{ إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ }
الدكتور عدنان علي رضا النحوي
الدكتور عدنان علي رضا النحوي
انتشر في وقتنا الحاضر مصطلحات تُنسَب إلى الدين وهي بعيدة عن التصور الإسلامي ، ولكنها تستخدم ملتصقة بالإسلام . وقد يستخدمها العامة والمثقفون وبعض الدعاة وبعض العلماء
من بين هذه المصطلحات الغريبة العجيبة " الديانات السماوية التوحيدية الثلاث . ويقصدون بها الإسلام والنصرانية واليهودية ، فكان من الواجب التنبيه إلى هذا الخطأ الذي يقع فيه الكثيرون ، وهو خطأ مخالف لنصوص كتاب الله ـ القرآن الكريم ، ومخالف لحقيقة الرسالات السماوية التي بعث الله بها عباده المرسلين .
ولقد أشرنا في أكثر من كتاب إلى أن هذا المصطلح خاطئ ومخالف لنصوص الرسالة الخاتمة كما أُنْزِلَت على خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم . وجوهر ذلك أن الدين عند الله هو الإسلام ، دين واحد دين جميع الأنبياء والمرسلين ، بعثهم الله جميعاً بهذا الدين السماوي التوحيدي الواحد على مرّ العصور والأجيال :
{ إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ۗ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۗ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)}(آل عمران).
ونرى الحقيقة جليّة في هذه الآية الكريمة وما تدلّ عليه . فهي تقررِّ أَن الدين عند الله دينٌ واحد هو الإِسلام ، وأن اختلاف أهل الكتاب لم يحدث إلا من بعد ما جاءهم العلـم الحق من عند الله بغياً بينهم ، ظلماً وعدواناً وانحرافاً عن الحق ، ومن لا يؤمن بأن الدين عند الله واحد هو الإسلام فإنه بميزان الله كافر بآيات الله ، وإِنَّ الله سريع الحساب .
وكذلك قوله سبحانه وتعالى :
{ أفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)}(آل عمران).
وإنه لمن غير المعقول أن يبعث الله رسله بأديان مختلفة يتصارع الناس عليها ، ثم يحاسبهم يوم القيامة . فالله حقٌّ واحد ودينه حقٌّ واحد هو الإسلام كما بيّنه الله سبحانه وتعالى لنا وأكَّده في آيات بيّنات ، وأكَّد لنا الله سبحانه وتعالى في رسالته الخاتمة وكتابه المبين أنه بَعَث كل رسول بدين واحد هو الإسلام . فلننظر في بعض آيات الله البينات في هذا الصدد :
فهذا نوحٌ عليه السلام :
{ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ ۖ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72)}(يونس).
نعم ! " وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ " ! دين واحد هو الإسلام ، وأمة واحدة هي الأمة المسلمة وكذلك مع إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ما جاءا إلا بالإسلام دين الله الواحد :
{ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا ۖ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ ۚ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا ۖ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ ۖ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)}(البقرة).
نعم ! ....
وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ ،
وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ ،
فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ! " ،
تأكيد بعد تأكيد ، ورسول بعد رسول ، لتثبيت هذه الحقيقة الأساسية بأن الدين عند الله هو الإسلام دين واحد لا ثاني له .
وكذلك مع يعقوب وبنيه تأكيد بعد تأكيد :
{ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)}(البقرة).
ومع هذا التأكيد بعد التأكيد يأتي تأكيد جديد للحقيقة نفسها حتى لا يبقى أيُّ مجال للشك أو للغموض ، ولا يبقى عذر لأحد في أن لا يعي هذه الحقيقة .
{ وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ تَهْتَدُوا ۗ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۖ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)}( البقرة).
وكذلك تأكيد آخر على هذه الحقيقة الكونيّة الأساسية :
{ قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)}(البقرة).
ثم يقرّر الله سبحانه وتعالى أن الدين عند الله هو الإسلام ، دينٌ واحدٌ ، دينُ جميع الأنبياء والمرسلين ، فمن ابتغى ديناً آخر فلن يُقبل منه وسيكون في الآخرة من الخاسرين :
{ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)}(آل عمران)
وقد أجمع العلماء على أن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم عامة لجميع الثقلين ، وأن من لم يؤمن به ويتبع ما جاء به فهو من أهل النار ، ومن الكفار سواء كان يهودياً أو نصرانياً أو هندوكياً أو بوذياً أو شيوعياً أو غير ذلك .
لذا كان الواجـب على جميع الثقلين من الجن والإنس أن يؤمنوا بالله ورسوله ، وأن يعبدوا الله حق عبادة وأن يتبعوا رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم حتى يلقوا الله . وبذلك تحصل لهم السعادة والنجاة والفوز في الدنيا والآخرة كما تقدم ذلك في الآيات السابقة والحديث الشريف .
عن أي هريرة رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم :
( وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلا نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلاَ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ) (أخرجه أحمد ومسلم)(1)
فأيُّ تأكيد وتوضيح يمكن أن يكون أكثر من هذا ؟! وإذا كان نوح عليه السلام أعلن عن نفسه أنه من المسلمين ، فإن سائر الأنبياء والمرسلين أعلنوا ذلك بصورة جليّة واضحة ، أعلنوا أن دينهم الإسلام ، ورسالتهم الإسلام : فهذا إبراهيم عليه السلام يقول عنه سبحانه وتعالى :
{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَا أَنْتُمْ هَٰؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ ۚوَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَٰذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا ۗ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)}(آل عمران).
وكذلك موسى عليه السلام :
{ وَقَالَ مُوسَىٰ يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ(86)}(يونس).
فهذا موسى عليه السلام بلّغ قومه من بني إسرائيل رسالة الإسلام ، رسالة الله . ونرى شدة ارتباط الإيمان بالإسلام في قوله : " يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ ... " أي آمنتم بإله واحد هو الله سبحانه وتعالى ، ثم قال : " فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ " . وكان بلاغ موسى عليه السلام لفرعون وقومه ، قويّاً بيِّناً ، حتى إن فرعون أقرّ بالإله الواحد الذي آمنت به بنو إسرائيل وهو يغرق ويموت :
{ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ۚ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)}(يونس).
