ملفات أمنية
مباحث أمن الدولة أهم مراكز صنع السياسة بمصر واكبر جهاز أمني بالمنطقة
كبر الخط - صغر الخط - الإفتراضي
مباحث أمن الدولة أهم مراكز صنع السياسة بمصر واكبر جهاز أمني بالمنطقة
تاريخ النشر : 2006-06-12
القراءة : 9672
القراءة : 9672
غزة-دنيا الوطن
لا ينسى عقيد الشرطة المصري المتقاعد فايز ـ وهذا بالطبع اسم مستعار ـ ذلك اليوم البعيد من عقد السبعينات بالقرن الماضي، حين كان لم يزل يقف على عتبات الشباب ضابطاً صغيراً ينبض بالحيوية، ويتطلع لإثبات ذاته كضابط كفء، ولم تكن قد مرت على تخرجه في كلية الشرطة سوى بضع سنوات، انتقل خلالها من العمل كضابط نظامي في أحد أقسام الشرطة بالقاهرة، ثم ما لبث أن رشح للعمل بالمباحث الجنائية، وبالفعل أصبح "معاون مباحث" أحد أقسام الشرطة وظل بموقعه هذا زهاء عامين أظهر خلالهما قدراته كضابط مباحث جنائية لا يشق له غبار، فهو أعزب لا تثقل كاهله أية قيود اجتماعية وبالتالي كان يبيت بمكتبه لفترات تصل إلى شهر أحياناً، خاصة وأن تلك الأيام كانت تشهد مواجهات شبه يومية مع اليسار بشقيه الماركسي والقومي، والتي وصلت إلى ذروتها في ما عرف بمظاهرات الخبز .
وعلى الرغم من أن مهام ملاحقة هذه التيارات السياسية المناوئة لنظام حكم الرئيس الراحل أنور السادات لم تكن مخولة لضباط المباحث الجنائية، بل لجهاز مباحث أمن الدولة، لكن ضباط الجهاز كانوا ـ ومازالوا ـ يستعينون بضباط المباحث الجنائية التي تقع المهام والأهداف في دوائر أقسامهم لأسباب عدة، منها معرفة ضباط المباحث الجنائية الوثيقة بالمكان والشارع من جهة، ومن جهة أخرى حتى لا يضطر ضابط أمن الدولة لكشف شخصيته أو "حرق نفسه" بلغة أهل المهنة، وبالتالي فإن ضابط المباحث الجنائية هو الشخص المناسب للتصدي للمسألة بشكل علني، ليبقى رجل أمن الدولة سيد الكواليس، ومحرك العرائس، والشبح الذي يسمع به الناس ولا يراه أحد إلا في لحظات استثنائية، لا شهود فيها ولا يمكن توثيقها بحال من الأحوال .
في تلك الأثناء، وفي ظروف المواجهات الشرسة التي منح خلالها ضباط المباحث سلطات مهدت لاحقاً لحقبة الدولة البوليسية، كان النقيب فايز يشارك بشكل شبه يومي في "مأمورية أمن دولة"، حتى أصبح طرفاً فاعلاً فيها وانتبه له أحد كبار ضباط جهاز أمن الدولة، ومن هنا فقد رشحه للعمل بالجهاز، وهنا نشير إلى عدة ضوابط :
ـ أن العمل في جهاز أمن الدولة لا يتم إلا من خلال ترشيح أحد الضباط العاملين في حقل البحث الجنائي، أو الأجهزة المعاونة التي يحتاجها الجهاز .
ـ أن أحداً مهما كانت سلطاته من خارج الجهاز ـ باستثناء وزير الداخلية شخصياً ـ لا يمكنه أن يفرض ضابطاً على الجهاز، حتى لو كان رئيس الوزراء أو أحد الوزراء .
