تصور افتراضي حول إدارة ناجحة لحرب 67
ملابسات 67
... جزء -3 -
بقلم د. كمال خلف الطويل
بقلم د. كمال خلف الطويل
تكملة ، لما قام الصديق العزيز ، الدكتور كمال خلف الطويل ، ووضعه تحت تصرفنا ... للنشر ،
فيما يلي الجزي الثالث من التحليل "تصور إفتراضي حول إدارة ناجحة لحرب 1967
ورغم ، أنه تصور إفتراضي ، إلا أنه يتميز بقيمة تحليلية ... تستدعي التمعن .... عن أسباب عدم ... إتباع الأفكار الأخري .. المشابهة في قيادة حرب 1967
ولقد نشرنا هذه الدراسة ، في الموقع المخصص التالي
"سـنوات وأيام مع جمال عبدالناصر ... الحــروب 1956 و 1967 وحـــرب الأسـتـنـزاف ، من أجل مصر ... وليس عبدالناصر"
وسوف أنشر بقية المواضيع التي تستكمل هذه الدراسة التي ننشرها حسب الفهرست التالي
- 1 مقدمات 67
- 1.1 كيف كان تصور عبد الناصر لشكل المعركة التي ارتفعت احتمالاتها ل 80% ؟
- 1.2 الخلاصة
- 3 الجزء الثاني
- 4 الجزء الثالث 24 مايو 2007
تصور افتراضي حول إدارة ناجحة لحرب 67
بقلم
دكتور كمال خلف الطويـل
فــــهــرســــــت
- 1 مقدمات 67
2 ملابسات 67
- 1.1 كيف كان تصور عبد الناصر لشكل المعركة التي ارتفعت احتمالاتها ل 80% ؟
- 1.2 الخلاصة
- 3 الجزء الثاني
- 4 الجزء الثالث 24 مايو 2007
ملابسات 67
د.كمال خلف الطويل 5/30/067
ملابسات 67
الآن وقد انقضت عقود أربعة على حرب 67 فان جوانب ظليلة منها ما برحت مسربلة بالغموض وملفوفة باللبس, رغم إنجلاء قسماتها الرئيسية بفعل خروج الوفير من الوثائق إلى النور عبر تلك العقود. والحق أن وفرة المادة التاريخية مصحوبة بالصراحة في تناولها تكفل سلامة التحليل ونفاذه إلى الحقيقة, أو ما تيسر من كبدها. من هنا يقيني بأن زيارة جديدة لملابسات 67 أضحت لازمة لا من باب توثيق التاريخ فقط, إنما والأهم من باب فهم القوى المحركة للحوادث.. وهي التي لا زالت تحركها هذه الأيام: 1 – أن حرب 67 كانت حربا غير ضرورية ولا لازمة – من منطق عربي – بل وواجبة التلافي. في "مقدمات 67" أشرت إلى أن يوم 18 مايو كان له أن يكون ذروة الأزمة, بمعنى الإكتفاء بسحب القوات الدولية من كامل سيناء وغزة دون المضي إلى إغلاق خليج العقبة, ثم مزاوجة ذلك بجهد عراقي – جزائري – مصري يهدف إلى تدعيم أوضاع الدفاع السورية وإلى ترويض منظمات العمل الفدائي- وبالأخص فتح- لتندرج في إطار استراتيجية مواجهة شاملة ومتدرجة. كان في مقدور عبد الناصر التوقف عند تلك النقطة والتي عندها وصل احتمال الحرب إلى 50%. وحتى لو خضع لاستفزاز إسرائيلي متصاعد, فإن حركة سياسية واسعة يقودها على محاور عدة- منها تصعيد تهديده لعروش عربية- كانت ستؤمن تهدئة أمريكية تعود بالصراع إلى جدليته غير القتالية. 2 – أن حرب 67 كانت حربا أمريكية بالقرار ثم الدعم, وحربا إسرائيلية بالتلزيم ثم الإستفادة. وصل جونسون إلى القرار بالحرب أواسط 66 وبدأ الإعداد لها للتو حينها. والثابت أن درجة ولوغ إدارة جونسون بالتواطؤ المباشر, بل والإشتراك الفاعل بالحرب بلغت مبلغا يصعب على المرء تصديقه لهول ما فيه من مغامرة معطوفة على البلادة ومصحوبة بالرعونة. تدفقت طواقم البنتاغون و "الوكالة" على إسرائيل منذ آب 66 لترسم خطة عمليات تضمن – من الألف إلى الياء – سلامة أمن إسرائيل وهي تتقدم لخوض الحرب, ثم تمضي إلى ضمان انتصارها عندما تخوضها. شملت الخطة تزويد إسرائيل بكل وسائل الحرب الإلكترونية القادرة على الشل والتشويش, وعلى ضمان مظلة جوية حامية تنطلق من سفن الأسطول السادس ان دعت الحاجة, وعلى توفير طواقم من الطيارين والفنيين من حملة الجنسية المزدوجة.
