بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي يُطعم ولا يطعم، منّ علينا فهدانا وأطعمنا وسقانا وكل بلاء حسن أبلانا.
الحمد لله الذي أطعم من الطعام، وسقى من الشراب، وكسا من العري، وهدى من الضلالة، وبصّر من العمى، وفضل على كثير ممن خلق تفضيلا.
الحمد لله رب العالمين، اللهم صلي وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها الأحبة في الله السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
يا سامعا لكل شكوى.
يا خالق الأكوان أنت المرتجى...... وإليك وحدك ترتقي صلواتي
يا خالقي ماذا أقول وأنت تعلمـــني وتعلم حاجتي وشكاتــي
يا خالقي ماذا أقول وأنت........... مطلع على شكواي والأناتي
اللهم يا موضع كل شكوى، ويا سمع كل نجوى، ويا شاهد كل بلوى، يا عالم كل خفية، و يا كاشف كل بلية، يا من يملك حوائج السائلين، ويعلم ضمائر الصامتين ندعوك دعاء من أشدت فاقته، وضعفت قوته، وقلت حيلته دعاء الغرباء المضطرين الذين لا يجدون لكشف ما هم فيه إلا أنت.
يا أرحم الراحمين أكشف ما بنا وبالمسلمين من ضعف وفتور وذل وهوان.
يا سامعا لكل شكوى أعن المساكين والمستضعفين وأرحم النساء الثكالى والأطفال اليتامى وذي الشيبة الكبير، إنك على كل شيء قدير.
معاشر الأخوة والأخوات:
إن في تقلب الدهر عجائب، وفي تغير الأحوال مواعظ، توالت العقبات، وتكاثرت النكبات، وطغت الماديات على كثير من الخلق فتنكروا لربهم ووهنت صلتهم به.
اعتمدوا على الأسباب المادية البحتة، فسادة موجات القلق والاضطراب، والضعف والهوان، وعم الهلع والخوف من المستقبل، خافوا على المستقبل، تخلوا عن ربهم فتخلى الله عنهم:
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ).
جميعُ الخلق مفتقرون إلى الله، مفتقرون إلى الله في كل شؤونِهم وأحوالِهم، وفي كلِ كبيرةٍ وصغيره، وفي هذا العصرُ تعلقَ الناسُ بالناسِ، وشكا الناسُ إلى الناس، ولا بئسَ أن يُستعانُ بالناس في ما يقدرون عليه، لكن أن يكونَ المُعتمَدُ عليهم، والسؤال إليهم، والتعلقُ بهم فهذا هو الهلاكُ بعينه، فإن من تعلق بشيٍ وكلَ إليه.
نعتمدُ على أنفسِنا وذكائِنا بكل غرورٍ وعجب وصلف، أما أن نسأل اللهَ العونَ والتوفيق، ونلحَ عليه بالدعاء، ونحرِصِ على دوام الصلة باللهِ في كلِ الأشياء، وفي الشدةِ والرخاء، فهذا أخرُ ما يفكرُ به بعض الناس.
فقيراً جئتُ بابك يا إلهي.........ولستُ إلى عبادك بالفقيرِ
غنياً عنهمُ بيقينِ قلبي...........وأطمعُ منك في لفضلِ الكبيرِ
الهي ما سألتُ سواك عونا......فحسبي العونُ من ربٍ قديرِ
الهي ما سألتُ سواك عفوا.....فحسبي العفوُ من ربٍ غفورِ
الهي ما سألتُ سواك هديا.....فحسبي الهديُ من ربٍ بصيرِ
إذا لم أستعن بك يا الهي......فمن عونيِ سواك ومن مجيرِ
إن الفرار إلى الله، واللجوء إليه في كلِ حالٍ وفي كل كربٍ وهم، هو السبيلُ للتخلصَ من ضعفنا وفتورنا وذلنا و هواننا.
إن في هذه الدنيا مصائبَ ورزايا، ومحناً وبلايا، آلامُ تضيقُ بها النفوس، ومزعجاتُ تورث الخوفَ والجزع، كم في الدنيا من عينٍ باكيةٍ ؟
وكم فيها من قلب حزين؟
وكم فيها من الضعفاءِ والمعدومين، قلوبُهم تشتعل، ودموعُهم تسيل ؟
هذا يشكُ علةً وسقما.
وذاك حاجةً وفقرا.
وآخر هماً وقلقا.