ـ أن جهاز أمن الدولة رغم تبعيته إدارياً لوزارة الداخلية، غير أنه يتمتع بقدر من الخصوصية، ولا نقول الاستقلالية، تفرضها طبيعة الخدمة السرية، مع أن اشتراطات الخدمة السرية لا تتوافر في كافة المهام التي يتصدى لها الجهاز، بنفس القدر الحاصل في جهاز أمني آخر هو "المخابرات العامة"، فالأخير لا يقبل منه أن يفصح عن شخصه أو طبيعة عمله مهما كان الأمر، لهذا يعيش بعض ضباط وقادة المخابرات حياة متوازية، بمعنى أن بينهم أساتذة جامعات وصحافيين وموظفين كبار في الجهاز الإداري للدولة ودبلوماسيين وغير ذلك من المهن، دون أن تتأثر بذلك مهام خدمته السرية، بينما يبقى ضابط أمن الدولة معروفاً كضابط شرطة يعمل في جهاز يتصدى للأمن السياسي، ولهذا فلا بأس أبداً أن يفصح عن شخصيته في محيط عمله أو حتى المجتمع، وربما ينقل لسبب أو آخر من العمل بجهاز أمن الدولة إلى مواقع أخرى قد تكون شرطة المرور أو المطافئ أو غير ذلك من قطاعات العمل الأمني المتعددة .
تقارير الأمن
نعود إلى العقيد فايز الذي كان وقت ترشيحه للعمل بالمباحث العامة ـ وكان هذا اسمها الرسمي في تلك الأيام ـ لم يزل برتبة النقيب، وما أن انتهت الدورة التدريبية التي يتلقاها قبل أن يبدأ في مباشرة عمله، حتى تغيرت أحواله بدرجة لافتة لكل من يعرفه فصار يتحدث قليلاً، وينتقي ألفاظه بعناية، ويتعمد التصرف في حياته على نحو لا يخلو من الاستعلاء المحسوب بعناية حسب وزن الطرف الآخر الذي يخاطبه أو يتعامل معه، وكلما أمعن الجانب الآخر في توقيره وإظهار الهيبة له، كلما مضى صاحبنا في التشرنق حول ذاته التي تتورم يوماً بعد الآخر، خاصة وأنه أصبح يطلع على وثائق بالغة الأهمية، ويشهد وقائع لم يكن يقدر له أن يراها حتى لو كان ضابطاً برتبة لواء في الشرطة المحلية ويصبح صاحب قرار في أمور بالغة الأهمية، وهنا يحدثني اللواء فايز كيف أنه كان ضابطاً برتبة مقدم في الخامسة والثلاثين من عمره، وكان يعمل بمجموعة متابعة "الشخصيات الهامة" داخل الجهاز، وكانت من بين مهامه التحري عن الشخصيات التي يجري ترشيحها لمناصب الإدارة العليا، أو حتى لمنصب الوزير، وكيف كان بعد تحققه من سلامة موقف المتحرى عنه يكون هو أول من يبلغه "سراً" بترشيحه لهذا المنصب أو تلك الحقيبة الوزارية، وبالفعل لا تمر أيام حتى يعلن بعدها رسمياً عن اختياره للمنصب، وهو ما يجعل لصاحبنا منزلة خاصة لدى كثيرين من أصحاب المواقع الهامة في شتى مفاصل الجهاز الإداري للدولة بل وداخل مجلس الوزراء أيضاً .