لكن المثير واللافت أنها شملت تدمير إحدى السفن الأمريكية-ليبرتي- في محيط المعارك لتلبيس التهمة لمصر حتى تقوم القوات الجوية الأمريكية بتوجيه ضربة جوية بالأسلحة النووية التكتيكية لمطار غرب القاهرة يكفل هولها ورمزيتها وطبيعة السلاح المستخدم فيها إسقاط نظام جمال عبد الناصر)عملية سيانيد/ لبيتر هونام.( والصاعق أن جونسون حاول الضعط على "تساحال"لتعبر قواته القنال يوم 9 يونية مواصلة زحفها الى القاهرة ضمانا لخلع عبد الناصر باليد. لم يثن الرجل الا موشي ديان مقنعا اياه بخطورة فعلة كهذه. لهذا المدى وصل الأمر بجونسون ورهطه. 3 – أن الهدف الأمريكي – وبالتالي الإسرائيلي – اليتيم من حرب 67 كان تدمير جمال عبد الناصر .. نظاما وفكرة ورمزا وقوة وأملا. تلك هي المسألة باختصار شديد مع نقطة آخر السطر. هذا يعني – وبصراحة – أن حرب 67 لم تكن – بالنية والتخطيط – حرب توسع إسرائيلية, ولا قصد منها أن تتمدد إسرائيل إلا – ولضرورات الحرب فقط – إلى خط العريش – رأس محمد في سيناء – مع شرم الشيخ وغزة – ويتم بالتالي طحن الجيش المصري في صحن سيناء ما بين هذا الخط وخط الحدود عبر معركة أسلحة مشتركة تخاض بالحركة والمناورة, وتصيب من عبد الناصر مقتلا عبرإلحاق هزيمة مرة بجيشه الذي أنفق عليه مئات الملايين لسنوات عشر وجهزه- بعون صحبه السوفيات- بالغالي والثمين. قدّر جونسون ورهطه مع نظرائهم الإسرائيليين أن هزيمة في سيناء تفتح أبواب القاهرة ومن ثم المشرق والمغرب ومن بعدهما العالم الثالث بأسره. 4- وبتحديد أدق, ما كان في البال والخاطر أن يصل جيش إسرائيل إلى ضفاف قناة السويس ولا إلى نهر الأردن – عبر ضفته الغربية – ولا إلى القنيطرة. كل هذا الانجاز يندرج تحت وصف المكاسب غير المقصودة. إن هزيمة لعبد الناصر تزيله من الخريطة السياسية كانت في قراءتهم كفيلة بفرض الصلح على العرب بما يشمله من نزع سلاح الجولان والضفة, وتعظيم مصادر المياه الإسرائيلية من الأردن وروافده وطبريا, وحق الوصول الآمن إلى حائط المبكى – بل وربما انتزاعه بطريقة ما – ..وفي هذا جل المراد إن لم يكن كله. لم تكن هناك خطة إسرائيلية لا لاحتلال الضفة ولا الجولان .. أبدا. كان هناك تقدير بأنه إن جرت الأمور على ما يرام وسنحت فرصة عمليانية ما فسنستهبلها بضم حائط المبكى (وباب المغاربة الذي يقود إليه)... وإن أضحت الفرصة غواية لا تقاوم فسنمضي إلى ضم البلدة القديمة .. وهذين الأمرين – أو أحدهما- سيكونا جائزتنا إذا أنجزنا لواشنطن هدفها الأوحد: عبد الناصر. 5- أن هزيمة 67 كانت أفدح بكثير مما أمل به مخططوها, ومن ثم – وبمنطوق عربي – جاوزت بكثير ما استحقت أن تكون بمقاييس تلك الأيام. بمعنى أدق فإن إدارة شبه ناجحة لحرب 67 كانت ممكنة, و حتى بعد فقدان الغطاء الجوي صبيحة الخامس من يونيو: "تصور افتراضي لإدارة ناجحة لحرب 67". والحاصل أن ما جعل عبد الناصر يدلف من 18 مايو (سحب القوات الدولية) إلى 21 مايو (إغلاق خليج العقبة) كان تأكيد قائده العسكري عبد الحكيم عامر أن جيشه قادر على خوض معركة دفاع ناجحة في سيناء. بذات المقدار فان ما أوصل هزيمة 67 إلى درجة الفداحة التي وصلتها كان فشل عبد الحكيم عامر – ذاته – في الإعداد لمعركة دفاع ناجحة ثم في إدارتها .. فشلا مبينا. هذا الاندياح الجغرافي من مساحة تشمل قطاع غزة وثلثي سيناء, إليهما مع باقي سيناء وكامل الضفة والجولان, كان غير محسوب ولا مقصود من جانب مخططي الحرب, بل جاءهم فوق طبق من ذهب بفعل هشاشة وركاكة أحوال مجابهيهم على المقلب الآخر. 6- أتوقف هنا لفحص كيف تصرف الملك حسين تجاه الأزمة وخلال الحرب: الثابت أن بدهية ارتباط النظام الهاشمي بالولايات المتحدة وإسرائيل لا تحتاج لكثيرسجال, لكنها – وباستمرار – واجبة الحضور في تبين ودرس تصرفات هذا النظام تجاه المحيط. عرف الملك منذ البداية أن قرار قصف عبد الناصر والخلاص منه بقوة السلاح الإسرائيلي قد اتخذ. كان ذلك في خلفية قراره بشن الحرب السياسية والأمنية على منظمة التحرير الفلسطينية – أيام الشقيري –في يونيو ,66 ثم في الإنخراط بحرب ضروس ضد نظام النيو – بعث السوري وصلت لحد رعاية وإنهاض إنقلاب مضاد من داخل أحشائه في سبتمبر 66 (سليم حاطوم), سواك عن إندراجه المحموم في عملية الحلف الإسلامي متضافرا مع رفاق له "مؤمنين" أضراب فيصل وبورقيبة وبهلوي وأيوب خان والصادق المهدي و "التنظيم الدولي" للإخوان المسلمين.