عزيزٌ قد ذل، وغنيٌ افتقر، وصحيحٌ مرض، رجل يتبرم من زوجه وولده، وآخرُ يشكُ ويئنُ من ظلمِ سيده.
وثالثٌ كسدة وبارت تجارته، شاب أو فتاة يبحث عن عروس، وطالب يشكو كثرة الامتحانات والدروس.
هذا مسحور وذاك مدين ،وأخر ابتليَ بالإدمان والتدخين، ورابعُ أصابه الخوفُ ووسوسةُ الشياطين.
تلك هي الدنيا، تضحكُ وتبكي، وتجمعُ وتشتت، شدةُ ورخاءُ وسراءٌ وضراءُ.
وصدق الله العظيم: (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ).
أيها الأخوة، السؤال الذي يجب أن يكون، هؤلاء إلى من يشكون، و أيديَهم إلى من يمدون؟
يجيبك واقعُ الحال على بشرٍ مثلُهم يترددون، وللعبيدِ يتملقون، يسألون ويلحون وفي المديح والثناء يتقلبون، وربما على السحرة والكهنة يتهافتون.
نعم والله تألمنا شكاوي المستضعفين، وزفراتُ المساكين، وصرخاتُ المنكوبين، وتدمعُ أعُينَنا - يعلم الله- لأهات المتوجعين، وأناتُ المظلومين، وانكسارِ الملذوعين، لكن أليس إلى اللهِ وحدَه المشتكى ؟
أين الإيمان بالله ؟ أين التوكلُ على الله ؟ أين الثقةُ و اليقينُ بالله ؟
وإذا عرتك بليةًُ فأصبر لها.......صبرُ الكريمِ فإنه بك أرحمُ
وإذا شكوتَ إلى ابنِ أدم إنما.....تشكو الرحيمَ إلى الذي لا يرحمُ
ألم نسمع عن أناس كانوا يشكون إلى الله حتى انقطاع سير نعلهم، نعم حتى سير النعل كانوا يسألونه الله، بل كانوا يسألون الله حتى الملح.
يا أصحابَ الحاجات.
أيها المرضى.
أيها المدينون.
أيها المكروب والمظلوم.
أيها المُعسرُ والمهموم.
أيها الفقيرُ والمحروم.
يا من يبحث عن السعادة الزوجية.
يا من يشكو العقم ويبحث عن الذرية.
يا من يريد التوفيق بالدراسة والوظيفة.
يا من يهتم لأمر المسلمين.
يا كلُ محتاج، يا من ضاقت عليه الأرضُ بما رحبت.
لماذا لا نشكوُ إلى اللهِ أمرنا وهو القائل: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ).
لماذا لا نرفعُ أكفَ الضراعة إلى الله وهو القائل: ( فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ).
لماذا ضُعفُ الصلةِ بالله، وقلةُ الاعتمادِ على الله، وهو القائل: ( قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ ). لولا دعاؤكم.
أيها المؤمنون، أيها المسلمون يا أصحابَ الحاجات، ألم نقرأ في القرآنِ قول الحق عز وجل: ( فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ) لماذا ؟ ( لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ).
فأين نحن من الشكوى لله، أين نحن من الإلحاح والتضرعِ الله؟
سبحان الله، ألسنا بحاجةٍ إلى ربنا؟
أنعتمدُ على قوتنا وحولِنا، والله ثم واللهِ لا حول لنا ولا قوةَ إلا بالله.
واللهِ لا شفاء إلا بيد الله، ولا كاشفَ للبلوى إلا الله، لا توفيق ولا فلاح ولا سعادةَ ولا نجاح إلا من الله.
العجيبُ والغريب أيها الأخوةُ أن كلَ مسلمٍ يعلمُ ذلك، ويعترفُ بهذا بل ويقسمُ على هذا، فلماذا إذاً تتعلقُ القلوبُ بالضعفاءُ العاجزين ؟
ولماذا نشكو إلى الناسِ ونلجأَ للمخلوقين ؟
سل الله ربك ما عنده......... ولا تسأل الناس ما عندهم
ولا تبتغي من سواه الغنى..... وكن عبده لا تكن عبدهم
فمن يا إذا بُليت سلاك أحبابك، وهجرك أصحابك.
يا من نزلت بها نازلة، أو حلت به كارثة.
