التابعي الجليل الأحنف بن قيس
التعريف به وقبيلته وإسلامه :
الأحنف بن قيس هو أبو معاوية بن حصين التميمي السعدي (1) أبو بحر البصري، والأحنف لقب، واسمه الضحاك و قيل: صخر ابن أخي صعصعة، ولقب بالأحنف لحنف كان برجله، وُلد في البصرة سنة 3 ق . هـ (2) وعده أصحاب السير من الطبقة الثانية من كبار التابعين، وذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من تابعي أهل البصرة، وقال: كان ثقة مأمونا قليل الحديث.
وهو من أهل البصرة وقدم إلى المدينة في عهد عمر بن الخطاب، ورحل إلى مرو وهراة ونيسابور فاتحًا ومات بالكوفة في ولاية مصعب بن الزبير. وكان سيدًا في قومه حتى غدا من أفاضل الناس وارتفعت منزلته عند الصحابة أنفسهم، وكانت له نظرة ثاقبة في الحرب وأمره سيدنا عمر بن الخطاب على إحدى الجيوش المتجه إلى فارس .
إسلامه ودعاء رسول الله له
أسلم الأحنف بن قيس في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يره، إلا أن الرسول دعا له، يقول الأحنف بن قيس: بينا أنا أطوف بالبيت في زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه إذ جاء رجل من بني ليث فأخذ بيدي فقال: ألا أبشرك؟ فقلت: بلى قال: هل تذكر إذ بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومك بني سعد ؟ فجعلت أعرض عليهم الإسلام وأدعوهم إليه، فقلت أنت: إنه ليدعوكم إلى خير، وما حسن إلا حسنًا، فبلغت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اللهم اغفر للأحنف ) فقال الأحنف: هذا من أرجى عملي عندي.
قال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد رجال الصحيح غير علي بن زيد وهو حسن الحديث.
الصحابة الذين تعلم على أيديهم
قدم الأحنف المدينة في عهد سيدنا عمر بن الخطاب، مما أتاح له مقابلة عدد كبير من كبار الصحابة رضي الله عنهم ليتعلم منهم ويأخذ عنهم، فعاش معهم ينهل مما تعلموه من النبي صلى الله عليه وسلم مما كان له من كبير الأثر في حياته، فتعلم من سيدنا عمر بن الخطاب، وتعلم من علي بن أبي طالب، وجلس مع أبي ذر الغفاري، وأخذ عن عثمان بن عفان، وتعلم من عبد الله بن مسعود، وغيرهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .
أثر الصحابة فيه
عمر بن الخطاب رضي الله عنه
كان للصحابة أثرًا قويًا في نفوس التابعين، وممن تأثر بالصحابة رضي الله عنهم ، وتربى على أيديهم الأحنف بن قيس خاصةً من سيدنا عمر بن الخطاب ومن مواقفه رضي الله عنه التي تدل على أن سيدنا عمر كانت له توجيهات قوية، وتأثيرًا كبيرًا في نفس الأحنف ما يرويه عن موقفه معه فيقول: قدمت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فاحتبسني عنده حولاً، فقال: يا أحنف، إني قد بلوتك وخبرتك فرأيت علانيتك حسنة، وأنا أرجو أن تكون سريرتك على مثل علانيتك، وإنا كنا نتحدث إنما يهلك هذه الأمة كل منافق عليم.
وعن الأحنف بن قيس قال: خرجنا مع أبي موسى وفودًا إلى عمر، وكانت لعمر ثلاث خبزات يأدمهن يومًا بلبن ويومًا بسمن ويومًا بلحم عريض ويومًا بزيت، فجعل القوم يأكلون ويعذرون فقال عمر: إني لأرى تعذركم وإني لأعلمكم بالعيش، ولو شئت لجعلت كراكر وأسنمة وصلاء وصنابًا وصلائق، ولكن أستبقي حسناتي إن ذكر قومًا فقال: { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ } .
ويقول سيدنا عمر بن الخطاب للأحنف مربيًا: يا أحنف من كثر ضحكه قلت هيبته، ومن مزح استخف به، ومن كثر كلامه كثر سقطه ومن كثر سقطه قل حياؤه ومن قل حياؤه قل ورعه ومن قل ورعه مات قلبه.
صعصعة بن معاوية
وممن كان له أثرًا كبيرًا في نفس الأحنف عمه صعصعة الذي تعلم منه الحلم والأناة تلك الخصلة التي يحبهما الله تعالى ، يقول الأحنف بن قيس لأصحابه يومًا: أتعجبون من حلمي وخُلقي؟ إنما هذا شيء استفدته من عمي صعصعة بن معاوية، شكوت إليه وجعًا في بطني فأسكتني مرتين ثم قال لي: بابن أخي لا تشك الذي نزل بك إلى أحد؛ فإن الناس رجلان: إما صديق فيسوءه، وإما عدو فيسره، ولكن اشك الذي نزل بك إلى الذي ابتلاك، ولا تشك قط إلى مخلوق مثلك لا يستطيع أن يدفع عن نفسه مثل الذي نزل بك، بابن أخي إن لي عشرين سنة لا أرى بعيني هذه سهلاً ولا جبلاً فما شكوت ذلك لزوجتي ولا غيرها.
قيس بن عاصم المنقري
وممن رباه أيضًا على الحلم قيس بن عاصم المنقري، وقد سئل الأحنف بن قيس يومًا: ممن تعلمت الحلم؟ قال: من قيس بن عاصم المنقري لقد اختلفنا إليه فى الحلم كما يختلف إلى الفقهاء، فبينا نحن عنده يوما وهو قاعد بفنائه محتب بكسائه، أتته جماعة فيهم مقتول ومكتوف فقالوا: هذا ابنك قتله ابن أخيك قال: فوالله ما حل حبوته حتى فرغ من كلامه، ثم التفت إلى ابن له في المسجد فقال: أطلق عن ابن عمك، ووار أخاك، واحمل إلى أمه مائة من الإبل فإنها غريبة. ، إنه الأحنف بن قيس.
أثره في الآخرين
كان للأحنف بن قيس أثرًا في نفوس الآخرين فكان يجلس مع مصعب بن الزبير على سريره فجاء يومًا ومصعب ماد رجليه فلم يقبضهما، وقعد الأحنف فزحم بعض الزحم فرأى ذلك فيه فقال: عجبًا لابن آدم يتكبر وقد خرج من مجرى البول مرتين.
وكتب الأحنف بن قيس إلى صديق له ينصحه: أما بعد فإذا قدم عليك أخ لك موافق فليكن منك مكان سمعك وبصرك، فإن الأخ الموافق أفضل من الولد المخالف، ألا تسمع إلى قول الله تعالى لنوح في شأن ابنه { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } يقول: ليس من أهل ملتك، فانظر إلى هذا وأشباهه فاجعلهم كنوزك وذخائرك وأصحابك في سفرك وحضرك، فإنك إن تقربهم تقربوا منك، وإن تباعدهم يستغنوا بالله تعالى والسلام.
مواقفه مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه
أوفد أبو موسى الأشعري وفدًا من أهل البصرة إلى عمر بن الخطاب فيهم الأحنف بن قيس، ولم يكن عمر رأى الأحنف قبل ذلك، فلما دخلوا عليه تكلم كل رجلاً فيهم في خاصة نفسه وكان الأحنف آخر القوم، فقام وحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: يا أمير المؤمنين إن أهل الشام نزلوا منازل أهل قيصر، وإن أهل مصر نزلوا منازل فرعون وأصحابه، وإن أهل الكوفة نزلوا منازل كسرى ومصانعه في الأنهار العذبة والجنان الحسنة، وفي مثل عين البعير وأتتهم ثمارهم قبل أن يحصدوا، وإن أهل البصرة نزلوا في سنحة نشاشة لا يجف ثراها ولا ينبت مرعاها، طرفها في بحر أجاج وطرفها بالفلاة لا يأتينا شيء إلا في مثل مدى النعامة، فارفع خسيستنا ولا تفشي وقيصتنا وزد في رجالنا رجالاً وفي عيالنا عيالاً، وأصغر درهمنا وأكبر فقيرنا، ومر بنهر يكرى لنا نستعذب منه فقال عمر للقوم: أعجزتم أن تكونوا مثل هذا، هذا والله السيد قال الأحنف: فما زالت بعد أسمعها من الناس هذا والله السيد.
