تاريخ مدرسة التفسير في عهد النبي صلى الله عليه وسلم/أ.أحمد الحسن الربابعة

Nabil

خـــــبراء المنتـــــدى
إنضم
19 أبريل 2008
المشاركات
22,770
التفاعل
17,885 113 0
تاريخ مدرسة التفسير في عهد النبي صلى الله عليه وسلم

الأستاذ أحمد الحسن الربابعة

القسم الأول

أولاً: التعريف بعلم التفسير

1. التفسير في اللغة والاصطلاح
التفسير في اللغة: الشرح والبيان. وفسّر الشيء: وضحه وأبانه، وآيات القرآن الكريم: شرحها ووضع ما تنطوي عليه من معان وأسرار وأحكام ( إبراهيم مصطفى وآخرون، المعجم الوسيط، ج 2، ص. 688).. قال تعالى: { ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيراً }(الفرقان 33).
ومن هذا يتبين لنا أن التفسير يستعمل لغة في الكشف الحسي وفي الكشف عن المعاني المعقولة، واستعماله في الثاني أكثر من استعماله في الأول.

أما في الاصطلاح، فيرى بعض العلماء أن التفسير ليس من العلوم التي يتكلف لها حد، لأنه ليس قواعد أو ملكات ناشئة من مزاولة القواعد كغيره من العلوم التي أمكن لها أن تشبه العلوم العقلية، ويكتفي في إيضاح التفسير بأنه بيان كلام الله أو أنه المبين لألفاظ القرآن ومفهوماتها (محمد حسن الذهبي، التفسير والمفسرون، ج 1، ص. 10).
وإذا تتبعنا أقوال العلماء الذين تكلفوا الحد للتفسير، وجدناهم قد عرفوه بتعريفات كثيرة، يمكن إرجاعها كلها إلى واحد منها. فهي وإن كانت مختلفة من جهة اللفظ، فإنها متحدة من جهة المعنى وما تهدف إليه.
فقد عرفه أبو حيان بأنه علم يبحث في كيفية النطق بألفاظ القرآن ومدلولاتها وأحكامها الإفرادية والتركيبية ومعانيها التي تحمل عليها حالة التركيب وتتامت لذلك.

ثم خرج التعريف، فقال:
فقولنا علم، هو جنس يشمل سائر العلوم؛ وقولنا يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن، هذا هو علم القراءات؛ وقولنا ومدلولاتها، أي مدلولات تلك الألفاظ، وهذا علم اللغة الذي يحتاج إليه في هذا العلم؛ وقولنا أحكامها الإفرادية والتركيبية، هذا يشمل علم التصريف، وعلم الإعراب، وعلم البيان، وعلم البديع؛ وقولنا ومعانيها التي تحمل عليها حالة التركيب، يشمل ما دلالته عليه بالحقيقة، وما دلالته عليه بالمجاز، فإن التركيب قد يقتضي بظاهرة شيئاً ويصد من الحمل على الظاهر صاد فيحتاج لأجل ذلك أن يحمل على غيره الظاهر وهو المجاز، وقولنا وتتمات لذلك، هو معرفة النسخ وسبب النزول، وقصة توضِّح بعض ما انبهم في القرآن، ونحو ذلك.

وعرفه الزركشي بأنه: علم يفهم به كتاب الله المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. وبيان معانيه واستخراج أحكامه وحكمه (المرجع نفسه، ج 1، ص. 11؛ السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، ج 4، ص. 462).
وعرفه الزرقاني: علم يبحث فيه عن أحوال القرآن الكريم من حيث دلالته على مراد الله تعالى بقدر الطاقة البشرية (مناع قطـان، مباحث في علوم القـرآن، ص. 324؛ الزركشي، البرهـان في علوم القرآن، ج 2، ص. 148).
والناظر لأول وهلة في هذين التعريفين الآخرين يظن أن علم القراءات وعلم الرسم لا يدخلان في علم التفسير. والحق أنهما داخلان في علم التفسير، وذلك لأن المعنى يختلف باختلاف القراءتين أو القراءات كقراءة (محمود سالم عبيدات، دراسات في علوم القرآن، ص. 238) { وإذا رأيت ثم رأيت نعيماً وملكاً كبيراً }(الإنسان20) ، بضم الميم وتسكين اللام. فإن معناها مغاير لقراءة من قرأ { ملكاً كبيراً }(الإنسان20) بفتح الميم وكسر اللام.

وعرفه بعضهم بأنه: علم نزول الآيات، وشؤونها، وأقاصيصها، والأسباب النازلة فيها، ثم ترتيب مكِّيِّها ومَدَنِيِّهَا، ومحكمها ومتشابهها، وناسخها ومنسوخها، وخاصها وعامها، ومطلقها ومقيدها، ومجملها ومفسرها، وحلالها وحرامها، ووعدها ووعيدها، وأمرها ونهيها، وعبرها وأمثالها (السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، المصدر السابق، ج 4، ص. 462؛ محمد حسين الذهبي، التفسير والمفسرون، المرجع السابق، ج 1، ص. 11).
وهذه التعريفات تتفق كلها على أن علم التفسير علم يبحث عن مراد الله تعالى بقدر الطاقة البشرية؛ فهو شامل لكل ما يتوقف عليه فهم المعنى وبيان المراد.

2. نشأة علم التفسير
لا ريب في أن التفسير مر بأطوار كثيرة حتى اتخذ هذه الصورة التي نجده عليها الآن في بطون المؤلفات والتصانيف، وبين مطبوع ومخطوط. ولقد نشأ التفسير مبكراً في عصر النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان أول شارح لكتاب الله، يبين للناس ما نزل على قلبه.
أما صحابته الكرام، فما كانوا يجرؤون على تفسير القرآن وهو عليه السلام بين ظهرانيهم، يتحمل هذا العبء العظيم، ويؤديه حق الأداء. حتى إذا لحق عليه السلام بالرفيق الأعلى، لم يكن بدّ للصحابة العلماء بكتاب الله، الواقفين على أسراره، المهتدين بهدي النبي صلى الله عليه وسلم ، من أن يقوموا بقسطهم في بيان ما علموه وتوضيح ما فهموه (صبحي الصالح، مباحث في علوم القرآن، ص. 289 ).
فالمفسرون من الصحابة كثيرون، إلا أن مشاهيرهم عشرة: الخلفاء الأربعة، وابن مسعود، وابن عباس، وأبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، وأبو موسى الأشعري، وعبد الله بن الزبير. أما الخلفاء الأربعة، فأكثر من روى عنه منهم عليّ بن أبي طالب؛ والرواية عن الثلاثة نادرة جداً، وكان السبب في ذلك تقدم وفاتهم (السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، المصدر السابق، ج 4، ص. 471)..
أما علي بن أبي طالب، فسبب كثرة من روى عنه راجع إلى تفرغه عن مهام الخلافة مدة طويلة وتأخر وفاته إلى زمن كثرت فيه حاجة الناس إلى من يفسر لهم ما خفي عنهم من معاني القرآن (محمد حسين الذهبي، التفسير والمفسرون المرجع السابق، ج 1، ص. 44 ).

وأجدر هؤلاء العشرة جميعاً بلقب المفسر هو عبد الله بن عباس الذي شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعلم، ودعا له الله أن يفقِّهه في الدين ويعلمه التأويل (خالد محمد خالد، رجال حول الرسول، ص. 570 )، وسماه »ترجمان القرآن«، وذلك لما عرفت أنه بحر هذه الأمة ولتأخر الزمان به حتى اشتدت حاجة الناس إلى الأخذ عنه بعد اتساع الإسلام وانتشار العمران ولانقطاعه وتفرغه للنشر والدعوة والتعليم، دون أن تشغله خلافة أو تصرفه سياسة وتدبير لشؤون الرعية. غير أن الرواية عنه مختلفة الدرجات (محمد عبد العظيم الزرقاني، مناهل العرفان، ج 2، ص. 16 ).

وهناك من تكلم في التفسير من الصحابة غير هؤلاء، كأنس بن مالك وأبي هريرة وعبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله وعبد الله بن عمرو بن العاص وعائشة غير أن ما نقل عنهم في التفسير قليل جداً، ولم يكن لهم من الشهرة بالقول في القرآن الكريم ما كان للعشرة المذكورين أولاً (محمد حسين الذهبي، التفسير والمفسرون، ج 1، ص. 44 ).
وتلقى أقوال الصحابة نفر من كرام التابعين في الأمصار الإسلامية المختلفة؛ فنشأت في مكة طبقة للمفسرين، وفي المدينة طبقة ثانية، وفي العراق ثالثة (صبحي الصالح، مباحث في علوم القرآن، ص. 290). قال ابن تيمية :
أعلم الناس بالتفسير أهل مكة، لأنهم أصحاب ابن عباس كمجاهد وعطاء بن أبي رباح وعكرمة مولى ابن عباس وسعيد بن جُبير وطاووس وغيرهم؛ وكذلك في الكوفة أصحاب ابن مسعود؛ وعلماء أهل المدينة في التفسير مثل زيد بن أسلم الذي أخذ عنه ابنه عبد الرحمن بن زيد ومالك بن أنس (المرجع نفسه).
وعن التابعين، أخذ تابعو التابعين. فجمعوا أقوال من تقدمهم وصنعوا التفاسير كما فعل سفيان بن عيينة ووكيع بن الجراح ويزيد بن هارون (صبحي الصالح، مباحث في علوم القرآن، ص. 290)؛ وكذلك في هذا العصر خطا التفسير خطوة ثالثة انفصل بها عن الحديث. فأصبح علماً قائماً بنفسه، ووضع التفسير لكل آية من القرآن، ورتب ذلك على حسب ترتيب المصحف(محمد حسين الذهبي، التفسير والمفسرون، ج 1، ص. 98). وتم ذلك على أيدي طائفة من العلماء منهم ابن ماجة وابن جرير الطبري وأبو بكر بن المنذر النيسابوري وابن أبي حاتم والحاكم وأبو بكر بن مردويه وغيرهم من أئمة هذا الشأن.

وكل هذه التفاسير مروية بالإسناد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أصحابه والتابعين وتابعي التابعين، وليس فيها شيء من التفسير أكثر من التفسير المأثور؛ اللهم إلا ابن جرير الطبري، فإنه ذكر الأقوال ثم وجهها. ورجح بعضهم على بعض وزاد على ذلك الأعراب إن دعت إليه حاجة، واستنبط الأحكام التي يمكن أن تؤخذ من الآيات القرآنية(محمود سالم عبيدات، دراسات في علوم القرآن، ص. 252؛ صبحي الصالح، مباحث في علوم القرآن، المرجع السابق، ص. 290).

وبعد ذلك، اتجه العلماء في تفاسيرهم اتجاهات متباينة. فكان ما يسمى بالتفسير بالمأثور، وهو امتداد للتفاسير السابقة المستندة إلى الصحابة والتابعين وتابعيهم؛ وكان ما يسمى بالتفسير بالرأي وفيه تعددت المناهج وتضاربت الأفكار، فحمد بعضه وذُمَّ بعضه تبعاً لقربه من هداية القرآن أو بعده عنها.

3. أهمية علم التفسير
نهضة الأفراد والأمم لا يمكن أن تكون صحيحة عن تجربة ولا سهلة متيسرة ولا رائعة مدهشة، إلا عن طريق الاسترشاد بتعاليم القرآن ونظمه الحكيمة التي روعيت فيها جميع عناصر السعادة للنوع البشري على ما أحاط به علم خالقه الحكيم. وبديهي أن العمل بهذه التعاليم لا يكون إلا بعد فهم القرآن وتدبره، والوقوف على ما حوى من نصح ورشد، والإلمام بمبادئه عن طريق تلك القوة الهائلة التي يحملها أسلوبه البارع المعجز. وهذا لا يتحقق إلا عن طريق الكشف والبيان لما تدل عليه ألفاظ القرآن، وهو ما نسميه بعلم التفسير(الزرقاني، مناهل العرفان في علوم القرآن، المرجع السابق، ج 2، ص. 6)، خصوصاً في هذه العصور الأخيرة التي فسدت فيها ملكة البيان العربي وضاعت فيها خصائص العروبة حتى من سلائل العرب أنفسهم.
فالتفسير هو مفتاح هذه الكنوز والذخائر التي احتواها هذا الكتاب المجيد النازل لإصلاح البشر وإنقاذ الناس وإعزاز العالم.