أتت عملية السموع في نوفمبر 66 لتربك الملك وحساباته .. سأل وتساءل: لماذا أنا وليس راعي فتح الأول – وليس الأخير – النيو بعث السوري ؟
جاءه الجواب بـ: أ – تنبيها لك لتواكلك عن أداء مهمة تأمين حدود إسرائيل الشرقية بنجاح سيما وأن زمر فتح تعبرمن سوريا الموئل الرئيس. ب – تحذيرا وإنذارا لمن يفكر داخل الأردن – بضفتيه – في التعرض المسلح لإسرائيل بوسيلة بأن الوقاية خير من العلاج. جـ - تعرية وتعييرا لعبد الناصر بالفم الملآن: نحن نضرب حيثما كان وحينما نشاء وأنت أجبن من أن تنصر من نضرب .. بما يحمله ذلك من إشارات إستفزاز غير محتمل تكفل مع الوقت رد فعل هو المراد والمبتغى.
سارع جونسون لتطمين حسين بأن الغارة لا تعني تأييدا ضمنيا لنية إسرائيلية مبيتة في ضم الضفة الغربية إليها .. وكان يعني ذلك فعلا .. فالملك برهن عن جدارة قديرة في ضبط المسرح الفلسطيني الرئيس وقفله بالضبة والمفتاح. لكن الملك وصل مع نهاية 66 إلى قناعة تسربت لديه وترسخت ثم طفت إلى السطح سلوكا ونهجا بعد زهاء نصف عام.... مؤداها أن الأمور لا تسير على ما يرام بينه وبين الشعب الفلسطيني ولا يمكن لها أن تستمر على ذات المنوال . وها وأن العلم بنية تدمير الرجل قد توفر, وأن التدبير قادم في غضون العام التالي – 67 – ,إذن فالأحرى والأجدى أن يصحب ذلك تسليمه الضفة لإسرائيل لفترة يظنها لن تطول, تقوم خلالها إسرائيل بتوضيب هذا الشعب وتطويعه وإيصاله إلى أن يستجير منها بآل هاشم قانعا ببركتهم ومعاهدا إياهم على الطاعة والولاء ومتخليا عن أوهامه بالتحرير والوحدة والمنظمة وعبد الناصر. حينها يمكن للملك أن يفعل ما قتل جده دونه, وهو عقد صلح مع إسرائيل ناجز وكامل. ليس واضحا للآن فيما إذا كان الملك قد اشرك رعاته الأمريكيين في خطوط تفكيره, لكن الأكيد هو أن هامش تحركه كان دائما على قدر من السعة يسمح له بحركة يقدرها – وفق سياق السياسة الأمريكية العام- صائبة ومتوائمة مع الظروف والإمكانيات. صحيح أنه يعرف أن ابتلاع الضفة ليس مطروحا من قبل إسرائيل – ولا سيدها – لكنه - ولظروفه وتقديراته- يريد أن يلزّمها لإسرائيل مقاولة من الباطن من دون سابق تدبير معها, اذ هو قادر على إجراء التنسيق والتدبير بعد أن يهدأ غبار المعارك وبعد أن تستبين الصورة وتنجلي. تصرف الملك منذ قراره المبدئي أواخر 66 على النحو التالي: أ – سعّر هجومه الإعلامي على عبد الناصر معيرا إياه بالجبن بأمل أن يقع في مصيدة الإستفزاز موفرا الذريعة لضربه. ب – إستدعى عبد المنعم رياض مطلع مايو 67 – أي قبل بدء الأزمة بتهديد غزو سوريا يوم 11 مايو – ليصارحه برسالة لعبد الناصر مؤداها: إحذر من النيو بعث .. هم يريدون إسقاطك عبر دفعهم إياك لنصرتهم ومن ثم ضربك من إسرائيل. هل فعل ذلك حرصا على عبد الناصر؟ بالقطع لا .. هو أراد العكس تماما .. كيف؟ كان بيقين يعلم أن عبد الناصر لا يثق به بل ويجرّمه ويتمنى له كل سوء, ومن ثم فهو بالغريزة سيفعل عكس ما أراده الناصح. ألم تزل رسالة الغفران في رمضان 61 في ذاكرته؟ ألم يتلها انفصال سوريا .. ودور الملك فيه أساسي؟. إذن كان توقع الملك أن تدفع "النصيحة" عبد الناصر إلى إهمالها بل وربما فعل عكسها. جـ - قرر الملك يوم 22 مايو- يوم إغلاق خليج العقبة – أن يفعل ما في وسعه ليعفو عبد الناصر عنه و "لينضم" إليه في حركته المواجهة لإسرائيل. بدأت المراسيل عبر عبد المنعم رياض وغيره لكي يسامحه عبد الناصر ويسمح له بالقدوم والعودة لبيت الطاعة.
تواصل رفض عبد الناصر أسبوعا بالكامل إلى أن لان واستجاب, وفي ذهنه الاستفادة العمليانية القصوى من الساحة الأردنية خصوصا واحتمال الحرب أصبح 80% بعد إغلاق الخليج. قدّر الملك أنه ان تمنع عن التعلق بثوب عبد الناصر سيتسبب في حرب أهلية وقودها الشعب الفلسطيني في مواجهة الجيش الأردني وما يحمله ذلك من حتمية ضياع العرش, أما إن انخرط في ركبه فيضحي قادرا على تبرير خسارته –الطوعية- للضفة بحجة أن مصر ذاتها هزمت – وهو المرجح لذلك حسب معلوماته – وبالتالي فلا تثريب عليه. حينها ينصرف إلى ترتيباته الجديدة مع إسرائيل برعاة الراعي الكبير. لذا لم يثبط عزيمته رفض عبد الناصر البدئي والمهين لطلباته بالحضور للقاهرة – وهي ما ألمح لها عبد الناصر في خطابه يوم 26 مايو – بل ثابر حتى نال ما رغب – ولحسابات عبد الناصر العلميانية أساسا – ووصلها في 30 مايو ليعقد مع عبد الناصر ومن ثم مع عبد الرحمن عارف وأحمد الشقيري إتفاق الدفاع المشترك الرباعي. ما الذي أراده عبد الناصر من الإتفاق؟: أ – إقامة قاعدة إنذار إرادي في عجلون تؤمن للطيران المصري مصدر معلومات مضمون تحميه من غائلة المفاجأة. ب – نقل كتائب صاعقة إلى الضفة الغربية تستطيع التحرك إلى العمق الإسرائيلي أثناء الحرب. ما كان أمام الملك إلا قبول الطلبين على ما فيهما من خطر على إسرائيل,وتحمل المخاطرة بإغضابها, بل وواشنطن. لكنه قدرأن إسرائيل قادرة على تعطيل الخطر الأول عبر تفعيل عميل لها عالي المستوى في الدفاع الجوي المصري (أطفال جدعون لغوردون توماس)...و أن كتائب الصاعقة ستكون تفصيلا في مشهد معقد تتحرك فيه كثبان الرمال بسرعة شديدة تجعله هامشي التأثير. كيف تصور الملك دوره في رسم شكل الحوادث؟ بشن هجوم رمزي في القدس – جبل المكبر – يظهره محاربا ذو بأس, فيما الأوامر لقواته عبر قادتها الموثوقين- هي بفض الإشتباك خلال يومين لا أكثر, والإنسحاب على عجل عبر الأردن. سبق ذلك قيامه بإخراج طائراته ف – 5 من الأردن حماية لها من التدمير, ولعلمه أن دخول القوات العراقية الأردن يرفع احتمال الحرب من 80% إلى 100%. صبيحة الخامس من يونيو وصل الملك طلب الحكومة الإسرائيلية منه الإمتناع عن إطلاق النار مع ضمان عدم المس به إن فعل. وحينما أعمل ما انتوى عمله لاحت أمام إسرائيل فرصة اقتناص حائط المبكى والبلدة القديمة, ثم – مع الإنسحاب الطوعي الشامل للجيش الأردني – الضفة الغربية بأسرها, فاقتنصتها غير هيابة ولا وجلة, ووفق تصور أن القدس للضم والباقي للإبتزاز واستحصال الصلح الكامل. تم ذلك في 7 يونيو علما أن صبيحة ذاك الأربعاء شهدت إخطارا إسرائيليا ثانيا طلب سحب وحدات الصاعقة المصرية من الضفة,وتأمين الوصول الآمن لحائط المبكى مع الاكتفاء بهذا القدر .. ماذا كان جواب الملك العملي؟ تريدون جزءا وأعطيكم الكل .. للإعارة والتأديب ثم الإعادة ووفق قواعد عمل جديدة مريحة لي ولكم. 7 – نأتي الآن إلى النيو- بعث السوري وموقعه من الصراع: نقطة البدء هي محاولة حسم مسألة شاعت وفاحت وتفشت وهي اتهام الكثيرين لنظام النيو – بعث بـ "بيع" الجولان.
ولما كان الجولان نفسه غير وارد في خطة الهجوم الإسرائيلية المبدئية فإن الإتهام ببيعه المسبق يصبح ضعيف البينة. و الحاصل أن الارتباك والهلع قد دبا في صفوف نظام النيو بعث ما بين 14 – 23 مايو – أي خلال فترة الحشد المصري في سيناء وما صاحبها من سحب للقوات الدولية ثم إغلاق لخليج العقبة – وحنق رموزه لأن عبد الناصر جاوز في حركته حد ما يأملونه من دعم, موصلا المنطقة إلى أزمة حادة يعلو فيها منسوب احتمال الحرب بتصاعد محموم .. وهم ليسوا جاهزين لها ولا يبغونها بل ويخشونها حتى النخاع. لنلاحظ تصرفاتهم خلال أيام الحرب: لقد لبدوا في أماكنهم قابعين ساكنين ومكتفين بإطلاق قذائف المدفعية عبر خط الهدنة دون أي إشتباك تعرضي جاد ناهيك عن هجوم... بل هم فشلوا في حماية طيرانهم من التدمير على الأرض رغم أن فترة 3 ساعات من الإنذار توفرت لهم بينما الطيران المصري يحترق بصواعق النار. وليداروا ذلك القصور غير المبرر شنوا غارة على مصفاة حيفا باءت بالفشل, ثم سكنوا إلى أنفسهم يرقبون تدهور أحوال الجيش المصري وإخلاء الضفة العربية ممنين النفس بنجاتهم من عاصفة النار المحيقة طالما قد خفضوا رؤوسهم ولسان حالهم يردد: أستر يارب.
والطريف أنهم في اليوم الثاني للحرب أرسلوا للأردن – بناء على طلب عبد المنعم رياض – لواء مشاة لدعم جبهته, فما إن وصل حتى عاد على عقبيه مضيعا المشيتين. سارت الأمور وفق مناهم لأيام أربع. وعندما صدر قرار وقف إطلاق النار مساء الخميس 8 يونيو كادوا أن يشربوا نخب النجاة
بعدها بقليل وصلتهم من عبد الناصر برقية تحذرهم من أي نشاط عسكري ملموس حفاظا على سلامة الجيش السوري, ومطالبا-لذلك- بالإلتزام بالقرار الدولي. هذه البرقية عنت لهم أمرين: الأول والأكيد أنهم الآن في العراء وأن عبد الناصر قد خرج من المعركة وبهزيمة سافرة وبالتالي فليس لديهم مصدر أمن وأمان أمام إسرائيل بعد اليوم، والثاني وغير الأكيد أن إسرائيل قد ابتلعت سيناء وغزة والضفة.. فما الذي يوقفها دون الجولان؟
هنا دبت الحيرة وسرى القلق, وبدأ مسلسل الاحتماء بموسكو ومناشدتها التدخل, ثم توسيط فرنسا وإسبانيا والفاتيكان لكف يد إسرائيل عن المزيد مقابل ضمانات بوقف العمل الفدائي من الجولان وإحياء إتفاق الهدنة. ما الذي جرى ما بين 7 و9 يونيو في واشنطن بخصوص التمدد الإسرائيلي؟ ما نصّت عليه خطة "اصطياد الطاووس" من احتلال شمال ووسط سيناء حتى خط العريش – رأس محمد لم يعد لازما ولا منطقيا التوقف عنده, اذ أن انتصار إسرائيل الكاسح على الجبهة المصرية متمثلا في: أ – تدمير الطيران المصري يوم 5 يونيو ب – صدور قرار الإنسحاب الشامل من سيناء عصر يوم 6 يونيو عنى لواشنطن نهاية عبد الناصر... لذا فمكافأة إسرائيل على هذا الإنجاز المهول وبهذه السرعة القياسية, ورفع درجتها من أداة تنفيذية إلى شريك إقليمي صغير, واجبة والآن. من هنا الضوء الأصفر لتل أبيب بالإنطلاق في كل الإتجاهات. سبب اضافي لهذا السماح هو تعظيم أوراق الإبتزاز والإخضاع للرسمية العربية عندما تحين لحظة التفاوض عقب وقف المعارك. والحق أن إدارة المعركة الدفاعية على المقلب السوري ما كان لها أن تكون أفضل مما جرت عليه, والقائمون عليها ضباط أصاغر سياسيين لا خبرة لهم لا بأمور الحرب ولا حتى بأمور السلام, وصلوا إلى السلطة بعد أن أفرغوا الجيش من مئات عديدة من الضباط من شتى الرتب, والذين خضع العديد منهم لدورات متقدمة في أكاديمية فرونزي السوفياتية, بل ونال بعضهم دورات مؤهلة في دول أوروبية عدة. وليس صحيحا أن دفاعات الجولان وطوبوغرافيته كانتا كفيلتان بتأمينه من خطر الخرق و الاجتياح فتلك مقولة لا تصمد أمام علم الحرب, لكن الأكيد بالمقابل أن التهاوي المريع الذي حدث صبيحة السبت 10 حزيران كان بفعل هواة وقعوا في مطب هو في جزء كبير منه من صنع أيديهم ولم يحسنوا تدبر الخروج منه بأقل الخسائر. قضوا يوم الجمعة 9 يونيو يحثون السوفيات على إنجادهم وهم في وحشتهم تجاه قوة إسرائيل المنفردة بهم. صعقوا لما سمعوا بعبد الناصر يستقيل. دبّ فيهم الذعر وقلّت الحيلة فظنوا أن فطنتهم قد توفر عليهم المزيد من الانحسار بل والسقوط. لذا اجتهد بعضهم صبيحة السبت فطلعوا بفكرة أن الإنسحاب من الجولان سيوفر دمشق, وها قد انسحب المصريون من سيناء والأردنيون من الضفة... إذن لا غضاضة. إن كان من سمة لأداء العسكرية العربية في حرب 67 فهو الإرتجال المميت. حتى الإنسحاب لم يجيدوه. عبد الحكيم عامر يأمر في الثالث من عصر الثلاثاء 7 يونيو بالإنسحاب الشامل خلال 24 ساعة إلى غرب القنال, ثم يأمر حافظ أسد فجر السبت 10 يونيو بالإنسحاب الفوري والشامل إلى سعسع وحتى قبل وصول قوات الهجوم الإسرائيلية إلى القنيطرة عاصمة الجولان ... هذا سواك عن حسين يأمر بالإنسحاب الشامل من الضفة قبل بدء المعارك.
يلخص أداء الجبهتين السورية والأردنية أن مجموع شهداء "معارك" الأولى هو قرابة 160 شهيد, بينما لم يصل عدد شهداء الثانية إلى 20 شهيد. في المقابل فبفضل عبد الحكيم عامر بلغ عدد شهداء الجبهة المصرية عشرة آلاف شهيد ناهيك عن خمسة آلاف أسير. واللافت أن رجالات النيو – بعث تبادلوا التهم حول ارتباط هذا أو ذاك منهم بمخابرات أجنبية هذا فضلا عن اتهامات رماها سامي الجندي (عرب ويهود) وخالد الحسن (عرفات: إرهابي أم صانع سلام لآلن هارت) وخليل بريز (سقوط الجولان) بحق النظام, شملت عقد صفقة بيع مسبقة. نسب الأستاذ هيكل في ربيع 2001 إلى حافظ أسد إتهامه أعضاء في اللجنة العسكرية للبعث بالإرتباط بالمخابرات البريطانية. قبلها اتهم عبد الكريم الجندي عضو اللجنة في وصيته حافظ أسد بالإرتباط بدوائر أجنبية, بل وأشاع رفاقه قصة اجتماع أسد في مايو 65 – وهو قائد لسلاح الجو وعضو في القيادة القومية – بجورج تومبسون وزير الدولة البريطاني للشؤون الخارجية في لندن عند زيارته "الطبية" لها حينها. الراجح عندي أن كل هذه الاتهامات تندرج تحت باب الكيد السياسي والمبالغة في استخدام كل أسلحة التشهير في إطار الخصومة السياسية, فلا إتهام أسد منطقي ولا إتهامه اياهم واقعي. لاهم باعوا ولا اشتروا.. ونوادر الجندي والحسن لا تصمد أمام حقائق التاريخ الوثائقية .. والقصة كلها أن نتيجة القصور فاقت ما تتسبب به خيانة. 8 – هناك أيضا العامل الفلسطيني وبالتحديد فتح: الثابت أن انقسام لجنة فتح المركزية عام 64 حول مسألة الولوج الفوري بالعمل المسلح أو تأجيله لظروف أكثر مناسبة حسمت لصالح الجناح المستعجل والذي على رأسه عبد الرحمن القدوة وخليل الوزير. نال ذلك استحسان نظام البعث الراعي لفتح, بما حمله ذلك من إحراج مزدوج لعبد الناصر تنامى طيلة عامي 65 و 66 إلى أن أضحى صاعق تفجير أحسنت إسرائيل الإستفادة منه لتبريرضربتها- الامريكية التكليف– عام 67. واللافت أن مستعجلي فتح كانوا يرددون علنا رغبتهم في توريط عبد الناصر. عندما اضطروا لتفسير ذلك بعد الهزيمة قالوا لقد كنا نظن الرجل قادرا على خوض حرب ناجحة لكنه متخاذل وجبان وكل ما علينا كهو تحفيزه على الإقدام والنهوض. أمامنا هنا نموذج من "قادة" هم أقرب إلى الهواة المبتدئين منهم إلى "ثوار" يحسنون حسابات الحرب والسلام, وقياسات الرغبة والقدرة, ومواءمات التقدم والسكون. أشار كثير من المتشككين إلى حقيقة أن فتح نشأت في الكويت أي تحت أعين المخابرات البريطانية وبالتالي فهم –بشكل أم بآخر – مرتبطون بها مثل حبل الوريد. والحق أن ذلك غير أمين. سكتت عنهم تلك المخابرات لا لحبها لما ينتوون عمله .. أبدا, وإنما لأنهم –بنواتهم الإخوانية الكبيرة – خصوم طبيعيون لعدوها الأكبر والألد .. عبد الناصر. كان توقيتهم قصير النظر ومبتسر. لقد تصرفوا كلاعبين بالبيضة والحجر فتلاعب بهم الآخرون واستعمل مخططوا الحرب ذريعتهم أفضل استعمال. 9 – لا مندوحة في سياق "الملابسات" من تناول العامل السوفياتي لشدة ما علق به من لبس وما اكتنفه من غموض: بداية فهم – وبحسابات القوة وتوازناتها – راعوا دوما أن الشرق الأوسط منطقة مصالح غربية .. ولكن ليس بانفراد أو تفرد. هي لهم أيضا منطقة مصالح مهمة يريدون تثميرها والحفاظ عليها بمآقيهم. بعد 63 آمنت موسكو بحتمية اعترافها بقيادة جمال عبد الناصر في محيطه الإقليمي, خصوصا وأنه من فتح أبواب لها أبواب أفريقيا على مصراعيها,ناهيك عن العالم العربي ذاته. وعندما وصل للسلطة في دمشق نظام قريب اليها –النيوبعث-أرادت موسكو من عبد الناصر حمايته و عقلنته في ان,وهذا ماصارحه به كوسيجن عندما زاره في القاهرة في مايو 66 , وتجلى في ضغطها للوصول الى اتفاق دفاع مشترك بين البلدين في نوفمبر من نفس العام. وعندما قدمت موسكو المعلومات يوم 13 مايو -عبر زائرها أنور السادات-لعبد الناصر بأن إسرائيل توشك –في غضون أيام أربع – على شن هجوم شامل على سوريا بقوة 17 لواء,كانت مخلصة في نواياها, وفي ذهنها أن يكرر عبد الناصر في مايو 67 ما فعله في يناير 60 إزاء تهديد مماثل حينها لاأكثرولاأقل. والطريف أن كثيرا من المصادرجزمت بعدم وجود حشد كهذا خلال الايام التالية,لكن الأكيد أيضا أن المعلومات تحدثت عن نية وعن موعد تقريبي أما الفتح التعبوي لا يحتاج مدة طويلة لإنجازه. ورغم أن مصادر المعلومات الأساسية شملت – بين عديدها – شاه إيران- وبقصد نصب فخ -إلا أن تصريحات ليفي أشكول في 11 مايو وإسحق رابين في 12 مايو لا تقول إلا بما أشارت إليه تلك المعلومات بحذافيرها أي القرار بالوصول إلى دمشق وتغيير نظامها وإيقاف عمليات فتح. يحسن الإنتباه بعد ذلك إلى أن عبد الناصر لم يستشر موسكو حول طبيعة الخطوات التي اتخذها عبر مايو بل اكتفى بالإبلاغ .. العلني. هم نصحوه بعد إغلاق خليج العقبة بالتهدئة والنزول عن السلم, أي أنهم لم يرغبوا بحرب تجعل عبد الناصر أكثر احتياجا لهم .. كما ردد كثيرون. والثابت أن هزيمة عبد الناصر كانت هزيمة لهم, وهو بالضبط ما شعروا به فسارعوا للمساعدة في بناء قدرة إزالة آثارها. الملحوظة الوحيدة على تصرف الثلاثي الحاكم في موسكو حينها هي خشيته من نصب جسر استعواض جوي منذ الثلاثاء 6 يونيو – قياسا بما فعل طيلة أيام حرب أكتوبر. سبب ذلك في قراءتي هو عدم توقعه – الثلاثي – أن تعني خسارة الطيران خسارة الحرب, لعلمهم أن القدرة على الإنسحاب المنظم مع الإشتباك بالنيران كفيلين بتحديد الخسارة وإتاحة المجال أمام إعادة تنظيم لاحقة. ما توقعوه هو بالضبط ما كان ممكنا ومنطقيا وعلميا أن يحدث .. لا ما حدث فعلا.
سبب آخر – ربما – هو رغبتهم في عدم التعجل بالتصعيد توقيا من تصعيد أمريكي مناظر. لنتذكر أن صدام 67 جرى في خضم إذاقة موسكو لواشنطن علقم فيتنام. 10 – لا تكتمل الصورة إلا بإيلاء موضوع حرب اليمن نصيبه من القصة: والحال أن مبالغات جسيمة في وصف تأثير هذه الحرب على الأداء المصري في حرب 67 تناسلت حينا بعد آخر, فيما فحص جاد لهذه المقولة يسمها على الفور بالخطل. كان لمصر في مايو 67 ثمانية ألوية في اليمن.. فيما كان في سيناء 27 لواء عشية إغلاق خليج العقبة. ثم أن ثلاثة من ألوية اليمن الثمانية تم سحبها من اليمن إلى سيناء خلال فترة الأزمة – قبيل الحرب –, هذا فضلا عن أن كل القوات الجوية والبحرية كانت في مصر عشية الحرب.
ليست اليمن سببا في القصور لكن القصور في اليمن وقبلها في سوريا وبعدها في الحرب كان بفضل قيادة عبد الحكيم عامر. 11 – ومع اليمن نصل إلى الدور السعودي في قصة 67: ما إن خلع سعود عن العرش في نوفمبر 64 إلا وكانت طلقة الاستعداد لتشكيل محور مجابهة عبد الناصر في المنطقة برعاية واشنطن قد أطلقت. والحاصل أن فيصل – الملك الجديد والوثيق الصلة بها – بدأ ترتيباته مع خريف 65 تحت عنوان الحلف الإسلامي, والذي ضم إلى جانبه حسين الأردن وبهلوي إيران وخان باكستان وبورقيبة تونس إضافة لحزب الأمة السوداني وتنظيم الإخوان الدولي. شمل نشاط الملك الجديد تعظيم دعم نظامه لملكيي اليمن لدرجة أن يأذن بترتيبات سرية مع إسرائيل – عقدها عدنان خاشقجي ودافيد كيمشي أواخر 64 في باريس – تشمل تموين طائرات النقل الإسرائيلية العسكرية لمواقع الملكيين داخل الشمال اليمني بالذخيرة والعتاد, وكذلك بتنسيق عملية تحشيد المرتزقة الأوروبيين بالألوف لخوض حرب استنزاف للجيش المصري في اليمن جنبا إلى جنب مع الملكيين, ثم به يقوم بالتنسيق مع المحتل البريطاني في الجنوب اليمني لذات الغرض. صعد فيصل عام 65 عتبة تمويل وتسليح متشددي إخوان مصر – عبر الساحة السودانية – للقيام باغتيال عبد الناصر. والشاهد أن فشل الحلف والاستنزاف ومحاولة الإغتيال في إضعاف عبد الناصر والذي انطلق – على العكس – في عملية هجوم مضاد صاخبة شملت الإعلام والعمل الخفي معا – بما في ذلك الساحة السعودية ذاتها بالنسبة للأخير –أوصل فيصل لقناعة مؤداها أن على الولايات المتحدة بذل جهد حاسم لصيد الرجل يجاوز في مداه الضغط الإقتصادي والتآمر الإستخباراتي والتعرض الإعلامي ويفيض عن أذى حرب الإستنزاف في اليمن ... وحتى لو كانت الأداة في الوصول لذاك المبتغى هي ضربة عسكرية قاضية تنفذها إسرائيل. ولعل مراجعة محاضر اللقاءات بين فيصل والسفير الأمريكي في بلاده وبين الأول وجونسون أثناء زيارته له في يونيو 66 تشي إلى أي مدى وصل فيصل في تحريض جونسون على التحرك لحسم قصة عبد الناصر... مرة وللأبد. 12 – ورغم إئتلاف الثالوث- المؤسسة الأمريكية الحاكمة وإسرائيل والرجعية العربية- على هدف تحطيم عبد الناصر إلا أن التوقيت كان عليه أن ينتظر حتى تنجز إسرائيل بناء قدرتها النووية .. وهو ما بلغته مع نهاية 66 بالتواقت مع صدور الأمر لها بالتأهب لشن عملية "إصطياد الطاووس" في زهاء عام. لماذا كل هذا الحذر؟
لسبب أساسي وهو أنه رغم قناعة البنتاغون ولانغلي بتفوق إسرائيل النوعي – بل والكمي – على مصر, خصوصا بعد جرعات الدعم الأخيـرة -والتي بدأت منذ ربيع 65 وقاربت درجة الإنخراط المباشر في ربيع 67-.. فإن الراعي الأمريكي وأداته الإسرائيلية كانا يعلمان جيدا أن إدارة مصرية ناجحة لمعركة دفاعية كفيلة بتقليص مسافة التفوق ذاك بل وربما جعله محدود التأثير الميداني بل ومحو إسقاطه السياسي المراد.
وإذا انضافت على ذلك متغيرات غير مرئية سلفا – من صوب الشمال السوري و/أو الشرق الأردني, إذن لتحولت الحكاية من هزيمة متوقعة إلى احتمال رجحان عربي يتوجب إجهاضه وإبطال مفاعيله... ومن هنا السلاح النووي. نفس هذا السلاح كان السبب المكتوم الرئيسي – وليس الوحيد – في تغيير عبد الناصر وجهته من تأجيل لأية مواجهة مع إسرائيل إلى حدود عام 70 إلى قبول المخاطرة باحتمالها في 67. من يقرأ تصريحه في فبراير 66 حول حتمية شن حرب وقائية على إسرائيل إن تأكد من حيازتها على السلاح النووي يستطيع أن يستنتج أن هذا الهاجس صاحبه بتنام مضطرد إلى أن أحس من لهجة التهديد الإسرائيلي 11 – 12 مايو 67 أن منسوبها لابد يعكس إتكالها على سلاح رادع غير معلن. بالمقابل فمن يستذكر أسابيع الأزمة الثلاث: 14 مايو – 4 يونيو لا بد يدرك مدى التوتر والقلق, بل والعصبية التي لازمت قادة إسرائيل رغم ثقتهم بقوتهم وبراعيهم .. لدرجة أن الذعر دبّ في صفوفهم يوم 17مايو حين قامت طائرات استطلاع مصرية بالتحليق فوق مفاعل ديمونة, ولحد أن رئيس أركانهم رابين سقط مغشيا عليه بعد يوم من إغلاق خليج العقبة – 23 مايو – مصابا بانهيار عصبي لم يبرأ منه إلا بعد أيام .. بل ولعتبة أن يذهب القادة العسكريين بعد أسبوع لينذروا رئيس حكومتهم بتوقيع قرار الحرب وإلا فسيقومون بانقلاب عسكري يذهب بالبلاد لخوضها بينما يرسلونه لمنزله.
من هنا أقول أنه, وحتى بافتراض انعدام امكانية تلافي الهزيمة في 67, إلا أن حجمها ومداها وفداحتها ما كان لها بحال من الأحوال أن تصل للدرك الذي وصلته لو توفرت على إدارة المعركة قيادة تخوضها وفق قواعد علم الحرب.... لا أكثر ولا أقل. وبأي مقياس فإن الهزيمة – على شدتها غير المبررة – ليست نهاية تاريخ, ولا يجوز التحدث عنها وكأنها لا زالت معنا صباح مساء.
ما على المرء إلا أن يراجع "سنوات كيسنجر في البيض الأبيض" ليدرك كم كان عامي 69 – 70 من أمّر السنوات على السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط... لماذا؟
لأن إرادة مقاومة سياسية أمسكت بأعنة الموقف فيه, فأشعلت طوق نار حول إسرائيل وصل بها إلى أن أصبحت تنزف دما يوما بعد يوم بما يفوق قدرتها على الاحتمال, وبما أفسح الطريق أمام جولة ثانية ترد آثار67 ,وتأخذ المنطقة إلى موازين قوى جديدة تحسر التمدد الإسرائيلي, وتبطل مفعول التمادي الأمريكي, وتفسح الدرب لنظام عربي جديد ذي مرجعية مركزية ناظمة – يعود ليضحي واحدا من خمس صناع للقرار العالمي: ماوتسي تونغ, وديغول, ورئيس الولايات المتحدة, وسكرتير عام الحزب الشيوعي السوفياتي, و ... جمال عبد الناصر