سلسلة تأملات في آيات من القرآن الكريم/أ.د أحمد محمد عبد الدايم

سلسلة تأملات في آيات من القرآن الكريم/أ.د أحمد محمد عبد الدايم/39

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيم
سلسلة تأملات في آيات من القرآن الكريم
الأستاذ الدكتور أحمد محمد عبد الدايم عبدالله

39 - قال تعالى: { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6﴾}(الكافرون) .

هذه سورة براءة، التي تبرَّأ فيها الرسول من الكافرين وما يعبدون.

وقد رُوِي عن الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم أنه صلَّى بها وبسورة الصمد ركعتي الفجر، كما رُوِي عنه صلَّى الله عليه وسلَّم أنه وصَّى بعض صحابته أن يقرأها حينما يضع مَضجعه للنوم ليلاً.

وكان الرسول يتبرَّأ بها من الكفَّار حين يبدأ يومه وحينما يُنهيه، وألفاظ السورة الكريمة تومِئ بأن قارئها يتبرَّأ من عبادة الكفار وأعمالهم فيما هو مُقبل من الأيام.

{ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } كما أنهم لا يعبدون ما يعبد ،
{ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ } كما أنه تبرَّأ مما قد عبَدوا من قبلُ ،
{ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ } ، والتَّكرار يفيد التوكيد، والإصرار على الموقف ،
{ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ }، { وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ } .

لقد كانت السورة الكريمة وضعًا لحدِّ محاولات الكفار مع الرسول الكريم، وصده عن دعوته التي تُسَفِّه ما يعبدون من دون الله، فقد عرَضوا عليه كلَّ ما يُغرى به البشر.

عرَضوا عليه أن يكون عليهم مَلكًا.

وعرَضوا عليه أن يَجمعوا له مالاً.

وعرَضوا عليه أن يُزَوِّجوه أجمل جميلات العرب.

ووسَّطوا لديه عمَّه أبا طالب.

فقال صلَّى الله عليه وسلَّم قولاً مُحكمًا لا ريبَ فيه: ( والله يا عم، لو وضَعوا الشمس في يميني والقمر في يساري، على أن أتركَ هذه الأمر، أو أهلك دونه، ما تَرَكتُه ).

كيف يقبل هذه الدنايا، وهو الذي بعثَه ربُّه؛ ليُتمِّم مكارم الأخلاق، كيف يَقبل هذه الرذائل مَن أدَّبه ربُّه فأحسَن تأديبه؟ أليس هو الذي قال فيه عزَّ وجلَّ :
{ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4﴾}(القلم) ؟

تخيَّل أنَّ الله مالك السموات والأرض، ومَن فيهنَّ وما فيهنَّ - يُقسِم بأنَّه على خُلق عظيم، ثم يعرضون عليه عرض الدنيا، فماذا يكون ردُّه؟ قطعًا: { ...يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ } ، يا أيها الكافرون: { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } .

لكم ما تَعتقدون، ولي اعتقادي، لكم دينكم الذي تَزعمون، ولي ديني الذي ارْتَضَيتُ، رَضِيتُ بالله ربًّا، وبالإسلام دِينًا.

{ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ...(19﴾}(آل عمران) .

{ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ...(85﴾}(آل عمران) .

لقد تبرَّأتُ يا ربُّ ممن تبرَّأ منه رسولُك صلَّى الله عليه وسلَّم ورضيتُ بك ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم نبيًّا ورسولاً.

يتبع

عن موقع شبكة الألوكة الشرعية
 
التعديل الأخير:
سلسلة تأملات في آيات من القرآن الكريم/أ.د أحمد محمد عبد الدايم/40

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيم
سلسلة تأملات في آيات من القرآن الكريم
الأستاذ الدكتور أحمد محمد عبد الدايم عبدالله


40 - قال تعالى: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4﴾}(الإخلاص) .

هذه رسالة تعريف من ربِّنا بنفسه، أرسَلها إلى خَلْقه؛ مَن آمَنَ منهم، ومَن أشرَك، ومَن كفَر، رسالة قصيرة بليغة، فيها كلُّ معاني التوحيد والتنزيه، ليس بعدها قولٌ، ولو أُفْرِدت كلماتها، وكُتِبت معانيها، وشُرِحت مراميها، لامْتَلأَت بها كتبٌ كثيرة، وقد تَقصر عن المطلوب، ولا تَفي بالمقصود.