ومن دون تفسير، لا يمكن الوصول إلى هذه الكنوز والذخائر مهما بالغ الناس في ترديد ألفاظ القرآن، وحرصوا على قراءته كل يوم ألف مرة بجميع وجوهه التي نزل عليها (المصدر نفسه، ص. 7).
ونلاحظ في هذا أن سلفنا الصالح نجحوا بهذا القرآن نجاحاً مدهشاً كان وما زال موضع إعجاب التاريخ والمؤرخين، مع أن أسلافنا أولئك كانوا في قلة من العدد وخشونة من العيش بينما تأخر مُسْلِمَة هذا الزمن على رغم وفرة المصاحف في أيديهم ووجود ملايين الحفاظ بين ظهرانيهم.
فالسّر في ذلك هو أنهم، أي أسلافنا، توفروا على دراسة القرآن واستخراج كنوز هداياته، يستعينون على هذه الثقافة العليا بمواهبهم الفطرية وملكاتهم السليمة العربية من ناحية، وبما يشرح رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبينه لهم بأقواله وأعماله، وأخلاقه وسائر أحواله (المصدر نفسه، ص. 8) كما قال تعالى:
{ وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزلنا إليهم ولعلهم يتفكرون } (النحل44).
وعلى ذلك، كان همهم الأول هو القرآن الكريم يحفظونه ويفهمونه قبل أن يحفظوه، ثم يعملون بتعاليمه بدقة ويهتدون بهديه في يقظة.

أما أغلب مسملة اليوم، فقد اكتفوا من القرآن بألفاظ يرددونها، وأنغام يلحِّنونها في المآتم والمقابر والدور. ونسوا أن بركة القرآن العظمى إنما هي في تدبره وتفهمه ثم في الوقوف عند أوامره ومراضيه والبعد عن مساخطه ونواهيه، والله تعالى يقول: { كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب }( ص29) ؛ ويقول سبحانه: { أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها }(محمد24)؛ ويقول جل ذكره: { ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر }(القمر32).

فما أشبه المسلمين اليوم بالعطشان يموت من الظمإ والماء بين يديه، والحيوان يهلك من الإعياء والنور من حوله يهديه السبيل لو فتح عينيه.
قال السيوطي في بيان الحاجة إلى التفسير: »القرآن إنما نزل بلسان عربي في زمن أفصح العرب، فكانوا يعلمون ظواهره وأحكامه«(السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، ج 4، ص. 463؛ الزرقاني، مناهل العرفان، ج 2، ص. 9) .

أما دقائق الباطن، فلا تظهر لهم إلا بعد البحث والنظر وسؤالهم النبي صلى الله عليه وسلم مثل قولهم حينما نزل قوله تعالى: { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم }(الأنعام82)، حيث قالوا: »وأينا لم يظلم نفسه؟«. ففسره النبي صلى الله عليه وسلم بالشرك واستدل بقوله تعالى:
{ إن الشرك لظلم عظيم }(لقمان13). وكذلك حين قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من حوسب يوم القيامة عذّب )، فقالت أو سألته عائشة رضي الله عنها عن قوله تعالى: { فسوف يحاسب حساباً يسيراً (8) وينقلب إلى أهله مسروراً(9)}(الإنشقاق) ؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ليس ذلك الحساب إنما ذاك العرض، من نوقش الحساب يوم القيامة عذب )(بشر النووي، صحيح مسلم، ج 17، ص. 204).

ونحن محتاجون إلى ما كانوا يحتاجون إليه. بل نحن أشد الناس احتياجاً إلى التفسير، لقصورنا عن مدارك اللغة وأسرارها بغير تعلم.
مما تقدم يتبين أن قاعدة التفسير هي التذكر والاعتبار ومعرفة هداية الله في العقائد والعبادات والمعاملات والأخلاق ليفوز الأفراد والمجاميع بخير العاجلة والآجلة.
ويتبين أيضاً أن هذا العلم من أشرف العلوم الدينية والعربية، إن لم يكن أشرفها جميعاً، وذلك لسمو موضوعه وعظم فائدته.

وسمي علم التفسير، لما فيه من الكشف والتبيين. واختص بهذا الاسم دون بقية العلوم، مع أنها كلها مشتملة على الكشف والتبيين، لجلالة قدره واحتياجه إلى زيادة الاستعداد وقصده إلى تبيين مراد الله من كلامه كأنه هو التفسير وحده دون ما عداه(الزرقاني، مناهل العرفان، المصدر السابق، ج 2، ص. 10) . والله أعلم.

يتبع
 
التعديل الأخير:
تاريخ مدرسة التفسير في عهد النبي/أ.أحمد الحسن الربابعة/ق2

تاريخ مدرسة التفسير في عهد النبي صلى الله عليه وسلم

الأستاذ أحمد الحسن الربابعة

القسم الثاني


ثانياً: التفسير في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه:

1. فهم النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن الكريم وتفاوت الصحابة في فهمه:
كان طبيعياً أن يفهم النبي صلى الله عليه وسلم القرآن جملة وتفصيلاً، بعد أن تكفل الله تعالى له بالحفظ والبيان: { إن علينا جمعه وقرآنه (17) فإذا قرأناه فاتبع قرآنه (18) ثم إن علينا بيانه(19)}(القيامة)؛ كما كان طبيعياً أن يفهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم القرآن الكريم في جملته من حيث ظاهره وأحكامه. أما فهمه تفصيلاً ومعرفة دقائق باطنه، فهذا غير ميسور لهم بمجرد معرفتهم للغة القرآن؛ بل لابد لهم من البحث والنظر والرجوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك لأن القرآن فيه المجمل والمشكل والمتشابه وغير ذلك (الذهبي، التفسير والمفسرون ج 1، ص. 26) مما لا بد في معرفته من أمور أخرى يرجع إليها.
وقد كان الصحابة يتفاوتون في فهم القرآن الكريم، لأنهم لم يكونوا على مستوى واحد ودرجة واحدة في فهم معاني القرآن، بل تفاوتت مراتبهم (محمد علي الصابوني، التبيان في علوم القرآن، ص. 70) وأشكل على بعضهم ما كان يظهر للبعض الآخر. وأما السبب في ذلك، فيرجع إلى ما يلي:

1 ـ تفاوت في الفروق الفردية والقوة العقلية والمدركات؛
2 ـ تفاوت العلم بأسباب النزول، فلم يلموا بها جميعاً؛
3 ـ تفاوت العلم في معاني الكلمات واللغة؛
4 ـ تفاوتهم في صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأن منهم من أسلم متأخراً أو كان كثير الأسفار أو مجاهداً في سبيل الله، أو مشتغلاً بأرض أو تجارة أو غياب (محمد سالم عبيدات، دراسات في علوم القرآن، المرجع السابق، ص. 241) .

