من "الهدهد".. إلى "تحرير القدس"
يروي لنا القرآن الكريم صورة من صور "المخابرات الخارجية" من عهد سليمان عليه السلام، النبي الذي كان من آيات قدرة الله عزّ وجل في استجابة دعوته {وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي} أن مكّنه فيما مكّنه من التخاطب مع الحيوان والطير بلغاتهم، فكان من ذلك قصّة "الهدهد" الذي قام وفق المصطلحات المعاصرة، بدور "المخبر السري" أو "الجاسوس" في مملكة سبأ، فنقل إلى نبيّ الله سليمان عليه السلام معلومات عنها، كانت موضع تحقيق وتمحيص قبل أن يأخذ بها في رسم "سياسته الخارجية" مع الدولة المجاورة!..
وتروي لنا السيرة النبوية المطهّرة صورا أخرى من صور "عمل المخابرات" كان منها مثلا ما اعتمد عليه خاتم الأنبياء عليه وعليهم جميعا الصلاة والسلام، لتسيير جيش من عشرة آلاف مقاتل من المدينة المنوّرة إلى مكّة المكرّمة، دون أن يصل الخبر إلى قريش، إلاّ بعد أن أصبح الجيش على أبواب مكّة، كما كان منها مثلا آخر ما استُخدم للإيقاع بين الأحزاب المتحالفة فيما بينها أثناء حصار المدينة المنوّرة في غزوة الخندق، حتى أصبحت يشكّ بعضها في نوايا بعضها الآخر، فانفرط عقدها.
وكان من صور "المخابرات الداخلية" في العهود الإسلامية التالية، ما عُرف عن عهد الفاروق رضي الله تعالى عنه، وهو " يتحسّس" أحوال الرعية ليلا، ليس لمعرفة أخبار "معارضيه" والبطش بهم أو إرهابهم أو التخلّص منهم، فقد كان "المعارضون" يعلنون عن معارضتهم ويمارسون حقّهم هذا منذ العهد النبويّ، في المسجد والطريق والسوق وكلّ مكان، وإنّما كان الخليفة الراشد الثاني يسعى للتعرّف على أوضاع مَن قد يكون مِن الرعية محروما مِن أحد حقوقه على الدولة، ليؤدّي الخليفة واجب "أمانة الحكم" الملقاة على عاتقه في ممارسة السلطة، وتمكين المحروم من الحصول على ذلك الحق.
ويتبيّن من كتب التاريخ أنّه ما انقطع وجود "المخابرات" في الدولة الإسلامية من بعد، بغضّ النظر عن التسميات المتبدّلة بتبدّل مصطلحات العصر، وبغضّ النظر أيضا عن "تجاوزات" كبيرة وصغيرة، ظهرت حينا واضمحلّت حينا آخر، هنا وهناك، على قدر درجة اقتراب مناهج الحكم وممارساته التطبيقية أو ابتعادها عن النموذج الأول للحكم الإسلامي. ولعلّ أنصع صفحات "المخابرات الإسلامية" ما تتحدّث عنه كتب التاريخ من عهد السلطان صلاح الدين الأيوبي، والتي لعبت دورا هامّا في تعرّفه على أوضاع العدوّ الصليبي ونقاط الضعف لديه، وعلى أوضاع من يتعاون معه، وما يرتكبونه أو يخطّطون له من مكائد، ولم تُستخدم تلك المخابرات في "قمع مناهضي التطبيع أو أنصار المقاطعة الشعبية" تجاه عدوّ يحتلّ الأرض والديار، ولا في "قطع الموارد المالية وحجر إيصال السلاح وغيره" إلى أحد من المقاومين للاحتلال، فكان دور المخابرات من العناصر الحاسمة التي تلاقت على انتصارات صلاح الدين حتى كان تتويجها بموقعة حطين الفاصلة ثمّ تحرير القدس بعد 3 شهور من موقعة حطين، وبعد 93 عاما من الاحتلال الأجنبي.
مخابرات "عصرية ديمقراطية"..
واتخذت مخابرات العصر الحديث أشكالا متعدّدة، فيكفي التنويه بما كان لها من دور لا يُستهان به أثناء الحربين العالميتين في القرن الميلادي العشرين. وليس مجهولا أنّه لا توجد اليوم دولة "حديثة" دون أجهزة مخابرات تعمل فيها وأحيانا عالميا من وراء حدودها، ومعظم أجهزة المخابرات المعاصرة يخضع لضوابط دستورية وقانونية وضمانات عملية في "الدول الديمقراطية" ولكن لا يخضع ما يوجد منها لضابطِ ما، يمكن أن يتجاوز حدود الولاء للحاكم في "الدول الاستبدادية".
كما كان من أبرز ميادين تطوّر "المخابرات" المعاصرة ما أدّى إلى أنّها أصبحت "عصرية" حديثة أيضا، فما تمتلكه من الأدوات والوسائل والتقنيات أوسع في كثير من الأحيان ممّا تعرفه الأسواق الاستهلاكية، وكثيرا ما يبقى مُحتكرا لصالح المخابرات زمنا طويلا بعد ابتكاره، وهذا في مقدّمة ما يسري على المخابرات في الدول الصناعية المتقدّمة، وأصبح يسري عليها من قبل فضائح جوانتامو وأبو غريب، ما يسري على كثير من أجهزة المخابرات "الحديثة العصرية" في الدول النامية، ومعظمها دول استبدادية، تعرف ما لم يُعرف عن أجهزة المخابرات في العصور "العتيقة"، ولا يشرّفها بطبيعة الحال أنّ "التعذيب" كان زمنا طويلا من صلاحياتها، وإن نازعتها الولايات المتحدة الأمريكية على هذه "المأثرة".
