تاريخ مدرسة التفسير في عهد النبي صلى الله عليه وسلم
الأستاذ أحمد الحسن الربابعة
القسم الأول
أولاً: التعريف بعلم التفسير
الأستاذ أحمد الحسن الربابعة
القسم الأول
أولاً: التعريف بعلم التفسير
1. التفسير في اللغة والاصطلاح
التفسير في اللغة: الشرح والبيان. وفسّر الشيء: وضحه وأبانه، وآيات القرآن الكريم: شرحها ووضع ما تنطوي عليه من معان وأسرار وأحكام ( إبراهيم مصطفى وآخرون، المعجم الوسيط، ج 2، ص. 688).. قال تعالى: { ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيراً }(الفرقان 33).
ومن هذا يتبين لنا أن التفسير يستعمل لغة في الكشف الحسي وفي الكشف عن المعاني المعقولة، واستعماله في الثاني أكثر من استعماله في الأول.
أما في الاصطلاح، فيرى بعض العلماء أن التفسير ليس من العلوم التي يتكلف لها حد، لأنه ليس قواعد أو ملكات ناشئة من مزاولة القواعد كغيره من العلوم التي أمكن لها أن تشبه العلوم العقلية، ويكتفي في إيضاح التفسير بأنه بيان كلام الله أو أنه المبين لألفاظ القرآن ومفهوماتها (محمد حسن الذهبي، التفسير والمفسرون، ج 1، ص. 10).
وإذا تتبعنا أقوال العلماء الذين تكلفوا الحد للتفسير، وجدناهم قد عرفوه بتعريفات كثيرة، يمكن إرجاعها كلها إلى واحد منها. فهي وإن كانت مختلفة من جهة اللفظ، فإنها متحدة من جهة المعنى وما تهدف إليه.
فقد عرفه أبو حيان بأنه علم يبحث في كيفية النطق بألفاظ القرآن ومدلولاتها وأحكامها الإفرادية والتركيبية ومعانيها التي تحمل عليها حالة التركيب وتتامت لذلك.
ثم خرج التعريف، فقال:
فقولنا علم، هو جنس يشمل سائر العلوم؛ وقولنا يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن، هذا هو علم القراءات؛ وقولنا ومدلولاتها، أي مدلولات تلك الألفاظ، وهذا علم اللغة الذي يحتاج إليه في هذا العلم؛ وقولنا أحكامها الإفرادية والتركيبية، هذا يشمل علم التصريف، وعلم الإعراب، وعلم البيان، وعلم البديع؛ وقولنا ومعانيها التي تحمل عليها حالة التركيب، يشمل ما دلالته عليه بالحقيقة، وما دلالته عليه بالمجاز، فإن التركيب قد يقتضي بظاهرة شيئاً ويصد من الحمل على الظاهر صاد فيحتاج لأجل ذلك أن يحمل على غيره الظاهر وهو المجاز، وقولنا وتتمات لذلك، هو معرفة النسخ وسبب النزول، وقصة توضِّح بعض ما انبهم في القرآن، ونحو ذلك.
وعرفه الزركشي بأنه: علم يفهم به كتاب الله المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. وبيان معانيه واستخراج أحكامه وحكمه (المرجع نفسه، ج 1، ص. 11؛ السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، ج 4، ص. 462).
وعرفه الزرقاني: علم يبحث فيه عن أحوال القرآن الكريم من حيث دلالته على مراد الله تعالى بقدر الطاقة البشرية (مناع قطـان، مباحث في علوم القـرآن، ص. 324؛ الزركشي، البرهـان في علوم القرآن، ج 2، ص. 148).
والناظر لأول وهلة في هذين التعريفين الآخرين يظن أن علم القراءات وعلم الرسم لا يدخلان في علم التفسير. والحق أنهما داخلان في علم التفسير، وذلك لأن المعنى يختلف باختلاف القراءتين أو القراءات كقراءة (محمود سالم عبيدات، دراسات في علوم القرآن، ص. 238) { وإذا رأيت ثم رأيت نعيماً وملكاً كبيراً }(الإنسان20) ، بضم الميم وتسكين اللام. فإن معناها مغاير لقراءة من قرأ { ملكاً كبيراً }(الإنسان20) بفتح الميم وكسر اللام.