وعن الفضل بن عميرة قال: أن الأحنف بن قيس قدم على عمر بن الخطاب في وفد من العراق، وكان ذلك في يوم صائف شديد الحر وهو متحجز بعباءة يهنأ يهنأ. - يقال: هنأت البعير أهنؤه إذا طليته بالهناء وهو القطران -. ببعير من إبل الصدقة فقال: يا أحنف ضع ثيابك، وهلم وأعن أمير المؤمنين على هذا البعير فإنه من إبل الصدقة فيه حق اليتيم والأرملة والمسكين فقال رجل: يغفر الله لك يا أمير المؤمنين فهلا تأمر عبدًا من عبيد الصدقة فيكفيك هذا؟ فقال عمر: يا ابن فلانة، وأي عبد هو أعبد مني ومن الأحنف بن قيس هذا؟ إنه من ولي أمر المسلمين فهو عبد للمسلمين، يجب عليه لهم ما يجب على العبد لسيده من النصيحة وأداء الأمانة.
وروي أن عمر ذكر بني تميم فذمهم، فقام الأحنف فقال: يا أمير المؤمنين ائذن لي فلأتكلم، قال: إنك ذكرت بني تميم بالذم، وإنما هم من الناس فيهم الصالح والطالح، فقال: صدقت فقفا بقول حسن فقام رجل كان يناوئ الأحنف فقال: يا أمير المؤمنين، ائذن لي فلأتكلم فقال: اجلس فقد كفاكم سيدكم الأحنف.
مواقفه مع معاوية بن أبي سفيان
قال يزيد بن معاوية أرسل أبي إلى الأحنف بن قيس فلما وصل إليه قال له: يا أبا بحر، ما تقول في الولد؟ قال: يا أمير المؤمنين، هم ثمار قلوبنا وعماد ظهورنا ونحن لهم أرض ذليلة وسماء ظليلة وبهم نصول على كل جليلة، فإن طلبوا فأعطهم، وإن غضبوا فارضهم؛ يمنحوك ودهم ويحبوك جهدهم، ولا تكن عليهم ثقيلاً فيملوا حياتك ويودوا وفاتك ويكرهوا قربك، فقال له معاوية بن أبي سفيان: لله أنت يا أحنف لقد دخلت علي وأنا مملوء غضبا وغيظا على يزيد. فلما خرج الأحنف من عنده رضي عن يزيد، وبعث إليه بمائتي ألف درهم ومائتي ثوب، فأرسل يزيد إلى الأحنف بمائة ألف درهم ومائة ثوب فقاسمه إياها على الشطر.
ومن مواقفه مع معاوية أنه وفد عليه فقال له: أنت الشاهر علينا سيفك يوم صفين والمخذل عن عائشة أم المؤمنين! قال: لا تؤنبنا بما مضى منا، ولا ترد الأمور على أدبارها، فإن القلوب التي أبغضناك بها بين جوانحنا، والسيوف التي قاتلناك بها على عواتقنا، فلما خرج قالت أخت معاوية: من هذا الذي يتهدد؟ قال: هذا الذي إن غضب؛ غضب لغضبه مائة ألف من تميم، لا يدرون فيم غضب.
فكره العسكري
كان عمر رضي الله عنه يحجر على المسلمين ان يتوسعوا في بلاد العجم خوفا عليهم من العجم حتى أشار عليه الأحنف بن قيس بأن المصلحة تقتضي توسعهم في الفتوحات فان الملك يزدجرد لا يزال يستحثهم على قتال المسلمين وان لم يستأصل شأو العجم ولا طمعوا في الإسلام وأهله فاستحسن عمر ذلك منه وصوبه وأذن للمسلمين في التوسع في بلاد العجم ففتحوا بسبب ذلك شيئًا كثيرًا ولله الحمد (3) .
وذكر ابن خلدون تعليل مقالة الأحنف بقوله: يا أمير المؤمنين لا يزال أهل فارس يقاتلون ما دام ملكهم فيهم فلو أذنت بالانسياح في بلادهم فأزلنا ملكهم انقطع رجاؤهم (4).
وكان رأيه صوابًا ففي الوقت الذي حجر فيه سيدنا عمر بن الخطاب على التوغل في أرض الفرس تجمع الفرس من جديد لحاربة المسلمين فكان رأي سيدنا الأحنف مجانبًا للصواب.
أهم المعارك ودوره فيها
لقد شارك سيدنا الأحنف بن قيس في معارك كثيرة وهو الذي قدم ببشارة فتح تستر على سيدنا عمر بن الخطاب ومعه الهرمزان مع عدد من المسلمين ومن المعارك التي كان له فيها دور كبير معركة مرو الروز وخراسان.
حصاره لمرو الروذ
بعث ابن عامر الأحنف بن قيس إلى مروروذ فحصر أهلها فخرجوا إليهم فقاتلوهم فهزمهم المسلمون حتى اضطروهم إلى حصنهم فأشرفوا عليهم فقالوا يا معشر العرب ما كنتم عندنا كما نرى ولو علمنا أنكم كما نرى لكانت لنا ولكم حال غير هذه فأمهلونا ننظر يومنا وارجعوا إلى عسكركم فرجع الأحنف فلما أصبح غاداهم وقد أعدوا له الحرب فخرج رجل من العجم معه كتاب من المدينة فقال إني رسول فأمنوني فأمنوه فإذا رسول من مرزبان مرو بن أخيه وترجمانه وإذا كتاب المرزبان إلى الأحنف فقرأ الكتاب قال فإذا هو إلى أمير الجيش إنا نحمد الله الذي بيده الدول يغير ما شاء من الملك ويرفع من شاء بعد الذلة ويضع من شاء بعد الرفعة إنه دعاني إلى مصالحتك وموادعتك ما كان من إسلام جدي وما كان رأي من صاحبكم من الكرامة والمنزلة فمرحبًا بكم وأبشروا وأنا أدعوكم إلى الصلح فيما بينكم وبيننا على أن أؤدي إليكم خراجا ستين ألف درهم وأن تقروا بيدي ما كان ملك الملوك كسرى أقطع جد أبي حيث قتل الحية التي أكلت الناس وقطعت السبل من الأرضين والقرى بما فيها من الرجال ولا تأخذوا من أحد من أهل بيتي شيئا من الخراج ولا تخرج المرزبة من أهل بيتي إلى غيركم فإن جعلت ذلك لي خرجت إليك وقد بعثت إليك ابن أخي ماهك ليستوثق منك بما سألت قال: فكتب إليه الأحنف: بسم الله الرحمن الرحيم من صخر بن قيس أمير الجيش إلى باذان مرزبان مروروذ ومن معه من الأساورة والأعاجم سلام على من اتبع الهدى وآمن واتقى أما بعد فإن ابن أخيك ماهك قدم علي فنصح لك جهده وأبلغ عنك وقد عرضت ذلك على من معي من المسلمين وأنا وهم فيما عليك سواء وقد أجبناك إلى ما سألت وعرضت على أن تؤدي عن أكرتك وفلاحيك والأرضين ستين ألف درهم إلي وإلى الوالي من بعدي من أمراء المسلمين إلا ما كان من الأرضين التي ذكرت أن كسرى الظالم لنفسه أقطع جد أبيك لما كان من قتله الحية التي أفسدت الأرض وقطعت السبل والأرض لله ولرسوله يورثها من يشاء من عباده وإن عليك نصرة المسلمين وقتال عدوهم بمن معك من الأساورة إن أحب المسلمون ذلك وأرادوه وإن لك على ذلك نصرة المسلمين على من يقاتل من وراءك من أهل ملتك جار لك بذلك مني كتاب يكون لك بعدي ولا خراج عليك ولا على أحد من أهل بيتك من ذوي الأرحام وإن أنت أسلمت واتبعت الرسول كان لك من المسلمين العطاء والمنزلة والرزق وأنت أخوهم ولك بذلك ذمتي وذمة أبي وذمم المسلمين وذمم آبائهم شهد على ما في هذا الكتاب جزء بن معاوية أو معاوية بن جزء السعدي وحمزة بن الهرماس وحميد بن الخيار المازنيان وعياض بن ورقاء الأسيدي وكتب كيسان مولى بني ثعلبة يوم الأحد من شهر الله المحرم وختم أمير الجيش الأحنف بن قيس (5) .