يا من بليت بمصيبةٍ أو بلاءٍ، ارفع يديك إلى السماء وأكثر الدمعَ والبكاء، وألحَ على اللهِ بالدعاء وقل:
يا سامعاً لكلِ شكوى.
إذا استعنت فأستعن بالله، وإذا سألت فأسأل الله، وقل يا سامعاً لكل شكوى.
توكل على الله وحده، وأعلن بصدقٍ أنك عبده واسجد لله بخشوع، وردد بصوتٍ مسموع:
يا سامعاً لكلِ شكوى.
أنت الملاذُ إذا ما أزمةٌ شملت........وأنت ملجأُ من ضاقت بهِ الحيلُ
أنتَ المنادى به في كلِ حادثِةٍ.......أنت الإلهُ وأنت الذخرُ والأملُ
أنت الرجاءُ لمن سُدت مذاهبهُ......أنت الدليلُ لمن ضلت بهِ السبلُ
إنا قصدناك والآمال واقعةٌ.........عليكَ والكلُ ملهوفُ ومبتهلُ
إن الأنبياء والرسلَ، وهم خيرُ الخلق، وأحبُ الناسَ إلى الله، نزل بهم البلاء واشتدَ بهم الكرب، فماذا فعلوا وإلى من لجئوا.
أخي الحبيب، أختصرُ لك الإجابة، إنه التضرعُ والدعاء، والافتقارُ لربِ الأرضِ والسماء، إنها الشكايةُ لله وحُسنُ الصلةِ بالله.
هذا نوحٌ عليه السلام يشكو أمرَه إلى الله ويلجأُ لمولاه:
قال تعالى: (وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ).
كانتِ المناداة، كانتِ المناجاة، فكانتِ الإجابةُ من الرحمن الرحيم.
وقال تعالى: ( وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ).
وقال عز من قائل: (فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ).
هذا أيوبُ عليه السلام، ابتلاهُ اللهُ بالمرضِ ثمانيةَ عشر عاماً حتى أن الناسُ ملوا زيارته لطولِ المدة، فلم يبقى معه إلا رجلانِ من إخوانهِ يزورانه، لكنه لم ييئس عليه السلام، بل صبرَ واحتسب، وأثنى الله عليه: ( إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ)، أواب أي رجاعٌ منيبٌ إلى ربه، ظل على صلتِه بربِه وثقتِه به، ورضِاهُ بما قُسم الله له، توجه إلى ربه بالشكوى ليرفع عنه الضراء والبلوى قال تعالىوَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ). فماذا كانتَ النتيجة ؟
قال الحقُ عز وجل ، العليمُ البصيرُ بعباده، الرحمنُ الرحيم قالَ: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ).
هذا يونسُ عليه السلام، رفع الشكاية لله فلم ينادي ولم يناجي إلا الله قال تعالى:
( وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ). فماذا كانتَ النتيجة ؟
(فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ).
وزكريا عليه السلام قال الحق عز وجل عنه: (وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ). ماذا كانت النتيجة ؟
(فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ).
الذين يشكون العقم وقلة الولد.
إذا لماذا استجاب الله دعاه؟
لأنهم كانوا يسارعون في الخيرات، وكانوا لا يملون الدعاء، بل كان القلب متصل متعلق بالله، لذلك قال الله عنهم: (وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ).
خاشعين متذللين، معترفين بالتقصير، فالشكاية تخرج من القلب قبل اللسان.
يعقوبُ عليه السلام قال: (قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)، انظروا لليقين، انظروا للمعرفة برب العالمين: (وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)، فاستجاب اللهُ دعائَه وشكواه وردَ عليه يوسفَ وأخاه.
وهذا يوسف عليه السلام ابتلاه الله بكيد النساء، فلجأ إلى الله، وشكى إليه ودعاه فقال:
( وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ)
إنه التضرع والدعاء، والافتقار لرب الأرض والسماء، إنها الشكاية لله، وحسن الصلة بالله.
(فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).
وأخبر الله عن نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه فقال تعالى: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ).
استغاثة لجاءة إلى الله، شكوى وصلة بالله سبحانه وتعالى.
وهكذا أيها الأحبةِ حينما نستعرضُ حياةَ الرسلِ جميعاً، كما قصها علينا القرآن الكريم، نرى أن الابتلاء والامتحان كان مادتُها وماُئها، وأن الصبرَ وحسنُ الصلةِ بالله ودوام الالتجاءِ وكثرةُ الدعاءِ وحلاوة الشكوى كان قوَمُها.