وعرفه بعضهم بأنه: علم نزول الآيات، وشؤونها، وأقاصيصها، والأسباب النازلة فيها، ثم ترتيب مكِّيِّها ومَدَنِيِّهَا، ومحكمها ومتشابهها، وناسخها ومنسوخها، وخاصها وعامها، ومطلقها ومقيدها، ومجملها ومفسرها، وحلالها وحرامها، ووعدها ووعيدها، وأمرها ونهيها، وعبرها وأمثالها (السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، المصدر السابق، ج 4، ص. 462؛ محمد حسين الذهبي، التفسير والمفسرون، المرجع السابق، ج 1، ص. 11).
وهذه التعريفات تتفق كلها على أن علم التفسير علم يبحث عن مراد الله تعالى بقدر الطاقة البشرية؛ فهو شامل لكل ما يتوقف عليه فهم المعنى وبيان المراد.
2. نشأة علم التفسير
لا ريب في أن التفسير مر بأطوار كثيرة حتى اتخذ هذه الصورة التي نجده عليها الآن في بطون المؤلفات والتصانيف، وبين مطبوع ومخطوط. ولقد نشأ التفسير مبكراً في عصر النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان أول شارح لكتاب الله، يبين للناس ما نزل على قلبه.
أما صحابته الكرام، فما كانوا يجرؤون على تفسير القرآن وهو عليه السلام بين ظهرانيهم، يتحمل هذا العبء العظيم، ويؤديه حق الأداء. حتى إذا لحق عليه السلام بالرفيق الأعلى، لم يكن بدّ للصحابة العلماء بكتاب الله، الواقفين على أسراره، المهتدين بهدي النبي صلى الله عليه وسلم ، من أن يقوموا بقسطهم في بيان ما علموه وتوضيح ما فهموه (صبحي الصالح، مباحث في علوم القرآن، ص. 289 ).
فالمفسرون من الصحابة كثيرون، إلا أن مشاهيرهم عشرة: الخلفاء الأربعة، وابن مسعود، وابن عباس، وأبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، وأبو موسى الأشعري، وعبد الله بن الزبير. أما الخلفاء الأربعة، فأكثر من روى عنه منهم عليّ بن أبي طالب؛ والرواية عن الثلاثة نادرة جداً، وكان السبب في ذلك تقدم وفاتهم (السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، المصدر السابق، ج 4، ص. 471)..
أما علي بن أبي طالب، فسبب كثرة من روى عنه راجع إلى تفرغه عن مهام الخلافة مدة طويلة وتأخر وفاته إلى زمن كثرت فيه حاجة الناس إلى من يفسر لهم ما خفي عنهم من معاني القرآن (محمد حسين الذهبي، التفسير والمفسرون المرجع السابق، ج 1، ص. 44 ).
وأجدر هؤلاء العشرة جميعاً بلقب المفسر هو عبد الله بن عباس الذي شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعلم، ودعا له الله أن يفقِّهه في الدين ويعلمه التأويل (خالد محمد خالد، رجال حول الرسول، ص. 570 )، وسماه »ترجمان القرآن«، وذلك لما عرفت أنه بحر هذه الأمة ولتأخر الزمان به حتى اشتدت حاجة الناس إلى الأخذ عنه بعد اتساع الإسلام وانتشار العمران ولانقطاعه وتفرغه للنشر والدعوة والتعليم، دون أن تشغله خلافة أو تصرفه سياسة وتدبير لشؤون الرعية. غير أن الرواية عنه مختلفة الدرجات (محمد عبد العظيم الزرقاني، مناهل العرفان، ج 2، ص. 16 ).
وهناك من تكلم في التفسير من الصحابة غير هؤلاء، كأنس بن مالك وأبي هريرة وعبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله وعبد الله بن عمرو بن العاص وعائشة غير أن ما نقل عنهم في التفسير قليل جداً، ولم يكن لهم من الشهرة بالقول في القرآن الكريم ما كان للعشرة المذكورين أولاً (محمد حسين الذهبي، التفسير والمفسرون، ج 1، ص. 44 ).
