لماذا يحاربون اللغة العربية ؟!
الدكتور عدنان علي رضا النحوي
الدكتور عدنان علي رضا النحوي
ليست الحرب على اللغة العربيّة ناشئة بسبب اللغة العربية نفسها ، وليست هي المقصودة أساساً بالحرب . إنها جزء من مشروع متكامل عمل عليه أعداء الإسلام طويلاً ، مستفيدين من تجاربهم الطويلة مع الإسلام والمسلمين . إنها الحرب الممتدّة على الإسلام وما يمتُّ له بصلة .
لقد بدأت الحرب على الإسلام منذ اللحظة الأولى لبعثة النبيّ محمد صلى الله عليه وسلم، بدأ هذه الحرب مشركو قريش ومن تبعهم من قبائل الجزيرة العربية . ثمَّ انضمَّ إلى المعركة اليهود الذين أحسن إليهم الإسلام وعدل معهم . وشارك في هذه الحرب الممتدّة على الإسلام المنافقون من العرب الذين أظهروا الإيمان وأخفوا الكفر ، والذين كشفهم الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم وسنَّة نبيّه محمد صلى الله عليه وسلم ، وكشفتهم مواقفهم في كثير من الأحداث . ثمَّ انضمَّ إلى هذه الجبهة الدول الكبرى القائمة آنذاك : الرومان والفرس . وكتب الله النصر للمؤمنين المتقين الصادقين في هذه المعركة الممتدّة ، وهزم آنذاك جميع هؤلاء وأعزَّ الله دينه ، وقامت أمته ـ أمة الإسلام تحمل رسالة الله إلى النَّاس كافّة كما أُنْزلت على محمد صلى الله عليه وسلم، وعد الله المؤمنين الصادقين وهم صفّ واحد كالبنيان المرصوص بالنصر ، إذا توافرت فيهم شروط الإيمان المفصّلة في الكتاب والسنَّة ، وعداً حقاً من الله سبحانه وتعالى.
وامتدت هذه الحرب على الإسلام على مدى السنين لم تتوقف أبداً وإنما أخذت صوراً متعددة وأساليب متطورة تحمل الحقد والتصميم . وظلت هذه الفئات نفسها تقود المعركة ، يبرز واحد منها في عصر ، ويبرز آخر في عصر آخر ، ويجتمعون كلهم حيناً آخر ، كما اجتمعوا في معركة الأحزاب . وكأنَّ معركة الأحزاب حول المدينة المنورة ماضية مع التاريخ . هذه الفئات : الكافرون والمشركون ، المنافقون ، أهل الكتاب ، الدول الكبرى .
ما سبب هذه الحرب وما سبب هذا الإصرار ؟! أعتقد أن السبب الرئيس شعور هؤلاء أنَّ الإسلام الذي أُنْزِلَ على محمد صلى الله عليه وسلم يحرمهم من سلطانهم الباغي ، وعدوانهم الظالم ، وأكسبتهم التجربة خبرة في أنه يتعذّر الوصول إلى حل وسط مع هذا الإسلام الذي جاء بالحق المطلق ، يرفض المساومة على أسسه ونهجه ، فلم يكن أمام هؤلاء المجرمين الممتدين في الزمن والأرض إلا محاولة اجتثاث الإسلام والمسلمين ليخلوا لهم الجوّ فيمارسوا الظلم والعدوان ونهب الثروات . ومن أجل ذلك كانوا يضعون الخطط ويجدِّدون الوسائل والأساليب . إنّما كلّ ذلك كان ينحصر في قضايا محددة :
1ـ إثارة الفتن والفساد بين المسلمين بكلِّ أنواعها وأساليبها .
2ـ الغزو العسكري والاحتلال والبطش .
3ـ الغزو الفكري ليبدّل هذا الغزوُ فكرَ المسلمين ويوهن قواهم ويفرّقهم شيعاً وأحزاباً ، وليطرح مبادئ بديلة عن الإسلام كالديمقراطية والعلمانية والاشتراكية والشيوعية والعولمة .
4ـ تجهيل المسلمين بدينهم وبكتاب الله وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم.