سواء في الدول الديمقراطية أو الاستبدادية، يبقى أنّ التقنيات الحديثة ووسائل التعذيب القديمة والجديدة، في مقدّمة ما يستهلك ميزانية "المخابرات" إلى جانب رواتب "الكبار" من المسؤولين فيها، ربّما مقابل ما يخاطرون به بصدد "فقدان إنسانيتهم" سلفا!.
وليس مجهولا أنّ بعض أجهزة المخابرات وصل في ظلّ "الحكم الديمقراطي الغربي" –مرة أخرى: من قبل جوانتاموا وأبو غريب- إلى مستوى ارتكاب جرائم وحشية، في كثير من بلدان العالم، بحق الإنسان والقيم جميعا والمواثيق البشرية والشرعية الدولية، وهو ما تؤكّده الوقائع الموثّقة عن المخابرات المركزية الأمريكية أو الموساد الإسرائيلي مثلا، ومن تلك الأجهزة ما لم يقتصر نشاطه الإجرامي على الخارج فامتدّ إلى الداخل أيضا، كما كُشف مثلا بصدد ممارسات جهاز "وكالة أمن الدولة" الأمريكي بعد أن بقي وجوده ونشاطه سرا من الأسرار الرسمية لعشرات السنين.
غالبا ما يكون الكشف عمّا ترتكبه أجهزة المخابرات مع خرق الدستور والقانون والقيم المتعارف عليها، عن طريق وسائل الإعلام، أو بسبب "دردشة" بعض من ينتمون إليها بعد خروجهم منها، طلبا للمال أو الشهرة أو لأسباب أخرى، أو قد يكون الكشف برفع الحظر القانوني الذي يوجب "كتمان" أمر الوثائق المعنية فترة زمنيا تعادل حياة جيل كامل غالبا، أي إلى أن يفقد الكشف عنها بعد ذلك مفعوله من حيث محاسبة المسؤولين، ويظهر على أيّة حال أنّ كثيرا من تلك الممارسات يجري على حساب المواطنين، أو الأحزاب والمسؤولين داخل البلد نفسه، وما قصّة "فضيحة ووتر جيت" قديما بمجهولة، ولا القصص المعروفة حديثا عن "اصطناع" أدلّة عبر تقارير مخابرات كاذبة لتسويق حرب احتلال العراق أمام الرأي العام الداخلي البريطاني والأمريكية بمجهولة أيضا.
أهمية ودور نظم المعلومات في الحروب الحديثة
يُجمع المسؤولون عن المؤسسات العسكرية حول العالم، على ان نجاح الحروب التي تُشن اليوم ومستقبلا، سوف يفوز بها الجانب الذي يتقن حرب المعلوماتية "IW" والتجسس على الاتصالات.
كانت الحروب السابقة الحديثة تشن في الدرجة الاولى بحرا او برا او جوا، وكانت الهجمات المباشرة الناجحة على منشآت الخصم الحيوية هي التي تؤدي الى النصر في نهاية المطاف. انما في هذا القرن، فإثر اختبار اهمية وتأثير العمليات السيكولوجية "Psyops" وتعزيز عمل نظم حرب المعلوماتية "IW" فلن يتقرر مصير الحروب حاليا ومستقبلا من خلال الهجمات التقليدية، بل سيكون النصر الى جانب من يعرف وبدقة، وضع الدولة الخصم ونقاط ضعفها. وكلما استمر الجانب الاقوى في جمع المعلومات الآنية الصحيحة والدقيقة عن الخصم، كلما أتيحت له الفرص المؤاتية ليوجه اليه ضربات قاصمة تقوده الى النصر. ولنلقي بعضا من الضوء على حرب المعلوماتية "IW".
انبثقت هذه الحرب في البداية من مفهوم غربي، لاستخدام وادارة نظم اعتراض الاتصالات والتجسس الالكتروني لاحراز التفوق على الخصم من خلال جمع المعلومات الصحيحة، والآنية عن وضعه القتالي والنظم التي يستخدمها وتوجهاته الاستراتيجية، شرط ان تعتمد على هذه المعلومات لتغذية الدعاية ضد الخصم، ونشر الاشاعات المضللة عنه لتحطيم معنوياته وتأليب الرأي العام ضده مما يضعف ثقة قواته في قدرتها على الاستمرار في القتال، مع الحرص على عدم اتاحة الفرص امامه للحصول على معلومات يستغلها، من هنا تتضح العلاقة الوثيقة بين حرب المعلوماتية والحرب السيكولوجية - النفسية.
وفي ما يلي عجالة عن تطور نظم الاتصالات ونقل المعلومات والاوامر على مدى الحروب وصولا الى نظم الاتصالات والتجسس الحديثة.
الاتصالات
نقل المعلومات من الوحدات الامامية المتصلة مباشرة بالعدو من خلال شتى المستشعرات ونظم التجسس، يهدف الى احكام القيادة واتخاذ القرارات الصائبة في الوقت المناسب. كما ان نقل الاوامر والقرارات من مراكز القيادة الى الوحدات في المسرح القتالي يبقى في أوج الاهتمامات، ولهذه الغاية استخدمت كل وسائل نقل الرسائل والاوامر والتقارير برا وبحرا بين هيئات الاركان والمراكز القتالية النائية. ولطالما لعبت الاتصالات دورا حيويا ابان الحروب.