وما أشرنا إليه إنما هي نماذج من الاستجابة للدعاء، ومن في كتب السير والتفاسير وقف على شدةِ البلاء الذي أصاب الأنبياء، وعلم أن الاستجابةَ جاءت بعد إلحاحٍ ودعاء، واستغاثةٍ ونداء.
إنها آياتُ بينات وبراهينُ واضحات، تقول بل وتعلن أن من توكلَ واعتمد على الله، وأحسن الصلة بمولاه استجاب الله دعاه، وحفظه ورعاه، فإن لم يكن ذلك في الدنيا كان في الآخرة:
( وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ).
أنها صفحاتٌ من الابتلاء والصبر معروضةٌ للبشرية، لتسجل أن لا اعتماد إلا على الله، وان لا فارجَ للهمِ ولا كاشفَ للبلوى إلا الله.
هذا هو طريق الاستعلاء أن تنظرَ إلى السماء، وأن نلحُ بالدعاء، لأن الشكوى إلى الله تشعرك بالقوةِ والسعادة، وأنك تأوي إلى ركنٍ شديد.
أما الشكوى إلى الناس، والنظرِ إلى ما في أيدي الناس فيشعرك بالضعف والذل والإهانةِ والتبعية.
يا أهل التوحيد، أليس هذا أصل من أصول التوحيد ؟
إن من أصول التوحيد أن تتعلق القلوبُ بخالقها في وقت الشدةِ والرخاء والخوفِ والأمن، والمرضِ والصحة، وفي كل حالٍ وزمان.
وما نراه اليومَ من تعلقِ القلوب بالمخلوقين، وبالأسباب وحدها دون اللجأ إلى الله، لهو نذيرُ خطرٍ يزعزعُ عقيدةِ التوحيدِ في النفوس.
أيها الأحبة: إن الشكوى لله، والتضرعَ إلى الله، وإظهارَ الحاجة إليه، ولاعتراف بالافتقار إليه من أعظمِ عرى الإيمانِ وثوابتِ التوحيد، وبرهانُ ذلك الدعاء والإلحاح بالسؤال، والثقةُ واليقينُ بالله في كلِ حال.
ولقد زخرت كتبُ السنةِ بأنواعٍ من الدعاءِ تجعلُ المسلمَ على صلةٍ بربه، وفي حرزٍ من عدوه، يقضي أمره ويكفي همه.
في كلِ مناسبةٍ دعا، في اليقظةِ والمنام، والحركة والسكون، قياماً وقعودا، وعلى الجنوب، ابتهالٌ وتضرعٌ في كل ما أهم العبد، وهل إلى غيرِ الله مفر، أم هل إلى غيره ملاذ.
ففي المرض مثلا الأحاديث كثيرة، والأدعية مستفيضة، إليك على سبيل المثال ما أحرجه البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها:
أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه المعوذات، وينفث، فلما أشتد وجعه كنت اقرأ عليه وأمسح عليه رجاء بركتها.
وأخرج البخاري ومسلم أيضا من حديث عائشة قالت:
كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا اشتكى منا إنسان مسحه بيمينه ثم قال: أذهب البأس رب الناس، وأشفي أنت الشافي لا شفاء إلا شفائك، شفاء لا يغادر سقما، أي لا يترك سقما.
وفي صحيح مسلم عن عثمان أبن أبي العاص رضي الله تعالى عنه:
أنه شكى إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وجعا يجده في جسده منذ أسلم، فقال له (صلى الله عليه وآله وسلم): ضع يدك على الذي تألم من جسدك.
انظروا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قدوتنا وحبيبنا يربي الناس، ويربي أصحابه على الاعتماد واللجاءة إلى الله، ضع يدك، الإرشاد أولا لله، التعلق أولا بالله، لم يرشده أولا لطبيب حاذق ولا بأس بهذا، لكن التعلق بالله يأتي أولا.
ضع يدك على الذي تألم من جسدك وقل بسم الله، بسم الله ثم يقول سبعا أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر.
وفي رواية أمسحه بيمينك سبع مرات، وفي رواية قال عثمان فقلت ذلك فأذهب الله ما كان بي، فلم أزل آمر بها أهلي وغيرهم.
سبحان الله، اسمعوا لحسن الصلة بالله، والتوكل على الله، فلم أزل آمر بها أهلي وغيرهم.