ولهذا السبب لم يكن الصحابة على درجة واحدة في فهم القرآن الكريم: فقد يغيب عن واحد منهم ما لا يغيب عن الآخر.
مما يشهد لهذا الذي ذهبنا إليه كلمة { أبّاً } في قوله تعالى: { وفاكهة وأبّاً (31)}(عبس) وذلك أن عمر بن الخطاب قرأ على المنبر { وفاكهة وأبّاً }، فقال: »هذه الفاكهة فقد عرفناها، فما الأبّ؟ ثم رجع إلى نفسه فقال: إن هذا لهو تكيف يا عمر «!(الذهبي، التفسير والمفسرون، المرجع السابق، ج 1، ص. 26؛ السيوطي، الإتقان، المصدر السابق، ج 2، ص. 174؛ عبيدات، دراسات في علوم القرآن، المرجع السابق، ص. 241).
وما أخرجه أبو عبيدة من طريق مجاهد عن ابن عباس قال: كنت لا أدري ما فاطر السموات حتى أتاني أعرابيان يتخاصمنا في بئر فقال أحدهما: أنا فطرتها، والآخر يقول: أنا ابتدأتها (الإتقان، المصدر السابق، ج 2، ص. 26؛ صبحي الصالح، مباحث في علوم القرآن، المرجع السابق، ص. 290) .
وكذلك قصة عدي بن حاتم في فهمه لقوله تعالى: { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ...(187) }(البقرة) ، فأخذ عقالاً أبيض وآخر أسود وكان ينظر إليهما فلم يستبينا. فلما أصبح، أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بشأنه؛ فعرَّض بقلة فهمه المراد (الإمام البخاري، صحيح البخاري، ج 6، ص. 56؛ عبيدات، دراسات في علوم القرآن، المرجع السابق، ص. 241) .
مما تقدم نلاحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم هو أول من مارس التفسير وعلمه للصحابة رضوان الله عليهم. أما الصحابة، فهم الطبقة الأولى في تاريخ علماء التفسير، وهم الأساس والأصل اللذان قام عليهما نشأة علم التفسير (البوطي ، من روائع القرآن،ص 86).
قال مسروق: »جالست أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، فوجدتهم كالإخاذ، يعني الغدير. فالإخاذ يروي الرجل، والإخاذ يروي الرجلين، والإخاذ يروي العشرة، والإخاذ يروي المائة، والإخاذ لو نزل به أهل الأرض لأصدرهم « (السيوطي، الإتقان، المصدر السابق، ج 2، ص. 176؛ عبيدات، دراسات في علوم القرآن، المرجع السابق، ص. 242 ) والله أعلم.

2. المنهج الذي سلكه الصحابة في التفسير
كان الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ يفهمون القرآن كذلك، لأنه نزل بلغتهم وإن كانوا لا يفهمون وقائعه. يقول ابن خلدون في "مقدمته: »إن القرآن نزل بلغة العرب وعلى أساليب بلاغتهم، فكانوا كلهم يفهمون القرآن ويعلمون معانيه في مفرداته وتراكيبه «،( القطان، مباحث في علوم القرآن، المرجع السابق، ص. 334 ) ولكنهم مع هذا كانوا يتفاوتون في الفهم، فقد يغيب عن واحد منهم ما لا يغيب عن الآخر.
لم يكن للصحابة أن يجرؤوا على التفسير ملتجئين في الدرجة الأولى إلى الفهم والاجتهاد والرأي، وإنما هناك منهج معين ومحدد يلتزمونه في تفسيرهم.
فالصحابة في هذا العصر يعتمدون في تفسيرهم للقرآن الكريم على أربعة مصادر (الذهبي، التفسير والمفسرون، المرجع السابق، ج 1، ص. 28؛ خالد إبراهيم الفتياني، محاضرات في علوم القرآن، ص. 212؛ عبيدات، دراسات في علوم القرآن، المرجع السابق، ص. 242) :

الأول: القرآن؛
الثاني : النبي صلى الله عليه وسلم؛
الثالث: الإجتهاد وقوة الاستنباط؛
الرابع : أهل الكتاب من اليهود والنصارى.
ونوضح كل مصدر من هذه المصادر الأربعة فنقول:

أ. المصدر الأول: القرآن الكريم:

فالناظر في القرآن الكريم يجد أنه قد اشتمل على الإيجاز والإطناب، وعلى الإجمال والتبيين، وعلى الإطلاق والتقييد، وعلى العموم والخصوص.
لهذا لابد لمن يتعرض لتفسير كتاب الله تعالى، أن ينظر في القرآن أولاً فيجمع ما تكرر منه في موضوع واحد ويقابل الآيات بعضها ببعض وبهذا يكون قد فسر القرآن بالقرآن، وفهم مراد الله بما جاء من الله.
وعلى هذا ضمن تفسير القرآن بالقرآن: أي يشرح ما جاء موجزاً في القرآن بما جاء في موضع آخر مشبهاً (الذهبي، التفسير والمفسرون، المرجع السابق، ج 1، ص. 28) ، وذلك كقصة آدم وإبليس: جاءت مختصرة في بعض المواضع، وجاءت مشبهة مطولة في موضع آخر.
ومن تفسير القرآن بالقرآن أن يحمل المجمل على المبين ليفسر به. وأمثلة ذلك كثيرة في القرآن: فمن ذلك تفسير قوله تعالى: { وإن يك صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم..(28)} (غافر) بأنه العذاب الأدنى المعجل في الدنيا لقوله تعالى في آخر السورة: { فإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا يرجعون (77)}(غافر) ؛ ومن قوله تعالى:
{ فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه..(37)}(البقرة) جاء تفسير الكلمات في آية أخرى هي: { قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين(23)}(الأعراف) ؛ ومن قوله تعالى: { إنا أنزلناه في ليلة مباركة(3)}(الدخان) فسرت الليلة بقوله تعالى: { إنا أنزلناه في ليلة القدر (1)}(القدر) .

ومن تفسير القرآن بالقرآن حمل المطلق على المقيد والعام على الخاص (الذهبي، التفسير والمفسرون، المرجع السابق، ج 1، ص. 30) . فالأول أثلة عند بعض العلماء: آية الظهار مع آية القتل. ففي كفارة الظهار قال تعالى: { فتحرير رقبة...(3) }(المجادلة) ، وفي كفارة القتل قال تعالى: { فتحرير رقبة مؤمنة..(94)}(النساء) ، فيحمل المطلق في الآية الأولى على المقيد في الآية الثانية، بمجرد ورود اللفظ المقيد من غير حاجة إلى جامع عند هذا البعض من العلماء (السيوطي، الإتقان، المرجع السابق، ج 4، ص. 473 ).
ومن الثاني مثل قوله تعالى: { من يعمل سوءاً يجز به...(123)}(النساء) ، فإن ما فيها من عموم خصص بمثل قوله: { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير(30)}(الشورى) .
ومن تفسير القرآن حمل بعض القراءات على غيرها. فبعض القراءات تختلف مع غيرها في اللفظ وتتفق في المعنى. فقراءة ابن مسعود رضي الله عنه { أو يكون لك بيت من ذهب } تفسر لفظ »الزخرف« في القراءة المشهورة { أو يكون لك بيت من زخرف ..(93)}(الإسراء).
ومما يؤكد أن القراءات مرجع مهم من مراجع تفسير القرآن بالقرآن ما روي عن مجامعه أنه قال: »لو كنت ما احتجت أن أسأله عن كتبي مما سألته عنه« (الذهبي، التفسير والمفسرون، المرجع السابق، ج 1، ص. 30) فهذا هو تفسير القرآن بالقرآن.

ب. المصدر الثاني: النبي صلى الله عليه وسلم
لقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يرجعون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليفسر لهم ما أشكل عليهم فهمه من آيات القرآن الكريم. وذلك، لأن القرآن والحديث متعاضدان. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه)(أبو داود، سنن أبي داود، ج 5، ص. 11؛ أبو عيسى محمد بن سودة، سنن الترمذي، ج 5، ص. 37) .
ولم يكن همّ الصحابة حفظ ألفاظ القرآن فحسب، بل جمعوا إلى حفظ اللفظ فهم المعنى وتدبر المراد والعمل بمقتضى ما تضمنه من الأحكام والآداب. قال أبو عبد الرحمن السلمي: »حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن كعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما، أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يتجاوزها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل«(محمد بن محمد أبو شهب، المدخل لدراسة القرآن الكريم، ص. 28) .

والذي يرجع إلى كتب السنة يجد أنها قد أفردت للتفسير باباً من الأبواب التي اشتملت عليها وذكرت فيه كثيراً من التفسير المأثور عن الرسول صلى الله عليه وسلم. فمن ذلك ما أخرجه أحمد والترمذي وغيرهما عن عدي بن حيان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: { غير المغضوب عليهم ولا الضالين(7)}(الفاتحة) إن المغضوب عليهم هم اليهود وإن الضالين هم النصارى(ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج 1، ص. 26؛ الشوكاني، فتح القدير، ج 1، ص. 28).


ومن أجود ما قيل في تفسير القرآن بالقرآن ما ذكر الإمام المجتهد المحقق محمد بن إبراهيم اليمني ـ الشهير بابن الوزير ـ في كتابه القيم "إيثار الحق على الخلق". قال رحمه الله (يوسف القرضاوي، المرجعية العليا في الإسلام للقرآن والسنة، المرجع السابق، ص. 46 ) : تفسير القرآن بالقرآن، وذلك حيث يتكرر ذكر الشيء، ويكون بعض الآيات أكثر بياناً وتفصيلاً. وقد جمع من هذا القبيل تفسير مفرد ذكره الشيخ تقي الدين، يعني دقيق العيد في "شرح العمدة....". وقد يذكر المفسرون منه أشياء متفرقة. والله أعلم.
وما رواه الترمذي وغيره عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما نزل قوله تعالى: { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى..(238)}(البقرة) : الصلاة الوسطى صلاة العصر (أبو عيسى محمد بن سودة، سنن الترمذي، المرجع السابق، ج 5، ص. 45 ) ؛ وقال صلى الله عليه وسلم: (شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر، ملأ الله قبورهم ناراً)(عبيدات، دراسات في علوم القرآن، المرجع السابق، ص. 245).
وما أخرجه الترمذي وابن جرير عن أبيّ بن كعب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: { وألزمهم كلمة التقوى...(26)}(الفتح)« ، قال: لا إله إلا الله.
وكذلك قوله تعالى: { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ..(60)}(الأنفال) ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر بعد أن قرأ الآية (ألا وإن القوة الرمي ، القوة بالرمي ) (ابن كثير، تفسير، المرجع السابق، ج 2، ص. 318؛ الشوكاني، فتح القدير، المرجع السابق، ج 2، ص. 410 ، صحيح مسلم 1917).

ثم اختلف العلماء في المقدار الذي فسره الرسول صلى الله عليه وسلم من القرآن على ثلاثة أقوال هي:

1 ـ قال بعضهم إنه فسر آيات معدودة، وهم الخوبي والسيوطي (الذهبي، التفسير والمفسرون، المرجع السابق، ج 1، ص. 35 )؛
2 ـ وقال بعضهم إنه فسر كل القرآن، وعلى رأس هؤلاء ابن تيمية؛
3 ـ وقال بعضهم إنه فسر ما دعت الحاجة إليه وما سألوه عنه. وهذا هو القول الراجح (عبيدات، دراسات في علوم القرآن، المرجع السابق، ص. 246) .
قال ابن عباس: التفسير على أربعة أوجه هي (محمد علي الحسن، المنار في علوم القرآن، ص. 153 ) :

أ ـ وجه تعرفه العرب من كلامها؛
ب ـ وتفسير لا يعذب أحد بجهالته؛
ج ـ وتفسير تعرفه العلماء؛
د ـ وتفسير لا يعلمه إلاّ الله.

فالأول لا يحتاج إلى التفسير؛
والثاني: مثاله وجوب الصلاة وبيان الحلال والحرام؛
والثالث: هو الذي فسره رسول الله صلى الله عليه وسلم لبيان المجمل وتخصيص العامّ؛
والرابع: لم يفسره النبي صلى الله عليه وسلم ، كقيام الساعة والروح والغيب.

يتبع
 
تاريخ مدرسة التفسير في عهد النبي/أ.أحمد الحسن الربابعة/ق3

تاريخ مدرسة التفسير في عهد النبي صلى الله عليه وسلم

الأستاذ أحمد الحسن الربابعة

القسم الثالث

وإذ قد اتضح لنا من الآية والحديث والآثار مقدار ارتباط السنة بالكتاب ارتباط المبين بالمبين، فَلْنُبَيِّنْ بعد ذلك أَوْجُه هذا البيان. فنقول: أوجه بيان السنة ما يلي:

الوجه الأول: بيان المجمل في القرآن وتوضيح المشكل، وتخصيص العام، وتقييد المطلق. فمن الأول تكتب أحكام الصلاة والزكاة والصيام والحج (الزركشي، البرهان في علوم القرآن، المصدر السابق، ج 2، ص. 184 ) ، ومثاله قولـه تعالى: { وأقيموا الصلاة ...(56)}(النور) ، فجاءت السُّنَّةُ تبين مواقيتها فقال صلى الله عليه وسلم: ( صلوا كما رأيتموني أصلي ).
ومن الثاني تفسيره للخيط الأبيض والخيط الأسود في قوله تعالى: { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ...(187)}(البقرة) بأنه بياض النهار وسواد الليل.
ومن الثالث تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم الظلم في قوله تعالى: { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم(77)}(الأنعام) بالشرك.
ومن الرابع مثاله قوله تعالى: { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ..(38)}(المائدة)، بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أنها اليد اليمنى من الرسغ.

الوجه الثاني: بيان معنى لفظ أو متعلقه، كبيان المغضوب عليهم باليهود، والضالين بالنصارى(عبيدات، دراسات في علوم القرآن، المرجع السابق، ص. 247) .

الوجه الثالث: بيان أحكام زائده على ما جاء في القرآن الكريم كتحريم نكاح المرأة على عمتها وكقوله تعالى: { وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف ...(23)}(النساء).

الوجه الرابع: بيان النسخ، أي تنسخ السنة حكماً في القرآن. وهذا عند الشافعية غير وارد مطلقاً (عبيدات، دراسات في علوم القرآن، المرجع السابق، ص. 248؛ الذهبي، التفسير والمفسرون، المرجع السابق، ج 1، ص. 40 ) . مثاله قوله تعالى: { الوصية للوالدين والأقربين ...(182)}(البقرة). قال جمهور العلماء: ما نسخها قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( لا وصية لوارث ).

الوجه الخامس: بيان تأكيد. وذلك مثل قوله تعالى: { وعاشروهن بالمعروف..(19) }(النساء)،( دراسات في علوم القرآن، المرجع السابق، ص. 248 ) ، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( استوصوا بالنساء خيراً ).
وقد عرض الإمام ابن الوزير لهذا الموضوع في إيثار الحق أيضاً فقال (القرضاوي، المرجعية العليا في الإسلام، المرجع السابق، ص. 51 ) : »النوع الثاني: التفسير النبوي، وهو مقبول بالنص والإجماع. قال تعالى: { وما آتاكم الرسول فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا (7)}(الحشر) «.

ج. المصدر الثالث: من مصادر التفسير في عصر الصحابة الاجتهاد وقوة الاستنباط. وهذه خطوة ثالثة في المنهج كان الصحابة يلجأون إليها إذا لم يجدوا ضالتهم في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم (خالد إبراهيم الفتياني، محاضرات في علوم القرآن، المرجع السابق، ص. 214 ) .

كان الصحابة رضوان الله عليهم يفسرون القرآن بالرأي والاجتهاد، وذلك إذا لم يجدوا التفسير في كتاب الله تعالى ولم يتيسر لهم أخذه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكثير من الصحابـة كان يفسر بعض آي القرآن بهذا الطريق مستعيناً على ذلك بما يأتي (المرجع نفسه، ص. 214؛ القطان، مباحث في علوم القرآن، المرجع السابق، ص. 336؛ الذهبي، التفسير والمفسرون، المرجع السابق، ج 1، ص. 41 ) :

أولاً: معرفة أوضاع اللغة وأسرارها؛
ثانياً: معرفة عادات العرب؛
ثالثاً: معرفة أحوال اليهود والنصارى في جزيرة العرب وقت نزول القرآن؛
رابعاً: قوة الفهم وسعة الإدراك.

هذه هي أدوات الفهم والاستنباط التي استعان بها الصحابة على فهم كثير من آيات القرآن، وهذا هو مبلغ أثرها في الكشف عن غوامضه وأسراره(عبيدات، دراسات في علوم القرآن، المرجع السابق، ص. 248) .

د. المصدر الرابع: أهل الكتاب من اليهود والنصارى
المصدر الرابع للتفسير في عهد الصحابة هو أهل الكتاب من اليهود والنصارى. وذلك أن القرآن الكريم يتفق مع التوراة في بعض المسائل، وبالأخص في قصص القرآن، أي قصص الأنبياء وما يتعلق بالأمم الغابرة؛ وكذلك يشتمل القرآن على مواضع وردت في "الإنجيل"، كقصة ميلاد عيسى عليه السلام ومعجزاته(الفتياني، محاضرات في علوم القرآن، المرجع السابق، ص. 213؛ الذهبي، التفسير المفسرون، المرجع السابق، ج 1، ص. 43).
غير أن القرآن الكريم اتخذ نهجاً يخالف منهج "التوراة" و"الإنجيل"، فلم يتعرض لتفاصيل جزئيات المسائل ولم يستوف القصة من جميع نواحيها، بل اقتصر من ذلك على موضع العبرة فقط.
ولما كانت العقول دائماً تميل إلى الاستيفاء والاستقصاء، جعل بعض الصحابة رضي الله عنهم أجمعين يرجعون في استيفاء هذه القصص التي لم يتعرض لها القرآن من جميع نواحيها إلى من دخل في دينهم من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وكعب الأحبار وغيرهم من علماء اليهود والنصارى.
وهذا بالضرورة كان في ما ليس عندهم فيه شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأنه لو ثبت شيء في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كانوا يعدلون عنه إلى غيره مهما كان المأخوذ عنه. والله أعلم.

3. قيمة التفسير المأثور عن الصحابة وحكمه
من التفسير المعتمد والمقبول تفسير الصحابة. وذلك لأن الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ قد اجتمعوا بالرسول صلى الله عليه وسلم ونهلوا من معينه الصافي وشاهدوا الوحي والتنزيل وعرفوا أسباب النزول وله من صفاء نفوسهم وسلامة خطتهم وعلوّ منزلتهم في الفصاحة والبيان ما يؤهلهم من الفهم الصحيح السليم لكلام الله(الصابوني، التبيان في علوم القرآن، المصدر السابق، ص. 70 ) .

وأطلق الحاكم في "المستدرك" أن تفسير الصحابة الذي شهد الوحي له حكم المرفوع، فكأنه رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم وعزا هذا القول للشيخين، إذ يقول في "المستدرك": »ليعلم طالب الحديث أن التفسير الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل ـ عند الشيخين ـ حديث مسند(السيوطي، تدريب الراوي، ص. 66 )«، ولكن قيد ابن الصلاح والنووي هذا الإطلاق بما يرجع إلى أسباب النزول وكان جمال للرأي فيه.
ونحن نجد الحاكم نفسه قد صرح في معرفة علوم الحديث بما ذهب إليه ابن الصلاح. فالحاكم قيد في معرفة علوم الحديث ما أطلقه في "المستدرك"، فاعتمد الناس ما قيد وتركوا ما أطلق. وعلل السيوطي في "التدريب" إطلاق الحاكم بأنه كان حريصاً على جمع الصحيح في "المستدرك"( الذهبي، التفسير والمفسرون، المصدر السابق، ج 1، ص. 64 ) حتى أورد فيه ما ليس من شرط المرفوع، ثم اعترض بعد ذلك على الحاكم بحيث عَدَّ الحديث المذكور عن أبي هريرة من الموقوف؛ وليس كذلك، لأنه يتعلق بذكر الآخرة. وهذا لا مدخل للرأي فيه، فهو من قبيل المرفوع(المرجع نفسه).

ويرى بعض العلماء وجوب الأخذ بتفسير الصحابي، لأنه من باب الرؤية لا بالرأي(القرضاوي، المرجعية العليا، المرجع السابق، ص. 53 )، واعتبروه من باب المرفوع حكماً، وخالفهم آخرون؛ بل إن أبا عبد الله الحاكم اعتبر تفسير الصحابي مرفوعاً في كتاب وموقوفاً في آخر.

وبعد هذا كله، نخلص إلى هذه النتائج (الذهبي، التفسير والمفسرون، المرجع السابق، ج 1، ص. 65 ) :
الأول: تفسير الصحابي له حكم المرفوع إذا كان مما يرجع إلى أسباب النزول وكل ما ليس للرأي فيه جمال. أما ما يكون للرأي فيه جمال، فهو موقوف عليه ما دام لم يسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛
الثاني: ما حكم عليه بأنه من قبيل المرفوع لا يجوز رده اتفاقاً، بل يأخذه المفسر ولا يعدل عنه إلى غيره بأيِّ حال؛
الثالث: ما حكم عليه بالوقف تختلف فيه أنظار العلماء(المرجع نفسه، ج 1، ص. 65 ): فذهب فريق إلى أن الموقوف على الصحابي من التفسير لا يجب الأخذ به، لأنه لما لم يرفعه علم أنه اجتهد فيه. والمجتهد يخطئ ويصيب، والصحابة في اجتهادهم كسائر المجتهدين.
وذهب فريق آخر إلى أنه يجب الأخذ به والرجوع إليه، لظن سماعهم له من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولأنهم إذا فسروا برأيهم فرأيهم أصوب ولأنهم أدرى منَّا بكتاب الله ولبركة الصحبة والتخلق بأخلاق النبوة.
وقال الحافظ ابن كثير في مقدمة "تفسيره:
وحينئذ إذا لم يجد التفسير في القرآن ولا في السنة، رجعنا إلى أقوال الصحابة؛ فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوه من القرائن والأحوال التي اختصوا بها ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح والعمل الصالح، ولا سيما علماؤهم وكبراؤهم كالأئمة الأربعة والخلفاء الراشدين والأئمة المهتدين وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم(ابن كثير، تفسير القرآن، المصدر السابق، ج 1، ص. 4 ).
وهذا الرأي الأخير تميل إليه النفس، ويطمئن إليه القلب، لما ذكر. والله أعلم.

4. مميزات التفسير في هذه المرحلة:

يمتاز التفسير في هذه المرحلة بالمميزات التالية:
أ ـ لم يفسر القرآن جميعه، وإنما فسر بعضُه، وهو ما غمض فهمه. وهذا الغموض كان يزداد كلما بعد الناس عن عصر النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة. فكان التفسير يتزايد تبعاً لتزايد هذا الغموض، إلى أن تم تفسير آيات القرآن جميعها؛
ب ـ قلة الاختلاف بينهم في فهم معانيه؛
ج ـ كانوا كثيراً ما يكتفون بالمعنى الإجمالي، ولا يلزمون أنفسهم بتفهم معانيه تفصيلاً: فيكفي أن يفهموا من مثل قوله تعالى: { وفاكهة وأبّاً (31)}(عبس) أنه تعداد لنعم الله تعالى على عباده؛
د ـ الاقتصار على توضيح المعنى اللغوي الذي فهموه بأخصر لفظ مثل قولهم في قوله تعالى { غير متجانف لإثم...(3)}(المائدة) : أي غير متعرض لمعصية. فإن زادوا على ذلك، فما عرفوه من أسباب النزول؛
هـ ـ ندرة الاستنباط العلمي للأحكام الفقهية من الآيات القرآنية وعدم وجود الانتصار للمذاهب الدينية بما جاء في كتاب الله، نظراً لاتحادهم في العقيدة ولأن الاختلاف المذهبي لم يقم إلا بعد عصر الصحابة رضي الله عنهم؛
و ـ لم يدون شيء من التفسير في هذا العصر، لأن التدوين لم يكن إلا في القرن الثاني. نعم ! أثبت بعض الصحابة بعض التفسير في مصاحفهم، فظنها بعض المتأخرين من وجوه القرآن التي نزل بها من عند الله تعالى؛
ز ـ اتخذ التفسير في هذه المرحلة شكل الحديث، بل كان جزءاً منه وفرعاً من فروعه، ولم يتخذ التفسير له شكلاً منظماً، بل كانت هذه التفسيرات تروى منثورة لآيات متفرقة، كما كان الشأن في رواية الحديث: فحديث صلاة بجانب حديث جهاد بجانب حديث ميراث بجانب حديث في تفسير آية.

وليس لمعترض أن يعترض علينا بتفسير ابن عباس، فإنه لا تصح نسبته إليه، بل جمعه الفيروزابادي ونسبه إليه، معتمداً في ذلك على رواية واهية، وهي رواية محمد بن مروان السدى عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس. وهذه هي سلسلة الكذب.

يتبع
 
تاريخ مدرسة التفسير في عهد النبي/أ.أحمد الحسن الربابعة/ق4

تاريخ مدرسة التفسير في عهد النبي صلى الله عليه وسلم

الأستاذ أحمد الحسن الربابعة

القسم الرابع :الخاتمة

1) علم التفسير علم يبحث عن مراد الله تعالى بقدر الطاقة البشرية. فهو شامل لكل ما يتوقف عليه فهم المعنى وبيان المراد. وقد اتجه العلماء اتجاهات متباينة: فكان ما يسمى بالتفسير المأثور وهو امتداد للتفسير السابق المستند إلى الصحابة والتابعين وتابعيهم، وكان يسمى التفسير بالرأي، ومنه تعددت المناهج وتضاربت الأفكار؛ فحمد بعضه وذمَّ بعضه لقربه من هداية القرآن أو بعده عنها؛

2) إن فائدة علم التفسير هي التذكر والاعتبار ومعرفة هداية الله في العقائد والعبادات والمعاملات والأخلاق ليفوز الأفراد والمجاميع بخير العاجلة والآجلة. فهو من أشرف العلوم الدينية والعربية، وذلك لسمو موضوعه وعظم فائدته؛

3) فالنبي صلى الله عليه وسلم هو أول من مارس علم التفسير وعلمه لأصحابه رضوان الله عليهم. أما الصحابة، فهم الطبقة الأولى في تاريخ علماء التفسير، وهم الأساس والأصل اللذان قامت عليهما نشأة علم التفسير. ومن هنا فقد تنوعت مصادر التفسير لتشمل القرآن الكريم والسنة والاجتهاد وآراء أهل الكتاب من اليهود والنصارى؛

4) لاشك في أن تفسير القرآن الكريم وتفسير القرآن بالسنة هما كلاهما أعلى أنواع التفسير. أما الأول، فلأن الله أعلم بمراد نفسه من غيره، وكتاب الله تعالى أصدق الحديث لأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وأما الثاني، فلأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بين مهمة القرآن وذكر أنها مهمة التوضيح والبيان. فما جاء عن رسول صلى الله عليه وسلم من شرح أو بيان بسنة صحيحة ثابتة، فهو ـ بلاشك ـ حق يجب اعتماده؛

5) وبهذا امتاز علم التفسير في هذا العصر بـأنه لم يفسر القرآن جميعه، وإنما فسر بعضه؛ كما امتاز بقلة الاختلاف في فهم معانيه؛ وثالثاً كانوا كثيراً ما يكتفون بالمعنى الإجمالي ولا يلزمون أنفسهم بتفهم معانيه تفصيلاً؛ ورابعاً كانوا يقتصرون في توضيح المعنى اللغوي الذي فهموه بأقصر لفظ؛ وخامساً يندر الاستنباط العلمي للأحكام الفقهية من الآيات القرآنية، ولا يوجد الانتصار للمذاهب الدينية.

عن موقع مجلة التاريخ العربي

فهرس المراجع

القرآن الكريم.
إبراهيم مصطفى وآخرون، معجم الوسيط، دار الدعوة، المؤسسة الثقافية، إستنبول، تركيا، ط. 2، د. ت.
البخاري، عبد الله بن إسماعيل بن إبراهيم الجحفي (ت 256 هـ)، صحيح البخـاري، وهو مطـبوع بحاشيـة "فتـح الـباري" لابن حجر العسقلاني، القاهرة، 1378 هـ/ 1959 م.
البوطي، محمد سعيد رمضان، من روائع القرآن، دار العلم للملايين، بيروت، ط. 7، 1411 هـ/ 1990 م.
الترمذي، أبو عيسى (ت 279 هـ)، سنن الترمذي، تحقيق أحمد شاكر، مطبعة الحلبي، القاهرة، ط. 1، 1356 هـ/ 1937 م.
خالد محمد خالد، الرجال حـول الرسـول، دار الفكـر، بيروت، د. ت.
الذهبي، محمد حسين، التفسير والمفسرون، شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم للطباعة والنشر، بيروت، د. ت.
الزرقاني، محمد عبد العظيم، مناهل العرفان في علوم القرآن، دار الفكر، بيروت، 1408 هـ/ 1988 م.
الزركشي، بدر الدين محمد بن عبد الله (794 هـ)، البرهان في علوم القرآن، المكتبة العصرية للطباعة والنشر، بيروت، د. ت.
السجستاني، أبو داوود سليمان بن الأشعت (275 هـ)، سنن أبي داود، مطبعة الحلبي، القاهرة، ط 1، 1371 هـ/ 1952 م.
السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر (911 هـ)، تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط. 1، 1417 هـ/ 1996 م.
أبو شهبة، محمد بن محمد، المدخل لدراسة القرآن الكريم، مكتبة السنة، القاهرة، ط. 1، 1412 هـ/ 1992 م.
الشوكاني، محمد بن علي بن محمد (1250 هـ)، فتح القدير، دار الكتب العلمية، بيروت، ط. 1، 1415 هـ/ 1994 م.
الصابوني، محمد علي، التبيان في علوم القرآن، عالم الكتاب، بيروت، ط. 1، 1405 هـ/ 1985 م.
صبحي الصالح، مباحث في علوم القرآن، دار العلم للملايين، بيروت، ط. 17، 1411 هـ/ 1990 م.
الفتياني، خالد إبراهيم، محاضرات في علوم القرآن، دار الإبداع للنشر والتوزيع، عمان ـ الأردن، ط. 1، 1412 هـ/ 1992 م.
الفيروزآبادي، مجد الدين محمد بن يعقوب، القاموس المحيط، دار الإحياء والتراث، بيروت، ط. 1، د. ت.
القرضاوي، يوسف، المرجعية العليا في الإسلام للقرآن والسنة، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط. 2، 1416 هـ/ 1996 م.
القشيري، مسلم بن حجاج (261 هـ)، صحيح مسلم، دار المعرفة، بيروت، ط. 3، 1417 هـ/ 1996 م، وهو مطبوع بحاشية الإمام محيي الدين النووي (676 هـ).
القطان، مناع خليل، مباحث في علوم القرآن، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط. 26، 1995 م.
ابن كثير، ابن الفداء إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي (774 هـ)، تفسير القرآن العظيم، المكتبة المصرية للطباعة والنشر، بيروت، ط. 1، 1416 هـ/ 1996 م.
محمود سالم عبيدات، دراسات في علوم القرآن، دار عماد للنشر والتوزيع، عمان، ط. 1، 1411 هـ/ 1990 م.
 
التعديل الأخير:
عودة
أعلى