كان عبء توصيل الرسائل في العصور القديمة يقع على عاتق موفدين من الملوك الى قادتهم في ميادين القتال، وكان الرسل يتناوبون على قطع المسافات الطويلة مستخدمين جياداً سريعة يتم تبديلها كما في عهد الاسكندر الاكبر، وهنيبعل، والقياصرة الرومان. واستطاع هؤلاء المحافظة على اتصالات فعالة مع بلدانهم ابان انشغالهم لفترات طويلة بالحروب في اماكن بعيدة عن بلدانهم. كما استخدم جنكيزخان، في القرن الثاني عشر الحمام الزاجل لتوصيل الرسائل الى عاصمته في منغوليا من مكان تواجده البعيد ابان فتوحاته، حتى انه أسس مراكز للحمام الزاجل في البلدان التي اجتاحها في آسيا واوروبا الشرقية.
في البحر كان الاتصال بين السفن يتم باشارات البيارق اثناء النهار والمشاعل ليلا، ثم طورت شيفرات خاصة بسفن شتى البحريات حول العالم لحفظ سرية الاتصالات. ام التطور الرئيسي للاتصالات فكان إثر اكتشاف الكهرباء، ثم تطوير ابجدية "MORSE" المؤلفة في جوهرها من نقاط وخطوط قصيرة، لنظام التلغراف السلكي مما سمح لاول مرة في العالم، باتصالات سريعة. استخدمت القوات البريطانية التلغراف السلكي للمرة الاولى في حرب القرم على نطاق ضيق، ثم ابان القضاء على التمرد في الهند حيث لعب التلغراف السلكي دورا حاسما في توصيل الرسائل والاوامر.
ابان الحرب الاهلية الاميركية استخدم التلغراف السلكي على نطاق واسع، وابتكر الجيش الاميركي الاتحادي آنذاك اسلوبا متطورا لمد اسلاك التلغراف بسرعة. اما الجيوش الفرنسية والبروسية فنظمت قطارات خاصة لمد اسلاك التلغراف على طول مسارها، وتبعتهما في ما بعد بريطانيا في هذا المضمار، ولكن تحت اشراف سلاح الهندسة في الجيش البريطاني، ويذكر ان التلفون السلكي لم يدخل بسرعة حيز الاستخدام العسكري آنذاك.
بظهور التلغراف اللاسلكي، الراديو حاليا في فجر القرن العشرين سارعت القوى العظمى في العالم الى استخدامه، لما له من امكانات هائلة في توصيل الرسائل والمعلومات والاوامر برا وبحرا آنذاك وجوا لاحقا اثر ظهور الطائرات. استخدمت الراديو بكثافة الجيوش المتقاتلة ابان الحرب العالمية الاولى، ولكن سرعان ما تبين انه لا يحفظ السرية في الامور العسكرية، فالعدو والصديق يسمعانه على حد سواء، وسرعان ما طورت الشيفرات المعقدة في كل جيوش العالم لحفظ سرية الاتصالات.
بدخول الطائرة المجال العسكري ظهرت مشكلة الاتصال بين الطائرة والقيادة الارضية، وكان الطيار في البداية يكتب تقاريره على الورق ثم يلقيها على الارض حيث تتسلمها قيادته، وكان يتلقى تعليماته من الارض من خلال اشارات متفق عليها بواسطة قطع من القماش الملون موضوعة باشكال مختلفة. وكانت الجهود منصبة بكثافة لاستخدام الراديو للاتصال بالطائرات، فظهرت حاجة ماسة الى ابحاث علمية في اتجاه تطوير اجهزة تتيح الاتصال بين مراكز قيادة الطيران الارضية والطائرات المنطلقة في مهام قتالية، ومن هنا ظهر التعاون الوثيق بين الصناعة والابحاث العلمية والقوات المسلحة للدول الكبيرة. ادت الابحاث لاستخدام موجات التردد العالي جدا "VHF" الى تطوير اجهزة راديو محمولة لهذه الغاية استخدمت من اسلحة البر والبحر والجو. اما جهاز الراديو المستقبل المرسل العامل بالموجة FM. فقد ادى ظهوره الى استخدامه في المركبات العسكرية على انواعها لوضوح صوته. ويذكر ان البحريات الرئيسية في العالم دخلت الحرب العالمية الثانية وهي مجهزة بأجهزة راديو يعتمد عليها اضافة الى عدد من النظم الملاحية المعتمدة على مفهوم الالكترونيات الحديثة آنذاك، اضافة الى اجهزة مكبرات الصوت. اما سلاح الطيران فاستخدم الراديو للاتصال بقواعده الارضية. ومطارات الهبوط.
نظم الاتصالات الحديثة
تصاعدت الحاجة الى معدات الاتصالات من الانواع كافة، مع الحاجة الى نوعية افضل وكميات اكبر منها، وكانت ابعد من امكانات الصناعة آنذاك، وباتت الضرورة تقضي بزيادة مصانع انتاج نظم الاتصالات كافة كما ان اعمال التطوير والابحاث تكثفت في حقلي الاتصالات والالكترونيات، ووصلت الى مستوى لم يسبق له مثيل.
وفي الحقل العسكري ادى إنشاء سلاح الجو وتعزيز سلاحي المشاة والمدفعية والوحدات المدرعة الى ضرورة حيازة معدات اتصالات لاسلكية تعمل فورا في غضون أجزاء من الثانية لتربط بين كل هذه الوحدات وقياداتها. كما زودت الدبابات والعربات المقاتلة وشاحنات النقل اللوجستي وعربات المواكبة بدورها بمعدات اتصالات كاملة وفاعلة.
شكلت نظم المحوّلات التي ظهرت لتلبي الحاجة الى الاتصالات إبان الحركة، التطور الاساسي إبان الحرب العالمية الثانية وما بعدها، فظهرت المحولات الراديوية العاملة بتقنية تردد التحوير "Frequency Modulation" والنبض الراداري، واستُنبِطت اساليب استقبال جديدة تتيح عدة قنوات استقبال في الراديو الواحد.
وادت ضرورة الاتصالات بين هيئات الاركان في الوطن، والعديد من قيادات القوات على مسارح العمليات النائية، الى الحاجة لاتصالات بعيدة المدى محسنة عبر البحار. وهكذا تم اختراع طابعة لاسلكية تعمل بالراديو يستطيع من خلالها مشغلها في لندن او واشنطن او غيرها من العواصم العالمية ارسال الاوامر والرسائل المطلوبة لقائد مسرح العمليات. ظهرت منذ السبعينات اجهزة الكترونية واخرى للاتصالات، محسنة نتيجة ابحاث واعمال تطوير مُعمّقة ومكثّفة. فظهر نظام "Loran" الالكتروني للملاحة البعيدة المدى واستخدم في السفن والطائرات الى جانب نظام "Shoran" للملاحة القصيرة المدى. كما تم دمج قدرات الرادار ونظم الاتصالات لتمكين الطائرات من الهبوط في حالات الرؤية المعدومة، ومنها نظام GCA لتحكم الطائرات في الطيران إبان اقترابها من الارض. هذا وتم دمج رادار كشف الاتجاه مع نظم الاتصالات لتطوير نظام GCI للتحذير من الاقتراب من الارض. كما تم تطوير نظام لتوجيه القنابل الملقاة من الطائرات نحو اهدافها، واخيرا ظهرت نظم التشويش الالكتروني "ECM"، وهي عبارة عن اجهزة ترسل موجات الكترونية قوية للتشويش على قنوات الراديو والرادار والكترونيات نظم الملاحة وغيرها.
اصبحت اهمية الابحاث العلمية والتطوير غير متنازع عليها في كل المجالات العسكرية قرب نهاية القرن الثاني، وخصوصا في مجال الكترونيات الاتصالات. كما تم التقدم في تعزيز قدرة الاسلاك على توصيل اكبر عدد من المعلومات والاوامر وباتت نظم المحوّلات غاية في الاتقان، وتم تحديث النظم الثانوية المساعدة على الملاحة.
بعد النصف الاول من القرن الماضي استمر التصاعد في الجهود العسكرية الهادفة الى تطوير كل اوجه وسائط الاتصالات اللاسلكية، فظهر في الجانب الاميركي التلفزيون وما عرف آنذاك بالمخّ الالكتروني، وهو عبارة عن مجموعة من اجهزة الكمبيوتر والحاسبات الرقمية ذات القدرات الفائقة، التي تقوم بمعالجة المعطيات لادخالها في بطاقات التسجيل الموسومة لتكوين الملفات. اما الشخصية او تلك المتعلقة بموجودات المخازن وسائر النشاطات اللوجستية ووصل هذه النشاطات بشبكة اتصالات واسعة.
الاتصالات والتدريب
ثبت ان للتلفزيون نظام مساعد له اهمية كبرى في مجال التدريب في المدارس العسكرية وخصوصا حين يكون عدد المدربين قليلا، اذ يستطيع مدرب واحد تدريب عدد كبير من المتدربين مقسمين في مجموعات كل منها امام تلفزيون حيث يستطيعون متابعة ما يعرضه مدربهم من نشاطات بدقة كبيرة. كما تسمح الاتصالات في الاتجاهين مع المدرب للمتدربين بالقاء اسئلتهم واستلام الاجابات عليها. الى ذلك سمح التلفزيون الميداني بارسال صور عن شتى العمليات العسكرية الى مراكز القيادة كاجتياز نهر مثلا.
وفي حال دمجت القدرة على الاتصالات المأمونة مع استقبال وبث للصور الى جانب قدرات التلفزيون والرادار والنظم الاخرى العاملة بالاشعاعات الكهرمغنطيسية يصبح بالامكان مراقبة منطقة القتال بشكل فعال مع امكانية استخدام نظم الحرب الالكترونية للتشويش على نشاطات العدو ومنع معطياته وسائر تعليماته واوامره من الوصول الى قواته في الميدان. وحرصت الولايات المتحدة على تطوير نظم لاكتساب الاهداف يتم التحكم بها الكترونيا، تستطيع ايضا كشف القوات المعادية ووسائط نقلها على الطرقات او جوا. هذا ويتم جمع المعلومات كافة العائدة لقوات العدو على جبهة واسعة تم معالجتها وعرضت النتائج النهائية على شاشات مراكز القيادة حيث يتمكن حينئذ القائد المسؤول من تقدير الوضع الميداني واتخاذ القرارات الحيوية المناسبة.
يروي لنا القرآن الكريم صورة من صور "المخابرات الخارجية" من عهد سليمان عليه السلام، النبي الذي كان من آيات قدرة الله عزّ وجل في استجابة دعوته {وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي} أن مكّنه فيما مكّنه من التخاطب مع الحيوان والطير بلغاتهم، فكان من ذلك قصّة "الهدهد" الذي قام وفق المصطلحات المعاصرة، بدور "المخبر السري" أو "الجاسوس" في مملكة سبأ، فنقل إلى نبيّ الله سليمان عليه السلام معلومات عنها، كانت موضع تحقيق وتمحيص قبل أن يأخذ بها في رسم "سياسته الخارجية" مع الدولة المجاورة!..
وتروي لنا السيرة النبوية المطهّرة صورا أخرى من صور "عمل المخابرات" كان منها مثلا ما اعتمد عليه خاتم الأنبياء عليه وعليهم جميعا الصلاة والسلام، لتسيير جيش من عشرة آلاف مقاتل من المدينة المنوّرة إلى مكّة المكرّمة، دون أن يصل الخبر إلى قريش، إلاّ بعد أن أصبح الجيش على أبواب مكّة، كما كان منها مثلا آخر ما استُخدم للإيقاع بين الأحزاب المتحالفة فيما بينها أثناء حصار المدينة المنوّرة في غزوة الخندق، حتى أصبحت يشكّ بعضها في نوايا بعضها الآخر، فانفرط عقدها.
وكان من صور "المخابرات الداخلية" في العهود الإسلامية التالية، ما عُرف عن عهد الفاروق رضي الله تعالى عنه، وهو " يتحسّس" أحوال الرعية ليلا، ليس لمعرفة أخبار "معارضيه" والبطش بهم أو إرهابهم أو التخلّص منهم، فقد كان "المعارضون" يعلنون عن معارضتهم ويمارسون حقّهم هذا منذ العهد النبويّ، في المسجد والطريق والسوق وكلّ مكان، وإنّما كان الخليفة الراشد الثاني يسعى للتعرّف على أوضاع مَن قد يكون مِن الرعية محروما مِن أحد حقوقه على الدولة، ليؤدّي الخليفة واجب "أمانة الحكم" الملقاة على عاتقه في ممارسة السلطة، وتمكين المحروم من الحصول على ذلك الحق.
ويتبيّن من كتب التاريخ أنّه ما انقطع وجود "المخابرات" في الدولة الإسلامية من بعد، بغضّ النظر عن التسميات المتبدّلة بتبدّل مصطلحات العصر، وبغضّ النظر أيضا عن "تجاوزات" كبيرة وصغيرة، ظهرت حينا واضمحلّت حينا آخر، هنا وهناك، على قدر درجة اقتراب مناهج الحكم وممارساته التطبيقية أو ابتعادها عن النموذج الأول للحكم الإسلامي. ولعلّ أنصع صفحات "المخابرات الإسلامية" ما تتحدّث عنه كتب التاريخ من عهد السلطان صلاح الدين الأيوبي، والتي لعبت دورا هامّا في تعرّفه على أوضاع العدوّ الصليبي ونقاط الضعف لديه، وعلى أوضاع من يتعاون معه، وما يرتكبونه أو يخطّطون له من مكائد، ولم تُستخدم تلك المخابرات في "قمع مناهضي التطبيع أو أنصار المقاطعة الشعبية" تجاه عدوّ يحتلّ الأرض والديار، ولا في "قطع الموارد المالية وحجر إيصال السلاح وغيره" إلى أحد من المقاومين للاحتلال، فكان دور المخابرات من العناصر الحاسمة التي تلاقت على انتصارات صلاح الدين حتى كان تتويجها بموقعة حطين الفاصلة ثمّ تحرير القدس بعد 3 شهور من موقعة حطين، وبعد 93 عاما من الاحتلال الأجنبي.
مخابرات "عصرية ديمقراطية"..
واتخذت مخابرات العصر الحديث أشكالا متعدّدة، فيكفي التنويه بما كان لها من دور لا يُستهان به أثناء الحربين العالميتين في القرن الميلادي العشرين. وليس مجهولا أنّه لا توجد اليوم دولة "حديثة" دون أجهزة مخابرات تعمل فيها وأحيانا عالميا من وراء حدودها، ومعظم أجهزة المخابرات المعاصرة يخضع لضوابط دستورية وقانونية وضمانات عملية في "الدول الديمقراطية" ولكن لا يخضع ما يوجد منها لضابطِ ما، يمكن أن يتجاوز حدود الولاء للحاكم في "الدول الاستبدادية".
كما كان من أبرز ميادين تطوّر "المخابرات" المعاصرة ما أدّى إلى أنّها أصبحت "عصرية" حديثة أيضا، فما تمتلكه من الأدوات والوسائل والتقنيات أوسع في كثير من الأحيان ممّا تعرفه الأسواق الاستهلاكية، وكثيرا ما يبقى مُحتكرا لصالح المخابرات زمنا طويلا بعد ابتكاره، وهذا في مقدّمة ما يسري على المخابرات في الدول الصناعية المتقدّمة، وأصبح يسري عليها من قبل فضائح جوانتامو وأبو غريب، ما يسري على كثير من أجهزة المخابرات "الحديثة العصرية" في الدول النامية، ومعظمها دول استبدادية، تعرف ما لم يُعرف عن أجهزة المخابرات في العصور "العتيقة"، ولا يشرّفها بطبيعة الحال أنّ "التعذيب" كان زمنا طويلا من صلاحياتها، وإن نازعتها الولايات المتحدة الأمريكية على هذه "المأثرة".