ولعلنا لا نذيع سراً هنا حين نشير إلى أن مهمة التحري أمنياً عن الأشخاص قبل تسلمهم مهام عملهم توسعت على نحو كبير خلال عقد التسعينات من القرن الماضي، خاصة في ظل تصاعد أعمال العنف الإرهابي، وأصبحت "موافقة الأمن" تكاد تضارع شهادة المؤهل الدراسي، وكثيراً ما استبعد خريجون من العمل في جهات رفيعة كالقضاء أو النيابة العامة أو الخارجية أو الجامعة بسبب اعتراض الأمن عليهم، وهذه سلطة تقديرية بمعنى أنه يستحيل عملياً وضع ضوابط محددة تكفل شفافية الأمر، على الرغم من أنه لا توجد ثمة قوانين صريحة تشترط "موافقة الأمن"، لكن هذا ما يحدث وقد استقر كعرف راسخ من شأنه ترسيخ نفوذ جهاز مباحث أمن الدولة في كل صغيرة وكبيرة في البلاد، بل أن الترقية إلى مناصب الإدارة العليا يتطلب أيضاً "موافقة الأمن"، وشغل بعض الوظائف لا يتم إلا عبر بوابة الرضا الأمني، وهو كما أوضحنا أمر يخضع لتقدير "ضابط النشاط" المسؤول في الجهاز، وبمناسبة الحديث عن النشاط، تنبغي الإشارة هنا إلى أن العمل داخل أمن الدولة يجري وفق ترتيبات إدارية محددة، فهناك "مجموعات نوعية" تتعلق مثلاً بمكافحة "النشاط المتطرف"، وهي الخاصة بمتابعة النشطاء والجماعات الأصولية، أو "النشاط الشيوعي"، أو "الفكر والإعلام"، وهي المختصة بمتابعة الصحافة والصحفيين ودور النشر، أو "مجموعة الأحزاب"، وهي الخاصة بمتابعة أنشطة الأحزاب السياسية، أو "مجموعة النقابات"، وهكذا، وفضلاً عن هذا التصنيف النوعي، فهناك اختصاص مكاني، فالجهاز يضم إدارات عامة رئيسية، كإدارة الجيزة المعروفة في شارع جابر ابن حيان، وإدارة القاهرة التي انتقلت من مقرها التاريخي في حي "لاظوغلي" إلى ضاحية مدينة نصر شرق القاهرة، أو إدارة القليوبية في شبرا الخيمة، وهكذا .
تاريخ أمن الدولة
وربما لا يعرف كثيرون ـ حتى بين رجال الشرطة أنفسهم ـ أن جهاز الأمن السياسي في مصر هو أقدم جهاز من نوعه في الشرق الأوسط، بل إن وزارة الداخلية ذاتها تعد واحدة من أقدم ثلاث وزارات في مصر، إذ تأسست عام 1878 باسم نظارة الداخلية، ومعها نظارة الجهادية (الحربية أو الدفاع)، ونظارة المالية، وعلى الرغم من اختلاف مسميات جهاز الأمن السياسي عبر الحقب التاريخية التي شهدتها مصر من "القسم المخصوص" إلى "القلم السياسي" إلى "المباحث العامة" إلى "مباحث أمن الدولة"، حتى أصبح اسمه "قطاع مباحث أمن الدولة ثم "جهاز أمن الدولة"، لكنها مجرد لافتات متنوعة لكيان واحد هو إدارة تتبع إدارياً وزارة الداخلية، وتوكل إليها مهام الأمن السياسي، وكانت بداية تأسيس هذا الجهاز على يد الاستعمار البريطاني، وبعد توقيع معاهدة سنة 1936 بدأ تراجع الوجود البريطاني في أجهزة وإدارات وزارة الداخلية، وانتقلت مسؤولية الأمن السياسي الداخلي إلى عناصر مصرية من وزارة الداخلية .
وقد تأسس "القلم السياسي" بإدارتين الأولى للقاهرة والثانية للإسكندرية، فضلاً عن "قسم مخصوص" يتبع السراي مباشرة ويرأسه قائد الشرطة الملكية، ولم تكن لوزارة الداخلية أي ولاية على هذا القسم الذي كان قائده يتلقى أوامره مباشرة من الملك .
وربما لا يعرف البعض أيضاً أن جهاز "المخابرات العامة" خرج من رحم جهاز الأمن السياسي التابع لوزارة الداخلية، الذي أعيد تنظيمه وهيكلته تحت مسمى جديد هو "إدارة المباحث العامة"، عقب قيام حركة الضباط عام 1952، وأسست تلك الإدارة تحديداً في 22 أغسطس سنة 1952، وظلت مهمة ترتيب مسؤولياته تجري تحت إشراف شخصي ومباشر من جمال عبد الناصر حين كان يشغل منصب وزير الداخلية في الفترة من 18 يونيو 1953 وحتى الخامس من أكتوبر من ذات العام، ثم كلف زكريا محيي الدين بحقيبة الداخلية، وظل بها خلال ثلاث وزارات تبادل معه خلالها المنصب عباس رضوان، ولكن خلال وزارة زكريا محيي الدين صدر قرار جمهوري بإنشاء المخابرات العامة، وتحديداً عام 1956، لكنها لم تتأسس فعلياً إلا في مطلع العام 1957 .
وهنا تجدر الإشارة إلى أنه ليس هناك ثمة قانون ينظم مهام واختصاصات جهاز أمن الدولة، خلافاً للمخابرات العامة التي يوجد قانون يخصها، بينما يخضع جهاز أمن الدولة لقانون هيئة الشرطة الذي ينظم العمل في وزارة الداخلية، وقد أدخلت عليه تعديلات وضعت المزيد من القيود المجحغة على ضباط الشرطة، بل جعلت مستقبلهم رهن رضا رؤسائهم، تصل إلى حد الإحالة على التقاعد في سن مبكرة والعزل والمحاكمة، وبالطبع فإن نادي ضباط الشرطة، الذي يفترض أن يكون كياناً موازياً لنادي القضاة، حيث لا يسمح لرجال الشرطة والقضاء بتأسيس نقابات، غير أن هناك فرقاً شاسعاً بين استقلالية نادي القضاة ونادي ضباط الشرطة الذي هو مجرد إدارة ضمن إدارات الوزارة، ويعين القائمون عليه بقرارات وزارية ويمكن نقلهم وعزلهم في أي لحظة، الأمر الذي ينفي عنهم صفة الاستقلالية أو الدفاع عن حقوق الضباط، كما هو حال نادي القضاة أبناؤمثلاً .
*ايلاف-نبيل شرف الدين
http://www.alwatanvoice.com/arabic/content-47637.html
لا ينسى عقيد الشرطة المصري المتقاعد فايز ـ وهذا بالطبع اسم مستعار ـ ذلك اليوم البعيد من عقد السبعينات بالقرن الماضي، حين كان لم يزل يقف على عتبات الشباب ضابطاً صغيراً ينبض بالحيوية، ويتطلع لإثبات ذاته كضابط كفء، ولم تكن قد مرت على تخرجه في كلية الشرطة سوى بضع سنوات، انتقل خلالها من العمل كضابط نظامي في أحد أقسام الشرطة بالقاهرة، ثم ما لبث أن رشح للعمل بالمباحث الجنائية، وبالفعل أصبح "معاون مباحث" أحد أقسام الشرطة وظل بموقعه هذا زهاء عامين أظهر خلالهما قدراته كضابط مباحث جنائية لا يشق له غبار، فهو أعزب لا تثقل كاهله أية قيود اجتماعية وبالتالي كان يبيت بمكتبه لفترات تصل إلى شهر أحياناً، خاصة وأن تلك الأيام كانت تشهد مواجهات شبه يومية مع اليسار بشقيه الماركسي والقومي، والتي وصلت إلى ذروتها في ما عرف بمظاهرات الخبز .
وعلى الرغم من أن مهام ملاحقة هذه التيارات السياسية المناوئة لنظام حكم الرئيس الراحل أنور السادات لم تكن مخولة لضباط المباحث الجنائية، بل لجهاز مباحث أمن الدولة، لكن ضباط الجهاز كانوا ـ ومازالوا ـ يستعينون بضباط المباحث الجنائية التي تقع المهام والأهداف في دوائر أقسامهم لأسباب عدة، منها معرفة ضباط المباحث الجنائية الوثيقة بالمكان والشارع من جهة، ومن جهة أخرى حتى لا يضطر ضابط أمن الدولة لكشف شخصيته أو "حرق نفسه" بلغة أهل المهنة، وبالتالي فإن ضابط المباحث الجنائية هو الشخص المناسب للتصدي للمسألة بشكل علني، ليبقى رجل أمن الدولة سيد الكواليس، ومحرك العرائس، والشبح الذي يسمع به الناس ولا يراه أحد إلا في لحظات استثنائية، لا شهود فيها ولا يمكن توثيقها بحال من الأحوال .
في تلك الأثناء، وفي ظروف المواجهات الشرسة التي منح خلالها ضباط المباحث سلطات مهدت لاحقاً لحقبة الدولة البوليسية، كان النقيب فايز يشارك بشكل شبه يومي في "مأمورية أمن دولة"، حتى أصبح طرفاً فاعلاً فيها وانتبه له أحد كبار ضباط جهاز أمن الدولة، ومن هنا فقد رشحه للعمل بالجهاز، وهنا نشير إلى عدة ضوابط :
ـ أن العمل في جهاز أمن الدولة لا يتم إلا من خلال ترشيح أحد الضباط العاملين في حقل البحث الجنائي، أو الأجهزة المعاونة التي يحتاجها الجهاز .
ـ أن أحداً مهما كانت سلطاته من خارج الجهاز ـ باستثناء وزير الداخلية شخصياً ـ لا يمكنه أن يفرض ضابطاً على الجهاز، حتى لو كان رئيس الوزراء أو أحد الوزراء .
ـ أن جهاز أمن الدولة رغم تبعيته إدارياً لوزارة الداخلية، غير أنه يتمتع بقدر من الخصوصية، ولا نقول الاستقلالية، تفرضها طبيعة الخدمة السرية، مع أن اشتراطات الخدمة السرية لا تتوافر في كافة المهام التي يتصدى لها الجهاز، بنفس القدر الحاصل في جهاز أمني آخر هو "المخابرات العامة"، فالأخير لا يقبل منه أن يفصح عن شخصه أو طبيعة عمله مهما كان الأمر، لهذا يعيش بعض ضباط وقادة المخابرات حياة متوازية، بمعنى أن بينهم أساتذة جامعات وصحافيين وموظفين كبار في الجهاز الإداري للدولة ودبلوماسيين وغير ذلك من المهن، دون أن تتأثر بذلك مهام خدمته السرية، بينما يبقى ضابط أمن الدولة معروفاً كضابط شرطة يعمل في جهاز يتصدى للأمن السياسي، ولهذا فلا بأس أبداً أن يفصح عن شخصيته في محيط عمله أو حتى المجتمع، وربما ينقل لسبب أو آخر من العمل بجهاز أمن الدولة إلى مواقع أخرى قد تكون شرطة المرور أو المطافئ أو غير ذلك من قطاعات العمل الأمني المتعددة .