فتحه لخراسان وقتاله ليزدجرد كسر فارس
أمر الأحنف وأمره بغزو بلاد خراسان فركب الأحنف في جيش كثيف إلى خراسان قاصدًا حرب يزدجر فدخل خراسان فافتتح هراة عنوة واستخلف عليها صحار بن فلان العبدي ثم سار إلى مرو الشاهجان وفيها يزدجر وبعث الأحنف بين يديه مطرف بن عبد الله بن الشخير إلى نيسابور والحارث بن حسان إلى سرخس ولما اقترب الأحنف من مرو الشاهجان ترحل منها يزدجرد إلى مرو الروذ فافتتح الأحنف مرو الشاهجان فنزلها وكتب يزدجرد حين نزل مرو الروذ إلى خاقان ملك الترك يستمده وكتب إلى ملك الصفد يستمده وكتب إلى ملك الصين يستعينه وقصده الأحنف بن قيس إلى مرو الروذ وقد استخلف على مرو الشاهجان حارثة بن النعمان وقد وفدت إلى الأحنف إمداد من أهل الكوفة مع أربعة أمراء فلما بلغ مسيرة إلى يزدجرد ترحل إلى بلخ فالتقى معه ببلخ يزدجرد فهزمه الله عز وجل وهرب هو ومن بقي معه من جيشه فعبر النهر واستوثق ملك خراسان على يدي الأحنف بن قيس واستخلف في كل بلدة أميرًا ورجع الأحنف فنزل مرو الروذ وكتب إلى عمر بما فتح الله عليه من بلاد خراسان بكمالها فقال عمر وددت انه كان بيننا وبين خراسان بحر من نار فقال له علي ولم يا أمير المؤمنين فقال: إن أهلها سينقضون عهدهم ثلاث مرات فيجتاحون في الثالثة فقال يا أمير المؤمنين لان يكون ذلك بأهلها أحب إليَّ من أن يكون ذلك بالمسلمين: وكتب عمر إلى الأحنف ينهاه عن العبور إلى ما وراء النهر وقال: احفظ ما بيدك من بلاد خراسان: ولما وصل رسول يزدجرد إلى اللذين استنجد بهما لم يحتفلا بأمره فلما عبر يزدجرد النهر ودخل في بلادهما تعين عليهما أنجاده في شرع الملوك فسار معه خاقان الأعظم ملك الترك ورجع يزدجرد بجنود عظيمة فيهم ملك التتار خاقان فوصل إلى بلخ واسترجعها وفر عمال الأحنف إليه إلى مرو الروذ وخرج المشركون من بلخ حتى نزلوا على الأحنف بمرو الروذ فتبرز الأحنف بمن معه من أهل البصرة وأهل الكوفة والجميع عشرون ألفًا فسمع رجلاً يقول لآخر: إن كان الأمير ذا رأي فإنه يقف دون هذا الجبل فيجعله وراء ظهره ويبقى هذا النهر خندقًا حوله فلا يأتيه العدو إلا من جهة واحدة. فلما أصبح الأحنف أمر المسلمين فوقفوا في ذلك الموقف بعينه.
وكان أمارة النصر والرشد وجاءت الأتراك والفرس في جمع عظيم هائل مزعج فقام الأحنف في الناس خطيبًا فقال: إنكم قليل وعدوكم كثير فلا يهولنكم كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين فكانت الترك يقاتلون بالنهار ولا يدري الأحنف أين يذهبون في الليل، فسار ليلة مع طليعة من أصحابه نحو جيش خاقان، فلما كان قريب الصبح خرج فارس من الترك طليعة وعليه طوق، وضرب بطبله، فتقدَّم إليه الأحنف، فاختلفا طعنتين، فطعنه الأحنف، فقتله وهو يرتجز:
إِنَّ على كُلِّ رَئِيسٍ حَقَّا * أَن يَخْضِبَ الصَّعْدَةَ(6)أَو تَنْدَقَّا
إن لها شيخًا بها ملقَّى * بسيف أبي حفص الذي تبقَّى
قال: ثم استلب التركي طوقه ووقف موضعه فخرج آخر علم طوق ومعه طبل فجعل يضرب بطبله فتقدم إليه الأحنف فقتله أيضا واستلبه طوقه ووقف موضعه فخرج ثالث فقتله واخذ طوقه ثم أسرع الأحنف الرجوع إلى جيشه ولا يعلم بذلك احد من الترك بكلية وكان من عادتهم بطبله ثم الثاني ثم الثالث ثم يخرجون بعد الثالث فلما خرجت الترك ليلتئذ سد أنهم لا يخرجون من صبيتهم حتى تخرج ثلاثة من كهولهم بين أيديهم يضرب الأول الثالث فأتوا على فرسانهم مقتلين تشاءم بذلك الملك خاقان وتطير وقال لعسكره قد طال قامنًا، وقد أصيب هؤلاء القوم بمكان لم نصب بمثله ما لنا في قتال هؤلاء القوم من خير فانصرفوا بنا فرجعوا إلى بلادهم وانتظرهم المسلمون يومهم ذلك ليخرجوا إليهم من شعبهم فلم يروا أحدًا منهم ثم بلغهم انصرافهم إلى بلادهم راجعين عنهم وقد كان يزدجرد وخاقان في مقابلة الأحنف بن قيس ومقاتلته ذهب إلى مرو الشاهجان فحاصرها وحارثة بن النعمان بها واستخرج منها خزانته التي كان دفنها بها ثم رجع وانتظره خاقان ببلخ حتى رجع إليه، وقد قال المسلمون للأحنف: ما ترى في أتباعهم؟
فقال: أقيموا بمكانكم ودعوهم. وقد أصاب الأحنف في ذلك فقد جاء في الحديث: ( اتركوا الترك ما تركوكم ) وقد رد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرًا، وكفى الله المؤمنين القتال، وكان الله قويًّا عزيزًا. ورجع كسرى خاسرًا الصفقة لم يشف له غليل، ولا حصل على خير، ولا انتصر كما كان في زعمه؛ بل تخلى عنه من كان يرجو النصر منه، وتنحى عنه وتبرأ منه أحوج ما كان إليه، وبقي مذبذبًا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، { ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلاً }، وتحير في أمره ماذا يصنع، وإلى أين يذهب؟ وقد أشار عليه بعض أولى النهى من قومه حين قال: قد عزمت أن أذهب إلى بلاد الصين أو أكون مع خاقان في بلاده. فقالوا: إنا نرى أن نصانع هؤلاء القوم فإن لهم ذمة ودينا يرجعون إليه فنكون في بعض هذه البلاد وهم مجاورينا فهم خير لنا من غيرهم. فأبى عليهم كسرى ذلك (7) .