نخلص من ذلك إلى أنَّ الحرب هي في الأصل حرب على الإسلام الذي وجدوه يقف أمام أطماعهم وجشعهم وعدوانهم وظلمهم في الأرض ، ونشرهم الفساد والانحلال الجنسي والإباحية ، ونشرهم الإلحاد في الأرض بأساليب متنوعة مغرية ، كالعلمانية وغيرها . ولكن براعة هؤلاء المجرمين لم تقف عند هذا الحد، وإنما برزت في قدرتهم على تزيين هذا الباطل واستدراج الناس إليه بوسائل شيطانية كثيرة ، كادعاء أنَّ العلمانية مساوية للإسلام في مقصودها ، وكمحاولتهم شراء ضمائر الناس ليعينوهم في باطلهم هذا . وقد وجدوا الكثيرين . وإنّما هي فتنة وابتلاء من الله يمحّص بها عباده لتقوم الحجة عليهم أو لهم يوم القيامة .
ومن خلال خبرة هؤلاء المجرمين وطول تجاربهم مع الإسلام والمسلمين وجدوا أنَّ من أهمِّ مصادر قوّة المسلمين تمسّكهم بكتاب الله وسنَّة نبيّه صلى الله عليه وسلم ، وتدبرهما وممارستهما في واقع الحياة . ووجدوا أنَّ مصدر هذا التمسّك بالكتاب والسنَّة عاملان رئيسان :
أولهما : صدق الإيمان بالله واليوم الآخر .
وثانيهما : اللغة العربيَّة التي نزل بها الوحي الكريم قرآناً على محمّد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين .
إذن فليوهنوا إيمان المسلمين بشتى الوسائل ، وليوهنوا صلتهم باللغة العربية التي بها وحدها يتلى كتاب الله ويتدبّر . ومن هنا بدأت الحرب على اللغة العربية حرباً شرساً يخطط لها شياطين الإنس والجنّ ببراعة وصبر ، كما يخططون في الوقت نفسه لتوهين إيمان الناس بالله واليوم الآخر . وهذا المسعى يعين في تحقيق المسعى الآخر ، فتوهين إيمان الناس يساعد على توهين اللغة العربية وتوهين اللغة العربية يساعد على توهين الإيمان والتوحيد في النفوس . بل كان الأمر أخطر من ذلك ، فإنَّ توهين صلة المسلم باللغة العربية وتجهيله بها يعزله كليّة عن الكتاب والسنَّة عزل تلاوة وتدبّر وممارسة . وعزل المسلم عن الكتاب والسنَّة يوهن إيمانه بالله واليوم الآخر . فأصبحت قضية اللغة العربية بالنسبة للإسلام والمسلمين قضيّة أساسية ، قضية حياة أو موت .
هذه المعركة استغرقت قروناً طويلة جداً ، حتى أفلح المجرمون في الأرض في تجهيل بعض المسلمين وعزلهم عن لغة القرآن والسنَّة ، وفي إضعاف إيمانهم بالله واليوم الآخر من خلال جهد دؤوب وإصرار وعزم ، وتخطيط ودراسات ، واشترك قوى كثيرة جداً في تحقيق ذلك .
تاريخ هذه المعركة طويل ، ولكنّه جليٌّ واضحٌ إلا في قلوب الذين فُتِنوا بحضارة الغرب ورأوا أنَّ هذه الحضارة المادية أهمُّ من الإيمان والإسلام . فانتشرت النظرة المادية للحياة معزولة عن الدار الآخرة والموت وما بعد الموت من بعث وحساب وجنَّة ونار . وانتشرت هذه النظرة المادية القاتلة انتشاراً واسعاً. ولم يكن ذلك بسبب مهارة المجرمين في الأرض وحدهم ، ولكنها بسبب وهن المسلمين وضعفهم الذي أخذ يزداد وينمو مع الأيام ، حتى تفرّقوا شيعاً وأحزاباً وأقطاراً ، وأهواءً ومصالح تتصارع ، وحتى وصلوا إلى ما هم عليه اليوم ، من تمزّق وهزائم متلاحقة وضياع أوطان ، وتدمير ديار وتدفّق دماء المجازر والفواجع والنكبات .