نعم ! " ... وأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ! " فقد كان يعلم إذن أن رسالة موسى عليه السلام هي الإسلام ، وأنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وكان بنو إسرائيل يعلمون هذه الحقيقة الرئيسة كما بلَّغهم إياها رسول الله موسى عليه السلام ، فكيف وقع الانحراف بعد ذلك عند طائفة من بني إسرائيل ؟! ما وقع هذه الانحراف إلا من بعد أن جاءهم العلم جليّاً قوياً . وما كان ذلك إلا بسبب البغي والظلم :
{ وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّىٰ جَاءَهُمُ الْعِلْمُۚ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)}(يونس)
وكذلك :
{ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ۚ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ۗ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۗ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ ۗ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ ۚ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْاۖ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ ۗ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)}(آل عمران).
فقد بلّغ موسى عليه السلام رسالة ربّه إلى قومه بني إسرائيل . فمنهم من آمن ومنهم من كفـر . فلما زاغوا وضلّوا أزاغ الله قلوبهم لأنهم كانوا قوماً فاسقين ، والله لا يهدي القوم الفاسقين . وجاء في سورة المائدة :
{ قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)}(المائدة).
وقوله سبحانه وتعالى : " قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ ... " أي يخافون الله بإيمانهم به وطاعتهم له ، وخشيتهم منه ، فتلك خصائص الإيمان الصادق وصفات المؤمنين الصادقين . وأما الذين لم يخافوا كما خاف هذان الرجلان لم يستقرَّ الإيمان في قلوبهم ، فقالوا لموسى عليه السلام :
{ .... ۖ فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24)}(المائدة).
وعيسى عليه السلام جاء قومه من بني إسرائيل بالإسلام يدعوهم إليه ويبشرهم برسول يأتي من بعده أسمه أحمد ، وهو النبيّ الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم :
{ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)}(الصف).
وكذلك قوله سبحانه وتعالى :
{ ا يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ ۖ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ ۖ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌۖ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَىٰ عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)}(الصف).
أما الذين آمنوا بعيسى رسولاً من عند الله وبرسالته الإسلام فهؤلاء كانوا مسلمين ، كما يتضح من الآية التالية أيضاً :
{ فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ ۖ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53)}(آل عمران).
فهذه الطائفة من بني إسرائيل آمنت بالله ورسوله عيسى عليه السلام ، وبما أُنْزِل الله عليه ديناً هو دين الإسلام . حتى قالوا : " ... وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ " !
أما الطائفة الثانية من بني إسرائيل فهي التي كفرت بعيسى عليه السلام وبالله . وهذه الطائفة لعنها الله كما ورد في سورة المائدة ، وهم اليهود :
{ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَىٰ كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَٰكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)}(المائدة).
لقد أصبحت هذه الطائفة الثانية من بني إسرائيل ، الطائفة التي كفرت بعيسى عليه السلام وبرسالته ، أصبحت موالية للكافرين والمشركين ويعملون المنكر ولا يتناهون عنه . ثم تأتي الآية التي تحدّد هذه الطائفة من بني إسرائيل بأنهم اليهود وأنهم أشدّ الناس عداوة للذين آمنوا شأنهم بذلك شأن الكافرين :
{ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ۖ ... (82)}(المائدة)
فيتَّضِح إذن أن بني إسرائيل انقسموا فريقين : فريق آمن فكان من المسلمين وكان دينهم الإسلام ، وفريق كفر فكان من الكافرين وهم اليهود كما سمّاهم القرآن الكريم ، وهم والمشركون أشدّ الناس عداوة للمؤمنين على مدى الدهر .
ولكن الانحراف عن دين الله الحق وقع ، حتى قالت اليهود إن دينهم هو اليهودية ، وقالت النصارى ، إن دينهم هو النصرانية وأصبحت اليهودية والنصرانية بما تحملان من انحراف رئيس أساسي لا تمثلان رسالة موسى وعيسى عليهما السلام ، الرسالة التي كانت تحمل ديناً واحداً هو الإسلام . ومن خلال نصوص الآيات الكريمة تبرز حقيقة التحريف كما سنعرضه بتفصيله في صفحات مقبلّة .
ولقد بالغ اليهود والنصارى بعد تحريفهم لدين الله الإسلام ، وادعاء اليهود بأن ديانتهم اليهودية ، وادعاء النصارى بأن ديانتهم النصرانية ، لقد بالغوا بعد ذلك حتى قالوا لن يدخل الجنة إلا من كان يهودياً أو نصرانياً ، كما تثبت لنا الآية الكريمة وهي تردّ عليهم وتثبت باطلهم ، ثمّ يدور الخلاف بين اليهود والنصارى :
{ وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ ۗ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ ۗ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَىٰ عَلَىٰ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَىٰ لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ ۗ كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ ۚ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)}(البقرة).
وامتدت الضلالة حتى أخذوا يدعون إلى اليهودية والنصرانية وما فيهما من تحريف لكلام الله :
( وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ تَهْتَدُوا ۗ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۖ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)}(البقرة ).
قول فصل :
" ... بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۖ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ " ،
" آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ ... " ،
" لا نفرّق بين أحد منهم ونحن له مسلمون "!
وقد انتشرت في هذا العصر فرق في أوربا وأمريكا انضم إليها عدد من المنتسبين إلى الإسلام. وتتلخص عقيدة هذه الفرقة بأن الديانات الكبرى كاليهودية والنصرانية والهندوكية والبوذية وغيرها هي أديان صحيحة ومقبولة عند الله سبحانه وتعالى. وأن المخلصين من أتباعها يصلون إلى الحق وينجون من النار ويدخلون الجنة دون حاجة في كل هذا إلى الدخول إلى الإسلام .