وتلقى أقوال الصحابة نفر من كرام التابعين في الأمصار الإسلامية المختلفة؛ فنشأت في مكة طبقة للمفسرين، وفي المدينة طبقة ثانية، وفي العراق ثالثة (صبحي الصالح، مباحث في علوم القرآن، ص. 290). قال ابن تيمية :
أعلم الناس بالتفسير أهل مكة، لأنهم أصحاب ابن عباس كمجاهد وعطاء بن أبي رباح وعكرمة مولى ابن عباس وسعيد بن جُبير وطاووس وغيرهم؛ وكذلك في الكوفة أصحاب ابن مسعود؛ وعلماء أهل المدينة في التفسير مثل زيد بن أسلم الذي أخذ عنه ابنه عبد الرحمن بن زيد ومالك بن أنس (المرجع نفسه).
وعن التابعين، أخذ تابعو التابعين. فجمعوا أقوال من تقدمهم وصنعوا التفاسير كما فعل سفيان بن عيينة ووكيع بن الجراح ويزيد بن هارون (صبحي الصالح، مباحث في علوم القرآن، ص. 290)؛ وكذلك في هذا العصر خطا التفسير خطوة ثالثة انفصل بها عن الحديث. فأصبح علماً قائماً بنفسه، ووضع التفسير لكل آية من القرآن، ورتب ذلك على حسب ترتيب المصحف(محمد حسين الذهبي، التفسير والمفسرون، ج 1، ص. 98). وتم ذلك على أيدي طائفة من العلماء منهم ابن ماجة وابن جرير الطبري وأبو بكر بن المنذر النيسابوري وابن أبي حاتم والحاكم وأبو بكر بن مردويه وغيرهم من أئمة هذا الشأن.
وكل هذه التفاسير مروية بالإسناد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أصحابه والتابعين وتابعي التابعين، وليس فيها شيء من التفسير أكثر من التفسير المأثور؛ اللهم إلا ابن جرير الطبري، فإنه ذكر الأقوال ثم وجهها. ورجح بعضهم على بعض وزاد على ذلك الأعراب إن دعت إليه حاجة، واستنبط الأحكام التي يمكن أن تؤخذ من الآيات القرآنية(محمود سالم عبيدات، دراسات في علوم القرآن، ص. 252؛ صبحي الصالح، مباحث في علوم القرآن، المرجع السابق، ص. 290).
وبعد ذلك، اتجه العلماء في تفاسيرهم اتجاهات متباينة. فكان ما يسمى بالتفسير بالمأثور، وهو امتداد للتفاسير السابقة المستندة إلى الصحابة والتابعين وتابعيهم؛ وكان ما يسمى بالتفسير بالرأي وفيه تعددت المناهج وتضاربت الأفكار، فحمد بعضه وذُمَّ بعضه تبعاً لقربه من هداية القرآن أو بعده عنها.
3. أهمية علم التفسير
نهضة الأفراد والأمم لا يمكن أن تكون صحيحة عن تجربة ولا سهلة متيسرة ولا رائعة مدهشة، إلا عن طريق الاسترشاد بتعاليم القرآن ونظمه الحكيمة التي روعيت فيها جميع عناصر السعادة للنوع البشري على ما أحاط به علم خالقه الحكيم. وبديهي أن العمل بهذه التعاليم لا يكون إلا بعد فهم القرآن وتدبره، والوقوف على ما حوى من نصح ورشد، والإلمام بمبادئه عن طريق تلك القوة الهائلة التي يحملها أسلوبه البارع المعجز. وهذا لا يتحقق إلا عن طريق الكشف والبيان لما تدل عليه ألفاظ القرآن، وهو ما نسميه بعلم التفسير(الزرقاني، مناهل العرفان في علوم القرآن، المرجع السابق، ج 2، ص. 6)، خصوصاً في هذه العصور الأخيرة التي فسدت فيها ملكة البيان العربي وضاعت فيها خصائص العروبة حتى من سلائل العرب أنفسهم.
فالتفسير هو مفتاح هذه الكنوز والذخائر التي احتواها هذا الكتاب المجيد النازل لإصلاح البشر وإنقاذ الناس وإعزاز العالم.
ومن دون تفسير، لا يمكن الوصول إلى هذه الكنوز والذخائر مهما بالغ الناس في ترديد ألفاظ القرآن، وحرصوا على قراءته كل يوم ألف مرة بجميع وجوهه التي نزل عليها (المصدر نفسه، ص. 7).