فلا عجب بعد ذلك أن ترى اللغة العربية اليوم قد ضعفت ضعفاً مذهلاً بين أبنائها ، فعجمت ألسنة الكثيرين وغلب الجهل بها .
والظاهرة الواضحة العجيبة هي أنَّه مع اشتداد الدعوة إلى القوميّة العربيّة والعروبة وجميع مصطلحاتها ، مع هذه الدعوة ضُرِبَت اللغة العربية وضعفت وبلغت أشد درجات الضعف . ادَّعوا أنَّ اللغة العربية هي التي تجمعنا وليس الدين، فكانت النتيجة أن فقدنا العاملين نسبياً ومرحليّاً . ذلك لأنه لا بدَّ أن ينتصر الإسلام ولا بدَّ أن تنتصر اللغة العربية ، وإنَّما هي مرحلة ابتلاء وتمحيص على سنن لله ثابتة .
هذا الشعار امتدَّ أنشودة ملأت الأسماع والأبصار ، فتحقّق بها الشطر الأول " فلا دين يفرّقنا " ، ولم يتحقق الشطر الثاني عن اللغة العربية : " لسان الضاد يجمعنا بغسان وعدنان " ! فلم يجمعنا اللسان وتفرّقت الأمة ، وقامت دعوات تزيد تمزيق الأمة وتعزلها عن تاريخها ، وعن غسَّان وعدنان !
وتعدّدت القوى التي تحارب اللغة العربية من أفراد وجماعات ومؤسسات ودول ، وحركات فكرية ومذهبية ، وأسوأ ما في الأمر أن غلبت العصبية الوطنية الجاهلية بين بعض المسلمين وشدّتهم إلى مسارات مختلفة ، فزادت الفرقة بين المسلمين ، وزاد تسلل المجرمين . فاستبدلت شعوب لغتها الوطنية بالعربية ، أو استبدلتها بلغات أجنبية ، واستمرَّ هذا الحال يزداد خطوة خطوة ومرحلة مرحلة، حتى صارت بعض اللغات الأجنبية هي الأولى في هذا القطر أو ذاك .
ومما سهّل الأمر انتشار اللغة العامية بين العرب أنفسهم حتى أصبحت هي لغة التخاطب بين الناس . وانحسرت اللغة العربية الفصحى عن واقع المسلمين ، وعن واقع العرب ، وامتدت العامية من خلال تاريخ ليس بالقصير . واقترنت الدعوة إلى اللغة العامية بالدعوة إلى ما يزعمونه من حركات تجديد وإصلاح ، وما هي إلا حركات تهديم وتغريب وتبعية .
ولا نقصد باللغة العامية وجود لحن عند بعض الأفراد ، فتلك ظاهرة قديمة في تاريخ اللغة العربية . فقد روي أن لحن أحدهم بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم فقال : " علّموا أخاكم " . وظهر اللحن مع الدولة الأموية حتى كان بعض الخلفاء يرسلون أولادهم إلى البادية لتستقيم ألسنتهم على اللغة العربية الفصيحة . ولا نقصد بالعامية اللهجات المختلفة التي ظهرت بين القبائل العربية . إنّما نقصد اللغة العامية التي نراها اليوم وقد ابتعدت عن الفصحى بمعظم ألفاظها وتراكيبها حتى كأنها لغة جديدة لا يكاد يكون بينها وبين لغة القرآن صلة إلا صلة واهية لا تعين على تدبر كتاب الله .