الحمد لله الذي يُطعم ولا يطعم، منّ علينا فهدانا وأطعمنا وسقانا وكل بلاء حسن أبلانا.
الحمد لله الذي أطعم من الطعام، وسقى من الشراب، وكسا من العري، وهدى من الضلالة، وبصّر من العمى، وفضل على كثير ممن خلق تفضيلا.
الحمد لله رب العالمين، اللهم صلي وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها الأحبة في الله السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
يا سامعا لكل شكوى.
يا خالق الأكوان أنت المرتجى...... وإليك وحدك ترتقي صلواتي
يا خالقي ماذا أقول وأنت تعلمـــني وتعلم حاجتي وشكاتــي
يا خالقي ماذا أقول وأنت........... مطلع على شكواي والأناتي
اللهم يا موضع كل شكوى، ويا سمع كل نجوى، ويا شاهد كل بلوى، يا عالم كل خفية، و يا كاشف كل بلية، يا من يملك حوائج السائلين، ويعلم ضمائر الصامتين ندعوك دعاء من أشدت فاقته، وضعفت قوته، وقلت حيلته دعاء الغرباء المضطرين الذين لا يجدون لكشف ما هم فيه إلا أنت.
يا أرحم الراحمين أكشف ما بنا وبالمسلمين من ضعف وفتور وذل وهوان.
يا سامعا لكل شكوى أعن المساكين والمستضعفين وأرحم النساء الثكالى والأطفال اليتامى وذي الشيبة الكبير، إنك على كل شيء قدير.
معاشر الأخوة والأخوات:
إن في تقلب الدهر عجائب، وفي تغير الأحوال مواعظ، توالت العقبات، وتكاثرت النكبات، وطغت الماديات على كثير من الخلق فتنكروا لربهم ووهنت صلتهم به.
اعتمدوا على الأسباب المادية البحتة، فسادة موجات القلق والاضطراب، والضعف والهوان، وعم الهلع والخوف من المستقبل، خافوا على المستقبل، تخلوا عن ربهم فتخلى الله عنهم:
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ).
جميعُ الخلق مفتقرون إلى الله، مفتقرون إلى الله في كل شؤونِهم وأحوالِهم، وفي كلِ كبيرةٍ وصغيره، وفي هذا العصرُ تعلقَ الناسُ بالناسِ، وشكا الناسُ إلى الناس، ولا بئسَ أن يُستعانُ بالناس في ما يقدرون عليه، لكن أن يكونَ المُعتمَدُ عليهم، والسؤال إليهم، والتعلقُ بهم فهذا هو الهلاكُ بعينه، فإن من تعلق بشيٍ وكلَ إليه.
نعتمدُ على أنفسِنا وذكائِنا بكل غرورٍ وعجب وصلف، أما أن نسأل اللهَ العونَ والتوفيق، ونلحَ عليه بالدعاء، ونحرِصِ على دوام الصلة باللهِ في كلِ الأشياء، وفي الشدةِ والرخاء، فهذا أخرُ ما يفكرُ به بعض الناس.
فقيراً جئتُ بابك يا إلهي.........ولستُ إلى عبادك بالفقيرِ
غنياً عنهمُ بيقينِ قلبي...........وأطمعُ منك في لفضلِ الكبيرِ
الهي ما سألتُ سواك عونا......فحسبي العونُ من ربٍ قديرِ
الهي ما سألتُ سواك عفوا.....فحسبي العفوُ من ربٍ غفورِ
الهي ما سألتُ سواك هديا.....فحسبي الهديُ من ربٍ بصيرِ
إذا لم أستعن بك يا الهي......فمن عونيِ سواك ومن مجيرِ
إن الفرار إلى الله، واللجوء إليه في كلِ حالٍ وفي كل كربٍ وهم، هو السبيلُ للتخلصَ من ضعفنا وفتورنا وذلنا و هواننا.
إن في هذه الدنيا مصائبَ ورزايا، ومحناً وبلايا، آلامُ تضيقُ بها النفوس، ومزعجاتُ تورث الخوفَ والجزع، كم في الدنيا من عينٍ باكيةٍ ؟
وكم فيها من قلب حزين؟
وكم فيها من الضعفاءِ والمعدومين، قلوبُهم تشتعل، ودموعُهم تسيل ؟
هذا يشكُ علةً وسقما.
وذاك حاجةً وفقرا.
وآخر هماً وقلقا.
عزيزٌ قد ذل، وغنيٌ افتقر، وصحيحٌ مرض، رجل يتبرم من زوجه وولده، وآخرُ يشكُ ويئنُ من ظلمِ سيده.
وثالثٌ كسدة وبارت تجارته، شاب أو فتاة يبحث عن عروس، وطالب يشكو كثرة الامتحانات والدروس.
هذا مسحور وذاك مدين ،وأخر ابتليَ بالإدمان والتدخين، ورابعُ أصابه الخوفُ ووسوسةُ الشياطين.
تلك هي الدنيا، تضحكُ وتبكي، وتجمعُ وتشتت، شدةُ ورخاءُ وسراءٌ وضراءُ.
وصدق الله العظيم: (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ).
أيها الأخوة، السؤال الذي يجب أن يكون، هؤلاء إلى من يشكون، و أيديَهم إلى من يمدون؟
يجيبك واقعُ الحال على بشرٍ مثلُهم يترددون، وللعبيدِ يتملقون، يسألون ويلحون وفي المديح والثناء يتقلبون، وربما على السحرة والكهنة يتهافتون.
نعم والله تألمنا شكاوي المستضعفين، وزفراتُ المساكين، وصرخاتُ المنكوبين، وتدمعُ أعُينَنا - يعلم الله- لأهات المتوجعين، وأناتُ المظلومين، وانكسارِ الملذوعين، لكن أليس إلى اللهِ وحدَه المشتكى ؟
أين الإيمان بالله ؟ أين التوكلُ على الله ؟ أين الثقةُ و اليقينُ بالله ؟
وإذا عرتك بليةًُ فأصبر لها.......صبرُ الكريمِ فإنه بك أرحمُ
وإذا شكوتَ إلى ابنِ أدم إنما.....تشكو الرحيمَ إلى الذي لا يرحمُ
ألم نسمع عن أناس كانوا يشكون إلى الله حتى انقطاع سير نعلهم، نعم حتى سير النعل كانوا يسألونه الله، بل كانوا يسألون الله حتى الملح.
يا أصحابَ الحاجات.
أيها المرضى.
أيها المدينون.
أيها المكروب والمظلوم.
أيها المُعسرُ والمهموم.
أيها الفقيرُ والمحروم.
يا من يبحث عن السعادة الزوجية.
يا من يشكو العقم ويبحث عن الذرية.
يا من يريد التوفيق بالدراسة والوظيفة.
يا من يهتم لأمر المسلمين.
يا كلُ محتاج، يا من ضاقت عليه الأرضُ بما رحبت.
لماذا لا نشكوُ إلى اللهِ أمرنا وهو القائل: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ).
لماذا لا نرفعُ أكفَ الضراعة إلى الله وهو القائل: ( فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ).
لماذا ضُعفُ الصلةِ بالله، وقلةُ الاعتمادِ على الله، وهو القائل: ( قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ ). لولا دعاؤكم.
أيها المؤمنون، أيها المسلمون يا أصحابَ الحاجات، ألم نقرأ في القرآنِ قول الحق عز وجل: ( فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ) لماذا ؟ ( لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ).
فأين نحن من الشكوى لله، أين نحن من الإلحاح والتضرعِ الله؟
سبحان الله، ألسنا بحاجةٍ إلى ربنا؟
أنعتمدُ على قوتنا وحولِنا، والله ثم واللهِ لا حول لنا ولا قوةَ إلا بالله.
واللهِ لا شفاء إلا بيد الله، ولا كاشفَ للبلوى إلا الله، لا توفيق ولا فلاح ولا سعادةَ ولا نجاح إلا من الله.
العجيبُ والغريب أيها الأخوةُ أن كلَ مسلمٍ يعلمُ ذلك، ويعترفُ بهذا بل ويقسمُ على هذا، فلماذا إذاً تتعلقُ القلوبُ بالضعفاءُ العاجزين ؟
ولماذا نشكو إلى الناسِ ونلجأَ للمخلوقين ؟
سل الله ربك ما عنده......... ولا تسأل الناس ما عندهم
ولا تبتغي من سواه الغنى..... وكن عبده لا تكن عبدهم
فمن يا إذا بُليت سلاك أحبابك، وهجرك أصحابك.
يا من نزلت بها نازلة، أو حلت به كارثة.
يا من بليت بمصيبةٍ أو بلاءٍ، ارفع يديك إلى السماء وأكثر الدمعَ والبكاء، وألحَ على اللهِ بالدعاء وقل:
يا سامعاً لكلِ شكوى.
إذا استعنت فأستعن بالله، وإذا سألت فأسأل الله، وقل يا سامعاً لكل شكوى.
توكل على الله وحده، وأعلن بصدقٍ أنك عبده واسجد لله بخشوع، وردد بصوتٍ مسموع:
يا سامعاً لكلِ شكوى.
أنت الملاذُ إذا ما أزمةٌ شملت........وأنت ملجأُ من ضاقت بهِ الحيلُ
أنتَ المنادى به في كلِ حادثِةٍ.......أنت الإلهُ وأنت الذخرُ والأملُ
أنت الرجاءُ لمن سُدت مذاهبهُ......أنت الدليلُ لمن ضلت بهِ السبلُ
إنا قصدناك والآمال واقعةٌ.........عليكَ والكلُ ملهوفُ ومبتهلُ
إن الأنبياء والرسلَ، وهم خيرُ الخلق، وأحبُ الناسَ إلى الله، نزل بهم البلاء واشتدَ بهم الكرب، فماذا فعلوا وإلى من لجئوا.
أخي الحبيب، أختصرُ لك الإجابة، إنه التضرعُ والدعاء، والافتقارُ لربِ الأرضِ والسماء، إنها الشكايةُ لله وحُسنُ الصلةِ بالله.
هذا نوحٌ عليه السلام يشكو أمرَه إلى الله ويلجأُ لمولاه:
قال تعالى: (وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ).
كانتِ المناداة، كانتِ المناجاة، فكانتِ الإجابةُ من الرحمن الرحيم.
وقال تعالى: ( وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ).
وقال عز من قائل: (فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ).
هذا أيوبُ عليه السلام، ابتلاهُ اللهُ بالمرضِ ثمانيةَ عشر عاماً حتى أن الناسُ ملوا زيارته لطولِ المدة، فلم يبقى معه إلا رجلانِ من إخوانهِ يزورانه، لكنه لم ييئس عليه السلام، بل صبرَ واحتسب، وأثنى الله عليه: ( إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ)، أواب أي رجاعٌ منيبٌ إلى ربه، ظل على صلتِه بربِه وثقتِه به، ورضِاهُ بما قُسم الله له، توجه إلى ربه بالشكوى ليرفع عنه الضراء والبلوى قال تعالىوَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ). فماذا كانتَ النتيجة ؟
قال الحقُ عز وجل ، العليمُ البصيرُ بعباده، الرحمنُ الرحيم قالَ: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ).
هذا يونسُ عليه السلام، رفع الشكاية لله فلم ينادي ولم يناجي إلا الله قال تعالى:
( وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ). فماذا كانتَ النتيجة ؟
(فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ).
وزكريا عليه السلام قال الحق عز وجل عنه: (وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ). ماذا كانت النتيجة ؟
(فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ).
الذين يشكون العقم وقلة الولد.
إذا لماذا استجاب الله دعاه؟
لأنهم كانوا يسارعون في الخيرات، وكانوا لا يملون الدعاء، بل كان القلب متصل متعلق بالله، لذلك قال الله عنهم: (وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ).
خاشعين متذللين، معترفين بالتقصير، فالشكاية تخرج من القلب قبل اللسان.
يعقوبُ عليه السلام قال: (قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)، انظروا لليقين، انظروا للمعرفة برب العالمين: (وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)، فاستجاب اللهُ دعائَه وشكواه وردَ عليه يوسفَ وأخاه.
وهذا يوسف عليه السلام ابتلاه الله بكيد النساء، فلجأ إلى الله، وشكى إليه ودعاه فقال:
( وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ)
إنه التضرع والدعاء، والافتقار لرب الأرض والسماء، إنها الشكاية لله، وحسن الصلة بالله.
(فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).
وأخبر الله عن نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه فقال تعالى: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ).
استغاثة لجاءة إلى الله، شكوى وصلة بالله سبحانه وتعالى.
وهكذا أيها الأحبةِ حينما نستعرضُ حياةَ الرسلِ جميعاً، كما قصها علينا القرآن الكريم، نرى أن الابتلاء والامتحان كان مادتُها وماُئها، وأن الصبرَ وحسنُ الصلةِ بالله ودوام الالتجاءِ وكثرةُ الدعاءِ وحلاوة الشكوى كان قوَمُها.