ونلاحظ في هذا أن سلفنا الصالح نجحوا بهذا القرآن نجاحاً مدهشاً كان وما زال موضع إعجاب التاريخ والمؤرخين، مع أن أسلافنا أولئك كانوا في قلة من العدد وخشونة من العيش بينما تأخر مُسْلِمَة هذا الزمن على رغم وفرة المصاحف في أيديهم ووجود ملايين الحفاظ بين ظهرانيهم.
فالسّر في ذلك هو أنهم، أي أسلافنا، توفروا على دراسة القرآن واستخراج كنوز هداياته، يستعينون على هذه الثقافة العليا بمواهبهم الفطرية وملكاتهم السليمة العربية من ناحية، وبما يشرح رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبينه لهم بأقواله وأعماله، وأخلاقه وسائر أحواله (المصدر نفسه، ص. 8) كما قال تعالى:
{ وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزلنا إليهم ولعلهم يتفكرون } (النحل44).
وعلى ذلك، كان همهم الأول هو القرآن الكريم يحفظونه ويفهمونه قبل أن يحفظوه، ثم يعملون بتعاليمه بدقة ويهتدون بهديه في يقظة.
أما أغلب مسملة اليوم، فقد اكتفوا من القرآن بألفاظ يرددونها، وأنغام يلحِّنونها في المآتم والمقابر والدور. ونسوا أن بركة القرآن العظمى إنما هي في تدبره وتفهمه ثم في الوقوف عند أوامره ومراضيه والبعد عن مساخطه ونواهيه، والله تعالى يقول: { كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب }( ص29) ؛ ويقول سبحانه: { أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها }(محمد24)؛ ويقول جل ذكره: { ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر }(القمر32).
فما أشبه المسلمين اليوم بالعطشان يموت من الظمإ والماء بين يديه، والحيوان يهلك من الإعياء والنور من حوله يهديه السبيل لو فتح عينيه.
قال السيوطي في بيان الحاجة إلى التفسير: »القرآن إنما نزل بلسان عربي في زمن أفصح العرب، فكانوا يعلمون ظواهره وأحكامه«(السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، ج 4، ص. 463؛ الزرقاني، مناهل العرفان، ج 2، ص. 9) .
أما دقائق الباطن، فلا تظهر لهم إلا بعد البحث والنظر وسؤالهم النبي صلى الله عليه وسلم مثل قولهم حينما نزل قوله تعالى: { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم }(الأنعام82)، حيث قالوا: »وأينا لم يظلم نفسه؟«. ففسره النبي صلى الله عليه وسلم بالشرك واستدل بقوله تعالى:
{ إن الشرك لظلم عظيم }(لقمان13). وكذلك حين قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من حوسب يوم القيامة عذّب )، فقالت أو سألته عائشة رضي الله عنها عن قوله تعالى: { فسوف يحاسب حساباً يسيراً (8) وينقلب إلى أهله مسروراً(9)}(الإنشقاق) ؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ليس ذلك الحساب إنما ذاك العرض، من نوقش الحساب يوم القيامة عذب )(بشر النووي، صحيح مسلم، ج 17، ص. 204).
ونحن محتاجون إلى ما كانوا يحتاجون إليه. بل نحن أشد الناس احتياجاً إلى التفسير، لقصورنا عن مدارك اللغة وأسرارها بغير تعلم.
مما تقدم يتبين أن قاعدة التفسير هي التذكر والاعتبار ومعرفة هداية الله في العقائد والعبادات والمعاملات والأخلاق ليفوز الأفراد والمجاميع بخير العاجلة والآجلة.
ويتبين أيضاً أن هذا العلم من أشرف العلوم الدينية والعربية، إن لم يكن أشرفها جميعاً، وذلك لسمو موضوعه وعظم فائدته.
وسمي علم التفسير، لما فيه من الكشف والتبيين. واختص بهذا الاسم دون بقية العلوم، مع أنها كلها مشتملة على الكشف والتبيين، لجلالة قدره واحتياجه إلى زيادة الاستعداد وقصده إلى تبيين مراد الله من كلامه كأنه هو التفسير وحده دون ما عداه(الزرقاني، مناهل العرفان، المصدر السابق، ج 2، ص. 10) . والله أعلم.