تحريف وضلالة ، ثم خلاف وشقاق ، ثم دعوة إلى هذا الانحراف والتحريف ، وجاء القول الحق والبيان الفصل من عند الله يردّ على كل تحريف وضلالة .
ثم يردّ عليهم القرآن الكريم الردَّ المفحم ليكشف زيف دعواهم :
{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَا أَنْتُمْ هَٰؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ ۚوَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَٰذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا ۗ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68) (آل عمران :65ـ68]
وهل هناك ردّ أشدّ من ذلك ؟! إنه ردٌّ يكشف زيفهم وزيف ادعاءاتهم : " يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ " !
إنها قضية كبيرة جداً تمسُّ أخطر قضية في حياة البشرية كلها . إنها تمس مصير الإنسان ومصير البشريّة كلها ! فلا عجب إذا أخذت في كتاب الله القرآن الكريم هذه المساحة الواسعة . كثرت إدعاءات اليهود الباطلة حتى زعموا أنهم أولياء لله ، فردَّ الله عليهم دعواهم :
{ قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ۚ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ۖ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)}(الجمعة)
ومع كثرة أخطائهم وانحرافهم عاقبهم الله بظلمهم بأن حرّم عليهم طيبات أُحلّت لهم :
{ فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا }(النساء :160).
نزلت عليهم اللعنة على لسان أنبيائهم ذلك بما عصوا وبما كانوا يعتدون ، وبما كانـوا يتولّون الذين كفروا ، وبما كانوا يرتكبون من المنكر ولا يتناهون عنه :
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا ۚ إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ }(السجدة :22).
لقد أنعم الله على بني إسرائيل نعماً كثيرة تذكرهم بالله وبفضله ، وكان من أجلِّ هذه النعم أن بعث فيهم موسى عليه السلام ، وآتاه الكتاب ، أي التوراة ، ليكون هدى لبني إسرائيل ، وليتأكّد لهم التذكير بعد التذكير . فانقسم بنو إسرائيل إلى فريقين : فريق آمن واهتدى وأسلم فكان من المسلمين :
{ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ }(السجدة :24)
وفريق آخر كفر وكان ظالماً حين أعرض عن آيات الله ، كما ذكرنا قبل قليل في الآية (22) من سورة السجدة ، ونعيدها هنا للتأكيد :
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا ۚ إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ }(السجدة :22)
فريقان : المسلمون " ... أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ " ، والفريق الأخر هم اليهود : " وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا ۚ... " !
والخطاب في كتاب الله إلى بني إسرائيل في كثير من الأحيان ، ثم يبيّن فيه لنا الله سبحانه وتعالى حقيقة الذين يوجّه إليهم الخطاب ، فإما مؤمنون مصدّقون فهـم من المسلمين ، وإما مكذّبون منكرون فهم اليهود ، كما بيّنّا في صفحات سابقة .
ومن الضروري أن نفرّق بين خطاب وخطاب ، وفريق وفريق ، وقد يحمل الخطاب نداءً واحداً : يا بني إسرائيل ! ليذكّر كُلّ فريق بأصل دينه الإسلام ، دين إسرائيل ، دين يعقوب عليه السلام :
{ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَىٰ (80) كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي ۖ وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَىٰ (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَىٰ (82)}(طه)
ومن المواقف المهمة التي يجب أن ندرك فيها من هو المخاطب وعلى أيّ أساس ، خطاب موسى لقومه كما نعرضه في الصفحات المقبلة .
ولما كان الدين الحق من عند الله ديناً واحداً هو الإسلام ، فلا بُدَّ أن يكون المنتسبون إلى هذا الدين الحق الواحد مسلمين ، وأن يكونوا مع الدهر كله أمّة واحدة تعبد ربّاً واحداً وتدين بدين واحد هو الإسلام . ولذلك جاء قوله سبحانه وتعالى ليبيَّن لنا هذه الحقيقة ، ففي سورة الأنبياء ، بعد أن يذكر الله سبحانه وتعالى عدداً من الرسل والأنبياء: إبراهيم، ولوطاً ، وإسحاق ، ويعقوب ، ونوحاً ،
وداود ، وسليمان، وأيوب ، وإسماعيل ، وإدريس ، وذا الكفل ، وذا النون يونس ، وزكريا ويحيى ، عليهم السلام جميعاً ، ثم يذكر الله سبحانه وتعالى مريم التي أحصنت فرجها فنفخ الله فيها من روحه وجعلها وابنها عيسى عليه السلام آية للعالمين ، بعد أن يذكر الله سبحانه وتعالى هؤلاء الرسل والأنبياء ، يبيّن لنا الله سبحانه وتعالى أن أتباعهم من الأنبياء يمثلون أمة واحدة تعبد ربّاً واحداً وتدين بدين واحد هو الإسلام :
{ إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ }(الأنبياء :92)
ربٌ واحد هو الله سبحانه وتعالى ، ودين واحد بعث به جميع الرسل والأنبياء ، وأمة مسلمة واحدة .
ومن هنا يتبيّن لنا خطورة الانحراف والتحريف الذي قام به أهل الكتاب حتى فرّقوا المؤمنين طوائف وأحزاباً وشيعاً .
{ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا ۖ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّىٰ حِينٍ (54)} (المؤمنون) .
نعم ! إن الدين عند الله واحد ، هو الدين الحق ، دين الإسلام ، بعث به جميع الأنبياء والمرسلين . ومع ذلك فقد يحسب بعضهم أن الدين مختلف وليس ديناً واحداً ، بسبب اختلاف بعض نواحي التشريع بين دين وآخر . ولكنّ هذا الاختلاف في بعض نواحي التشريع لا يغير حقيقة الدين وجوهره . ذلك لأن أساس الدين هو عقيدة التوحيد ، ثم التشريع العام الثابت مع كل رسالة . فجميع الرسالات تحرّم الظلم والعدوان والكذب والزنى والسرقة والفواحش كلها والافتراء وجميع ما هو عام في حياة الإنسان من فتنة وفساد . ولا يمنع هذا أن يكون هنالك تشريع خاص مختلف في بعض القضايا الخاصة بالمرحلة والواقع والأمة ، لا تمثل الجزء الرئيس من الرسالة الربانية . ولذلك نجد سورة الأعراف تعرض لرسالة بعض الأنبياء والرسل ونبيّن شدة التشابه أو المساواة أو الاتحاد :
{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَٰكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62)}(الأعراف)
وكذلك :
{ وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا ۗ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ۖ هَٰذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً ۖ فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ ۖ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }(الأعراف :73).
