضاً حلف شمال الأطلسي، حيث عمَّق المفهوم الأمريكي للوصول إلى فكر يتلاءم مع قدرات وإمكانات القوات العاملة في المسرح الأوروبي، حيث أُطلق عليها أي على هذه النظرية "نظرية قتال الأنساق الثانية"، وكلتا النظريتين تتحدان في ضرورة قتال الأنساق الثانية في وقت مبكر، إما مع الأنساق الأولى أو قبلها أو بعدها بوقت قليل قبل دفعها للاشتباك، ولكنهما تختلفان في الوسائل لتنفيذ ذلك، وهذا موضوع آخر يناسب المسارح الصحراوية في منطقة الشرق الأسط قاطبة، ومأخوذة عن نماذج المناورة الأمريكية في (الكروكيات) المرفقة، وهذا ليس بخطأ لأن هذه القوانين بملحقاتها قد وضعت للاستعانة في تخطيط العمليات، باعتبار أنها ناتج دروس الحروب السابقة ليس في أمريكا وحدها، بل في كل العالم، ولولا تطبيق هذه الإرشادات ما نجحت قوات الائتلاف من قوات مشتركة عربية وتحالف في تحقيق ذلك النصر الباهر بكل المقاييس المعروفة
المراجع:
1. موسوعة تاريخ العالم، الجزء الأول، وليم لانجر، ترجمة: د. محمد زيادة، مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة.
2. أوروبا في القرنين 19 و 20 أ.ج جرانت، هارولد تمبرلي، ترجمة: بهاء فهمي، وعزت عبدالكريم، الناشر: مؤسسة سجل العرب، الطبعة السادسة.
3. كتاب: "الجغرافيا العسكرية للشرق الأوسط"، القاهرة، وزارة الدفاع المصرية.
4. كتاب: "مقاتل من الصحراء"، الفريق الأول- خالد بن سلطان، القاهرة، 1996م.
5. التقريرالاستراتيجي الخليجي، مجلس التعاون، الرياض 2000م.
6. عناصر القوة الظاهرة للدولة، د. سمير بهاء الدين، القاهرة، 1988م.
7. مقالة: "النظام العالمي والحرب الباردة"، مجلة الحرس الوطني السعودي، مارس 2001م، الرياض، اللواء الركن- كمال شديد.
8. "الحرب الباردة وحروب الأمم المتحدة"، مارس، وأبريل 2000م، مجلة الجندي، دبي، اللواء الركن- كمال شديد.
9. "الحرب والعولمة"، 6 أجزاء من يناير يونيو 2001م، دبي، المؤلف نفسه.
10. الدفاع المتحرك في المسارح الصحراوية، الحرس الوطني السعودي، يونيو 2000م، الرياض، المؤلف نفسه.
11. مجموعة مؤلفات عديدة للمؤلف عن الموضوع نفسه.
http://www.kkmaq.gov.sa/Detail.asp?InNewsItemID=189377