فاتح الهند والصين قتيبة بن مسلم الباهلي/د.أحمد عبد الحميد عبد الحق

Nabil

خـــــبراء المنتـــــدى
إنضم
19 أبريل 2008
المشاركات
22,782
التفاعل
17,900 114 0
فاتح الهند والصين قتيبة بن مسلم الباهلي

الدكتور أحمد عبد الحميد عبد الحق

أن يحقق الإنسان شهرة في مجال الحروب وينجز الانتصارات المبهرة فهذا أمر نألفه عند كثير من الناس على مر التاريخ، ولكن أن يجمع الإنسان مع شهرته في مجال الحروب الحنكة والدهاء ونبل الأخلاق والحرص على طلب العلم والتواضع لله سبحانه وتعالى فهذا لا نراه إلا في قلة من الناس ـ ومن تلك القلة قتيبة بن مسلم، فمن قتيبة هذا ؟

إنه القائد المسلم الشهير قتيبة بن مسلم بن عمرو بن الحصن بن ربيعة الباهلي، فاتح البلاد المترامية في الهند والصين وأفغانستان والشيشان وبخارا وخوارزم والري وسمرقند وفرغانة والترك، هذه البلاد التي لو شُرّف قائد بفتح بلد منها لسجل في سجل الخالدين، فكيف بمن فتح تلك البلاد كلها ؟

وقد بدأت شهرته على الساحة عقب توليه إمارة الجيش الذي أعده الحجاج للقضاء على الخوارج الذين عاثوا في الأرض فساداً، إذ حقق نجاحا باهراً عليهم، واقتلع شوكتهم، فكافأه الحجاج بعد ذلك بأن ولاه إمارة خراسان (وذلك سنة 86 هـ في خلافة عبد الملك بن مروان) وكتب إليه يقول: قد عرف أمير المؤمنين بلاءك وجِدك وجهادك أعداء المسلمين، وأمير المؤمنين رافعك، وصانع بك الذي تحب، فأتمَّ مغازيك، وانتظر ثواب ربك، ولا تغيب عن أمير المؤمنين كتبك، حتى كأني أنظر إلى بلادك والثغر الذي أنت فيه (1).

فظل على ولاية خراسان ثلاث عشرة سنة، وكان من الشجاعة والحزم والرأي بمكان كما قال ابن خلكان (2)..

وقد بدأ عمله بفتح بلاد صاغان من الترك صلحاً (3) ثم سار سنة ثمان وثمانين لمقابلة ابن أخت ملك الصين الذي حشد معه من أهل فرغانة والصغد حوالي مائتي ألف، فنصره الله عز وجل عليه نصراً مؤزراً.
وتابع توغله في بلاد فرغانة حتى أتم فتحها سنة أربع وتسعين، وبعث من هنالك جيشا فافتتح الشاش.
وبلغ في غزو الترك والتوغل في بلاد ما وراء النهر وافتتاح القلاع ما لم يبلغه أحد قبله، حتى إنه فتح بلاد خوارزم وسمرقند في عام واحد (4) ومَن يعرف الطبيعة الجغرافية والمناخية لتلك البلاد يرى كيف كانت عظمة هذا القائد ومَن كانوا يغزون معه.