ونلاحظ من هذا العرض السريع الموجز وحدة الرسالات التي جاء بها الأنبياء والمرسلون من ربهم . فنوح عليه السلام وهو أول رسول يبعث إلى الناس يقول : " أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي ... " ، وجاءت كلمة رسالات بصيغة الجمع لتوحي بأن الرسالة هذه وما يليها رسالة واحدة ، وكذلك قال هود عليه السلام : " أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ " . وأما صالح عليه السلام فإنه يختتم دعوته بقوله : " فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَٰكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ " ! فجاءت هنا بصيغة المفرد : " رسالة ربي " ، وكأنها تؤكد أن جميع الرسالات كما وردت على لسان نوح وهود هي رسالة واحدة من عند الله . ويعود شعيب عليه السلام فيأتي بصيغة الجميع : " فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ ۖ فَكَيْفَ آسَىٰ عَلَىٰ قَوْمٍ كَافِرِينَ " !
نعم ! هي رسالات متعددة ولكنها في جوهرها وحقيقتها رسالة واحدة لدين واحد يقوم على التوحيد الخالص لله ، وعلى كل تشريع ينبع من التوحيد نفسه .
ومن المناسب أن نقف هنا مع الآية الكريمة لنرى مدى انسجام ما قدمناه عن الرسالات والرسالة والدين أعلاه :
{ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ۖ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ۚ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِۚ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } (المائدة :48).
فقد أنزل الله سبحانه وتعالى كتابه المبين ، القرآن الكريم ، على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بالحق . وهذه حقيقة أساسية هي أن القرآن الكريم حقٌّ من عند الله . وجاء هذا الحق مصدّقاً للكتب السابقة كالتوراة والإنجيل والزبور وليس مناقضاً لها أو مخالفاً لها ، فهي كلها من عند الله جاءت بالدين الحق ، إلا أن القرآن الكريم كان يمثل الرسالة الخاتمة ، ومحمد صلى الله عليه وسلم كان الرسول الخاتم ، فلا نبيَّ بعده ولا رسول ، ولا كتاب متنزلاً بعد القرآن الكريم . فجاءت الرسالة الخاتمة مهيمنةً على ما سبقها ، حالَّة مكانها ، رسالة الله الخاتمة إلى عباده جميعهم ، إلى الناس كافّة ، بينما جميع الرسالات السابقة كان كلُّ نبيٍّ يُبْعَث إلى قومه خاصَّة ، ومع ذلك ظل الدين الحق من عند الله ديناً واحداً هو الإسلام ، يحمل جوهر الدين وأساسه وهو عقيدة التوحيد والتشريع العام الثابت للناس جميعاً ، وتشريعاً خالصاً بكل قوم ومرحلة ، كما جاء في الحديث الشريف : عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال :
" أعطيت خمساً لم يُعْطَهُنَّ أحد من الأنبياء قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصلِّ ، وأحلّت لي الغنائم ولم تحلَّ لأحد قبلي ، وأعطيت الشفاعة ، وكان النبيّ يبعث إلى قومه خاصة وبُعِثْتُ إلى الناس كافة " . (الشيخان والنسائي)(2)
وأمر الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم أن يحكم بين الناس بهذه الرسالة الخاتمة ، ولا يتبع أهواء أهل الكتاب الذين حرّفوا التوراة والإنجيل ، فقد جعل الله لكلِّ قوم شرعة خاصة بهم ومنهاجاً خاصّاً بهم مع رسالة التوحيد الجامعة والتشريع العام ، ولو شاء الله لجعل الرسالات كلها واحدة بكل أجزائها ، ولكن جاء الاختلاف في التشريع الخاص ابتلاءً من الله سبحانه وتعالى وتمحيصاً لهم ، ولتتسابق كل أمة إلى طاعة الله بعمل الخيرات والإحسان . ويوم القيامة ينبئهم الله بما كانوا فيه يختلفون .
ولنتدبر هذه الآية الكريمة أيضاً :
{ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ۖ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ۚ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ۚ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ } ( الشورى :13)
فما وصّى الله به نوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى " وكذلك سائر الأنبياء والمرسلين " من الدِّين هو الذي أوصى به محمداً صلى الله عليه وسلم .
نخلص من ذلك إلى الحقيقة الرئيسة ألا وهي أن الدين عند الله واحد هو الإسلام ، بعث الله به جميع الرسل والأنبياء . وما كان ليقع الاختلاف بين الناس في الدين وما أنزل الله لولا البغي والظلم والهوى .
إذن : فالله حق واحد لا شريك له ، والدين حق واحد هو الإسلام . هو الحق من عند الله ، وهو ما تقبله الفطرة ، وما تكشف عنه رحمة الله بعباده وعدالته ، بعث الله رسله بهذا الدين الحق الواحد في رسالات متعددة تحمل كلها الدين ذاته .
وبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم النبي والرسول الخاتم ، فلا نبيّ ولا رسول بعده ، بُعث بالدين ذاته دين الإسلام ، بالرسالة الخاتمة المهيمنة على الرسالات كلها والمصدّقة لها :
{ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ ۗ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا (39) مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَٰكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا }(40 )(الأحزاب )
ولنتذكر قوله سبحانه وتعالى مما ذكرناه في الصفحات السابقة ، وكذلك قوله سبحانه وتعالى :
{ ...الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ... } (المائدة :3).
عن موقع رابطة أدباء الشام
الهوامش:
(1) صحيح الجامع الصغير وزيادته للألباني رقم (7063) .
(1) صحيح الجامع الصغير وزيادته : (1056) .
من بين هذه المصطلحات الغريبة العجيبة " الديانات السماوية التوحيدية الثلاث . ويقصدون بها الإسلام والنصرانية واليهودية ، فكان من الواجب التنبيه إلى هذا الخطأ الذي يقع فيه الكثيرون ، وهو خطأ مخالف لنصوص كتاب الله ـ القرآن الكريم ، ومخالف لحقيقة الرسالات السماوية التي بعث الله بها عباده المرسلين .
ولقد أشرنا في أكثر من كتاب إلى أن هذا المصطلح خاطئ ومخالف لنصوص الرسالة الخاتمة كما أُنْزِلَت على خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم . وجوهر ذلك أن الدين عند الله هو الإسلام ، دين واحد دين جميع الأنبياء والمرسلين ، بعثهم الله جميعاً بهذا الدين السماوي التوحيدي الواحد على مرّ العصور والأجيال :
{ إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ۗ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۗ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)}(آل عمران).
ونرى الحقيقة جليّة في هذه الآية الكريمة وما تدلّ عليه . فهي تقررِّ أَن الدين عند الله دينٌ واحد هو الإِسلام ، وأن اختلاف أهل الكتاب لم يحدث إلا من بعد ما جاءهم العلـم الحق من عند الله بغياً بينهم ، ظلماً وعدواناً وانحرافاً عن الحق ، ومن لا يؤمن بأن الدين عند الله واحد هو الإسلام فإنه بميزان الله كافر بآيات الله ، وإِنَّ الله سريع الحساب .
وكذلك قوله سبحانه وتعالى :
{ أفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)}(آل عمران).
وإنه لمن غير المعقول أن يبعث الله رسله بأديان مختلفة يتصارع الناس عليها ، ثم يحاسبهم يوم القيامة . فالله حقٌّ واحد ودينه حقٌّ واحد هو الإسلام كما بيّنه الله سبحانه وتعالى لنا وأكَّده في آيات بيّنات ، وأكَّد لنا الله سبحانه وتعالى في رسالته الخاتمة وكتابه المبين أنه بَعَث كل رسول بدين واحد هو الإسلام . فلننظر في بعض آيات الله البينات في هذا الصدد :
فهذا نوحٌ عليه السلام :
{ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ ۖ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72)}(يونس).
نعم ! " وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ " ! دين واحد هو الإسلام ، وأمة واحدة هي الأمة المسلمة وكذلك مع إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ما جاءا إلا بالإسلام دين الله الواحد :
{ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا ۖ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ ۚ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا ۖ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ ۖ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)}(البقرة).
نعم ! ....
وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ ،
وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ ،
فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ! " ،
تأكيد بعد تأكيد ، ورسول بعد رسول ، لتثبيت هذه الحقيقة الأساسية بأن الدين عند الله هو الإسلام دين واحد لا ثاني له .
وكذلك مع يعقوب وبنيه تأكيد بعد تأكيد :
{ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)}(البقرة).
ومع هذا التأكيد بعد التأكيد يأتي تأكيد جديد للحقيقة نفسها حتى لا يبقى أيُّ مجال للشك أو للغموض ، ولا يبقى عذر لأحد في أن لا يعي هذه الحقيقة .
{ وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ تَهْتَدُوا ۗ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۖ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)}( البقرة).
وكذلك تأكيد آخر على هذه الحقيقة الكونيّة الأساسية :
{ قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)}(البقرة).
ثم يقرّر الله سبحانه وتعالى أن الدين عند الله هو الإسلام ، دينٌ واحدٌ ، دينُ جميع الأنبياء والمرسلين ، فمن ابتغى ديناً آخر فلن يُقبل منه وسيكون في الآخرة من الخاسرين :
{ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)}(آل عمران)
وقد أجمع العلماء على أن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم عامة لجميع الثقلين ، وأن من لم يؤمن به ويتبع ما جاء به فهو من أهل النار ، ومن الكفار سواء كان يهودياً أو نصرانياً أو هندوكياً أو بوذياً أو شيوعياً أو غير ذلك .
لذا كان الواجـب على جميع الثقلين من الجن والإنس أن يؤمنوا بالله ورسوله ، وأن يعبدوا الله حق عبادة وأن يتبعوا رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم حتى يلقوا الله . وبذلك تحصل لهم السعادة والنجاة والفوز في الدنيا والآخرة كما تقدم ذلك في الآيات السابقة والحديث الشريف .
عن أي هريرة رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم :
( وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلا نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلاَ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ) (أخرجه أحمد ومسلم)(1)
فأيُّ تأكيد وتوضيح يمكن أن يكون أكثر من هذا ؟! وإذا كان نوح عليه السلام أعلن عن نفسه أنه من المسلمين ، فإن سائر الأنبياء والمرسلين أعلنوا ذلك بصورة جليّة واضحة ، أعلنوا أن دينهم الإسلام ، ورسالتهم الإسلام : فهذا إبراهيم عليه السلام يقول عنه سبحانه وتعالى :
{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَا أَنْتُمْ هَٰؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ ۚوَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَٰذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا ۗ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)}(آل عمران).
وكذلك موسى عليه السلام :
{ وَقَالَ مُوسَىٰ يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ(86)}(يونس).
فهذا موسى عليه السلام بلّغ قومه من بني إسرائيل رسالة الإسلام ، رسالة الله . ونرى شدة ارتباط الإيمان بالإسلام في قوله : " يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ ... " أي آمنتم بإله واحد هو الله سبحانه وتعالى ، ثم قال : " فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ " . وكان بلاغ موسى عليه السلام لفرعون وقومه ، قويّاً بيِّناً ، حتى إن فرعون أقرّ بالإله الواحد الذي آمنت به بنو إسرائيل وهو يغرق ويموت :
{ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ۚ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)}(يونس).