وقد اهتمت الدول الغربية باللغة العامية واهتمّت بنشرها بين العرب والمسلمين ، وحرصت على تدريسها لبعض أبنائها كالقناصل وأمثالهم . ففتحت مدارس لتعليم اللغة العربية العامية في إيطاليا والنمسا وفرنسا وروسيا وألمانيا والمجر وإنكلترا وغيرها من البلدان . وأخذ هؤلاء يغذّون العامية في البلاد العربية والإسلامية . ثمَّ تعدّدت اللغة العامية إلى لهجات مختلفة باختلاف الأقطار. وظهر من العرب أنفسهم من وضع كتباً حول اللغة العربية العامية ولهجاتها المختلفة بإيعاز من الدول الأجنبية ، مثل محمد عياد الطنطاوي ، وميخائيل الصباغ ، وأحمد فارس الشدياق ، وآخرون . ثمَّ قامت دراسات حول اللهجات العامية المختلفة كاللهجة المصرية والسورية والعراقية والتونسية والمراكشية وغيرها .(1)
ونلاحظ من تتبع هذا التاريخ الطويل شدة ارتباط محاربة اللغة العربية الفصيحة بمحاربة الإسلام ، وارتباط ذلك كله بالمراحل التي مرَّ بها العالم الإسلامي ، حين أحاطت به القوى الغربية النصرانية من جميع جهاته : من جنوب شرق آسيا إلى الخليج العربي إلى بلاد الشام ، إلى شمال أفريقيا ، حتى وجّهت الضربة الأخيرة في تقسيم العالم الإسلامي ، وعزل العالم العربي عن العالم الإسلامي ، ثمَّ بإسقاط الخلافة الإسلامية في لحظة أصبحت معظم الشعوب الإسلامية واهية مستسلمة أو مخدّرة !
وقامت محاولات وحركات لمحاربة اللغة العربية مثل محاولة تغيير الأحرف العربية إلى أحرف لاتينية ، وتغيير قواعد النحو والصرف ، وتسكين آخر الكلمات للتخلّص من النحو ، ومحاولات أخرى يمكن تتبعها من مصادرها ، ولكنها بصورة عامة فشلت .
ومع شدّة هذه المعركة واحتدامها سراً وعلانية ، فقد وقفت اللغة العربية الفصيحة تتحدَّى هذا الهجوم الشرس ، وتصمد له في المعركة ، والمعركة ما زالت ماضية على أشدها حتى هذه اللحظات ، تستنهض همة المؤمنين الصادقين لينزلوا الميدان بنهج وخطة وعمل واحد .
المعركة واسعة ، والتحديات واسعة أيضاً . فقد اقترنت الدعوة إلى العامية بالحركات الكثيرة التي أخذت تظهر مع القرن التاسع عشر في محاولات منهجيّة لتهديم حياة المسلمين وإيمانهم وفكرهم ولغتهم ، حتى ظهرت حركة الحداثة في مذاهبها المختلفة تدّعي أنها حركة تجديد فكري ولغوي ، وما هي إلا تقليد أعمى للغرب دون وعي ولا حذر . وتبنّت هذه الحركات الدعوة إلى تجديد الأدب العربيّ بقطع صلته بالأدب العربي الإسلامي الصحيح الذي يسمونه الأدب العربي القديم ، والتطلع إلى أدب عربي جديد يرتبط بالغرب وحركاته الأدبية المضطربة التي ترتبط جذورها كلها بالوثنية اليونانية وأساطيرها وخرافاتها .
وقد قامت جمعيات متعددة لحماية اللغة العربية مثل جمعية حماية اللغة العربية في دولة الإمارات العربية المتحدة ، والتي أسست في [ 12/9/1991م] . وهذه خطوة مباركة طيبة في اتجاه العمل المؤسسي الضروري لحماية اللغة العربية .
وكذلك " نهج مدرسة لقاء المؤمنين " التي جعلت اللغة العربية الصحيحة ودراستها والتدريب عليها جزءاً من المنهاج الفردي الذاتي للمسلم ، وكذلك منهج لقاء المؤمنين حيث يُمْنع التكلم بين الأفراد إلا باللغة العربية الصحيحة ، مع التدريب على ذلك ، ومع تعليم اللغة العربية : قواعد وأدباً إسلامياً ، وبلاغة وبياناً، وخطّاً .
(1) د. نفوسة زكريا سعيد : " تاريخ الدعوة إلى العامية وآثارها في مصر " . ط2 1400هـ ـ 1980م .
عن موقع رابطة أدباء الشام
لقد بدأت الحرب على الإسلام منذ اللحظة الأولى لبعثة النبيّ محمد صلى الله عليه وسلم، بدأ هذه الحرب مشركو قريش ومن تبعهم من قبائل الجزيرة العربية . ثمَّ انضمَّ إلى المعركة اليهود الذين أحسن إليهم الإسلام وعدل معهم . وشارك في هذه الحرب الممتدّة على الإسلام المنافقون من العرب الذين أظهروا الإيمان وأخفوا الكفر ، والذين كشفهم الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم وسنَّة نبيّه محمد صلى الله عليه وسلم ، وكشفتهم مواقفهم في كثير من الأحداث . ثمَّ انضمَّ إلى هذه الجبهة الدول الكبرى القائمة آنذاك : الرومان والفرس . وكتب الله النصر للمؤمنين المتقين الصادقين في هذه المعركة الممتدّة ، وهزم آنذاك جميع هؤلاء وأعزَّ الله دينه ، وقامت أمته ـ أمة الإسلام تحمل رسالة الله إلى النَّاس كافّة كما أُنْزلت على محمد صلى الله عليه وسلم، وعد الله المؤمنين الصادقين وهم صفّ واحد كالبنيان المرصوص بالنصر ، إذا توافرت فيهم شروط الإيمان المفصّلة في الكتاب والسنَّة ، وعداً حقاً من الله سبحانه وتعالى.
وامتدت هذه الحرب على الإسلام على مدى السنين لم تتوقف أبداً وإنما أخذت صوراً متعددة وأساليب متطورة تحمل الحقد والتصميم . وظلت هذه الفئات نفسها تقود المعركة ، يبرز واحد منها في عصر ، ويبرز آخر في عصر آخر ، ويجتمعون كلهم حيناً آخر ، كما اجتمعوا في معركة الأحزاب . وكأنَّ معركة الأحزاب حول المدينة المنورة ماضية مع التاريخ . هذه الفئات : الكافرون والمشركون ، المنافقون ، أهل الكتاب ، الدول الكبرى .
ما سبب هذه الحرب وما سبب هذا الإصرار ؟! أعتقد أن السبب الرئيس شعور هؤلاء أنَّ الإسلام الذي أُنْزِلَ على محمد صلى الله عليه وسلم يحرمهم من سلطانهم الباغي ، وعدوانهم الظالم ، وأكسبتهم التجربة خبرة في أنه يتعذّر الوصول إلى حل وسط مع هذا الإسلام الذي جاء بالحق المطلق ، يرفض المساومة على أسسه ونهجه ، فلم يكن أمام هؤلاء المجرمين الممتدين في الزمن والأرض إلا محاولة اجتثاث الإسلام والمسلمين ليخلوا لهم الجوّ فيمارسوا الظلم والعدوان ونهب الثروات . ومن أجل ذلك كانوا يضعون الخطط ويجدِّدون الوسائل والأساليب . إنّما كلّ ذلك كان ينحصر في قضايا محددة :
1ـ إثارة الفتن والفساد بين المسلمين بكلِّ أنواعها وأساليبها .
2ـ الغزو العسكري والاحتلال والبطش .
3ـ الغزو الفكري ليبدّل هذا الغزوُ فكرَ المسلمين ويوهن قواهم ويفرّقهم شيعاً وأحزاباً ، وليطرح مبادئ بديلة عن الإسلام كالديمقراطية والعلمانية والاشتراكية والشيوعية والعولمة .
4ـ تجهيل المسلمين بدينهم وبكتاب الله وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم.
نخلص من ذلك إلى أنَّ الحرب هي في الأصل حرب على الإسلام الذي وجدوه يقف أمام أطماعهم وجشعهم وعدوانهم وظلمهم في الأرض ، ونشرهم الفساد والانحلال الجنسي والإباحية ، ونشرهم الإلحاد في الأرض بأساليب متنوعة مغرية ، كالعلمانية وغيرها . ولكن براعة هؤلاء المجرمين لم تقف عند هذا الحد، وإنما برزت في قدرتهم على تزيين هذا الباطل واستدراج الناس إليه بوسائل شيطانية كثيرة ، كادعاء أنَّ العلمانية مساوية للإسلام في مقصودها ، وكمحاولتهم شراء ضمائر الناس ليعينوهم في باطلهم هذا . وقد وجدوا الكثيرين . وإنّما هي فتنة وابتلاء من الله يمحّص بها عباده لتقوم الحجة عليهم أو لهم يوم القيامة .
ومن خلال خبرة هؤلاء المجرمين وطول تجاربهم مع الإسلام والمسلمين وجدوا أنَّ من أهمِّ مصادر قوّة المسلمين تمسّكهم بكتاب الله وسنَّة نبيّه صلى الله عليه وسلم ، وتدبرهما وممارستهما في واقع الحياة . ووجدوا أنَّ مصدر هذا التمسّك بالكتاب والسنَّة عاملان رئيسان :
أولهما : صدق الإيمان بالله واليوم الآخر .
وثانيهما : اللغة العربيَّة التي نزل بها الوحي الكريم قرآناً على محمّد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين .
إذن فليوهنوا إيمان المسلمين بشتى الوسائل ، وليوهنوا صلتهم باللغة العربية التي بها وحدها يتلى كتاب الله ويتدبّر . ومن هنا بدأت الحرب على اللغة العربية حرباً شرساً يخطط لها شياطين الإنس والجنّ ببراعة وصبر ، كما يخططون في الوقت نفسه لتوهين إيمان الناس بالله واليوم الآخر . وهذا المسعى يعين في تحقيق المسعى الآخر ، فتوهين إيمان الناس يساعد على توهين اللغة العربية وتوهين اللغة العربية يساعد على توهين الإيمان والتوحيد في النفوس . بل كان الأمر أخطر من ذلك ، فإنَّ توهين صلة المسلم باللغة العربية وتجهيله بها يعزله كليّة عن الكتاب والسنَّة عزل تلاوة وتدبّر وممارسة . وعزل المسلم عن الكتاب والسنَّة يوهن إيمانه بالله واليوم الآخر . فأصبحت قضية اللغة العربية بالنسبة للإسلام والمسلمين قضيّة أساسية ، قضية حياة أو موت .
هذه المعركة استغرقت قروناً طويلة جداً ، حتى أفلح المجرمون في الأرض في تجهيل بعض المسلمين وعزلهم عن لغة القرآن والسنَّة ، وفي إضعاف إيمانهم بالله واليوم الآخر من خلال جهد دؤوب وإصرار وعزم ، وتخطيط ودراسات ، واشترك قوى كثيرة جداً في تحقيق ذلك .
تاريخ هذه المعركة طويل ، ولكنّه جليٌّ واضحٌ إلا في قلوب الذين فُتِنوا بحضارة الغرب ورأوا أنَّ هذه الحضارة المادية أهمُّ من الإيمان والإسلام . فانتشرت النظرة المادية للحياة معزولة عن الدار الآخرة والموت وما بعد الموت من بعث وحساب وجنَّة ونار . وانتشرت هذه النظرة المادية القاتلة انتشاراً واسعاً. ولم يكن ذلك بسبب مهارة المجرمين في الأرض وحدهم ، ولكنها بسبب وهن المسلمين وضعفهم الذي أخذ يزداد وينمو مع الأيام ، حتى تفرّقوا شيعاً وأحزاباً وأقطاراً ، وأهواءً ومصالح تتصارع ، وحتى وصلوا إلى ما هم عليه اليوم ، من تمزّق وهزائم متلاحقة وضياع أوطان ، وتدمير ديار وتدفّق دماء المجازر والفواجع والنكبات .
فلا عجب بعد ذلك أن ترى اللغة العربية اليوم قد ضعفت ضعفاً مذهلاً بين أبنائها ، فعجمت ألسنة الكثيرين وغلب الجهل بها .