يتبع
التفسير في اللغة: الشرح والبيان. وفسّر الشيء: وضحه وأبانه، وآيات القرآن الكريم: شرحها ووضع ما تنطوي عليه من معان وأسرار وأحكام ( إبراهيم مصطفى وآخرون، المعجم الوسيط، ج 2، ص. 688).. قال تعالى: { ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيراً }(الفرقان 33).
ومن هذا يتبين لنا أن التفسير يستعمل لغة في الكشف الحسي وفي الكشف عن المعاني المعقولة، واستعماله في الثاني أكثر من استعماله في الأول.
أما في الاصطلاح، فيرى بعض العلماء أن التفسير ليس من العلوم التي يتكلف لها حد، لأنه ليس قواعد أو ملكات ناشئة من مزاولة القواعد كغيره من العلوم التي أمكن لها أن تشبه العلوم العقلية، ويكتفي في إيضاح التفسير بأنه بيان كلام الله أو أنه المبين لألفاظ القرآن ومفهوماتها (محمد حسن الذهبي، التفسير والمفسرون، ج 1، ص. 10).
وإذا تتبعنا أقوال العلماء الذين تكلفوا الحد للتفسير، وجدناهم قد عرفوه بتعريفات كثيرة، يمكن إرجاعها كلها إلى واحد منها. فهي وإن كانت مختلفة من جهة اللفظ، فإنها متحدة من جهة المعنى وما تهدف إليه.
فقد عرفه أبو حيان بأنه علم يبحث في كيفية النطق بألفاظ القرآن ومدلولاتها وأحكامها الإفرادية والتركيبية ومعانيها التي تحمل عليها حالة التركيب وتتامت لذلك.
ثم خرج التعريف، فقال:
فقولنا علم، هو جنس يشمل سائر العلوم؛ وقولنا يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن، هذا هو علم القراءات؛ وقولنا ومدلولاتها، أي مدلولات تلك الألفاظ، وهذا علم اللغة الذي يحتاج إليه في هذا العلم؛ وقولنا أحكامها الإفرادية والتركيبية، هذا يشمل علم التصريف، وعلم الإعراب، وعلم البيان، وعلم البديع؛ وقولنا ومعانيها التي تحمل عليها حالة التركيب، يشمل ما دلالته عليه بالحقيقة، وما دلالته عليه بالمجاز، فإن التركيب قد يقتضي بظاهرة شيئاً ويصد من الحمل على الظاهر صاد فيحتاج لأجل ذلك أن يحمل على غيره الظاهر وهو المجاز، وقولنا وتتمات لذلك، هو معرفة النسخ وسبب النزول، وقصة توضِّح بعض ما انبهم في القرآن، ونحو ذلك.
وعرفه الزركشي بأنه: علم يفهم به كتاب الله المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. وبيان معانيه واستخراج أحكامه وحكمه (المرجع نفسه، ج 1، ص. 11؛ السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، ج 4، ص. 462).
وعرفه الزرقاني: علم يبحث فيه عن أحوال القرآن الكريم من حيث دلالته على مراد الله تعالى بقدر الطاقة البشرية (مناع قطـان، مباحث في علوم القـرآن، ص. 324؛ الزركشي، البرهـان في علوم القرآن، ج 2، ص. 148).
والناظر لأول وهلة في هذين التعريفين الآخرين يظن أن علم القراءات وعلم الرسم لا يدخلان في علم التفسير. والحق أنهما داخلان في علم التفسير، وذلك لأن المعنى يختلف باختلاف القراءتين أو القراءات كقراءة (محمود سالم عبيدات، دراسات في علوم القرآن، ص. 238) { وإذا رأيت ثم رأيت نعيماً وملكاً كبيراً }(الإنسان20) ، بضم الميم وتسكين اللام. فإن معناها مغاير لقراءة من قرأ { ملكاً كبيراً }(الإنسان20) بفتح الميم وكسر اللام.
وعرفه بعضهم بأنه: علم نزول الآيات، وشؤونها، وأقاصيصها، والأسباب النازلة فيها، ثم ترتيب مكِّيِّها ومَدَنِيِّهَا، ومحكمها ومتشابهها، وناسخها ومنسوخها، وخاصها وعامها، ومطلقها ومقيدها، ومجملها ومفسرها، وحلالها وحرامها، ووعدها ووعيدها، وأمرها ونهيها، وعبرها وأمثالها (السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، المصدر السابق، ج 4، ص. 462؛ محمد حسين الذهبي، التفسير والمفسرون، المرجع السابق، ج 1، ص. 11).
وهذه التعريفات تتفق كلها على أن علم التفسير علم يبحث عن مراد الله تعالى بقدر الطاقة البشرية؛ فهو شامل لكل ما يتوقف عليه فهم المعنى وبيان المراد.
2. نشأة علم التفسير
لا ريب في أن التفسير مر بأطوار كثيرة حتى اتخذ هذه الصورة التي نجده عليها الآن في بطون المؤلفات والتصانيف، وبين مطبوع ومخطوط. ولقد نشأ التفسير مبكراً في عصر النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان أول شارح لكتاب الله، يبين للناس ما نزل على قلبه.
أما صحابته الكرام، فما كانوا يجرؤون على تفسير القرآن وهو عليه السلام بين ظهرانيهم، يتحمل هذا العبء العظيم، ويؤديه حق الأداء. حتى إذا لحق عليه السلام بالرفيق الأعلى، لم يكن بدّ للصحابة العلماء بكتاب الله، الواقفين على أسراره، المهتدين بهدي النبي صلى الله عليه وسلم ، من أن يقوموا بقسطهم في بيان ما علموه وتوضيح ما فهموه (صبحي الصالح، مباحث في علوم القرآن، ص. 289 ).
فالمفسرون من الصحابة كثيرون، إلا أن مشاهيرهم عشرة: الخلفاء الأربعة، وابن مسعود، وابن عباس، وأبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، وأبو موسى الأشعري، وعبد الله بن الزبير. أما الخلفاء الأربعة، فأكثر من روى عنه منهم عليّ بن أبي طالب؛ والرواية عن الثلاثة نادرة جداً، وكان السبب في ذلك تقدم وفاتهم (السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، المصدر السابق، ج 4، ص. 471)..
أما علي بن أبي طالب، فسبب كثرة من روى عنه راجع إلى تفرغه عن مهام الخلافة مدة طويلة وتأخر وفاته إلى زمن كثرت فيه حاجة الناس إلى من يفسر لهم ما خفي عنهم من معاني القرآن (محمد حسين الذهبي، التفسير والمفسرون المرجع السابق، ج 1، ص. 44 ).
وأجدر هؤلاء العشرة جميعاً بلقب المفسر هو عبد الله بن عباس الذي شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعلم، ودعا له الله أن يفقِّهه في الدين ويعلمه التأويل (خالد محمد خالد، رجال حول الرسول، ص. 570 )، وسماه »ترجمان القرآن«، وذلك لما عرفت أنه بحر هذه الأمة ولتأخر الزمان به حتى اشتدت حاجة الناس إلى الأخذ عنه بعد اتساع الإسلام وانتشار العمران ولانقطاعه وتفرغه للنشر والدعوة والتعليم، دون أن تشغله خلافة أو تصرفه سياسة وتدبير لشؤون الرعية. غير أن الرواية عنه مختلفة الدرجات (محمد عبد العظيم الزرقاني، مناهل العرفان، ج 2، ص. 16 ).
وهناك من تكلم في التفسير من الصحابة غير هؤلاء، كأنس بن مالك وأبي هريرة وعبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله وعبد الله بن عمرو بن العاص وعائشة غير أن ما نقل عنهم في التفسير قليل جداً، ولم يكن لهم من الشهرة بالقول في القرآن الكريم ما كان للعشرة المذكورين أولاً (محمد حسين الذهبي، التفسير والمفسرون، ج 1، ص. 44 ).