من أهم ملامح شخصيته
عبادته
لقد كانت عامة صلاة الأحنف بالليل، وكان يضع المصباح قريبًا منه فيضع إصبعه على المصباح ثم يقول: حس، ثم يقول: يا أحنف ما حملك على أن صنعت كذا يوم كذا.
وقد قيل للأحنف بن قيس: إنك شيخ كبير، وإن الصيام يضعفك، فقال: إني أعده لسفر طويل، والصبر على طاعة الله سبحانه أهون من الصبر على عذابه.
خوفه ومحاسبته لنفسه
كان الأحنف بن قيس يقول: عرضت عملي على عمل أهل الجنة فإذا قوم قد باينونا بونًا بعيدًا لا نبلغ أعمالهم، كانوا قليلا من الليل ما يهجعون، وعرضت عملي على عمل أهل النار فإذا قوم لا خير فيهم مكذبون بكتاب الله وبرسل الله مكذبون بالبعث بعد الموت، فقد وجدت من خيرنا منزلة قومًا خلطوا عملاً صالحًا وآخر سيئًا.
وكان يقول: اللهم إن تغفر لي فأنت أهل ذاك، وإن تعذبني فأنا أهل ذاك.
وصعد الأحنف بن قيس فوق بيته يومًا فأشرف على جاره فقال: سوءة سوءة، دخلت على جاري بغير إذن لا صعدت فوق هذا البيت أبدًا.
شجاعته
عرف عن الأحنف بن قيس أنه كان من الشجعان، فيرُوى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعثه على جيش قِبَل خراسان فبيتهم العدو ليلاً ففرقوا جيوشهم أربعة جيوش، وأقبلوا معهم الطبول ففزع الناس وكان أول من ركب الأحنف فأخذ سيفه فتقلده ثم مضى نحو الصوت وهو يقول:
حلمه
اشتهر الأحنف بحلمه، ولقد عاشت بنو تميم بحلم الأحنف أربعين سنة، وقيل إن رجلاً خاصم الأحنف وقال: لئن قلت واحدة لتسمعن عشرًا فقال: لكنك إن قلت عشرًا لم تسمع واحدة.
تواضعه
ومما عرف عنه تواضعه ومن ذلك أنه استعمل على خراسان، فلما أتى فارس أصابته جنابة في ليلة باردة قال: فلم يوقظ أحدًا من غلمانه ولا جنده، وانطلق يطلب الماء قال: فأتى على شوك وشجر حتى سالت قدماه دمًا فوجد الثلج قال: فكسره واغتسل، قال: فقام فوجد على ثيابه نعلين محذوتين جديدتين قال: فلبسهما فلما أصبح أخبر أصحابه فقالوا: والله ما علمنا بك.
رجاحة عقله
يقول هشام بن عقبة: شهدت الأحنف بن قيس وقد جاء إلى قوم في دم فتكلم فيه وقال: احتكموا قالوا: نحتكم ديتين قال: ذاك لكم فلما سكتوا قال: أنا أعطيكم ما سألتم، فاسمعوا إن الله قضى بدية واحدة، وإن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بدية واحدة، وإن العرب تعاطي بينها دية واحدة، وأنتم اليوم تطالبون، وأخشى أن تكونوا غدًا مطلوبين فلا ترضى الناس منكم إلا بمثل ما سننتم قالوا: ردها إلى دية.
من أقواله
قال الأحنف بن قيس: الكامل من عدت هفواته، ولا تعد إلا من قلة (9).
وقال: ليس فضل الحلم أن تُظلم فتحلم حتى إذا قدرت انتقمت، ولكنه إذا ظُلِمت فحلمت ثم قدرت فعفوت (10) .
وسئل الأحنف بن قيس عن الحلم قال: أن تصبر على ما تكره قليلاً (11).
وقال رجل للأحنف بن قيس: بم سدت قومك وأنت أحنف أعور؟ قال: بتركي مالا يعنيني، كما عناك من أمري ما لا يعنيك (12).
وعن الأحنف بن قيس قال: في خلال ثلاث ما أذكرها إلا أن يعتبر رجل بخلق صالح، ما أتيت باب سلطان قط إلا أن دعا، ولا دخلت بين اثنين قط إلا أن يأمراني، ولا خلفت أحدًا بعده بسوء قط.
ويقول: ثمانية إن أهينوا فلا يلوموا إلا أنفسهم: الآتي طعامًا لم يدع إليه، والمتآمر على رب البيت في بيته، وطالب الفضل من أعدائه، وراجي الخير من اللئام، والمقبل بحديثه على من لا يسمعه، والجالس في المجلس الذي لا يستأهله، والداخل بين اثنين في حديثهما من غير أن يدخلاه، والمتقدم بالدالة على السلطان (13).
وفاته
كان موته بالبصرة زمن ولاية مصعب بن الزبير سنة سبع وستين، ومشى مصعب في جنازته، وقال مصعب يوم موته : ذهب اليوم الحزم والرأي (14) .
ولقد مات الأحنف بن قيس في دار ابن أبي عصيفير بالكوفة، فجاءت امرأة على بغل في رحالة وحولها جماعة نساء فقالت: أيها الأمير إن ابن عمي مات بأرض غربة فأذن لي أندبه فقيل: شأنك فقالت: لله درك من مجن في جنن، ومدرج في كفن، أسأل الله الذي ابتلانا بفقدك وفجعنا بيومك، أن يوسع لك في لحدك، وأن يكون لك في يوم حشرك، ثم أقبلت على الناس فقالت: أيها الناس إن أولياء الله في بلاده شهود على عباده وإنا لقائلون حقًا ومثنون صدقًا ثم قالت: أما والدي كنت من أمره إلى مدة، ومن المضمار إلى غاية من الموت إلى نهاية الذي رفع عملك عند انقضاء أجلك. لقد عشت حميدًا مودودًا، ومت شهيدًا فقيدًا، ولقد كنت في المحافل شريفًا، وعلى الأرامل عطوفًا، ومن الناس قريبًا، وفيهم غريبًا، وإن كنت لمسودًا، وإلى الخلفاء موفدًا، وإن كانوا لفقدك لمستمعين ولرأيك لمتبعين.
بتصرف عن موقع قصة الإسلام
الهوامش:
(1) البداية والنهاية 8/326.
(2) عثمان بن عفان 1/98.
(3) البداية والنهاية 7/88.
(4) تاريخ ابن خلدون 2/553.
(5) الطبري: تاريخ الأمم والملوك 2/630.
(6) الصَّعْدةُ القناة التي تنبت مستقيمة، ابن منظور: لسان العرب، مادة صعد 3/251.
(7) البداية والنهاية 7/127.
(8) تاريخ خليفة بن خياط 1/35.
(9) البداية والنهاية 9/193.
(10) الحلم 1/57.
(11) الصمت 1/132.
(12) الإصابة في تمييز الصحابة 1/188.
(13) طبقات المحدثين بأصبهان 1/299، 300.
(14) الإصابة في تمييز الصحابة 1/188.
المصادر
رواة التهذيبيين - أسد الغابة - صفة المنافق - إصلاح المال - مجمع الزوائد - الزهد لابن المبارك - صحيح البخاري - البداية والنهاية -كنز العمال - التواضع والخمول - إحياء علوم الدين - الحلم - طبقات المحدثين بأصبهان - تاريخ الإسلام - الطبقات الكبرى - تفسير ابن كثير - مكارم الأخلاق - سير أعلام النبلاء - الطبقات الكبرى - الصمت - الإصابة في تمييز الصحابة - الإشراف في منازل الأشراف - المستدرك.