فيها رَدٌّ على مَن يَعبد المسيح، وفيها ردٌّ على مَن يعبد عُزيرًا، وادَّعى كلاهما أنهما أبناء الله، وهما خَلْق من خَلْق الله.

وفيها ردٌّ على المجوس وخلافهم، ممن أشرَكوا بالله وعبدوا خَلقًا من خَلْق الله، وفيها ردٌّ على الكافرين بالله، المُنكرين للبعث والنشور.

يا محمد، { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } ، ولَم يقل - سبحانه -: الواحد؛ فالواحد له ثانٍ وثالث، أمَّا الأحد فالذي لا قبله ولا بعده عددٌ، هو الأحد الذي لا نظيرَ له ولا وزير، وليس له شبيه ولا مثيل، الفريد في كماله وصفاته وأفعاله.

{ اللَّهُ الصَّمَدُ } هو الذي يَصمد إليه الخلائق في مسائلهم، السيد صاحب منتهى السُّؤدد، الحي القيُّوم الذي لا زوال له، وقال بعض المفسرين:
{ الصَّمَدُ }: المُصمت الذي لا جوفَ له ولا حاجة له به، فهو لا يأكل ولا يشرب، وهو الباقي بعد خَلْقه، الحاوي لكلِّ صفات الكمال والشرف، والعَظمة والقُدرة، ليس كمثله شيء، سبحان الله الواحد القهَّار".

{ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ } ليس له ولدٌ، ولا والد له، ولا صاحبة، يردُّ بذلك على مَن قال: {... اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88﴾}(مريم) ، وقال سبحانه عن نفسه:
{ بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ (101﴾}(الأنعام) .

سبحانك ربي تبارَك اسمُك.

{ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } لَم يكن له نظيرٌ ولا مثيل، ولا مكافئ ولا شبيه، فتعالَى الله أحسنُ الخالقين.

فهل بعد هذا القول قولٌ؟ وهل بعد هذا الإيجاز بلاغة؟ ألا خَسِئ المُبطلون والمُشَكِّكون والمُشركون.

وسبحانك ربي، تبارَك اسمُك، وتعالَى جدُّك، وعزَّ جارُك، لا إله غيرك، ولا معبود سواك.

يتبع

عن موقع شبكة الألوكة الشرعية
 
التعديل الأخير:
سلسلة تأملات في آيات من القرآن الكريم/أ.د أحمد محمد عبد الدايم/41

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيم
سلسلة تأملات في آيات من القرآن الكريم
الأستاذ الدكتور أحمد محمد عبد الدايم عبدالله

41 - قال تعالى: { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5}(الفلق) .

سبحانك ربي، جلَّ شأنُك وعلا قَدرُك.

أنْزَلت لنا من القرآن ما هو شفاء.

قال تعالى: { قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ (57}(يونس) .

وقال تعالى: { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ... (82﴾}(الإسراء) .

وقال تعالى: { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ... (44}(فصلت).

لقد رُوِي عن عقبة بن عامر، قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم :
( ألَم ترَ آيات أُنْزِلت هذه الليلة، لَم ترَ مثلهنَّ قطُّ : { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ } و{ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ }( أخرَجه مسلم، والترمذي، والنسائي ﴾ .

ورُوِي عن عائشة رضي الله عنها : أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان يقرأ بهنَّ - المعوذتين - ويَنفث في كفَّيه، ويَمسح بهما رأسه ووجهه، وما أقبل من جسده.

ورُوِي عن عائشة رضي الله عنها أيضًا: أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان إذا اشتكى - أصابَه مرض - يقرأ على نفسه بالمعوذتين، ويَنفث، فلمَّا اشتدَّ وجعُه، كنتُ أقرأ عليه بالمعوذات، وأمسَح بيدي عليه؛ رجاءَ بركتها (أخرَجه مالك، ورواه البخاري، وأبو داود، والنسائي ) .

سبحانك ربي جلَّ شأنُك، وكما قال عمر رضي الله عنه : " كَثُر خيرُ ربِّنا وفاضَ ".

كلُّ هذا الخير والبركة في القرآن، في كلِّ كلمة وفي كلِّ آية، لكن أين الذين يتدبَّرون؟!

{ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ } ؛ أي: أعوذ وأستجير وأستعين بربِّ الصُّبح وخالقه، فالق الإصباح، وفالق الحَب والنوى،
{ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ } ، من شرِّ جميع خلقه، والأصحُّ الاستعاذة من شِرار خَلْقه، نحو: إبليس وذريَّته، ومن شياطين الإنس والجن، ومن شر النار، وما يُقرِّب منها من قول أو عمل ،
{ وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ } ؛ أي: من شرِّ الليل إذا أقبَل بظلامه ،
{ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ } ؛ أي: من شرِّ السواحر إذا رَقَينْ ونَفَثْنَ في العُقد، وسَحَرْنَ خَلْق الله،
{ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69}(طه) .

{ وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ } ، ومن شرِّ العين؛ فإن العين تُدخل الجملَ القِدر، وتُدخل الرجلَ القبر،
وقد رُوِي أنَّ جبريل جاء إلى النبي صلَّى الله عليه وسلَّم فقال: اشْتَكَيتَ يا محمد؟
فقال: ( نعم
فقال: ( باسم الله أَرقِيك، من كلِّ داء يُؤذيك، ومن شرِّ كلِّ حاسدٍ وعين، الله يَشفيك ) .

فهل بعد هذا الخير خيرٌ؟ وهل بعد بركة القرآن بركة؟

يتبع

عن موقع شبكة الألوكة الشرعية
 
سلسلة تأملات في آيات من القرآن الكريم/أ.د أحمد محمد عبد الدايم/42

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيم
سلسلة تأملات في آيات من القرآن الكريم
الأستاذ الدكتور أحمد محمد عبد الدايم عبدالله

42 - قال تعالى: { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6﴾}(الناس) .

سبحانك ربي، ما ترَكت لنا من سبيل للخلاص، وبيَّنت لنا طُرق الإخلاص، وأَمَرت الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم أن يُبَيِّن لنا مسالك الخواص، بأن نعوذ بك يا ربَّ الناس ومالكهم وإلههم، فأنت ربُّ الناس، الذي ربَّاهم بما رزَقهم، وأنت مالكهم، وهم عبيدك وحْدك لا شريكَ لك فيهم، وأنت إلههم الواحد القهَّار، خلَقت كلَّ شيء لعبيدك ويسَّرْتَه لهم، وقَهَرته؛ ليَأتمر بأمرهم، وجعَلته لأجلهم، وخَلَقت الناس لأجلك أنت وحدك دون سواك، وحصَّنتهم من شرار خَلْقك، لو ساروا على نَهْجك واتَّبعوا طريقك، ومن هذا أن يَستعيذوا بك من أخطر أعدائهم وأعدائك: الشيطان وجنوده.

{ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ } ، وهو الشيطان الموكَّل بالإنسان، فإنه ما من أحدٍ من بني آدمَ، إلاَّ وله قرين يُزَيِّن له الفواحش، ولا معصوم منه إلاَّ مَن عصَمه الله، وقد روى الحافظ أبو يعلى الموصلي عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله - صلى الله عيه وسلم -: ( إنَّ الشيطان واضع خَطْمه على قلب ابن آدمَ، فإن ذَكَر الله خَنَس، وإن نَسِي الْتَقَم قلبه، فذلك { الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاس }) ؛ أي: المُراوغ.

{ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ } : يأمرهم بالفواحش والشرور، ( وإنَّ الشيطان يجري من ابن آدمَ مَجرى الدم )، فالإنسان متى ذكَر الله في قلبه، تَصاغر الشيطان وخَنَس، ومتى نَسِي ذِكْر الله، تعاظَم وغَلَب، فعلينا أن نستعيذ بالله ربِّنا وخالقنا ، { مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ } .

{ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ } ، فللشيطان الرجيم جنوده وأعوانه من الجِنَّة والناس؛ فقد قال تعالى:
{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا (112)}(الأنعام) .

اللهمَّ إنَّا نعوذ بك من الشيطان، ومن خُطوات الشيطان، ومن أعوانه من الإنس والجان، يا حنَّان، يا منَّان، يا ربَّ العالمين.


عن موقع شبكة الألوكة الشرعية
 
التعديل الأخير:
عودة
أعلى