وتلقى أقوال الصحابة نفر من كرام التابعين في الأمصار الإسلامية المختلفة؛ فنشأت في مكة طبقة للمفسرين، وفي المدينة طبقة ثانية، وفي العراق ثالثة (صبحي الصالح، مباحث في علوم القرآن، ص. 290). قال ابن تيمية :
أعلم الناس بالتفسير أهل مكة، لأنهم أصحاب ابن عباس كمجاهد وعطاء بن أبي رباح وعكرمة مولى ابن عباس وسعيد بن جُبير وطاووس وغيرهم؛ وكذلك في الكوفة أصحاب ابن مسعود؛ وعلماء أهل المدينة في التفسير مثل زيد بن أسلم الذي أخذ عنه ابنه عبد الرحمن بن زيد ومالك بن أنس (المرجع نفسه).
وعن التابعين، أخذ تابعو التابعين. فجمعوا أقوال من تقدمهم وصنعوا التفاسير كما فعل سفيان بن عيينة ووكيع بن الجراح ويزيد بن هارون (صبحي الصالح، مباحث في علوم القرآن، ص. 290)؛ وكذلك في هذا العصر خطا التفسير خطوة ثالثة انفصل بها عن الحديث. فأصبح علماً قائماً بنفسه، ووضع التفسير لكل آية من القرآن، ورتب ذلك على حسب ترتيب المصحف(محمد حسين الذهبي، التفسير والمفسرون، ج 1، ص. 98). وتم ذلك على أيدي طائفة من العلماء منهم ابن ماجة وابن جرير الطبري وأبو بكر بن المنذر النيسابوري وابن أبي حاتم والحاكم وأبو بكر بن مردويه وغيرهم من أئمة هذا الشأن.
وكل هذه التفاسير مروية بالإسناد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أصحابه والتابعين وتابعي التابعين، وليس فيها شيء من التفسير أكثر من التفسير المأثور؛ اللهم إلا ابن جرير الطبري، فإنه ذكر الأقوال ثم وجهها. ورجح بعضهم على بعض وزاد على ذلك الأعراب إن دعت إليه حاجة، واستنبط الأحكام التي يمكن أن تؤخذ من الآيات القرآنية(محمود سالم عبيدات، دراسات في علوم القرآن، ص. 252؛ صبحي الصالح، مباحث في علوم القرآن، المرجع السابق، ص. 290).
وبعد ذلك، اتجه العلماء في تفاسيرهم اتجاهات متباينة. فكان ما يسمى بالتفسير بالمأثور، وهو امتداد للتفاسير السابقة المستندة إلى الصحابة والتابعين وتابعيهم؛ وكان ما يسمى بالتفسير بالرأي وفيه تعددت المناهج وتضاربت الأفكار، فحمد بعضه وذُمَّ بعضه تبعاً لقربه من هداية القرآن أو بعده عنها.
3. أهمية علم التفسير
نهضة الأفراد والأمم لا يمكن أن تكون صحيحة عن تجربة ولا سهلة متيسرة ولا رائعة مدهشة، إلا عن طريق الاسترشاد بتعاليم القرآن ونظمه الحكيمة التي روعيت فيها جميع عناصر السعادة للنوع البشري على ما أحاط به علم خالقه الحكيم. وبديهي أن العمل بهذه التعاليم لا يكون إلا بعد فهم القرآن وتدبره، والوقوف على ما حوى من نصح ورشد، والإلمام بمبادئه عن طريق تلك القوة الهائلة التي يحملها أسلوبه البارع المعجز. وهذا لا يتحقق إلا عن طريق الكشف والبيان لما تدل عليه ألفاظ القرآن، وهو ما نسميه بعلم التفسير(الزرقاني، مناهل العرفان في علوم القرآن، المرجع السابق، ج 2، ص. 6)، خصوصاً في هذه العصور الأخيرة التي فسدت فيها ملكة البيان العربي وضاعت فيها خصائص العروبة حتى من سلائل العرب أنفسهم.
فالتفسير هو مفتاح هذه الكنوز والذخائر التي احتواها هذا الكتاب المجيد النازل لإصلاح البشر وإنقاذ الناس وإعزاز العالم.
ومن دون تفسير، لا يمكن الوصول إلى هذه الكنوز والذخائر مهما بالغ الناس في ترديد ألفاظ القرآن، وحرصوا على قراءته كل يوم ألف مرة بجميع وجوهه التي نزل عليها (المصدر نفسه، ص. 7).