الأحنف بن قيس هو أبو معاوية بن حصين التميمي السعدي (1) أبو بحر البصري، والأحنف لقب، واسمه الضحاك و قيل: صخر ابن أخي صعصعة، ولقب بالأحنف لحنف كان برجله، وُلد في البصرة سنة 3 ق . هـ (2) وعده أصحاب السير من الطبقة الثانية من كبار التابعين، وذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من تابعي أهل البصرة، وقال: كان ثقة مأمونا قليل الحديث.
وهو من أهل البصرة وقدم إلى المدينة في عهد عمر بن الخطاب، ورحل إلى مرو وهراة ونيسابور فاتحًا ومات بالكوفة في ولاية مصعب بن الزبير. وكان سيدًا في قومه حتى غدا من أفاضل الناس وارتفعت منزلته عند الصحابة أنفسهم، وكانت له نظرة ثاقبة في الحرب وأمره سيدنا عمر بن الخطاب على إحدى الجيوش المتجه إلى فارس .
إسلامه ودعاء رسول الله له
أسلم الأحنف بن قيس في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يره، إلا أن الرسول دعا له، يقول الأحنف بن قيس: بينا أنا أطوف بالبيت في زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه إذ جاء رجل من بني ليث فأخذ بيدي فقال: ألا أبشرك؟ فقلت: بلى قال: هل تذكر إذ بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومك بني سعد ؟ فجعلت أعرض عليهم الإسلام وأدعوهم إليه، فقلت أنت: إنه ليدعوكم إلى خير، وما حسن إلا حسنًا، فبلغت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اللهم اغفر للأحنف ) فقال الأحنف: هذا من أرجى عملي عندي.
قال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد رجال الصحيح غير علي بن زيد وهو حسن الحديث.
الصحابة الذين تعلم على أيديهم
قدم الأحنف المدينة في عهد سيدنا عمر بن الخطاب، مما أتاح له مقابلة عدد كبير من كبار الصحابة رضي الله عنهم ليتعلم منهم ويأخذ عنهم، فعاش معهم ينهل مما تعلموه من النبي صلى الله عليه وسلم مما كان له من كبير الأثر في حياته، فتعلم من سيدنا عمر بن الخطاب، وتعلم من علي بن أبي طالب، وجلس مع أبي ذر الغفاري، وأخذ عن عثمان بن عفان، وتعلم من عبد الله بن مسعود، وغيرهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .
أثر الصحابة فيه
عمر بن الخطاب رضي الله عنه
كان للصحابة أثرًا قويًا في نفوس التابعين، وممن تأثر بالصحابة رضي الله عنهم ، وتربى على أيديهم الأحنف بن قيس خاصةً من سيدنا عمر بن الخطاب ومن مواقفه رضي الله عنه التي تدل على أن سيدنا عمر كانت له توجيهات قوية، وتأثيرًا كبيرًا في نفس الأحنف ما يرويه عن موقفه معه فيقول: قدمت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فاحتبسني عنده حولاً، فقال: يا أحنف، إني قد بلوتك وخبرتك فرأيت علانيتك حسنة، وأنا أرجو أن تكون سريرتك على مثل علانيتك، وإنا كنا نتحدث إنما يهلك هذه الأمة كل منافق عليم.
وعن الأحنف بن قيس قال: خرجنا مع أبي موسى وفودًا إلى عمر، وكانت لعمر ثلاث خبزات يأدمهن يومًا بلبن ويومًا بسمن ويومًا بلحم عريض ويومًا بزيت، فجعل القوم يأكلون ويعذرون فقال عمر: إني لأرى تعذركم وإني لأعلمكم بالعيش، ولو شئت لجعلت كراكر وأسنمة وصلاء وصنابًا وصلائق، ولكن أستبقي حسناتي إن ذكر قومًا فقال: { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ } .
ويقول سيدنا عمر بن الخطاب للأحنف مربيًا: يا أحنف من كثر ضحكه قلت هيبته، ومن مزح استخف به، ومن كثر كلامه كثر سقطه ومن كثر سقطه قل حياؤه ومن قل حياؤه قل ورعه ومن قل ورعه مات قلبه.
صعصعة بن معاوية
وممن كان له أثرًا كبيرًا في نفس الأحنف عمه صعصعة الذي تعلم منه الحلم والأناة تلك الخصلة التي يحبهما الله تعالى ، يقول الأحنف بن قيس لأصحابه يومًا: أتعجبون من حلمي وخُلقي؟ إنما هذا شيء استفدته من عمي صعصعة بن معاوية، شكوت إليه وجعًا في بطني فأسكتني مرتين ثم قال لي: بابن أخي لا تشك الذي نزل بك إلى أحد؛ فإن الناس رجلان: إما صديق فيسوءه، وإما عدو فيسره، ولكن اشك الذي نزل بك إلى الذي ابتلاك، ولا تشك قط إلى مخلوق مثلك لا يستطيع أن يدفع عن نفسه مثل الذي نزل بك، بابن أخي إن لي عشرين سنة لا أرى بعيني هذه سهلاً ولا جبلاً فما شكوت ذلك لزوجتي ولا غيرها.
قيس بن عاصم المنقري
وممن رباه أيضًا على الحلم قيس بن عاصم المنقري، وقد سئل الأحنف بن قيس يومًا: ممن تعلمت الحلم؟ قال: من قيس بن عاصم المنقري لقد اختلفنا إليه فى الحلم كما يختلف إلى الفقهاء، فبينا نحن عنده يوما وهو قاعد بفنائه محتب بكسائه، أتته جماعة فيهم مقتول ومكتوف فقالوا: هذا ابنك قتله ابن أخيك قال: فوالله ما حل حبوته حتى فرغ من كلامه، ثم التفت إلى ابن له في المسجد فقال: أطلق عن ابن عمك، ووار أخاك، واحمل إلى أمه مائة من الإبل فإنها غريبة. ، إنه الأحنف بن قيس.
أثره في الآخرين
كان للأحنف بن قيس أثرًا في نفوس الآخرين فكان يجلس مع مصعب بن الزبير على سريره فجاء يومًا ومصعب ماد رجليه فلم يقبضهما، وقعد الأحنف فزحم بعض الزحم فرأى ذلك فيه فقال: عجبًا لابن آدم يتكبر وقد خرج من مجرى البول مرتين.
وكتب الأحنف بن قيس إلى صديق له ينصحه: أما بعد فإذا قدم عليك أخ لك موافق فليكن منك مكان سمعك وبصرك، فإن الأخ الموافق أفضل من الولد المخالف، ألا تسمع إلى قول الله تعالى لنوح في شأن ابنه { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } يقول: ليس من أهل ملتك، فانظر إلى هذا وأشباهه فاجعلهم كنوزك وذخائرك وأصحابك في سفرك وحضرك، فإنك إن تقربهم تقربوا منك، وإن تباعدهم يستغنوا بالله تعالى والسلام.
مواقفه مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه
أوفد أبو موسى الأشعري وفدًا من أهل البصرة إلى عمر بن الخطاب فيهم الأحنف بن قيس، ولم يكن عمر رأى الأحنف قبل ذلك، فلما دخلوا عليه تكلم كل رجلاً فيهم في خاصة نفسه وكان الأحنف آخر القوم، فقام وحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: يا أمير المؤمنين إن أهل الشام نزلوا منازل أهل قيصر، وإن أهل مصر نزلوا منازل فرعون وأصحابه، وإن أهل الكوفة نزلوا منازل كسرى ومصانعه في الأنهار العذبة والجنان الحسنة، وفي مثل عين البعير وأتتهم ثمارهم قبل أن يحصدوا، وإن أهل البصرة نزلوا في سنحة نشاشة لا يجف ثراها ولا ينبت مرعاها، طرفها في بحر أجاج وطرفها بالفلاة لا يأتينا شيء إلا في مثل مدى النعامة، فارفع خسيستنا ولا تفشي وقيصتنا وزد في رجالنا رجالاً وفي عيالنا عيالاً، وأصغر درهمنا وأكبر فقيرنا، ومر بنهر يكرى لنا نستعذب منه فقال عمر للقوم: أعجزتم أن تكونوا مثل هذا، هذا والله السيد قال الأحنف: فما زالت بعد أسمعها من الناس هذا والله السيد.
وعن الفضل بن عميرة قال: أن الأحنف بن قيس قدم على عمر بن الخطاب في وفد من العراق، وكان ذلك في يوم صائف شديد الحر وهو متحجز بعباءة يهنأ يهنأ. - يقال: هنأت البعير أهنؤه إذا طليته بالهناء وهو القطران -. ببعير من إبل الصدقة فقال: يا أحنف ضع ثيابك، وهلم وأعن أمير المؤمنين على هذا البعير فإنه من إبل الصدقة فيه حق اليتيم والأرملة والمسكين فقال رجل: يغفر الله لك يا أمير المؤمنين فهلا تأمر عبدًا من عبيد الصدقة فيكفيك هذا؟ فقال عمر: يا ابن فلانة، وأي عبد هو أعبد مني ومن الأحنف بن قيس هذا؟ إنه من ولي أمر المسلمين فهو عبد للمسلمين، يجب عليه لهم ما يجب على العبد لسيده من النصيحة وأداء الأمانة.
وروي أن عمر ذكر بني تميم فذمهم، فقام الأحنف فقال: يا أمير المؤمنين ائذن لي فلأتكلم، قال: إنك ذكرت بني تميم بالذم، وإنما هم من الناس فيهم الصالح والطالح، فقال: صدقت فقفا بقول حسن فقام رجل كان يناوئ الأحنف فقال: يا أمير المؤمنين، ائذن لي فلأتكلم فقال: اجلس فقد كفاكم سيدكم الأحنف.
مواقفه مع معاوية بن أبي سفيان
قال يزيد بن معاوية أرسل أبي إلى الأحنف بن قيس فلما وصل إليه قال له: يا أبا بحر، ما تقول في الولد؟ قال: يا أمير المؤمنين، هم ثمار قلوبنا وعماد ظهورنا ونحن لهم أرض ذليلة وسماء ظليلة وبهم نصول على كل جليلة، فإن طلبوا فأعطهم، وإن غضبوا فارضهم؛ يمنحوك ودهم ويحبوك جهدهم، ولا تكن عليهم ثقيلاً فيملوا حياتك ويودوا وفاتك ويكرهوا قربك، فقال له معاوية بن أبي سفيان: لله أنت يا أحنف لقد دخلت علي وأنا مملوء غضبا وغيظا على يزيد. فلما خرج الأحنف من عنده رضي عن يزيد، وبعث إليه بمائتي ألف درهم ومائتي ثوب، فأرسل يزيد إلى الأحنف بمائة ألف درهم ومائة ثوب فقاسمه إياها على الشطر.
ومن مواقفه مع معاوية أنه وفد عليه فقال له: أنت الشاهر علينا سيفك يوم صفين والمخذل عن عائشة أم المؤمنين! قال: لا تؤنبنا بما مضى منا، ولا ترد الأمور على أدبارها، فإن القلوب التي أبغضناك بها بين جوانحنا، والسيوف التي قاتلناك بها على عواتقنا، فلما خرج قالت أخت معاوية: من هذا الذي يتهدد؟ قال: هذا الذي إن غضب؛ غضب لغضبه مائة ألف من تميم، لا يدرون فيم غضب.
فكره العسكري
كان عمر رضي الله عنه يحجر على المسلمين ان يتوسعوا في بلاد العجم خوفا عليهم من العجم حتى أشار عليه الأحنف بن قيس بأن المصلحة تقتضي توسعهم في الفتوحات فان الملك يزدجرد لا يزال يستحثهم على قتال المسلمين وان لم يستأصل شأو العجم ولا طمعوا في الإسلام وأهله فاستحسن عمر ذلك منه وصوبه وأذن للمسلمين في التوسع في بلاد العجم ففتحوا بسبب ذلك شيئًا كثيرًا ولله الحمد (3) .
وذكر ابن خلدون تعليل مقالة الأحنف بقوله: يا أمير المؤمنين لا يزال أهل فارس يقاتلون ما دام ملكهم فيهم فلو أذنت بالانسياح في بلادهم فأزلنا ملكهم انقطع رجاؤهم (4).
وكان رأيه صوابًا ففي الوقت الذي حجر فيه سيدنا عمر بن الخطاب على التوغل في أرض الفرس تجمع الفرس من جديد لحاربة المسلمين فكان رأي سيدنا الأحنف مجانبًا للصواب.
أهم المعارك ودوره فيها
لقد شارك سيدنا الأحنف بن قيس في معارك كثيرة وهو الذي قدم ببشارة فتح تستر على سيدنا عمر بن الخطاب ومعه الهرمزان مع عدد من المسلمين ومن المعارك التي كان له فيها دور كبير معركة مرو الروز وخراسان.
حصاره لمرو الروذ
بعث ابن عامر الأحنف بن قيس إلى مروروذ فحصر أهلها فخرجوا إليهم فقاتلوهم فهزمهم المسلمون حتى اضطروهم إلى حصنهم فأشرفوا عليهم فقالوا يا معشر العرب ما كنتم عندنا كما نرى ولو علمنا أنكم كما نرى لكانت لنا ولكم حال غير هذه فأمهلونا ننظر يومنا وارجعوا إلى عسكركم فرجع الأحنف فلما أصبح غاداهم وقد أعدوا له الحرب فخرج رجل من العجم معه كتاب من المدينة فقال إني رسول فأمنوني فأمنوه فإذا رسول من مرزبان مرو بن أخيه وترجمانه وإذا كتاب المرزبان إلى الأحنف فقرأ الكتاب قال فإذا هو إلى أمير الجيش إنا نحمد الله الذي بيده الدول يغير ما شاء من الملك ويرفع من شاء بعد الذلة ويضع من شاء بعد الرفعة إنه دعاني إلى مصالحتك وموادعتك ما كان من إسلام جدي وما كان رأي من صاحبكم من الكرامة والمنزلة فمرحبًا بكم وأبشروا وأنا أدعوكم إلى الصلح فيما بينكم وبيننا على أن أؤدي إليكم خراجا ستين ألف درهم وأن تقروا بيدي ما كان ملك الملوك كسرى أقطع جد أبي حيث قتل الحية التي أكلت الناس وقطعت السبل من الأرضين والقرى بما فيها من الرجال ولا تأخذوا من أحد من أهل بيتي شيئا من الخراج ولا تخرج المرزبة من أهل بيتي إلى غيركم فإن جعلت ذلك لي خرجت إليك وقد بعثت إليك ابن أخي ماهك ليستوثق منك بما سألت قال: فكتب إليه الأحنف: بسم الله الرحمن الرحيم من صخر بن قيس أمير الجيش إلى باذان مرزبان مروروذ ومن معه من الأساورة والأعاجم سلام على من اتبع الهدى وآمن واتقى أما بعد فإن ابن أخيك ماهك قدم علي فنصح لك جهده وأبلغ عنك وقد عرضت ذلك على من معي من المسلمين وأنا وهم فيما عليك سواء وقد أجبناك إلى ما سألت وعرضت على أن تؤدي عن أكرتك وفلاحيك والأرضين ستين ألف درهم إلي وإلى الوالي من بعدي من أمراء المسلمين إلا ما كان من الأرضين التي ذكرت أن كسرى الظالم لنفسه أقطع جد أبيك لما كان من قتله الحية التي أفسدت الأرض وقطعت السبل والأرض لله ولرسوله يورثها من يشاء من عباده وإن عليك نصرة المسلمين وقتال عدوهم بمن معك من الأساورة إن أحب المسلمون ذلك وأرادوه وإن لك على ذلك نصرة المسلمين على من يقاتل من وراءك من أهل ملتك جار لك بذلك مني كتاب يكون لك بعدي ولا خراج عليك ولا على أحد من أهل بيتك من ذوي الأرحام وإن أنت أسلمت واتبعت الرسول كان لك من المسلمين العطاء والمنزلة والرزق وأنت أخوهم ولك بذلك ذمتي وذمة أبي وذمم المسلمين وذمم آبائهم شهد على ما في هذا الكتاب جزء بن معاوية أو معاوية بن جزء السعدي وحمزة بن الهرماس وحميد بن الخيار المازنيان وعياض بن ورقاء الأسيدي وكتب كيسان مولى بني ثعلبة يوم الأحد من شهر الله المحرم وختم أمير الجيش الأحنف بن قيس (5) .