تقارير الأمن
نعود إلى العقيد فايز الذي كان وقت ترشيحه للعمل بالمباحث العامة ـ وكان هذا اسمها الرسمي في تلك الأيام ـ لم يزل برتبة النقيب، وما أن انتهت الدورة التدريبية التي يتلقاها قبل أن يبدأ في مباشرة عمله، حتى تغيرت أحواله بدرجة لافتة لكل من يعرفه فصار يتحدث قليلاً، وينتقي ألفاظه بعناية، ويتعمد التصرف في حياته على نحو لا يخلو من الاستعلاء المحسوب بعناية حسب وزن الطرف الآخر الذي يخاطبه أو يتعامل معه، وكلما أمعن الجانب الآخر في توقيره وإظهار الهيبة له، كلما مضى صاحبنا في التشرنق حول ذاته التي تتورم يوماً بعد الآخر، خاصة وأنه أصبح يطلع على وثائق بالغة الأهمية، ويشهد وقائع لم يكن يقدر له أن يراها حتى لو كان ضابطاً برتبة لواء في الشرطة المحلية ويصبح صاحب قرار في أمور بالغة الأهمية، وهنا يحدثني اللواء فايز كيف أنه كان ضابطاً برتبة مقدم في الخامسة والثلاثين من عمره، وكان يعمل بمجموعة متابعة "الشخصيات الهامة" داخل الجهاز، وكانت من بين مهامه التحري عن الشخصيات التي يجري ترشيحها لمناصب الإدارة العليا، أو حتى لمنصب الوزير، وكيف كان بعد تحققه من سلامة موقف المتحرى عنه يكون هو أول من يبلغه "سراً" بترشيحه لهذا المنصب أو تلك الحقيبة الوزارية، وبالفعل لا تمر أيام حتى يعلن بعدها رسمياً عن اختياره للمنصب، وهو ما يجعل لصاحبنا منزلة خاصة لدى كثيرين من أصحاب المواقع الهامة في شتى مفاصل الجهاز الإداري للدولة بل وداخل مجلس الوزراء أيضاً .
ولعلنا لا نذيع سراً هنا حين نشير إلى أن مهمة التحري أمنياً عن الأشخاص قبل تسلمهم مهام عملهم توسعت على نحو كبير خلال عقد التسعينات من القرن الماضي، خاصة في ظل تصاعد أعمال العنف الإرهابي، وأصبحت "موافقة الأمن" تكاد تضارع شهادة المؤهل الدراسي، وكثيراً ما استبعد خريجون من العمل في جهات رفيعة كالقضاء أو النيابة العامة أو الخارجية أو الجامعة بسبب اعتراض الأمن عليهم، وهذه سلطة تقديرية بمعنى أنه يستحيل عملياً وضع ضوابط محددة تكفل شفافية الأمر، على الرغم من أنه لا توجد ثمة قوانين صريحة تشترط "موافقة الأمن"، لكن هذا ما يحدث وقد استقر كعرف راسخ من شأنه ترسيخ نفوذ جهاز مباحث أمن الدولة في كل صغيرة وكبيرة في البلاد، بل أن الترقية إلى مناصب الإدارة العليا يتطلب أيضاً "موافقة الأمن"، وشغل بعض الوظائف لا يتم إلا عبر بوابة الرضا الأمني، وهو كما أوضحنا أمر يخضع لتقدير "ضابط النشاط" المسؤول في الجهاز، وبمناسبة الحديث عن النشاط، تنبغي الإشارة هنا إلى أن العمل داخل أمن الدولة يجري وفق ترتيبات إدارية محددة، فهناك "مجموعات نوعية" تتعلق مثلاً بمكافحة "النشاط المتطرف"، وهي الخاصة بمتابعة النشطاء والجماعات الأصولية، أو "النشاط الشيوعي"، أو "الفكر والإعلام"، وهي المختصة بمتابعة الصحافة والصحفيين ودور النشر، أو "مجموعة الأحزاب"، وهي الخاصة بمتابعة أنشطة الأحزاب السياسية، أو "مجموعة النقابات"، وهكذا، وفضلاً عن هذا التصنيف النوعي، فهناك اختصاص مكاني، فالجهاز يضم إدارات عامة رئيسية، كإدارة الجيزة المعروفة في شارع جابر ابن حيان، وإدارة القاهرة التي انتقلت من مقرها التاريخي في حي "لاظوغلي" إلى ضاحية مدينة نصر شرق القاهرة، أو إدارة القليوبية في شبرا الخيمة، وهكذا .
تاريخ أمن الدولة
وربما لا يعرف كثيرون ـ حتى بين رجال الشرطة أنفسهم ـ أن جهاز الأمن السياسي في مصر هو أقدم جهاز من نوعه في الشرق الأوسط، بل إن وزارة الداخلية ذاتها تعد واحدة من أقدم ثلاث وزارات في مصر، إذ تأسست عام 1878 باسم نظارة الداخلية، ومعها نظارة الجهادية (الحربية أو الدفاع)، ونظارة المالية، وعلى الرغم من اختلاف مسميات جهاز الأمن السياسي عبر الحقب التاريخية التي شهدتها مصر من "القسم المخصوص" إلى "القلم السياسي" إلى "المباحث العامة" إلى "مباحث أمن الدولة"، حتى أصبح اسمه "قطاع مباحث أمن الدولة ثم "جهاز أمن الدولة"، لكنها مجرد لافتات متنوعة لكيان واحد هو إدارة تتبع إدارياً وزارة الداخلية، وتوكل إليها مهام الأمن السياسي، وكانت بداية تأسيس هذا الجهاز على يد الاستعمار البريطاني، وبعد توقيع معاهدة سنة 1936 بدأ تراجع الوجود البريطاني في أجهزة وإدارات وزارة الداخلية، وانتقلت مسؤولية الأمن السياسي الداخلي إلى عناصر مصرية من وزارة الداخلية .
وقد تأسس "القلم السياسي" بإدارتين الأولى للقاهرة والثانية للإسكندرية، فضلاً عن "قسم مخصوص" يتبع السراي مباشرة ويرأسه قائد الشرطة الملكية، ولم تكن لوزارة الداخلية أي ولاية على هذا القسم الذي كان قائده يتلقى أوامره مباشرة من الملك .
وربما لا يعرف البعض أيضاً أن جهاز "المخابرات العامة" خرج من رحم جهاز الأمن السياسي التابع لوزارة الداخلية، الذي أعيد تنظيمه وهيكلته تحت مسمى جديد هو "إدارة المباحث العامة"، عقب قيام حركة الضباط عام 1952، وأسست تلك الإدارة تحديداً في 22 أغسطس سنة 1952، وظلت مهمة ترتيب مسؤولياته تجري تحت إشراف شخصي ومباشر من جمال عبد الناصر حين كان يشغل منصب وزير الداخلية في الفترة من 18 يونيو 1953 وحتى الخامس من أكتوبر من ذات العام، ثم كلف زكريا محيي الدين بحقيبة الداخلية، وظل بها خلال ثلاث وزارات تبادل معه خلالها المنصب عباس رضوان، ولكن خلال وزارة زكريا محيي الدين صدر قرار جمهوري بإنشاء المخابرات العامة، وتحديداً عام 1956، لكنها لم تتأسس فعلياً إلا في مطلع العام 1957 .
وهنا تجدر الإشارة إلى أنه ليس هناك ثمة قانون ينظم مهام واختصاصات جهاز أمن الدولة، خلافاً للمخابرات العامة التي يوجد قانون يخصها، بينما يخضع جهاز أمن الدولة لقانون هيئة الشرطة الذي ينظم العمل في وزارة الداخلية، وقد أدخلت عليه تعديلات وضعت المزيد من القيود المجحغة على ضباط الشرطة، بل جعلت مستقبلهم رهن رضا رؤسائهم، تصل إلى حد الإحالة على التقاعد في سن مبكرة والعزل والمحاكمة، وبالطبع فإن نادي ضباط الشرطة، الذي يفترض أن يكون كياناً موازياً لنادي القضاة، حيث لا يسمح لرجال الشرطة والقضاء بتأسيس نقابات، غير أن هناك فرقاً شاسعاً بين استقلالية نادي القضاة ونادي ضباط الشرطة الذي هو مجرد إدارة ضمن إدارات الوزارة، ويعين القائمون عليه بقرارات وزارية ويمكن نقلهم وعزلهم في أي لحظة، الأمر الذي ينفي عنهم صفة الاستقلالية أو الدفاع عن حقوق الضباط، كما هو حال نادي القضاة أبناؤمثلاً .
*ايلاف-نبيل شرف الدين
http://www.alwatanvoice.com/arabic/content-47637.html