والظاهرة الواضحة العجيبة هي أنَّه مع اشتداد الدعوة إلى القوميّة العربيّة والعروبة وجميع مصطلحاتها ، مع هذه الدعوة ضُرِبَت اللغة العربية وضعفت وبلغت أشد درجات الضعف . ادَّعوا أنَّ اللغة العربية هي التي تجمعنا وليس الدين، فكانت النتيجة أن فقدنا العاملين نسبياً ومرحليّاً . ذلك لأنه لا بدَّ أن ينتصر الإسلام ولا بدَّ أن تنتصر اللغة العربية ، وإنَّما هي مرحلة ابتلاء وتمحيص على سنن لله ثابتة .
بـلاد العـرب أوطانـي * مـن الشـام لبغـدان
ومـن نجـدٍ إلى يمـنٍ * إلى مصـر فتطـوان
فـلا حـدٌّ يبـاعـدنـا * ولا ديـنٌ يـفـرّقنـا
لسان الضـاد يجمعنـا * بغـسـان وعـدنـان
ومـن نجـدٍ إلى يمـنٍ * إلى مصـر فتطـوان
فـلا حـدٌّ يبـاعـدنـا * ولا ديـنٌ يـفـرّقنـا
لسان الضـاد يجمعنـا * بغـسـان وعـدنـان
هذا الشعار امتدَّ أنشودة ملأت الأسماع والأبصار ، فتحقّق بها الشطر الأول " فلا دين يفرّقنا " ، ولم يتحقق الشطر الثاني عن اللغة العربية : " لسان الضاد يجمعنا بغسان وعدنان " ! فلم يجمعنا اللسان وتفرّقت الأمة ، وقامت دعوات تزيد تمزيق الأمة وتعزلها عن تاريخها ، وعن غسَّان وعدنان !
وتعدّدت القوى التي تحارب اللغة العربية من أفراد وجماعات ومؤسسات ودول ، وحركات فكرية ومذهبية ، وأسوأ ما في الأمر أن غلبت العصبية الوطنية الجاهلية بين بعض المسلمين وشدّتهم إلى مسارات مختلفة ، فزادت الفرقة بين المسلمين ، وزاد تسلل المجرمين . فاستبدلت شعوب لغتها الوطنية بالعربية ، أو استبدلتها بلغات أجنبية ، واستمرَّ هذا الحال يزداد خطوة خطوة ومرحلة مرحلة، حتى صارت بعض اللغات الأجنبية هي الأولى في هذا القطر أو ذاك .
ومما سهّل الأمر انتشار اللغة العامية بين العرب أنفسهم حتى أصبحت هي لغة التخاطب بين الناس . وانحسرت اللغة العربية الفصحى عن واقع المسلمين ، وعن واقع العرب ، وامتدت العامية من خلال تاريخ ليس بالقصير . واقترنت الدعوة إلى اللغة العامية بالدعوة إلى ما يزعمونه من حركات تجديد وإصلاح ، وما هي إلا حركات تهديم وتغريب وتبعية .
ولا نقصد باللغة العامية وجود لحن عند بعض الأفراد ، فتلك ظاهرة قديمة في تاريخ اللغة العربية . فقد روي أن لحن أحدهم بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم فقال : " علّموا أخاكم " . وظهر اللحن مع الدولة الأموية حتى كان بعض الخلفاء يرسلون أولادهم إلى البادية لتستقيم ألسنتهم على اللغة العربية الفصيحة . ولا نقصد بالعامية اللهجات المختلفة التي ظهرت بين القبائل العربية . إنّما نقصد اللغة العامية التي نراها اليوم وقد ابتعدت عن الفصحى بمعظم ألفاظها وتراكيبها حتى كأنها لغة جديدة لا يكاد يكون بينها وبين لغة القرآن صلة إلا صلة واهية لا تعين على تدبر كتاب الله .
وقد اهتمت الدول الغربية باللغة العامية واهتمّت بنشرها بين العرب والمسلمين ، وحرصت على تدريسها لبعض أبنائها كالقناصل وأمثالهم . ففتحت مدارس لتعليم اللغة العربية العامية في إيطاليا والنمسا وفرنسا وروسيا وألمانيا والمجر وإنكلترا وغيرها من البلدان . وأخذ هؤلاء يغذّون العامية في البلاد العربية والإسلامية . ثمَّ تعدّدت اللغة العامية إلى لهجات مختلفة باختلاف الأقطار. وظهر من العرب أنفسهم من وضع كتباً حول اللغة العربية العامية ولهجاتها المختلفة بإيعاز من الدول الأجنبية ، مثل محمد عياد الطنطاوي ، وميخائيل الصباغ ، وأحمد فارس الشدياق ، وآخرون . ثمَّ قامت دراسات حول اللهجات العامية المختلفة كاللهجة المصرية والسورية والعراقية والتونسية والمراكشية وغيرها .(1)
ونلاحظ من تتبع هذا التاريخ الطويل شدة ارتباط محاربة اللغة العربية الفصيحة بمحاربة الإسلام ، وارتباط ذلك كله بالمراحل التي مرَّ بها العالم الإسلامي ، حين أحاطت به القوى الغربية النصرانية من جميع جهاته : من جنوب شرق آسيا إلى الخليج العربي إلى بلاد الشام ، إلى شمال أفريقيا ، حتى وجّهت الضربة الأخيرة في تقسيم العالم الإسلامي ، وعزل العالم العربي عن العالم الإسلامي ، ثمَّ بإسقاط الخلافة الإسلامية في لحظة أصبحت معظم الشعوب الإسلامية واهية مستسلمة أو مخدّرة !
وقامت محاولات وحركات لمحاربة اللغة العربية مثل محاولة تغيير الأحرف العربية إلى أحرف لاتينية ، وتغيير قواعد النحو والصرف ، وتسكين آخر الكلمات للتخلّص من النحو ، ومحاولات أخرى يمكن تتبعها من مصادرها ، ولكنها بصورة عامة فشلت .
ومع شدّة هذه المعركة واحتدامها سراً وعلانية ، فقد وقفت اللغة العربية الفصيحة تتحدَّى هذا الهجوم الشرس ، وتصمد له في المعركة ، والمعركة ما زالت ماضية على أشدها حتى هذه اللحظات ، تستنهض همة المؤمنين الصادقين لينزلوا الميدان بنهج وخطة وعمل واحد .
المعركة واسعة ، والتحديات واسعة أيضاً . فقد اقترنت الدعوة إلى العامية بالحركات الكثيرة التي أخذت تظهر مع القرن التاسع عشر في محاولات منهجيّة لتهديم حياة المسلمين وإيمانهم وفكرهم ولغتهم ، حتى ظهرت حركة الحداثة في مذاهبها المختلفة تدّعي أنها حركة تجديد فكري ولغوي ، وما هي إلا تقليد أعمى للغرب دون وعي ولا حذر . وتبنّت هذه الحركات الدعوة إلى تجديد الأدب العربيّ بقطع صلته بالأدب العربي الإسلامي الصحيح الذي يسمونه الأدب العربي القديم ، والتطلع إلى أدب عربي جديد يرتبط بالغرب وحركاته الأدبية المضطربة التي ترتبط جذورها كلها بالوثنية اليونانية وأساطيرها وخرافاتها .
وقد قامت جمعيات متعددة لحماية اللغة العربية مثل جمعية حماية اللغة العربية في دولة الإمارات العربية المتحدة ، والتي أسست في [ 12/9/1991م] . وهذه خطوة مباركة طيبة في اتجاه العمل المؤسسي الضروري لحماية اللغة العربية .
وكذلك " نهج مدرسة لقاء المؤمنين " التي جعلت اللغة العربية الصحيحة ودراستها والتدريب عليها جزءاً من المنهاج الفردي الذاتي للمسلم ، وكذلك منهج لقاء المؤمنين حيث يُمْنع التكلم بين الأفراد إلا باللغة العربية الصحيحة ، مع التدريب على ذلك ، ومع تعليم اللغة العربية : قواعد وأدباً إسلامياً ، وبلاغة وبياناً، وخطّاً .
(1) د. نفوسة زكريا سعيد : " تاريخ الدعوة إلى العامية وآثارها في مصر " . ط2 1400هـ ـ 1980م .
عن موقع رابطة أدباء الشام