فتحه لخراسان وقتاله ليزدجرد كسر فارس
أمر الأحنف وأمره بغزو بلاد خراسان فركب الأحنف في جيش كثيف إلى خراسان قاصدًا حرب يزدجر فدخل خراسان فافتتح هراة عنوة واستخلف عليها صحار بن فلان العبدي ثم سار إلى مرو الشاهجان وفيها يزدجر وبعث الأحنف بين يديه مطرف بن عبد الله بن الشخير إلى نيسابور والحارث بن حسان إلى سرخس ولما اقترب الأحنف من مرو الشاهجان ترحل منها يزدجرد إلى مرو الروذ فافتتح الأحنف مرو الشاهجان فنزلها وكتب يزدجرد حين نزل مرو الروذ إلى خاقان ملك الترك يستمده وكتب إلى ملك الصفد يستمده وكتب إلى ملك الصين يستعينه وقصده الأحنف بن قيس إلى مرو الروذ وقد استخلف على مرو الشاهجان حارثة بن النعمان وقد وفدت إلى الأحنف إمداد من أهل الكوفة مع أربعة أمراء فلما بلغ مسيرة إلى يزدجرد ترحل إلى بلخ فالتقى معه ببلخ يزدجرد فهزمه الله عز وجل وهرب هو ومن بقي معه من جيشه فعبر النهر واستوثق ملك خراسان على يدي الأحنف بن قيس واستخلف في كل بلدة أميرًا ورجع الأحنف فنزل مرو الروذ وكتب إلى عمر بما فتح الله عليه من بلاد خراسان بكمالها فقال عمر وددت انه كان بيننا وبين خراسان بحر من نار فقال له علي ولم يا أمير المؤمنين فقال: إن أهلها سينقضون عهدهم ثلاث مرات فيجتاحون في الثالثة فقال يا أمير المؤمنين لان يكون ذلك بأهلها أحب إليَّ من أن يكون ذلك بالمسلمين: وكتب عمر إلى الأحنف ينهاه عن العبور إلى ما وراء النهر وقال: احفظ ما بيدك من بلاد خراسان: ولما وصل رسول يزدجرد إلى اللذين استنجد بهما لم يحتفلا بأمره فلما عبر يزدجرد النهر ودخل في بلادهما تعين عليهما أنجاده في شرع الملوك فسار معه خاقان الأعظم ملك الترك ورجع يزدجرد بجنود عظيمة فيهم ملك التتار خاقان فوصل إلى بلخ واسترجعها وفر عمال الأحنف إليه إلى مرو الروذ وخرج المشركون من بلخ حتى نزلوا على الأحنف بمرو الروذ فتبرز الأحنف بمن معه من أهل البصرة وأهل الكوفة والجميع عشرون ألفًا فسمع رجلاً يقول لآخر: إن كان الأمير ذا رأي فإنه يقف دون هذا الجبل فيجعله وراء ظهره ويبقى هذا النهر خندقًا حوله فلا يأتيه العدو إلا من جهة واحدة. فلما أصبح الأحنف أمر المسلمين فوقفوا في ذلك الموقف بعينه.
وكان أمارة النصر والرشد وجاءت الأتراك والفرس في جمع عظيم هائل مزعج فقام الأحنف في الناس خطيبًا فقال: إنكم قليل وعدوكم كثير فلا يهولنكم كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين فكانت الترك يقاتلون بالنهار ولا يدري الأحنف أين يذهبون في الليل، فسار ليلة مع طليعة من أصحابه نحو جيش خاقان، فلما كان قريب الصبح خرج فارس من الترك طليعة وعليه طوق، وضرب بطبله، فتقدَّم إليه الأحنف، فاختلفا طعنتين، فطعنه الأحنف، فقتله وهو يرتجز:
إِنَّ على كُلِّ رَئِيسٍ حَقَّا * أَن يَخْضِبَ الصَّعْدَةَ(6)أَو تَنْدَقَّا
إن لها شيخًا بها ملقَّى * بسيف أبي حفص الذي تبقَّى
قال: ثم استلب التركي طوقه ووقف موضعه فخرج آخر علم طوق ومعه طبل فجعل يضرب بطبله فتقدم إليه الأحنف فقتله أيضا واستلبه طوقه ووقف موضعه فخرج ثالث فقتله واخذ طوقه ثم أسرع الأحنف الرجوع إلى جيشه ولا يعلم بذلك احد من الترك بكلية وكان من عادتهم بطبله ثم الثاني ثم الثالث ثم يخرجون بعد الثالث فلما خرجت الترك ليلتئذ سد أنهم لا يخرجون من صبيتهم حتى تخرج ثلاثة من كهولهم بين أيديهم يضرب الأول الثالث فأتوا على فرسانهم مقتلين تشاءم بذلك الملك خاقان وتطير وقال لعسكره قد طال قامنًا، وقد أصيب هؤلاء القوم بمكان لم نصب بمثله ما لنا في قتال هؤلاء القوم من خير فانصرفوا بنا فرجعوا إلى بلادهم وانتظرهم المسلمون يومهم ذلك ليخرجوا إليهم من شعبهم فلم يروا أحدًا منهم ثم بلغهم انصرافهم إلى بلادهم راجعين عنهم وقد كان يزدجرد وخاقان في مقابلة الأحنف بن قيس ومقاتلته ذهب إلى مرو الشاهجان فحاصرها وحارثة بن النعمان بها واستخرج منها خزانته التي كان دفنها بها ثم رجع وانتظره خاقان ببلخ حتى رجع إليه، وقد قال المسلمون للأحنف: ما ترى في أتباعهم؟
فقال: أقيموا بمكانكم ودعوهم. وقد أصاب الأحنف في ذلك فقد جاء في الحديث: ( اتركوا الترك ما تركوكم ) وقد رد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرًا، وكفى الله المؤمنين القتال، وكان الله قويًّا عزيزًا. ورجع كسرى خاسرًا الصفقة لم يشف له غليل، ولا حصل على خير، ولا انتصر كما كان في زعمه؛ بل تخلى عنه من كان يرجو النصر منه، وتنحى عنه وتبرأ منه أحوج ما كان إليه، وبقي مذبذبًا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، { ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلاً }، وتحير في أمره ماذا يصنع، وإلى أين يذهب؟ وقد أشار عليه بعض أولى النهى من قومه حين قال: قد عزمت أن أذهب إلى بلاد الصين أو أكون مع خاقان في بلاده. فقالوا: إنا نرى أن نصانع هؤلاء القوم فإن لهم ذمة ودينا يرجعون إليه فنكون في بعض هذه البلاد وهم مجاورينا فهم خير لنا من غيرهم. فأبى عليهم كسرى ذلك (7) .
من أهم ملامح شخصيته
عبادته
لقد كانت عامة صلاة الأحنف بالليل، وكان يضع المصباح قريبًا منه فيضع إصبعه على المصباح ثم يقول: حس، ثم يقول: يا أحنف ما حملك على أن صنعت كذا يوم كذا.
وقد قيل للأحنف بن قيس: إنك شيخ كبير، وإن الصيام يضعفك، فقال: إني أعده لسفر طويل، والصبر على طاعة الله سبحانه أهون من الصبر على عذابه.
خوفه ومحاسبته لنفسه
كان الأحنف بن قيس يقول: عرضت عملي على عمل أهل الجنة فإذا قوم قد باينونا بونًا بعيدًا لا نبلغ أعمالهم، كانوا قليلا من الليل ما يهجعون، وعرضت عملي على عمل أهل النار فإذا قوم لا خير فيهم مكذبون بكتاب الله وبرسل الله مكذبون بالبعث بعد الموت، فقد وجدت من خيرنا منزلة قومًا خلطوا عملاً صالحًا وآخر سيئًا.
وكان يقول: اللهم إن تغفر لي فأنت أهل ذاك، وإن تعذبني فأنا أهل ذاك.
وصعد الأحنف بن قيس فوق بيته يومًا فأشرف على جاره فقال: سوءة سوءة، دخلت على جاري بغير إذن لا صعدت فوق هذا البيت أبدًا.
شجاعته
عرف عن الأحنف بن قيس أنه كان من الشجعان، فيرُوى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعثه على جيش قِبَل خراسان فبيتهم العدو ليلاً ففرقوا جيوشهم أربعة جيوش، وأقبلوا معهم الطبول ففزع الناس وكان أول من ركب الأحنف فأخذ سيفه فتقلده ثم مضى نحو الصوت وهو يقول:
إن على كل رئيس حقًا *** أن يخضب القناة أو تندقا (8)
ثم حمل على صاحب الطبل فقتله، فلما فقد أصحابه الصوت انهزموا ثم حمل على الكردوس الآخر ففعل مثل ذلك، ثم حمل على الآخر ففعل، ثم حمل على الآخر ففعل مثل ذلك، وهو وحده ثم جاء الناس وقد انهزم العدو فاتبعهم الناس يقتلون ثم مضوا حتى فتحوا مدينة يقال لها: مرو الروذ.حلمه
اشتهر الأحنف بحلمه، ولقد عاشت بنو تميم بحلم الأحنف أربعين سنة، وقيل إن رجلاً خاصم الأحنف وقال: لئن قلت واحدة لتسمعن عشرًا فقال: لكنك إن قلت عشرًا لم تسمع واحدة.
تواضعه
ومما عرف عنه تواضعه ومن ذلك أنه استعمل على خراسان، فلما أتى فارس أصابته جنابة في ليلة باردة قال: فلم يوقظ أحدًا من غلمانه ولا جنده، وانطلق يطلب الماء قال: فأتى على شوك وشجر حتى سالت قدماه دمًا فوجد الثلج قال: فكسره واغتسل، قال: فقام فوجد على ثيابه نعلين محذوتين جديدتين قال: فلبسهما فلما أصبح أخبر أصحابه فقالوا: والله ما علمنا بك.
رجاحة عقله
يقول هشام بن عقبة: شهدت الأحنف بن قيس وقد جاء إلى قوم في دم فتكلم فيه وقال: احتكموا قالوا: نحتكم ديتين قال: ذاك لكم فلما سكتوا قال: أنا أعطيكم ما سألتم، فاسمعوا إن الله قضى بدية واحدة، وإن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بدية واحدة، وإن العرب تعاطي بينها دية واحدة، وأنتم اليوم تطالبون، وأخشى أن تكونوا غدًا مطلوبين فلا ترضى الناس منكم إلا بمثل ما سننتم قالوا: ردها إلى دية.
من أقواله
قال الأحنف بن قيس: الكامل من عدت هفواته، ولا تعد إلا من قلة (9).
وقال: ليس فضل الحلم أن تُظلم فتحلم حتى إذا قدرت انتقمت، ولكنه إذا ظُلِمت فحلمت ثم قدرت فعفوت (10) .
وسئل الأحنف بن قيس عن الحلم قال: أن تصبر على ما تكره قليلاً (11).
وقال رجل للأحنف بن قيس: بم سدت قومك وأنت أحنف أعور؟ قال: بتركي مالا يعنيني، كما عناك من أمري ما لا يعنيك (12).
وعن الأحنف بن قيس قال: في خلال ثلاث ما أذكرها إلا أن يعتبر رجل بخلق صالح، ما أتيت باب سلطان قط إلا أن دعا، ولا دخلت بين اثنين قط إلا أن يأمراني، ولا خلفت أحدًا بعده بسوء قط.
ويقول: ثمانية إن أهينوا فلا يلوموا إلا أنفسهم: الآتي طعامًا لم يدع إليه، والمتآمر على رب البيت في بيته، وطالب الفضل من أعدائه، وراجي الخير من اللئام، والمقبل بحديثه على من لا يسمعه، والجالس في المجلس الذي لا يستأهله، والداخل بين اثنين في حديثهما من غير أن يدخلاه، والمتقدم بالدالة على السلطان (13).
وفاته
كان موته بالبصرة زمن ولاية مصعب بن الزبير سنة سبع وستين، ومشى مصعب في جنازته، وقال مصعب يوم موته : ذهب اليوم الحزم والرأي (14) .
ولقد مات الأحنف بن قيس في دار ابن أبي عصيفير بالكوفة، فجاءت امرأة على بغل في رحالة وحولها جماعة نساء فقالت: أيها الأمير إن ابن عمي مات بأرض غربة فأذن لي أندبه فقيل: شأنك فقالت: لله درك من مجن في جنن، ومدرج في كفن، أسأل الله الذي ابتلانا بفقدك وفجعنا بيومك، أن يوسع لك في لحدك، وأن يكون لك في يوم حشرك، ثم أقبلت على الناس فقالت: أيها الناس إن أولياء الله في بلاده شهود على عباده وإنا لقائلون حقًا ومثنون صدقًا ثم قالت: أما والدي كنت من أمره إلى مدة، ومن المضمار إلى غاية من الموت إلى نهاية الذي رفع عملك عند انقضاء أجلك. لقد عشت حميدًا مودودًا، ومت شهيدًا فقيدًا، ولقد كنت في المحافل شريفًا، وعلى الأرامل عطوفًا، ومن الناس قريبًا، وفيهم غريبًا، وإن كنت لمسودًا، وإلى الخلفاء موفدًا، وإن كانوا لفقدك لمستمعين ولرأيك لمتبعين.
بتصرف عن موقع قصة الإسلام
الهوامش:
(1) البداية والنهاية 8/326.
(2) عثمان بن عفان 1/98.
(3) البداية والنهاية 7/88.
(4) تاريخ ابن خلدون 2/553.
(5) الطبري: تاريخ الأمم والملوك 2/630.
(6) الصَّعْدةُ القناة التي تنبت مستقيمة، ابن منظور: لسان العرب، مادة صعد 3/251.
(7) البداية والنهاية 7/127.
(8) تاريخ خليفة بن خياط 1/35.
(9) البداية والنهاية 9/193.
(10) الحلم 1/57.
(11) الصمت 1/132.
(12) الإصابة في تمييز الصحابة 1/188.
(13) طبقات المحدثين بأصبهان 1/299، 300.
(14) الإصابة في تمييز الصحابة 1/188.
المصادر
رواة التهذيبيين - أسد الغابة - صفة المنافق - إصلاح المال - مجمع الزوائد - الزهد لابن المبارك - صحيح البخاري - البداية والنهاية -كنز العمال - التواضع والخمول - إحياء علوم الدين - الحلم - طبقات المحدثين بأصبهان - تاريخ الإسلام - الطبقات الكبرى - تفسير ابن كثير - مكارم الأخلاق - سير أعلام النبلاء - الطبقات الكبرى - الصمت - الإصابة في تمييز الصحابة - الإشراف في منازل الأشراف - المستدرك.