نعم ! " ... وأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ! " فقد كان يعلم إذن أن رسالة موسى عليه السلام هي الإسلام ، وأنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وكان بنو إسرائيل يعلمون هذه الحقيقة الرئيسة كما بلَّغهم إياها رسول الله موسى عليه السلام ، فكيف وقع الانحراف بعد ذلك عند طائفة من بني إسرائيل ؟! ما وقع هذه الانحراف إلا من بعد أن جاءهم العلم جليّاً قوياً . وما كان ذلك إلا بسبب البغي والظلم :
{ وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّىٰ جَاءَهُمُ الْعِلْمُۚ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)}(يونس)
وكذلك :
{ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ۚ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ۗ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۗ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ ۗ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ ۚ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْاۖ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ ۗ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)}(آل عمران).
فقد بلّغ موسى عليه السلام رسالة ربّه إلى قومه بني إسرائيل . فمنهم من آمن ومنهم من كفـر . فلما زاغوا وضلّوا أزاغ الله قلوبهم لأنهم كانوا قوماً فاسقين ، والله لا يهدي القوم الفاسقين . وجاء في سورة المائدة :
{ قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)}(المائدة).
وقوله سبحانه وتعالى : " قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ ... " أي يخافون الله بإيمانهم به وطاعتهم له ، وخشيتهم منه ، فتلك خصائص الإيمان الصادق وصفات المؤمنين الصادقين . وأما الذين لم يخافوا كما خاف هذان الرجلان لم يستقرَّ الإيمان في قلوبهم ، فقالوا لموسى عليه السلام :
{ .... ۖ فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24)}(المائدة).
وعيسى عليه السلام جاء قومه من بني إسرائيل بالإسلام يدعوهم إليه ويبشرهم برسول يأتي من بعده أسمه أحمد ، وهو النبيّ الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم :
{ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)}(الصف).
وكذلك قوله سبحانه وتعالى :
{ ا يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ ۖ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ ۖ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌۖ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَىٰ عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)}(الصف).
أما الذين آمنوا بعيسى رسولاً من عند الله وبرسالته الإسلام فهؤلاء كانوا مسلمين ، كما يتضح من الآية التالية أيضاً :
{ فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ ۖ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53)}(آل عمران).
فهذه الطائفة من بني إسرائيل آمنت بالله ورسوله عيسى عليه السلام ، وبما أُنْزِل الله عليه ديناً هو دين الإسلام . حتى قالوا : " ... وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ " !
أما الطائفة الثانية من بني إسرائيل فهي التي كفرت بعيسى عليه السلام وبالله . وهذه الطائفة لعنها الله كما ورد في سورة المائدة ، وهم اليهود :
{ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَىٰ كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَٰكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)}(المائدة).
لقد أصبحت هذه الطائفة الثانية من بني إسرائيل ، الطائفة التي كفرت بعيسى عليه السلام وبرسالته ، أصبحت موالية للكافرين والمشركين ويعملون المنكر ولا يتناهون عنه . ثم تأتي الآية التي تحدّد هذه الطائفة من بني إسرائيل بأنهم اليهود وأنهم أشدّ الناس عداوة للذين آمنوا شأنهم بذلك شأن الكافرين :
{ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ۖ ... (82)}(المائدة)
فيتَّضِح إذن أن بني إسرائيل انقسموا فريقين : فريق آمن فكان من المسلمين وكان دينهم الإسلام ، وفريق كفر فكان من الكافرين وهم اليهود كما سمّاهم القرآن الكريم ، وهم والمشركون أشدّ الناس عداوة للمؤمنين على مدى الدهر .
ولكن الانحراف عن دين الله الحق وقع ، حتى قالت اليهود إن دينهم هو اليهودية ، وقالت النصارى ، إن دينهم هو النصرانية وأصبحت اليهودية والنصرانية بما تحملان من انحراف رئيس أساسي لا تمثلان رسالة موسى وعيسى عليهما السلام ، الرسالة التي كانت تحمل ديناً واحداً هو الإسلام . ومن خلال نصوص الآيات الكريمة تبرز حقيقة التحريف كما سنعرضه بتفصيله في صفحات مقبلّة .
ولقد بالغ اليهود والنصارى بعد تحريفهم لدين الله الإسلام ، وادعاء اليهود بأن ديانتهم اليهودية ، وادعاء النصارى بأن ديانتهم النصرانية ، لقد بالغوا بعد ذلك حتى قالوا لن يدخل الجنة إلا من كان يهودياً أو نصرانياً ، كما تثبت لنا الآية الكريمة وهي تردّ عليهم وتثبت باطلهم ، ثمّ يدور الخلاف بين اليهود والنصارى :
{ وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ ۗ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ ۗ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَىٰ عَلَىٰ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَىٰ لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ ۗ كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ ۚ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)}(البقرة).
وامتدت الضلالة حتى أخذوا يدعون إلى اليهودية والنصرانية وما فيهما من تحريف لكلام الله :
( وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ تَهْتَدُوا ۗ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۖ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)}(البقرة ).
قول فصل :
" ... بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۖ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ " ،
" آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ ... " ،
" لا نفرّق بين أحد منهم ونحن له مسلمون "!
وقد انتشرت في هذا العصر فرق في أوربا وأمريكا انضم إليها عدد من المنتسبين إلى الإسلام. وتتلخص عقيدة هذه الفرقة بأن الديانات الكبرى كاليهودية والنصرانية والهندوكية والبوذية وغيرها هي أديان صحيحة ومقبولة عند الله سبحانه وتعالى. وأن المخلصين من أتباعها يصلون إلى الحق وينجون من النار ويدخلون الجنة دون حاجة في كل هذا إلى الدخول إلى الإسلام .
تحريف وضلالة ، ثم خلاف وشقاق ، ثم دعوة إلى هذا الانحراف والتحريف ، وجاء القول الحق والبيان الفصل من عند الله يردّ على كل تحريف وضلالة .
ثم يردّ عليهم القرآن الكريم الردَّ المفحم ليكشف زيف دعواهم :
{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَا أَنْتُمْ هَٰؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ ۚوَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَٰذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا ۗ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68) (آل عمران :65ـ68]
وهل هناك ردّ أشدّ من ذلك ؟! إنه ردٌّ يكشف زيفهم وزيف ادعاءاتهم : " يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ " !
إنها قضية كبيرة جداً تمسُّ أخطر قضية في حياة البشرية كلها . إنها تمس مصير الإنسان ومصير البشريّة كلها ! فلا عجب إذا أخذت في كتاب الله القرآن الكريم هذه المساحة الواسعة . كثرت إدعاءات اليهود الباطلة حتى زعموا أنهم أولياء لله ، فردَّ الله عليهم دعواهم :
{ قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ۚ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ۖ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)}(الجمعة)
ومع كثرة أخطائهم وانحرافهم عاقبهم الله بظلمهم بأن حرّم عليهم طيبات أُحلّت لهم :
{ فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا }(النساء :160).
نزلت عليهم اللعنة على لسان أنبيائهم ذلك بما عصوا وبما كانوا يعتدون ، وبما كانـوا يتولّون الذين كفروا ، وبما كانوا يرتكبون من المنكر ولا يتناهون عنه :
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا ۚ إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ }(السجدة :22).
لقد أنعم الله على بني إسرائيل نعماً كثيرة تذكرهم بالله وبفضله ، وكان من أجلِّ هذه النعم أن بعث فيهم موسى عليه السلام ، وآتاه الكتاب ، أي التوراة ، ليكون هدى لبني إسرائيل ، وليتأكّد لهم التذكير بعد التذكير . فانقسم بنو إسرائيل إلى فريقين : فريق آمن واهتدى وأسلم فكان من المسلمين :
{ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ }(السجدة :24)
وفريق آخر كفر وكان ظالماً حين أعرض عن آيات الله ، كما ذكرنا قبل قليل في الآية (22) من سورة السجدة ، ونعيدها هنا للتأكيد :
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا ۚ إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ }(السجدة :22)
فريقان : المسلمون " ... أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ " ، والفريق الأخر هم اليهود : " وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا ۚ... " !
والخطاب في كتاب الله إلى بني إسرائيل في كثير من الأحيان ، ثم يبيّن فيه لنا الله سبحانه وتعالى حقيقة الذين يوجّه إليهم الخطاب ، فإما مؤمنون مصدّقون فهـم من المسلمين ، وإما مكذّبون منكرون فهم اليهود ، كما بيّنّا في صفحات سابقة .
ومن الضروري أن نفرّق بين خطاب وخطاب ، وفريق وفريق ، وقد يحمل الخطاب نداءً واحداً : يا بني إسرائيل ! ليذكّر كُلّ فريق بأصل دينه الإسلام ، دين إسرائيل ، دين يعقوب عليه السلام :
{ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَىٰ (80) كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي ۖ وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَىٰ (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَىٰ (82)}(طه)
ومن المواقف المهمة التي يجب أن ندرك فيها من هو المخاطب وعلى أيّ أساس ، خطاب موسى لقومه كما نعرضه في الصفحات المقبلة .
ولما كان الدين الحق من عند الله ديناً واحداً هو الإسلام ، فلا بُدَّ أن يكون المنتسبون إلى هذا الدين الحق الواحد مسلمين ، وأن يكونوا مع الدهر كله أمّة واحدة تعبد ربّاً واحداً وتدين بدين واحد هو الإسلام . ولذلك جاء قوله سبحانه وتعالى ليبيَّن لنا هذه الحقيقة ، ففي سورة الأنبياء ، بعد أن يذكر الله سبحانه وتعالى عدداً من الرسل والأنبياء: إبراهيم، ولوطاً ، وإسحاق ، ويعقوب ، ونوحاً ،
وداود ، وسليمان، وأيوب ، وإسماعيل ، وإدريس ، وذا الكفل ، وذا النون يونس ، وزكريا ويحيى ، عليهم السلام جميعاً ، ثم يذكر الله سبحانه وتعالى مريم التي أحصنت فرجها فنفخ الله فيها من روحه وجعلها وابنها عيسى عليه السلام آية للعالمين ، بعد أن يذكر الله سبحانه وتعالى هؤلاء الرسل والأنبياء ، يبيّن لنا الله سبحانه وتعالى أن أتباعهم من الأنبياء يمثلون أمة واحدة تعبد ربّاً واحداً وتدين بدين واحد هو الإسلام :
{ إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ }(الأنبياء :92)
ربٌ واحد هو الله سبحانه وتعالى ، ودين واحد بعث به جميع الرسل والأنبياء ، وأمة مسلمة واحدة .
ومن هنا يتبيّن لنا خطورة الانحراف والتحريف الذي قام به أهل الكتاب حتى فرّقوا المؤمنين طوائف وأحزاباً وشيعاً .
{ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا ۖ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّىٰ حِينٍ (54)} (المؤمنون) .
نعم ! إن الدين عند الله واحد ، هو الدين الحق ، دين الإسلام ، بعث به جميع الأنبياء والمرسلين . ومع ذلك فقد يحسب بعضهم أن الدين مختلف وليس ديناً واحداً ، بسبب اختلاف بعض نواحي التشريع بين دين وآخر . ولكنّ هذا الاختلاف في بعض نواحي التشريع لا يغير حقيقة الدين وجوهره . ذلك لأن أساس الدين هو عقيدة التوحيد ، ثم التشريع العام الثابت مع كل رسالة . فجميع الرسالات تحرّم الظلم والعدوان والكذب والزنى والسرقة والفواحش كلها والافتراء وجميع ما هو عام في حياة الإنسان من فتنة وفساد . ولا يمنع هذا أن يكون هنالك تشريع خاص مختلف في بعض القضايا الخاصة بالمرحلة والواقع والأمة ، لا تمثل الجزء الرئيس من الرسالة الربانية . ولذلك نجد سورة الأعراف تعرض لرسالة بعض الأنبياء والرسل ونبيّن شدة التشابه أو المساواة أو الاتحاد :
{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَٰكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62)}(الأعراف)
وكذلك :
{ وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا ۗ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ۖ هَٰذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً ۖ فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ ۖ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }(الأعراف :73).
ونلاحظ من هذا العرض السريع الموجز وحدة الرسالات التي جاء بها الأنبياء والمرسلون من ربهم . فنوح عليه السلام وهو أول رسول يبعث إلى الناس يقول : " أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي ... " ، وجاءت كلمة رسالات بصيغة الجمع لتوحي بأن الرسالة هذه وما يليها رسالة واحدة ، وكذلك قال هود عليه السلام : " أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ " . وأما صالح عليه السلام فإنه يختتم دعوته بقوله : " فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَٰكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ " ! فجاءت هنا بصيغة المفرد : " رسالة ربي " ، وكأنها تؤكد أن جميع الرسالات كما وردت على لسان نوح وهود هي رسالة واحدة من عند الله . ويعود شعيب عليه السلام فيأتي بصيغة الجميع : " فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ ۖ فَكَيْفَ آسَىٰ عَلَىٰ قَوْمٍ كَافِرِينَ " !
نعم ! هي رسالات متعددة ولكنها في جوهرها وحقيقتها رسالة واحدة لدين واحد يقوم على التوحيد الخالص لله ، وعلى كل تشريع ينبع من التوحيد نفسه .
ومن المناسب أن نقف هنا مع الآية الكريمة لنرى مدى انسجام ما قدمناه عن الرسالات والرسالة والدين أعلاه :
{ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ۖ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ۚ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِۚ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } (المائدة :48).
فقد أنزل الله سبحانه وتعالى كتابه المبين ، القرآن الكريم ، على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بالحق . وهذه حقيقة أساسية هي أن القرآن الكريم حقٌّ من عند الله . وجاء هذا الحق مصدّقاً للكتب السابقة كالتوراة والإنجيل والزبور وليس مناقضاً لها أو مخالفاً لها ، فهي كلها من عند الله جاءت بالدين الحق ، إلا أن القرآن الكريم كان يمثل الرسالة الخاتمة ، ومحمد صلى الله عليه وسلم كان الرسول الخاتم ، فلا نبيَّ بعده ولا رسول ، ولا كتاب متنزلاً بعد القرآن الكريم . فجاءت الرسالة الخاتمة مهيمنةً على ما سبقها ، حالَّة مكانها ، رسالة الله الخاتمة إلى عباده جميعهم ، إلى الناس كافّة ، بينما جميع الرسالات السابقة كان كلُّ نبيٍّ يُبْعَث إلى قومه خاصَّة ، ومع ذلك ظل الدين الحق من عند الله ديناً واحداً هو الإسلام ، يحمل جوهر الدين وأساسه وهو عقيدة التوحيد والتشريع العام الثابت للناس جميعاً ، وتشريعاً خالصاً بكل قوم ومرحلة ، كما جاء في الحديث الشريف : عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال :
" أعطيت خمساً لم يُعْطَهُنَّ أحد من الأنبياء قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصلِّ ، وأحلّت لي الغنائم ولم تحلَّ لأحد قبلي ، وأعطيت الشفاعة ، وكان النبيّ يبعث إلى قومه خاصة وبُعِثْتُ إلى الناس كافة " . (الشيخان والنسائي)(2)
وأمر الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم أن يحكم بين الناس بهذه الرسالة الخاتمة ، ولا يتبع أهواء أهل الكتاب الذين حرّفوا التوراة والإنجيل ، فقد جعل الله لكلِّ قوم شرعة خاصة بهم ومنهاجاً خاصّاً بهم مع رسالة التوحيد الجامعة والتشريع العام ، ولو شاء الله لجعل الرسالات كلها واحدة بكل أجزائها ، ولكن جاء الاختلاف في التشريع الخاص ابتلاءً من الله سبحانه وتعالى وتمحيصاً لهم ، ولتتسابق كل أمة إلى طاعة الله بعمل الخيرات والإحسان . ويوم القيامة ينبئهم الله بما كانوا فيه يختلفون .
ولنتدبر هذه الآية الكريمة أيضاً :
{ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ۖ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ۚ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ۚ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ } ( الشورى :13)
فما وصّى الله به نوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى " وكذلك سائر الأنبياء والمرسلين " من الدِّين هو الذي أوصى به محمداً صلى الله عليه وسلم .
نخلص من ذلك إلى الحقيقة الرئيسة ألا وهي أن الدين عند الله واحد هو الإسلام ، بعث الله به جميع الرسل والأنبياء . وما كان ليقع الاختلاف بين الناس في الدين وما أنزل الله لولا البغي والظلم والهوى .
إذن : فالله حق واحد لا شريك له ، والدين حق واحد هو الإسلام . هو الحق من عند الله ، وهو ما تقبله الفطرة ، وما تكشف عنه رحمة الله بعباده وعدالته ، بعث الله رسله بهذا الدين الحق الواحد في رسالات متعددة تحمل كلها الدين ذاته .
وبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم النبي والرسول الخاتم ، فلا نبيّ ولا رسول بعده ، بُعث بالدين ذاته دين الإسلام ، بالرسالة الخاتمة المهيمنة على الرسالات كلها والمصدّقة لها :
{ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ ۗ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا (39) مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَٰكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا }(40 )(الأحزاب )
ولنتذكر قوله سبحانه وتعالى مما ذكرناه في الصفحات السابقة ، وكذلك قوله سبحانه وتعالى :
{ ...الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ... } (المائدة :3).
عن موقع رابطة أدباء الشام
الهوامش:
(1) صحيح الجامع الصغير وزيادته للألباني رقم (7063) .
(1) صحيح الجامع الصغير وزيادته : (1056) .
التعديل الأخير: