بسم الله الرحمن الرحيم
(ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون)
صدق الله العظيم
نحن أمة تملك في تاريخها التجارب القوية والحية ولهذا فإننا أمة تجدد دائماً من خلال هذه التجارب العظيمة. كما أننا شعب لا ينسى المحن والعذابات التي عاشها في المعتقلات والمنافي، ومن أغلى وأنبل وأشرف تلك التجارب حركة جهادنا ضد الطليان الفاشست وتلك المهمة التاريخية التي صنعها رجال عمر المختار ولقنوا فيها إيطاليا درساً لا ينسى من خلال تلك المدرسة العسكرية التي أسسها عمر المختار والتي جعلت الجبل الأخضر أرض محروقة أمام العدو وأصبحت المنطقة بكاملها بوابة نار أذهلت جنرالات إيطاليا مما جعل غرسياني يقول: "لقد ضربني عمر المختار ضربات موجعة لا أنساها في تاريخي العسكري".
منذ زمن ليس بالبعيد وتحديداً في سنة 2003 وفي مكتب متواضع كنا نبحث جميعاً نحو فضاءات هادئة من ضجيج يومي ومتفاقم تتعايش معه درنه. فكانت الفكرة ندوة أو معرض للصور حول مجاهد ليبي يغير في درنه الكثير.. فمن خلال رابطة المجاهدين بدرنه التي على رأسها الأستاذ: يحيى الأسطى عمر ورابطة الخبراء التي على رأسها المهندس: فتح الله سرقيوه ونشطاء الجمعيات الأهلية الخيرية وأبرزهم الأستاذ: عمر فرج بوشوشينه كان إختيارنا شهيد يبعدنا عن المزايدة وقد برز إسم الشهيد الفضيل بوعمر وقلنا جميعاً وليكن هذا المجاهد بعينه الذي يشكل في حركة الجهاد نقاط مضيئة وقد جاء من قرية صغيرة في واحاتنا الجنوبية ومن عمق صحرائنا الطاهرة ليقاتل عن وطنه مجسداً وحدتنا الوطنية الليبية. حيث تم عرض الفكرة على القيادة الشعبية آن ذاك فكانت الموافقة (بدون دعم) وقد كانت العقبة الأولى هي التمويل لهذه الإحتفالية ولكن أقول لكم بصدق أن الشهداء مباركون لا تقفل في وجوهم الأبواب فما بالك ونحن في مدينة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لقد إخترنا هذا البطل الذي لم يركب الشبح ولم يحظ بالصفقات والنسب المئوية وأرقام الحسابات وتشاركيات العلفة والإسمنت.. قيمة هذا البطل لم تكن الفوز بمنصب أو جاه أو شيخ قبيلة. قيمته كبطل كانت رهانه على المشروع الوطني وحرية الوطن. كان رهان الفضيل بوعمر الحرية التي كان ثمنها الدم من أجل القيم العظيمة.
* نبذة عن حياة شهيدنا البطل المرحوم بإذن الله تعالى ـ الفضيل بوعمر الأوجلي.
أعدها لنا في سنة 2003 ف أستاذنا الفاضل الدكتور/ مصطفى سعد الهاين الباحث التاريخي بمركز الجهاد الليبي للدراسات التاريخية وعضو هيئة التدريس بجامعة عمر المختاربالجبل الأخضر.
تذكر المصادر التاريخية أن مولده كان في سنة 1880 ف بواحة أوجله، يلقب والده بعمر أبي حواء وقد لقب الفضيل أيضاً بلقب والده. كان والده صاحب وجاهة وله شأن كبير في قومه شديد البأس مهاب الجانب وقد إشترك (عمر بوحواء) مع المجاهدين الجزائريين في صد القوات الإستعمارية الفرنسية التي تزحف على التراب الجزائري وقد بقى يجاهد مع إخوانه الجزائريين قرابة ثمان سنوات حتى إعتقد أهله بأنه قد أستشهد هناك.
عندما عاد عمر أبي حواء إلى أهله في مناطق الواحات الجنوبية أخذ على عاتقه التعليم وإلقاء الدروس الدينية والمواعظ وحل المشاكل القبلية بين سكان أوجله والكفرة وبقية الواحات الجنوبية. وقد تزوج عمر الفضيل أبي حواء من قبيلة المغاربة وأنجبت له عبدالله ومحمد والفضيل، وإنتقل إلى واحة الجوف حيث أسس منارة دينية هناك. وواصل عمله في التعليم الديني والإرشاد والتوجيه بين قبائل زويه والتبو وغيرهم.
تلقى الشهيد الفضيل بوعمر قائد معركة الأثرون (السقيه) الشهيرة تعليمه الديني الأول في مسجد منارة الكفرة وقد تفوق في حفظ القرآن الكريم ودراسة الفقه والتفسير والحديث والتاريخ والحساب ووصل به تفوقه في العلوم الدينية إلى أن أصبح إماماً وواعظاً في مقتبل عمره كما تعلم الفروسية وإصابة الأهداف وفنون القتال.
إن قوة الإيمان بالله سبحانه وتعالى لدى شهيدنا البطل والقيم والأخلاق والمبادئ السامية التي شب عليها وتعلمها من والده الشيخ الجليل / عمر بوحواء ساعدته في إتخاذ قراره الجرئ حيث شد الرحال يحمل بندقيته على كتفه زاده الإيمان بالله إلى أن إلتقى إخوانه المجاهدين في الجبل الأخضر. لقد قدم المجاهد الفضيل بوعمر إلى الجبل الأخضر متطوعاً إلتزاماً منه بمبدأ الجهاد في سبيل الله حيث إلتحق بالأدوار الجهادية تحت قيادة شيخ المجاهدين عمر المختار المنفى.
نظراً لما عرف عن عمر المختار من حكمة ودراية بمشاكل وطبائع قبائل الجبل الأخضر فقد أسند قيادة دور الحاسة والعبيدات إلى القائمقام الفضيل بوعمر الذي كان محبوباً من الجميع كما كان يلقب أيضاً بالنائب الأول لعمر المختار أسوة بالشيخ الجليل الشهيد القائمقام حسين مفتاح الجويفي.
إستعان الفضيل بوعمر في قيادة الدور بالمجاهدين القدامى المتمرسين من خريجي المدارس الحربية التركية الذين شاركوا في الجهاد في مواقع متعددة من أرض ليبيا أمثال عوض العقاب وصالح إمطير والشريف الكاسح ومحمد النافرة وأبوشعرايه الشلوي وعبدالحق الطائع الحاسي وإقطيط موسى ومحمد ربع الذيب شهيد معركة الأثرون وبالحمد الهاين شهيد معركة القرنه وحسن بوعزيزه المسماري وعبدالله عاشور العوامي ومحمد عبدالكريم القطعاني وغيرهم من المجاهدين.
عاصر الفضيل بوعمر وشارك في معارك عديدة تحت قيادة البطل عمر المختار المنفي بمنطقة الجبل الأخضر كلها ومنها معارك وادي السهل ووادي المعلق وعين بوعمود والمناير والمخيلي وسيدي بوذراع والأثرون والكراهب بسوسه وقرناده وحلوق الجير وجردس الجراري ووادي الكوف والغريب ووادي سمالوس والرحيبه وغوط ساسي وحلق بالذبان وبلط عبدالحفيظ وسيدي بوزيد وغيرها.
قاد الفضيل بوعمر بنفسه الكثير من المعارك مستعيناً بأركان حربه من ضباط السلاح الحربي وبأعضاء المجلس الأعلى للأدوار الذين يتواجدون معه وقد كانت آخر معركة يقودها الفضيل بوعمر بنفسه هي معركة الأثرون الشهيرة سنة 1930 ف والتي وقعت في فترة كانت الأدوار تعان أشد المعاناة من إنعدام التموين والسلاح بسبب تهجير قبائل المناطق الشرقية من ليبيا التي كانت تمد المجاهدين وتعاونهم وذلك إلى معتقلات الإبادة الجماعية في مناطق العقيلة والبريقة والمقرون وسلوق وبنينه وغيرها كما كانت قوات العدو قد طبقت منذ هزيمتها الكبرى في معركة الرحيبة سنة 1927ف أساليب الحرب المستمرة بكتائب تتناوب على ضرب المجاهدين وتلاحقهم أينما وجدوا مستخدمة في حربهم كتائب المرتزقة من المصوع وباندة عاكف أمسيك العميلة الخائنة وباندات مشكلة من قبائل المناطق الشرقية من ليبيا.
وقد كان إستشهاد الفضيل بوعمر ضربة موجعة لحركة الجهاد وفي فترة حرجة.. حيث وقعت معه معارك صغيرة سابقة ومناوشات مدروسة من العدو الإيطالي دفعت جماعته القليلة إلى اللجوء إلى الوادي الواقع شرق منطقة الأثرون للتحصن به وللحصول على الماء والتموين.
إستفادت المخابرات الإيطالية من معلومات نقلها إليها المخبرون العملاء مفادها أن الدور الذي يقوده الفضيل بوعمر توزع في مجموعات ثلاث إحداها تتواجد في الأثرون يقودها قائمقام الدور الفضيل بوعمر، فاستعدت القوات الإيطالية وتحركت لمحاصرة مجموعة الفضيل وتطويقها بإغلاق جميع المنافذ التي تتوقع نفاذها منها. تحركت القوات الإيطالية من مناطق القبه ودرنه وسوسه والقيقب وكانت المعركة الأولى يوم 19/9/1930 ف في الأثرون حيث أستشهد عدد من المجاهدين الملازمين للقائمقلم الفضيل بوعمر وبقيت القوات الإيطالية تحاصر المجاهدين الصامدين الذين لم يجدوا مناصاً من التخلي عن جيادهم نتيجة لشدة ووعورة المنطقة.
في فجر اليوم الثاني 20/9/1930 ف وعندما كان المجاهدون يؤدون صلاة الفجر أخذت رشاشات الأعداء المتمركزون في المرتفعات الجبلية المحيطة بهم تصب نيرانها عليهم وقد إستبسل المجاهدون في الدفاع عن قائدهم الفضيل بوعمر وكانوا يزمجرون قائلين (الكبش لحم دونه ترزم) مما تسبب في إستشهاد أغلبهم إذا تقدرهم المصادر التاريخية الليبية بواحد وخمسين شهيداً، وأستشهد الفضيل بوعمر قائد المجاهدين ورفاقه أحمد الغماري وآدم حمد الحاسي والشريف الكاسح حيث دفنوا في قبر جماعي، بينما إنتشرت جثث الشهداء الأبرار الآخرين الذين حصدتهم رشاشات القوارب البحرية الإيطالية والطائرات والكتائب المهاجمة لمساحة إمتدت من البحر حتى قمة الجبل عبر الخانق الجبلي الملتوي الضيق الذي حوصروا فيه.
إشترك في حصار مجموعة المجاهدين الذين قادهم الفضيل بوعمر في معركة الأثرون عدد من أبرز القادة الفاشست الطليان منهم (رقاستي ـ قائد البندات والكونت قائد المرتزقة الأرتريين) كما لا حقتهم قبل المعركة وضيقت الحصار عليهم القوات الإيطالية المدججة بالسلاح تحت قيادة الضباط الفاشست المشهورين أمثال (إبياتي ـ روللي ـ لورنستي) وغيرهم.
تذكر المصادر التاريخية الإيطالية أن المعركة الأولى تمكن المجاهدون فيها من فتح ثغرة في صفوف العدو مكنت عمر المختار من الإنسحاب والنجاة من الأسر وهذا يرجح ما ذهبنا إليه في معارضة القائلين بأنه كان متواجداً في المعركة يوم إستشهاد القائمقام الفضيل بوعمر رحمهما الله وأدخلهما فسيح جناته لما قدموه للوطن وأبنائه ورحم جميع شهداء ليبيا الأبرار.
(انتهت النبذة التاريخية).
أقول.. لقد أستشهد البطل الفضيل بوعمر الأوجلي في معركة شرسة مع الفاشيست وقد كان القتال عنيفاً من قبل المجاهدين الذين رغم القوات التي أحضرت من شحات ودرنه والقبة والقيقب إلا أنهم كبدوا العدو خسائر فادحة تجاوزت (500) قتيل بينما أستشهد من المجاهدين (51) شهيداً وقد إعترف غرسياني بالهزيمة لكنه قال بأن الإنتصار هو قتل الفضيل بوعمر الذي لم يصدق الفاشست أنه قتل في المعركة إلا بعد أن قطع رأسه وحمل في علبة صفيح إلى بنغازي ليكون هذا العمل البشع وصمة عار في تاريخ إيطاليا الفاشية.
هكذا هي درنه وفية للأوفياء لا تنسى أبطال ليبيا الشرفاء الذين ضحوا بدمائهم الغالية من أجل تراب الوطن فهذا الأسد الجسور مستشار عمر المختار هب من أقصى الجنوب دفاعاً عن الوطن مع أهله في الشمال.. هنيئاً له ولرفاقه فهم في عليين أما الخونة والعملاء أمثال عاكف أمسيك ومن على شاكلتهم فهم في مزبلة التاريخ، أما إيطاليا الفاشستية التي إرتكبت أبشع الجرائم في حق شعبنا وأبطالنا لن ننسى لها قطع رأس الفضيل بوعمر بعد إستشهاده لأننا نعي التاريخ ونعلم جيداً أن الأسد لا يهمه قطع رأسه بعد موته فقد قامت بقطع رأس الشهيد يوسف بورحيل المسماري وشهيد الكفره سليمان بومطاري.
هذا وقد أعاننا الله سبحانه وتعالى وبجهود الخيرين والمخلصين إلى شق طريق جبلية يصل إلى القبر الذي دفن فيه الشهيد الفضيل بوعمر ومعه رفقاؤه الأبطال أحمد الغماري وآدم حمد الحاسي والشريف الكاسح الغيثي.
هذا وبعد معركة الليبيين (معركة القرضابية) كانت معركة الأثرون إحدى معارك الوحدة الوطنية حيث إمتزجت دماء الليبيين شرقاً وغرباً وجنوباً وشمالاً فقد إستشهد بهذه المعركة أبطال من أهلنا في درنه وأوجله وأجدابيا والبطنان والمحاجيب من مصراته أمثال شعيب بومحبوبه المحجوبي وآدم حمد المحجوبي وعبدالسلام الدرناوي وحسن السعدون السويحلي وسعدون إبراهيم وفرج بوخماده المغربي وخليل الأوجلي إلى جانب إخوتهم من قبيلة الحاسه وقبائل المسامير والعوامة والشلاوية وعيت غيث إعبيدات.
يقول الشاعر حسن السوسي في رثاء البطل الشهيد / الفضيل بوعمر الأوجلي
سيهتف بإسمه جيل وجيل .. ويخلد ذلك الشيخ الجليل
رغم الموت سوف يظل حيا .. يقرظ فعله الذكر الجميل
تردد ذوكرانا فيشــــدو .. به الصبح المنور والأصيل
إذا ذكر الجهاد يلوح سيفا .. له من عزمه حد صقيل
عند الرأي والشورى شهاب .. منبر لا يحيق به أفــول
تعشق أرضه جبـلا وسهـلا .. وشدته (بأوجلة) النخيل
تعود أن يعش بها عزيــزا .. إذا بهوانه رضي الذليـل
دعا داعي الحمى فسعى إليه .. ولم يقعده جبن أو خمول
يؤازره رجالات حداهـــم .. إلى ساحاتهم غرض نبيل
شيوخ ليس ترهبـها المنايا .. وشبان كأنهم كهـــول
عزائمهم كأرضهمـو صلاب .. وعدتهم وزادهمو قليـل
لإحدى الحسنين سعـــوا .. فنالوا حياة لا تحول ولا تزول
لقد نذروا لموطنهم نذورا .. بها أوفوا كما أوفى الفضيل
وهم يدرون أن الموت حق .. فما لنجاتهم منه سبيـــل
وهم يدرون أن العمر رهن .. بوقت يقصر أو يطـــول
فما إقدامهم يدني المنايـا .. ولا إحجامهم عنها يحــول
إذا ذكروا مسامعنا إشرأبت .. لسيرتهم وحمحمت الخيول
وترجـم عن مشاعرنا أسانا .. وترجم عن تعاطفهم الصهيل
لكي ماتوا لكي نحيا كراما .. لنا من مجدهم مجد أثيل
وبعض الناس في الجلى سيو .. ف وبعضهم كبول أو طبول
وأن الحرب إقدام وفــر .. وأن دوام حال مستحيــل
أثابوا ألله من حملوا وفاء .. لهم ولهم الشكر الجزيل
وحيا الله من قدروا رجالا .. مثالهمو ـ أبو عمر الضيل
فإن وفاهم لهمو ثناء .. وأن جحودهم وزر ثقيل
وللتاريخ ألسنة ستملى .. ويكتبهم لنا جيل وجيل
فإن ذهبوا فقد كانوا رموزا .. لمواطنهم وقد ذهب الدخيل
لا يمكن أن نكون جاحدين لمرحلة من تاريخنا المشرف فبعد إحتفاليتنا بذكرى إستشهاد البطل الفضيل بوعمر الأوجلي قمنا في سنة 2004 ف بإحتفالية ذكرى إستشهاد الرجل الثاني في حركة الجهاد بالجبل الأخضر الشهيد يوسف بورحيل المسماري الذي أستشهد بمنطقة أم ركبة على حدودنا الشرقية (البطنان) رحم الله أجدادنا الأبطال وجزاهم عنا خيراً فلا أمة بدون تاريخ ولا تاريخ بدون أبطال ولا أبطال بدون قيادة.. فكان الشهيد عمر المختار شيخ الشهداء التاريخ والبطل والقيادة.