وكان ـ رحمه الله ـ بعد فتح كاشغر من أرض الصين قد بعث إلى ملك الصين رسلا يتهدده ويتوعده، ويقسم بالله لا يرجع حتى يطأ بلاده ويختم ملوكهم وأشرافهم، ويأخذ الجزية منهم أو يدخلوا في الإسلام.
فدخل الرسل على الملك الأعظم فيهم، وهو في مدينة عظيمة، يقال: إن عليها تسعين بابا في سورها المحيط بها يقال لها خان بالق، من أعظم المدن وأكثرها ريعا ومعاملات وأموالا، حتى قيل: إن بلاد الهند مع اتساعها كالشامة في ملك الصين.
فلما دخلوا عليه وجدوا مملكة عظيمة حصينة ذات أنهار وأسواق وحسن وبهاء، وهو يقيم وسطها في قلعة عظيمة حصينة، بقدر مدينة كبيرة، فلما التقوا به قال لترجمانه: قل لهم: ما أنتم وما تريدون ؟
فقالوا: نحن رسل قتيبة بن مسلم، وهو يدعوك إلى الإسلام، فإن لم تفعل فالجزية، فإن لم تفعل فالحرب، فغضب الملك وأمر بهم إلى دار، فلما كان الغد دعاهم فقال لهم: انصرفوا إلى صاحبكم - يعني قتيبة - وقولوا له: ينصرف راجعا عن بلادي، فإني قد عرفت حرصه وقلة أصحابه، وإلا بعثت إليكم مَن يهلككم عن آخركم.
فقال له هبيرة: تقول لقتيبة هذا ؟ ! فكيف يكون قليل الأصحاب مَن أول خيله في بلادك وآخرها في منابت الزيتون ؟ وكيف يكون حريصا من خلف الدنيا قادراً عليها، وغزاك في بلادك ؟ وأما تخويفك إيانا بالقتل فإنا نعلم أن لنا أجلا إذا حضر فأكرمه عندنا القتل، فلسنا نكرهه ولا نخافه.
فقال الملك: فما الذي يرضي صاحبكم ؟
فقال: قد حلف أنه لا ينصرف حتى يطأ أرضك، ويختم ملوكك، ويجبي الجزية من بلادك،
فقال: أنا أبر يمينه وأخرجه منها، أرسل إليه بتراب من أرضي، وأربع غلمان من أبناء الملوك، وأرسل إليه ذهبا كثيراً وحريراً وثيابا صينية لا تُقوّم ولا يدرى قدرها.. (5).
وقد أذهلت فتوحات قتيبة هذه الحجاج بن يوسف الثقفي فقال: "بعثت قتيبة فتى بحراً فما زدته باعاً إلا زادني ذراعاً "(6)..
وقد عمل على استتباب الأمن في البلاد التي فتحها، وتصدى بكل حزم لمن فكر في التمرد عليه من ملوكها السابقين..

فقد حصل أن ملوك الترك اتفقوا فيما بينهم على أن يثوروا عليه ويتحدوا ضده ويقاتلوه جميعا، وأن لا يولوا عن القتال حتى يخرجوا العرب من بلادهم، فاجتمعوا اجتماعا هائلا لم يجتمعوا مثله في موقف، لكنه كسرهم وقتل منهم أمما كثيرة، ورد الأمور إلى ما كانت عليه، ولم يزل يتتبع ملكهم الأعظم "نيزك " من إقليم إلى إقليم، ومن كورة إلى كورة، ومن رستاق إلى رستاق، حتى حصره في قلعة هنالك شهرين متتابعين، حتى نفذ ما عند نيزك من الأطعمة، وأشرف هو ومَن معه على الهلاك، فبعث إليه قتيبة مَن جاء به مستأمنا مذموما مخذولا، فسجنه عنده ثم كتب إلى الحجاج في أمره (7).

كما كان حريصا على جنوده لا يوردهم المهالك ولا يتحرك بهم إلا في سرية تامة حتى يفاجأ به عدوهم فلا يصمد لمواجهتهم، وقد حدث أن جاء قبل فتح سمرقند رجل يسمى " المجسر بن مزاحم السلمى " فقال: إن لي حاجة فأخلني فأخلاه فقال: إن أردت السغد يوما من الدهر فالآن فإنهم آمنون من أن تأتيهم من عامك هذا، وإنما بينك وبينهم عشرة أيام، فطابت له الفكرة وأراد أن يتأكد أنها لم تفش بين الناس فيسمع بها السغد فيستعدون له فقال: أشار بهذا عليك أحد ؟ فقال المجسر: لا، فقال: فأعلمته أحدا ؟ قال: لا، فقال له قتيبة: والله لئن تكلم به أحد لأضربن عنقك، ثم وجه على الفور فريقا من جيشه فافتتحها(7)..
ومع شجاعته وعظم مكانته كان سمحا، فقد جلس إليه رجل يسمى هبيرة بن مسروح فقال له: أي رجل أنت لو كان أخوالك من غير سلول ؟!! فلو بادلت بهم، فقال له الرجل: أصلح الله الأمير، أبادل بهم من شئت من العرب وجنبني باهلة ( يقصد قبيلة قتيبة ).

كما كان حريصا على طاعة الله متواضعا له، فقد جاء إليه رجل من مكة فقال له: أتيتك بهدية؟ فقال: وما هي، قال: قدمت مكة فلقيت بها سالم بن عبد اللّه بن عمر؛ فحدثني عن أبيه عن جده عمر؛ عن رسول اللّه، صلى اللّه عليه وسلم، أنه قال:
( من دخل السوق فقال: لا إله إلا اللّه، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، كتب اللّه له ألف ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيئة، ورفع له ألف ألف درجة ) فصار بعد أن سمع منه هذا الحديث قلما وجد فراغا في وقته يركب في موكبه؛ فيأتي السوق؛ فيقولها (8)..

كما كان مشهوراً بمروءته، ومما روي له في هذا الشأن أن الحجاج كان يطلب الشعبي لاشتراكه في فتنة ابن الأشعث، وقال: لئن أمكنني الله منه لأجعلن الدنيا عليه أضيق من مسك جمل، فخرج الشعبي إلى خراسان والتحق بجيش قتيبة وهو لا يعرفه، فاجتمع به يوما وهو يحتاج لكاتب، فقال له: أيها الأمير عندي علم، فقال له قتيبة: ومَن أنت ؟ فقال الشعبي: أعيذك لا تسألني عن ذاك، فعرف أنه ممن يخفي نفسه لأمر ما فلم يرد أن يكرر عليه السؤال، ودعا بكتاب فقال له: اكتب مسودة ( ليختبر قدرته ) فقال الشعبي: لست ممن يحتاج، ثم كتب له كتابا إلى الحجاج فأعجب به وكافأه..
ولم تمض أيام حتى جاءه الرد على كتابه من الحجاج يقول: إذا نظرت في كتابي هذا فإن صاحب كتابك هو عامر الشعبي فإن فاتك قطعت يدك ورجلك وعزلت.
فالتفت إلى الشعبي ـ وكان بجواره وهو يقرأ الكتاب ـ فقال له: ما عرفت قبل الساعة فاذهب حيث شئت، وعزم على أن يتحمل هو مسئولية غضب الحجاج لولا أن الشعبي رفض ذلك، وقال له: إن مثلي لا يخفى، فقال له: أنت أعلم (9) ثم أرسله في أناس وأوصاهم أن يحسنوا إليه حتى دخل على الحجاج فاعتذر له فقبل منه عذره.

وكان عادلا في رعيته لا يولي عليهم قاضيا إلا بمشورتهم، فقد استشار أهل مرو يوما في رجل يجعله على القضاء، فأشاروا عليه بعبد الله بن بريدة فدعاه وقال له: إني قد جعلتك على القضاء بخراسان، فقال ابن بريدة: ما كنت لأجلس على قضاء بعد حديث سمعته من أبي بريدة يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
( القضاة ثلاثة، فاثنان في النار وواحد في الجنة، فأما الاثنان فقاض قضى بغير الحق وهو يعلم فهو في النار، وقاض قضى بغير الحق وهو لا يعلم فهو في النار، وأما الواحد الذي هو في الجنة فقاض قضى بالحق فهو في الجنة )(10)...

ومن براعته الإدارية أنه خرجت عليه يوما خارجة بخراسان، فأهمّه ذلك فقيل له: ما يهمّك منهم؟ وجّه إليهم وكيع بن أبي سود فإنه يكفيكهم، فقال:لا، إنّ وكيعاً رجل به كبر يحتقر أعداءه، ومن كان هكذا قلّت مبالاته بعدوّه فلم يحترس منه فيجد عدوّه منه غرّة (11) وعين غيره..

ومع اشتغاله بالجهاد والفتوحات إلا أنه لم يحرم نفسه من فضل الانتساب إلى رواة حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وله رواية عن عمران بن حصين، وأبي سعيد الخدري (12).

وكان يكل نصره إلى الله عز وجل لا ينسب منه شيئا لنفسه، حتى إنه صافّ التّرك ذات يوم فسأل عن رجل يسمى محمد بن واسع، فقيل له: هو في أقصى الميمنة جانح على سية قوسه ينضنض ( يحرك أو يشير ) بأصبعه نحو السماء، فقال قتيبة: تلك الإصبع الفاردة أحبّ إليّ من مائة ألف سيف شهير وسنان طرير (13).
وكان عفيف اللسان والسمع، حتى إنه سمع ذات يوم رجلا يغتاب عنده آخر، فقال له: أمسك أيها الرجل، فواللّه لقد تلمظت بمضغةٍ طالما لفظها الكرام (14).

وكان كريما في عطاياه دون مَنٍ، فقد دخل عليه رجل فقال: أتيتك في حاجةٍ رفعتها إلى الله قبلك، فإن تقضها حمدنا الله وشكرناك، وإن لم تقضها حمدنا الله وعذرناك، فأمر له بحاجته (15) وعوضت تلك الخصال قتيبة عن حسبه ونسبه، حيث شاع في عصره السخرية من قبيلته باهلة حتى جاء في النوادر أنه قيل لأعرابي: أيسرك أنك باهلي وتدخل الجنة ؟ قال: إي والله، بشرط أن لا يعلم أهل الجنة أني باهلي، يقول الذهبي: لم ينل قتيبة أعلى الرتب بالنسب، بل بكمال الحزم والعزم والإقدام، والسعد، وكثرة الفتوحات، ووفور الهيبة.(16).
ثم كانت وفاته ـ رحمه الله ـ سنة سبع وتسعين هـ، ولم يكتمل عمره خمسين عاما، حيث كان مولده سنة تسع وأربعين هـ، وهي حياة قصيرة بالقياس لأعمار كثير من الناس، ولكنها مليئة بالفتوحات..
وقد رثاه أحد الشعراء المعاصرين له فقال:

كأن أبا حفص قتيبة لم يسر * بزحف إلى زحف ولم يلف معلما
ولم يغش أطراف الأسنة والقنا * إذا النكس عن ورد المنية أحجما
ولم يصبر النفس الكريمة في الوغى * إذا كان أصوات الكماة تغمغما
ليحمد إن الصبر منه سجية * إذا الريق لم يبلل من الفزع الفما
وما زال مذ شد الإزار بحقوه * يقود إلى الأعداء جيشاً عرمرما
وروداً لحومات المنايا بنفسه * إذا الجبس هاب المشرفيات أقدما

الهوامش:
1 ـ سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي 2/ 142.
2 ـ وفيات الأعيان 4/ 86.
3 ـ العبر في خبر من غبر ص: 17.
4 ـ وفيات الأعيان 4/ 87
5 ـ البداية والنهاية 9/ 162
6 ـ الوافي بالوفيات 7/ 226
7 ـ البداية والنهاية 9/ 96
8 ـ تاريخ الطبري 5/ 248
9 ـ طبقات الصوفية ص: 118.
10 ـ تذكرة الحفاظ 1/ 86
11 ـ تاريخ دمشق 27/ 137
12 ـ عيون الأخبار ص: 46
13 ـ سير أعلام النبلاء 4/ 410
14 ـ عيون الأخبار ص: 53..
15 ـ عيون الأخبار ص: 147
16 ـ عيون الأخبار ص: 323
17 ـ سير أعلام النبلاء 4/ 411
 
عودة
أعلى