وما أشرنا إليه إنما هي نماذج من الاستجابة للدعاء، ومن في كتب السير والتفاسير وقف على شدةِ البلاء الذي أصاب الأنبياء، وعلم أن الاستجابةَ جاءت بعد إلحاحٍ ودعاء، واستغاثةٍ ونداء.
إنها آياتُ بينات وبراهينُ واضحات، تقول بل وتعلن أن من توكلَ واعتمد على الله، وأحسن الصلة بمولاه استجاب الله دعاه، وحفظه ورعاه، فإن لم يكن ذلك في الدنيا كان في الآخرة:
( وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ).
أنها صفحاتٌ من الابتلاء والصبر معروضةٌ للبشرية، لتسجل أن لا اعتماد إلا على الله، وان لا فارجَ للهمِ ولا كاشفَ للبلوى إلا الله.
هذا هو طريق الاستعلاء أن تنظرَ إلى السماء، وأن نلحُ بالدعاء، لأن الشكوى إلى الله تشعرك بالقوةِ والسعادة، وأنك تأوي إلى ركنٍ شديد.
أما الشكوى إلى الناس، والنظرِ إلى ما في أيدي الناس فيشعرك بالضعف والذل والإهانةِ والتبعية.
يا أهل التوحيد، أليس هذا أصل من أصول التوحيد ؟
إن من أصول التوحيد أن تتعلق القلوبُ بخالقها في وقت الشدةِ والرخاء والخوفِ والأمن، والمرضِ والصحة، وفي كل حالٍ وزمان.
وما نراه اليومَ من تعلقِ القلوب بالمخلوقين، وبالأسباب وحدها دون اللجأ إلى الله، لهو نذيرُ خطرٍ يزعزعُ عقيدةِ التوحيدِ في النفوس.
أيها الأحبة: إن الشكوى لله، والتضرعَ إلى الله، وإظهارَ الحاجة إليه، ولاعتراف بالافتقار إليه من أعظمِ عرى الإيمانِ وثوابتِ التوحيد، وبرهانُ ذلك الدعاء والإلحاح بالسؤال، والثقةُ واليقينُ بالله في كلِ حال.
ولقد زخرت كتبُ السنةِ بأنواعٍ من الدعاءِ تجعلُ المسلمَ على صلةٍ بربه، وفي حرزٍ من عدوه، يقضي أمره ويكفي همه.
في كلِ مناسبةٍ دعا، في اليقظةِ والمنام، والحركة والسكون، قياماً وقعودا، وعلى الجنوب، ابتهالٌ وتضرعٌ في كل ما أهم العبد، وهل إلى غيرِ الله مفر، أم هل إلى غيره ملاذ.
ففي المرض مثلا الأحاديث كثيرة، والأدعية مستفيضة، إليك على سبيل المثال ما أحرجه البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها:
أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه المعوذات، وينفث، فلما أشتد وجعه كنت اقرأ عليه وأمسح عليه رجاء بركتها.
وأخرج البخاري ومسلم أيضا من حديث عائشة قالت:
كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا اشتكى منا إنسان مسحه بيمينه ثم قال: أذهب البأس رب الناس، وأشفي أنت الشافي لا شفاء إلا شفائك، شفاء لا يغادر سقما، أي لا يترك سقما.
وفي صحيح مسلم عن عثمان أبن أبي العاص رضي الله تعالى عنه:
أنه شكى إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وجعا يجده في جسده منذ أسلم، فقال له (صلى الله عليه وآله وسلم): ضع يدك على الذي تألم من جسدك.
انظروا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قدوتنا وحبيبنا يربي الناس، ويربي أصحابه على الاعتماد واللجاءة إلى الله، ضع يدك، الإرشاد أولا لله، التعلق أولا بالله، لم يرشده أولا لطبيب حاذق ولا بأس بهذا، لكن التعلق بالله يأتي أولا.
ضع يدك على الذي تألم من جسدك وقل بسم الله، بسم الله ثم يقول سبعا أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر.
وفي رواية أمسحه بيمينك سبع مرات، وفي رواية قال عثمان فقلت ذلك فأذهب الله ما كان بي، فلم أزل آمر بها أهلي وغيرهم.
سبحان الله، اسمعوا لحسن الصلة بالله، والتوكل على الله، فلم أزل آمر بها أهلي وغيرهم.