سواء في الدول الديمقراطية أو الاستبدادية، يبقى أنّ التقنيات الحديثة ووسائل التعذيب القديمة والجديدة، في مقدّمة ما يستهلك ميزانية "المخابرات" إلى جانب رواتب "الكبار" من المسؤولين فيها، ربّما مقابل ما يخاطرون به بصدد "فقدان إنسانيتهم" سلفا!.
وليس مجهولا أنّ بعض أجهزة المخابرات وصل في ظلّ "الحكم الديمقراطي الغربي" –مرة أخرى: من قبل جوانتاموا وأبو غريب- إلى مستوى ارتكاب جرائم وحشية، في كثير من بلدان العالم، بحق الإنسان والقيم جميعا والمواثيق البشرية والشرعية الدولية، وهو ما تؤكّده الوقائع الموثّقة عن المخابرات المركزية الأمريكية أو الموساد الإسرائيلي مثلا، ومن تلك الأجهزة ما لم يقتصر نشاطه الإجرامي على الخارج فامتدّ إلى الداخل أيضا، كما كُشف مثلا بصدد ممارسات جهاز "وكالة أمن الدولة" الأمريكي بعد أن بقي وجوده ونشاطه سرا من الأسرار الرسمية لعشرات السنين.
غالبا ما يكون الكشف عمّا ترتكبه أجهزة المخابرات مع خرق الدستور والقانون والقيم المتعارف عليها، عن طريق وسائل الإعلام، أو بسبب "دردشة" بعض من ينتمون إليها بعد خروجهم منها، طلبا للمال أو الشهرة أو لأسباب أخرى، أو قد يكون الكشف برفع الحظر القانوني الذي يوجب "كتمان" أمر الوثائق المعنية فترة زمنيا تعادل حياة جيل كامل غالبا، أي إلى أن يفقد الكشف عنها بعد ذلك مفعوله من حيث محاسبة المسؤولين، ويظهر على أيّة حال أنّ كثيرا من تلك الممارسات يجري على حساب المواطنين، أو الأحزاب والمسؤولين داخل البلد نفسه، وما قصّة "فضيحة ووتر جيت" قديما بمجهولة، ولا القصص المعروفة حديثا عن "اصطناع" أدلّة عبر تقارير مخابرات كاذبة لتسويق حرب احتلال العراق أمام الرأي العام الداخلي البريطاني والأمريكية بمجهولة أيضا.
أهمية ودور نظم المعلومات في الحروب الحديثة
يُجمع المسؤولون عن المؤسسات العسكرية حول العالم، على ان نجاح الحروب التي تُشن اليوم ومستقبلا، سوف يفوز بها الجانب الذي يتقن حرب المعلوماتية "IW" والتجسس على الاتصالات.
كانت الحروب السابقة الحديثة تشن في الدرجة الاولى بحرا او برا او جوا، وكانت الهجمات المباشرة الناجحة على منشآت الخصم الحيوية هي التي تؤدي الى النصر في نهاية المطاف. انما في هذا القرن، فإثر اختبار اهمية وتأثير العمليات السيكولوجية "Psyops" وتعزيز عمل نظم حرب المعلوماتية "IW" فلن يتقرر مصير الحروب حاليا ومستقبلا من خلال الهجمات التقليدية، بل سيكون النصر الى جانب من يعرف وبدقة، وضع الدولة الخصم ونقاط ضعفها. وكلما استمر الجانب الاقوى في جمع المعلومات الآنية الصحيحة والدقيقة عن الخصم، كلما أتيحت له الفرص المؤاتية ليوجه اليه ضربات قاصمة تقوده الى النصر. ولنلقي بعضا من الضوء على حرب المعلوماتية "IW".
انبثقت هذه الحرب في البداية من مفهوم غربي، لاستخدام وادارة نظم اعتراض الاتصالات والتجسس الالكتروني لاحراز التفوق على الخصم من خلال جمع المعلومات الصحيحة، والآنية عن وضعه القتالي والنظم التي يستخدمها وتوجهاته الاستراتيجية، شرط ان تعتمد على هذه المعلومات لتغذية الدعاية ضد الخصم، ونشر الاشاعات المضللة عنه لتحطيم معنوياته وتأليب الرأي العام ضده مما يضعف ثقة قواته في قدرتها على الاستمرار في القتال، مع الحرص على عدم اتاحة الفرص امامه للحصول على معلومات يستغلها، من هنا تتضح العلاقة الوثيقة بين حرب المعلوماتية والحرب السيكولوجية - النفسية.
وفي ما يلي عجالة عن تطور نظم الاتصالات ونقل المعلومات والاوامر على مدى الحروب وصولا الى نظم الاتصالات والتجسس الحديثة.
الاتصالات
نقل المعلومات من الوحدات الامامية المتصلة مباشرة بالعدو من خلال شتى المستشعرات ونظم التجسس، يهدف الى احكام القيادة واتخاذ القرارات الصائبة في الوقت المناسب. كما ان نقل الاوامر والقرارات من مراكز القيادة الى الوحدات في المسرح القتالي يبقى في أوج الاهتمامات، ولهذه الغاية استخدمت كل وسائل نقل الرسائل والاوامر والتقارير برا وبحرا بين هيئات الاركان والمراكز القتالية النائية. ولطالما لعبت الاتصالات دورا حيويا ابان الحروب.
كان عبء توصيل الرسائل في العصور القديمة يقع على عاتق موفدين من الملوك الى قادتهم في ميادين القتال، وكان الرسل يتناوبون على قطع المسافات الطويلة مستخدمين جياداً سريعة يتم تبديلها كما في عهد الاسكندر الاكبر، وهنيبعل، والقياصرة الرومان. واستطاع هؤلاء المحافظة على اتصالات فعالة مع بلدانهم ابان انشغالهم لفترات طويلة بالحروب في اماكن بعيدة عن بلدانهم. كما استخدم جنكيزخان، في القرن الثاني عشر الحمام الزاجل لتوصيل الرسائل الى عاصمته في منغوليا من مكان تواجده البعيد ابان فتوحاته، حتى انه أسس مراكز للحمام الزاجل في البلدان التي اجتاحها في آسيا واوروبا الشرقية.
في البحر كان الاتصال بين السفن يتم باشارات البيارق اثناء النهار والمشاعل ليلا، ثم طورت شيفرات خاصة بسفن شتى البحريات حول العالم لحفظ سرية الاتصالات. ام التطور الرئيسي للاتصالات فكان إثر اكتشاف الكهرباء، ثم تطوير ابجدية "MORSE" المؤلفة في جوهرها من نقاط وخطوط قصيرة، لنظام التلغراف السلكي مما سمح لاول مرة في العالم، باتصالات سريعة. استخدمت القوات البريطانية التلغراف السلكي للمرة الاولى في حرب القرم على نطاق ضيق، ثم ابان القضاء على التمرد في الهند حيث لعب التلغراف السلكي دورا حاسما في توصيل الرسائل والاوامر.
ابان الحرب الاهلية الاميركية استخدم التلغراف السلكي على نطاق واسع، وابتكر الجيش الاميركي الاتحادي آنذاك اسلوبا متطورا لمد اسلاك التلغراف بسرعة. اما الجيوش الفرنسية والبروسية فنظمت قطارات خاصة لمد اسلاك التلغراف على طول مسارها، وتبعتهما في ما بعد بريطانيا في هذا المضمار، ولكن تحت اشراف سلاح الهندسة في الجيش البريطاني، ويذكر ان التلفون السلكي لم يدخل بسرعة حيز الاستخدام العسكري آنذاك.
بظهور التلغراف اللاسلكي، الراديو حاليا في فجر القرن العشرين سارعت القوى العظمى في العالم الى استخدامه، لما له من امكانات هائلة في توصيل الرسائل والمعلومات والاوامر برا وبحرا آنذاك وجوا لاحقا اثر ظهور الطائرات. استخدمت الراديو بكثافة الجيوش المتقاتلة ابان الحرب العالمية الاولى، ولكن سرعان ما تبين انه لا يحفظ السرية في الامور العسكرية، فالعدو والصديق يسمعانه على حد سواء، وسرعان ما طورت الشيفرات المعقدة في كل جيوش العالم لحفظ سرية الاتصالات.
بدخول الطائرة المجال العسكري ظهرت مشكلة الاتصال بين الطائرة والقيادة الارضية، وكان الطيار في البداية يكتب تقاريره على الورق ثم يلقيها على الارض حيث تتسلمها قيادته، وكان يتلقى تعليماته من الارض من خلال اشارات متفق عليها بواسطة قطع من القماش الملون موضوعة باشكال مختلفة. وكانت الجهود منصبة بكثافة لاستخدام الراديو للاتصال بالطائرات، فظهرت حاجة ماسة الى ابحاث علمية في اتجاه تطوير اجهزة تتيح الاتصال بين مراكز قيادة الطيران الارضية والطائرات المنطلقة في مهام قتالية، ومن هنا ظهر التعاون الوثيق بين الصناعة والابحاث العلمية والقوات المسلحة للدول الكبيرة. ادت الابحاث لاستخدام موجات التردد العالي جدا "VHF" الى تطوير اجهزة راديو محمولة لهذه الغاية استخدمت من اسلحة البر والبحر والجو. اما جهاز الراديو المستقبل المرسل العامل بالموجة FM. فقد ادى ظهوره الى استخدامه في المركبات العسكرية على انواعها لوضوح صوته. ويذكر ان البحريات الرئيسية في العالم دخلت الحرب العالمية الثانية وهي مجهزة بأجهزة راديو يعتمد عليها اضافة الى عدد من النظم الملاحية المعتمدة على مفهوم الالكترونيات الحديثة آنذاك، اضافة الى اجهزة مكبرات الصوت. اما سلاح الطيران فاستخدم الراديو للاتصال بقواعده الارضية. ومطارات الهبوط.
نظم الاتصالات الحديثة
تصاعدت الحاجة الى معدات الاتصالات من الانواع كافة، مع الحاجة الى نوعية افضل وكميات اكبر منها، وكانت ابعد من امكانات الصناعة آنذاك، وباتت الضرورة تقضي بزيادة مصانع انتاج نظم الاتصالات كافة كما ان اعمال التطوير والابحاث تكثفت في حقلي الاتصالات والالكترونيات، ووصلت الى مستوى لم يسبق له مثيل.
وفي الحقل العسكري ادى إنشاء سلاح الجو وتعزيز سلاحي المشاة والمدفعية والوحدات المدرعة الى ضرورة حيازة معدات اتصالات لاسلكية تعمل فورا في غضون أجزاء من الثانية لتربط بين كل هذه الوحدات وقياداتها. كما زودت الدبابات والعربات المقاتلة وشاحنات النقل اللوجستي وعربات المواكبة بدورها بمعدات اتصالات كاملة وفاعلة.
شكلت نظم المحوّلات التي ظهرت لتلبي الحاجة الى الاتصالات إبان الحركة، التطور الاساسي إبان الحرب العالمية الثانية وما بعدها، فظهرت المحولات الراديوية العاملة بتقنية تردد التحوير "Frequency Modulation" والنبض الراداري، واستُنبِطت اساليب استقبال جديدة تتيح عدة قنوات استقبال في الراديو الواحد.
وادت ضرورة الاتصالات بين هيئات الاركان في الوطن، والعديد من قيادات القوات على مسارح العمليات النائية، الى الحاجة لاتصالات بعيدة المدى محسنة عبر البحار. وهكذا تم اختراع طابعة لاسلكية تعمل بالراديو يستطيع من خلالها مشغلها في لندن او واشنطن او غيرها من العواصم العالمية ارسال الاوامر والرسائل المطلوبة لقائد مسرح العمليات. ظهرت منذ السبعينات اجهزة الكترونية واخرى للاتصالات، محسنة نتيجة ابحاث واعمال تطوير مُعمّقة ومكثّفة. فظهر نظام "Loran" الالكتروني للملاحة البعيدة المدى واستخدم في السفن والطائرات الى جانب نظام "Shoran" للملاحة القصيرة المدى. كما تم دمج قدرات الرادار ونظم الاتصالات لتمكين الطائرات من الهبوط في حالات الرؤية المعدومة، ومنها نظام GCA لتحكم الطائرات في الطيران إبان اقترابها من الارض. هذا وتم دمج رادار كشف الاتجاه مع نظم الاتصالات لتطوير نظام GCI للتحذير من الاقتراب من الارض. كما تم تطوير نظام لتوجيه القنابل الملقاة من الطائرات نحو اهدافها، واخيرا ظهرت نظم التشويش الالكتروني "ECM"، وهي عبارة عن اجهزة ترسل موجات الكترونية قوية للتشويش على قنوات الراديو والرادار والكترونيات نظم الملاحة وغيرها.
اصبحت اهمية الابحاث العلمية والتطوير غير متنازع عليها في كل المجالات العسكرية قرب نهاية القرن الثاني، وخصوصا في مجال الكترونيات الاتصالات. كما تم التقدم في تعزيز قدرة الاسلاك على توصيل اكبر عدد من المعلومات والاوامر وباتت نظم المحوّلات غاية في الاتقان، وتم تحديث النظم الثانوية المساعدة على الملاحة.
بعد النصف الاول من القرن الماضي استمر التصاعد في الجهود العسكرية الهادفة الى تطوير كل اوجه وسائط الاتصالات اللاسلكية، فظهر في الجانب الاميركي التلفزيون وما عرف آنذاك بالمخّ الالكتروني، وهو عبارة عن مجموعة من اجهزة الكمبيوتر والحاسبات الرقمية ذات القدرات الفائقة، التي تقوم بمعالجة المعطيات لادخالها في بطاقات التسجيل الموسومة لتكوين الملفات. اما الشخصية او تلك المتعلقة بموجودات المخازن وسائر النشاطات اللوجستية ووصل هذه النشاطات بشبكة اتصالات واسعة.
الاتصالات والتدريب
ثبت ان للتلفزيون نظام مساعد له اهمية كبرى في مجال التدريب في المدارس العسكرية وخصوصا حين يكون عدد المدربين قليلا، اذ يستطيع مدرب واحد تدريب عدد كبير من المتدربين مقسمين في مجموعات كل منها امام تلفزيون حيث يستطيعون متابعة ما يعرضه مدربهم من نشاطات بدقة كبيرة. كما تسمح الاتصالات في الاتجاهين مع المدرب للمتدربين بالقاء اسئلتهم واستلام الاجابات عليها. الى ذلك سمح التلفزيون الميداني بارسال صور عن شتى العمليات العسكرية الى مراكز القيادة كاجتياز نهر مثلا.
وفي حال دمجت القدرة على الاتصالات المأمونة مع استقبال وبث للصور الى جانب قدرات التلفزيون والرادار والنظم الاخرى العاملة بالاشعاعات الكهرمغنطيسية يصبح بالامكان مراقبة منطقة القتال بشكل فعال مع امكانية استخدام نظم الحرب الالكترونية للتشويش على نشاطات العدو ومنع معطياته وسائر تعليماته واوامره من الوصول الى قواته في الميدان. وحرصت الولايات المتحدة على تطوير نظم لاكتساب الاهداف يتم التحكم بها الكترونيا، تستطيع ايضا كشف القوات المعادية ووسائط نقلها على الطرقات او جوا. هذا ويتم جمع المعلومات كافة العائدة لقوات العدو على جبهة واسعة تم معالجتها وعرضت النتائج النهائية على شاشات مراكز القيادة حيث يتمكن حينئذ القائد المسؤول من تقدير الوضع الميداني واتخاذ القرارات الحيوية المناسبة.