ونلاحظ في هذا أن سلفنا الصالح نجحوا بهذا القرآن نجاحاً مدهشاً كان وما زال موضع إعجاب التاريخ والمؤرخين، مع أن أسلافنا أولئك كانوا في قلة من العدد وخشونة من العيش بينما تأخر مُسْلِمَة هذا الزمن على رغم وفرة المصاحف في أيديهم ووجود ملايين الحفاظ بين ظهرانيهم.
فالسّر في ذلك هو أنهم، أي أسلافنا، توفروا على دراسة القرآن واستخراج كنوز هداياته، يستعينون على هذه الثقافة العليا بمواهبهم الفطرية وملكاتهم السليمة العربية من ناحية، وبما يشرح رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبينه لهم بأقواله وأعماله، وأخلاقه وسائر أحواله (المصدر نفسه، ص. 8) كما قال تعالى:
{ وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزلنا إليهم ولعلهم يتفكرون } (النحل44).
وعلى ذلك، كان همهم الأول هو القرآن الكريم يحفظونه ويفهمونه قبل أن يحفظوه، ثم يعملون بتعاليمه بدقة ويهتدون بهديه في يقظة.
أما أغلب مسملة اليوم، فقد اكتفوا من القرآن بألفاظ يرددونها، وأنغام يلحِّنونها في المآتم والمقابر والدور. ونسوا أن بركة القرآن العظمى إنما هي في تدبره وتفهمه ثم في الوقوف عند أوامره ومراضيه والبعد عن مساخطه ونواهيه، والله تعالى يقول: { كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب }( ص29) ؛ ويقول سبحانه: { أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها }(محمد24)؛ ويقول جل ذكره: { ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر }(القمر32).
فما أشبه المسلمين اليوم بالعطشان يموت من الظمإ والماء بين يديه، والحيوان يهلك من الإعياء والنور من حوله يهديه السبيل لو فتح عينيه.
قال السيوطي في بيان الحاجة إلى التفسير: »القرآن إنما نزل بلسان عربي في زمن أفصح العرب، فكانوا يعلمون ظواهره وأحكامه«(السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، ج 4، ص. 463؛ الزرقاني، مناهل العرفان، ج 2، ص. 9) .
أما دقائق الباطن، فلا تظهر لهم إلا بعد البحث والنظر وسؤالهم النبي صلى الله عليه وسلم مثل قولهم حينما نزل قوله تعالى: { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم }(الأنعام82)، حيث قالوا: »وأينا لم يظلم نفسه؟«. ففسره النبي صلى الله عليه وسلم بالشرك واستدل بقوله تعالى:
{ إن الشرك لظلم عظيم }(لقمان13). وكذلك حين قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من حوسب يوم القيامة عذّب )، فقالت أو سألته عائشة رضي الله عنها عن قوله تعالى: { فسوف يحاسب حساباً يسيراً (8) وينقلب إلى أهله مسروراً(9)}(الإنشقاق) ؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ليس ذلك الحساب إنما ذاك العرض، من نوقش الحساب يوم القيامة عذب )(بشر النووي، صحيح مسلم، ج 17، ص. 204).
ونحن محتاجون إلى ما كانوا يحتاجون إليه. بل نحن أشد الناس احتياجاً إلى التفسير، لقصورنا عن مدارك اللغة وأسرارها بغير تعلم.
مما تقدم يتبين أن قاعدة التفسير هي التذكر والاعتبار ومعرفة هداية الله في العقائد والعبادات والمعاملات والأخلاق ليفوز الأفراد والمجاميع بخير العاجلة والآجلة.
ويتبين أيضاً أن هذا العلم من أشرف العلوم الدينية والعربية، إن لم يكن أشرفها جميعاً، وذلك لسمو موضوعه وعظم فائدته.
وسمي علم التفسير، لما فيه من الكشف والتبيين. واختص بهذا الاسم دون بقية العلوم، مع أنها كلها مشتملة على الكشف والتبيين، لجلالة قدره واحتياجه إلى زيادة الاستعداد وقصده إلى تبيين مراد الله من كلامه كأنه هو التفسير وحده دون ما عداه(الزرقاني، مناهل العرفان، المصدر السابق، ج 2، ص. 10) . والله أعلم.
يتبع
التعديل الأخير: