عندما قررت اسرائيل تصنيع قنبلتها النووية, كانت ترفع شعار: اننا نعيش في سجن كبير من الخوف, واذا ما قرر العرب القضاء علينا فسوف نهدم المعبد فوق رءوسهم, حتي لو سحقنا الدمار الشامل نفسه.. فلايمكن أن يحيا احد من بعدنا.. لكن.. سرعان ما انقلبت الآية.. وتحولت الدولة المسجونة بالخوف الي دولة مصدرة له.. ومنفردة به.
ان المثير للسخرية, أن يقف العالم علي اطراف اصابعه مطالبا العراق بتدمير اسلحته, دون ان يجرؤ علي الاقتراب من اسرائيل.. أو يمس لها طرفا.. او يفتح فمه في مواجهتها.. فنحن نعاقب النملة لأنها قرصت الفيل.. ولا نعاقب الفيل لأنه دمر عشرات الممالك التي يسكنها ملايين من النمل بضربة واحدة من احدي قدميه.. ولا نملك ازاء حالة الخلل المزمنة التي نعيشها سوي ان نتسلي برواية حكاية قصة الفيل النووي الاسرائيلي.
لقد بدأ التفكير في صناعة القنبلة النووية الاسرائيلية في الاسبوع نفسه الذي أعلنت فيه الدولة الصهيونية.. في ذلك الوقت, كانت هناك دراسة جاهزة قام بها العالمان أرنست بيرجمان واسرائيلي دوستروفسكي لاستخراج اليورانيوم من الفوسفات الموجود في صحراء النقب والبحر الميت.. وقد قيل من باب التمويه انهما يجمعان الفراشات الصحراوية النادرة.
لقد كان ديفيد بن جوريون يؤمن منذ اللحظة الأولي لقيام الدولة الصهيونية,التي أعلنها بنفسه, بأن اللغة الوحيدة التي يفهمها العرب هي القوة... وان اسرائيل دولة صغيرة ومعزولة, ولو لم تزد من قوتها الفعلية بمعدلات كبيرة, فإنها لن تنجو من المتاعب.. ولن يقبل العرب بالسلام إلا بعد اذلالهم في حروب متتالية.. ولن يستمر السلام الا اذا استمر الإذلال.. لا سلام إلا بشروط اسرائيل.. لا سلام إلا اذا كانت اسرائيل هي الأقوي.. ولن تكون اسرائيل هي الاقوي إلا اذا امتلكت سلاحا نوويا وحرم العرب منه.. وفي ذلك الوقت ظهر شعار لن يحيا أحد من بعدنا.. واذا هدم المعبد فليدفن الجميع تحته.
في8 ديسمبر عام1953, اعلن الرئيس الأمريكي دويت ايزنهاور برنامجه الشهير ذرة من أجل السلام, وتحت مظلة هذا البرنامج وقعت اسرائيل مع الولايات المتحدة في12 يوليو عام1955 اتفاقية خاصة حصلت اسرائيل بمقتضاها علي مفاعل نووي للأبحاث انشيء في منطقة تسمي نحال سوريك علي شاطيء البحر المتوسط.. وسمي حمام السباحة.. وفي الوقت نفسه, سافر56 عالما اسرائيليا للتدريب في وكالة الطاقة الذرية الأمريكية, التي امدت اسرائيل ايضا بمكتبة ابحاث نووية تحتوي علي6500 بحث وكتاب متخصص.. وما ان عادوا حتي راحت اسرائيل تبني12 مفاعلا نوويا من ذلك الطراز.. منتشرة في الجامعات.. وبعضها كان مستقلا.. ويعمل علنا بدعوي تحلية المياه وعلاج السرطان وتوليد الكهرباء..
لكن مثل هذه المفاعلات لم تكن وحدها لتكفي لتصنيع القنبلة الاسرائيلية.. كان لابد من مفاعل أكثر قدرة علي تصنيع القنبلة.. وفي ظل الحظر الأمريكي الصارم علي تصدير مثل هذا المفاعل وجدت اسرائيل منفذا لها في فرنسا.. وهكذا.. بدأت قصة مفاعل ديمونة.
لقد قدمت فرنسا مفاعل ديمونة في وقت مبكر لم تكن قد صنعت فيه قنبلتها النووية.. كان ذلك في عام1957.. بناء علي اتفاقية شديدة السرية لم يعرف بها سوي عدد قليل جدا من الطرفين... وكان وراءها رجل سينفطر قلبه فيما بعد وهو يتحدث عن السلام هو شيمون بيريز.. وفي المقابل حصلت فرنسا من اسرائيل علي طريقة استخلاص اليورانيوم من خام الفوسفات.. وعلي تكنولوجيا الكمبيوتر الأمريكية التي منعتها عنها واشنطن خشية استخدامها في تصميم القنابل النووية.. وقد فجرت فرنسا قنبلتها الأولي في صحراء الجزائر الكبري في عام1960 وشهد التجربة عدد من علماء الذرة الاسرائيليين.
كان ذلك نوعا من التكريم لاسرائيل التي وقفت الي جانبها.. وفرصة لاسرائيل كي تكتسب خبرة عملية تفتقدها في هذا المجال.. وتوثقت العلاقات النووية بين فرنسا واسرائيل بعد أن رفضت الولايات المتحدة طلبا فرنسيا بقيام علاقات نووية متميزة بين البلدين, علي غرار ما تتمتع به بريطانيا... لقد عجل ذلك كله ببناء مفاعل ديمونة.
ومفاعل ديمونة من النوع الحراري.. طاقته26 ميجاوات.. قامت بتنفيذه شركة سان جوبيان الفرنسية التي تملك الحكومة الفرنسية66% من اسهمها.. ويستخدم المفاعل اليورانيوم الطبيعي.. ويشبه مفاعل سافانا ريفر الأمريكي في ساوث كارولينا الذي ينتج القنابل النووية الأمريكية.. وبدأ العمل في ديمونة في نهاية عام1963.. وبرغم نجاح اسرائيل في استخراج اليورانيوم من الفوسفات فان ما استخرجته لم يكن يكفي.. فراحت بطرق شرعية وطرق غير شرعية تحصل علي اليورانيوم من الولايات المتحدة وافريقيا الوسطي وكندا والارجنتين والبرازيل والجابون والنيجر.. ووصلت الطرق غير الشرعية الي حد السطو علي سفن تحمل اليورانيوم لتستولي علي شحناتها.. باسلوب القراصنة في القرون الماضية.
لم يكن احد في اسرائيل يعرف ما الذي يجري في ديمونة.. قيل انه مصنع نسيج.. وقيل انه مفاعل نووي لتحلية المياه.. وقيل انه معهد علمي لبحث مشكلات الصحراء.. لكن.. رائحة ما يجري سرا زكمت بعض الانوف.. فظهرت أول حركة للسلام في اسرائيل.. شكلها مثقفون وعلماء بارزون عرفت باسم لجنة ابعاد الاسلحة النووية عن الصراع العربي ـ الاسرائيلي.. وخرج منها أول نداء لابعاد الاسلحة النووية عن الشرق الأوسط.. وانضم الي ذلك الاتجاه المعارض غالبية جنرالات الجيش, الذين كانوا يفضلون الاعتماد علي القوة التقليدية مثل ايجال ألون واسحق رابين وارييل شارون.. وقد وصف هؤلاء ديفيد بن جوريون بأنه نبي النار بسبب اصراره علي المضي في طريق القنبلة النووية.. والمقصود.. انه يبشر بحرق كل ما حوله حتي لو احترق هو أيضا.
وقد استقال ديفيد بن جوريون من الحياة السياسية وراح يزرع الطماطم والخيار في كيبوتز سيدي بوكر بصحراء النقب.. ولم تكن اسرائيل قد توصلت الي قنبلتها النووية بعد.. فكان علي تلميذه وربيبه موشي ديان مواصلة المشوار.. وعندما عين وزيرا للدفاع قبيل حرب يونيو عام1967 أصدر تعليماته السرية باستكمال مفاعل ديمونة ومده بالأجزاء الحيوية التي تفصل البولوتونيوم.. وهي الخطوة الأخيرة في تصنيع القنبلة النووية.. وقد أصر علي تنفيذ ما أراد رغم أن رئيس الوزراء ديفيد اشكول وأعضاء الكنيست كانوا يعارضون هذه الخطوة.. فقبل سنة تقريبا.. وبالتحديد في صيف عام1966 اقترح ليفي اشكول, علي الرئيس الأمريكي ليندون جونسون تجميد العمل في ديمونة, مقابل شحنات جديدة من الأسلحة الأمريكية التقليدية المتطورة.. ولم يرفض ليندون جونسون العرض وقدم اسلحة حديثة بتسعين مليون دولار الي اسرائيل.. وهي اكبر معونة عسكرية قدمت اليها في سنة واحدة حتي ذلك الوقت.
لكن بينما كانت هذه الاسلحة تصل اسرائيل, كان العالم اليهودي الشهير يوفال نيومان ينفذ البرنامج الذي صممه للحصول علي البلوتونيوم.. واغلب الظن أن الرئيس ليندون جونسون الذي كان متعصبا للدولة العبرية ضحك في سره منشرحا.. فقد ارسلت وزارة الدفاع الاسرائيلية في ذلك الوقت11 مهندسا نوويا الي الولايات المتحدة للتدريب علي تكنولوجيا التجارب النووية, التي تجري تحت الارض وساهم هؤلاء فيما بعد في التحقق من فاعلية القنبلة الاسرائيلية.
ورغم الانتصار الاسرائيلي الساحق في حرب يونيو1967 فإن اسرائيل بعدها اطلقت يد علمائها في التوصل الي القنبلة النووية.. ويعتقد البعض انها توصلت الي القنبلة في عام1968, لكن الدكتور عصمت زين الدولة أشهر علماء الذرة المصريين, قال لي قبل سنوات: ان حسابات العلم والسياسة تقطع بان اسرائيل توصلت الي القنبلة في عام1972.. وقد بنيت هذه الحسابات علي متابعة مصرية دقيقة لخطوات العدو الصهيوني في هذا الاتجاه.. ومن ثم فانها في الغالب حسابات سليمة.. فقد اشارت مصادر متنوعة الي ان اسرائيل كانت تملك17 قنبلة نووية عند اشتعال حرب اكتوبر عام1973.
ولم تستبعد هذه المصادر أن تكون اسرائيل قد اتخذت قرارا لا مفر منه باستخدام الاسلحة النووية, عندما شعرت ان خطوات سير الحرب ليست في صالحها.. فبعد الضربات الأولي صرخ موشي ديان وزير الدفاع في وجه جولدا مائير رئيسة الوزراء.. هذه هي نهاية المعبد الثالث.. فقامت جولدا مائير باعطائه الاذن باستخدام اسلحة الدمار الشامل الاسرائيلية, وفور تجهيز كل قنبلة نووية كانت تنقل علي جناح السرعة الي وحدات سلاح الجو التي كانت تقف في انتظارها.. لكن.. قبل أن يجري وضع اجهزة التفجير في واحدة من تلك القنابل راحت الولايات المتحدة تتدخل لانقاذ اسرائيل بمدها بجسر جوي من الاسلحة المتطورة, التي لا تنتهي فتراجعت عن استخدام السلاح النووي.
ونقلا عن معلق صحيفة واشنطن بوست الشهير جوزيف السوب, فإن الاسرائيليين هددوا مرة أخري بشن حرب نووية ضد سوريا ومصر في عام1974 نظرا لتصاعد القوة السورية علي الحدود في الجولان, ولادعاء اسرائيل بأن صواريخ سكود المصرية قادرة علي حمل رءوس نووية, مما يشكل تهديدا للمدن الاسرائيلية.
ولو كان من الصعب تحديد تاريخ ميلاد القنبلة الاسرائيلية, فإن من الممكن معرفة قيمة تكلفتها... ان خبراء الذرة لدي الامم المتحدة يقولون: انه لابد من انتاج10 قنابل نووية معا, وهي تحتاج الي10 سنوات وتتكلف104 ملايين دولار بأسعار منتصف الستينيات.. منها70 مليون دولار ثمن المواد الانشطارية و18 مليون دولار تكلفة التصنيع و12 مليون دولار تكلفة التجارب, و4 ملايين دولار للتخزين والصيانة.. ولو قسمنا هذه التكلفة كلها علي عشرة لكانت تكلفة القنبلة نحو10,5 مليون دولار.. وقد قدر الخبرا تكلفة البرنامج النووي الاسرائيلي من بدايته وحتي انتاج عشر قنابل دفعة واحدة بنحو200 مليون دولار.
وبرغم كل ما يكتب وما يقال عن البرنامج النووي الاسرائيلي, تفضل اجهزة المخابرات هناك التزام الصمت وكأن الأمر لا يعنيها.. ولا تتردد الرقابة العسكرية في مصادرة ما ينشر عنه.. ففي عام1981 منعت هذه الرقابة نشر كتاب كان علي وشك الصدور..عنوانه لن يحيا أحد بعدنا ـ قصة القنبلة النووية الاسرائيلية.. وتلقي مؤلفه تهديدا بالسجن لمدة15 سنة.. وطرد مراسل شبكة التليفزيون الامريكية( سي.بي.اس) في اسرائيل لانه اذاع ما جاء في الكتاب.
وفي الكتاب ان اسرائيل شهدت17 تجربة فرنسية للتفجير النووي في صحراء الجزائر.. وانها حصلت علي خلاصة هذه التجارب.. وفيه ان تعاونا قويا بدأ منذ سنوات بين اسرائيل وجنوب افريقيا.. نقلت بعده تجاربها النووية من صحراء الجزائر الي المحيط الأطلسي.. من الارض الي البحر.. وفيه ان اسرائيل عقدت صفقة للتعاون النووي بينها وبين تايوان.. ساهمت في تطوير قنبلة نيترون اسرائيلية, وزادت من مرمي صاروخ كروز ليصل مداه الي2400 كيلومتر.. وهو ما يعني وصوله الي الاتحاد السوفيتي.. وفي عام1972 حققت اسرائيل خطوة مهمة وهي تخصيب اليورانيوم المستخدم في تصنيع القنبلة النووية بالليزر بمساعدة جنوب افريقيا, وهي طريقة لا تكلفها كثيرا.
أما مستعمرة ديمونة التي يتستر وراءها المفاعل النووي الاسرائيلي فتقع في وسط النقب.. وتبعد عن بئر سبع بنحو35 كيلومترا شرقا.. والمنطقة صحراوية.. جبلية.. قليلة السكان.. برغم انها تزيد علي نصف مساحة فلسطين.. ولا احد يعرف الاسم العربي لها.. وان كان هناك من يطلق عليها أم دومنة أو أم أرديمة.. لكن.. من المؤكد أن ارض ديمونة كانت ملكا لقبائل بدوية تعرف باسم عرب التائهة.
وليس من السهل معرفة سر اختيار ديفيد بن جوريون لديمونة كي يبني فيها المفاعل النووي؟.. هل السبب توافر المياه في باطنها؟.. ام وجود انفاق طبيعية في الجبل المحاذي للمفاعل, الذي يصل ارتفاعه الي588 مترا؟.. ام قربها من مناجم الفوسفات التي يستخلص منها اليورانيوم؟.. وليس من السهل معرفة ما يدور في داخلها.. بما في ذلك طبيعة سكانها.. هل هم مدنيون؟.. ام عسكريون متنكرون؟.. وهي تبدو مثل واحة من الاسمنت والنخيل.. يحتاج الاقتراب منها الي تصريح خاص يوقع عليه مسئول خاص في مكتب رئيس الحكومة.. وتمنع السيارات العابرة من التوقف هناك.. لذلك فالصور التي التقطت لها متشابهة وغير واضحة.. فقد التقطت من غرب المفاعل.. عن بعد.. ومن سيارة مسرعة.. وبالرغم من ذلك تباع هذه الصور بأسعار مذهلة.
ويقع المفاعل نفسه علي تل يرتفع نحو183 مترا فوق سطح لبحر.. وتحيط به عدة مطارات وقواعد عسكرية.. اهمها قاعدة هاتزريم الملحق بها مدرسة لتعليم الطيران.. وسر اهميتها ان الخبراء يعتقدون انها مركز تجميع ونقل السلاح النووي الاسرائيلي.. وكل هذه المطارات والقواعد لحماية المفاعل.. وتدعمها شبكة عريضة من الرادارات.. وبالقرب منها معسكرات للقوات البرية والقوات المحمولة بالمدرعات.. والأوامر الدائمة للمدفعية اطلاق النار والصواريخ علي اية طائرة تخترق المجال الجوي هناك, بما في ذلك الطائرات الاسرائيلية التي يحرم عليها الطيران فوق المفاعل.. وقد حدث قبل سنوات ان اسقطت طائرة اسرائيلية عبرت المنطقة الحرام بطريق الخطأ.
وتكتسب مدينة ديمونة شهرة عالمية واسعة بسبب المفاعل.. وطبقا لآخر المعلومات, فإن المفاعل الفرنسي ادخلت عليه توسعات عديدة حتي اصبحت طاقته تزيد علي150 ميجاوات.. ليستخلص المزيد من البلوتونيوم.. وهو ما يعني تصنيع المزيد من القنابل النووية.. ويقدر عدد هذه القنابل بنحو300 قنبلة توصف بأنها في القبو.. اي جاهزة تحت الطلب.. والاسم الرسمي للمفاعل هو: كريا ـ لو ـ محيكا ـ جارني.. ومعناه: مركز النقب للأبحاث النووية.. أما ما يجري في داخله فقصته أكثر اثارة تستحق الصبر والانتظار
ان المثير للسخرية, أن يقف العالم علي اطراف اصابعه مطالبا العراق بتدمير اسلحته, دون ان يجرؤ علي الاقتراب من اسرائيل.. أو يمس لها طرفا.. او يفتح فمه في مواجهتها.. فنحن نعاقب النملة لأنها قرصت الفيل.. ولا نعاقب الفيل لأنه دمر عشرات الممالك التي يسكنها ملايين من النمل بضربة واحدة من احدي قدميه.. ولا نملك ازاء حالة الخلل المزمنة التي نعيشها سوي ان نتسلي برواية حكاية قصة الفيل النووي الاسرائيلي.
لقد بدأ التفكير في صناعة القنبلة النووية الاسرائيلية في الاسبوع نفسه الذي أعلنت فيه الدولة الصهيونية.. في ذلك الوقت, كانت هناك دراسة جاهزة قام بها العالمان أرنست بيرجمان واسرائيلي دوستروفسكي لاستخراج اليورانيوم من الفوسفات الموجود في صحراء النقب والبحر الميت.. وقد قيل من باب التمويه انهما يجمعان الفراشات الصحراوية النادرة.
لقد كان ديفيد بن جوريون يؤمن منذ اللحظة الأولي لقيام الدولة الصهيونية,التي أعلنها بنفسه, بأن اللغة الوحيدة التي يفهمها العرب هي القوة... وان اسرائيل دولة صغيرة ومعزولة, ولو لم تزد من قوتها الفعلية بمعدلات كبيرة, فإنها لن تنجو من المتاعب.. ولن يقبل العرب بالسلام إلا بعد اذلالهم في حروب متتالية.. ولن يستمر السلام الا اذا استمر الإذلال.. لا سلام إلا بشروط اسرائيل.. لا سلام إلا اذا كانت اسرائيل هي الأقوي.. ولن تكون اسرائيل هي الاقوي إلا اذا امتلكت سلاحا نوويا وحرم العرب منه.. وفي ذلك الوقت ظهر شعار لن يحيا أحد من بعدنا.. واذا هدم المعبد فليدفن الجميع تحته.
في8 ديسمبر عام1953, اعلن الرئيس الأمريكي دويت ايزنهاور برنامجه الشهير ذرة من أجل السلام, وتحت مظلة هذا البرنامج وقعت اسرائيل مع الولايات المتحدة في12 يوليو عام1955 اتفاقية خاصة حصلت اسرائيل بمقتضاها علي مفاعل نووي للأبحاث انشيء في منطقة تسمي نحال سوريك علي شاطيء البحر المتوسط.. وسمي حمام السباحة.. وفي الوقت نفسه, سافر56 عالما اسرائيليا للتدريب في وكالة الطاقة الذرية الأمريكية, التي امدت اسرائيل ايضا بمكتبة ابحاث نووية تحتوي علي6500 بحث وكتاب متخصص.. وما ان عادوا حتي راحت اسرائيل تبني12 مفاعلا نوويا من ذلك الطراز.. منتشرة في الجامعات.. وبعضها كان مستقلا.. ويعمل علنا بدعوي تحلية المياه وعلاج السرطان وتوليد الكهرباء..
لكن مثل هذه المفاعلات لم تكن وحدها لتكفي لتصنيع القنبلة الاسرائيلية.. كان لابد من مفاعل أكثر قدرة علي تصنيع القنبلة.. وفي ظل الحظر الأمريكي الصارم علي تصدير مثل هذا المفاعل وجدت اسرائيل منفذا لها في فرنسا.. وهكذا.. بدأت قصة مفاعل ديمونة.
لقد قدمت فرنسا مفاعل ديمونة في وقت مبكر لم تكن قد صنعت فيه قنبلتها النووية.. كان ذلك في عام1957.. بناء علي اتفاقية شديدة السرية لم يعرف بها سوي عدد قليل جدا من الطرفين... وكان وراءها رجل سينفطر قلبه فيما بعد وهو يتحدث عن السلام هو شيمون بيريز.. وفي المقابل حصلت فرنسا من اسرائيل علي طريقة استخلاص اليورانيوم من خام الفوسفات.. وعلي تكنولوجيا الكمبيوتر الأمريكية التي منعتها عنها واشنطن خشية استخدامها في تصميم القنابل النووية.. وقد فجرت فرنسا قنبلتها الأولي في صحراء الجزائر الكبري في عام1960 وشهد التجربة عدد من علماء الذرة الاسرائيليين.
كان ذلك نوعا من التكريم لاسرائيل التي وقفت الي جانبها.. وفرصة لاسرائيل كي تكتسب خبرة عملية تفتقدها في هذا المجال.. وتوثقت العلاقات النووية بين فرنسا واسرائيل بعد أن رفضت الولايات المتحدة طلبا فرنسيا بقيام علاقات نووية متميزة بين البلدين, علي غرار ما تتمتع به بريطانيا... لقد عجل ذلك كله ببناء مفاعل ديمونة.
ومفاعل ديمونة من النوع الحراري.. طاقته26 ميجاوات.. قامت بتنفيذه شركة سان جوبيان الفرنسية التي تملك الحكومة الفرنسية66% من اسهمها.. ويستخدم المفاعل اليورانيوم الطبيعي.. ويشبه مفاعل سافانا ريفر الأمريكي في ساوث كارولينا الذي ينتج القنابل النووية الأمريكية.. وبدأ العمل في ديمونة في نهاية عام1963.. وبرغم نجاح اسرائيل في استخراج اليورانيوم من الفوسفات فان ما استخرجته لم يكن يكفي.. فراحت بطرق شرعية وطرق غير شرعية تحصل علي اليورانيوم من الولايات المتحدة وافريقيا الوسطي وكندا والارجنتين والبرازيل والجابون والنيجر.. ووصلت الطرق غير الشرعية الي حد السطو علي سفن تحمل اليورانيوم لتستولي علي شحناتها.. باسلوب القراصنة في القرون الماضية.
لم يكن احد في اسرائيل يعرف ما الذي يجري في ديمونة.. قيل انه مصنع نسيج.. وقيل انه مفاعل نووي لتحلية المياه.. وقيل انه معهد علمي لبحث مشكلات الصحراء.. لكن.. رائحة ما يجري سرا زكمت بعض الانوف.. فظهرت أول حركة للسلام في اسرائيل.. شكلها مثقفون وعلماء بارزون عرفت باسم لجنة ابعاد الاسلحة النووية عن الصراع العربي ـ الاسرائيلي.. وخرج منها أول نداء لابعاد الاسلحة النووية عن الشرق الأوسط.. وانضم الي ذلك الاتجاه المعارض غالبية جنرالات الجيش, الذين كانوا يفضلون الاعتماد علي القوة التقليدية مثل ايجال ألون واسحق رابين وارييل شارون.. وقد وصف هؤلاء ديفيد بن جوريون بأنه نبي النار بسبب اصراره علي المضي في طريق القنبلة النووية.. والمقصود.. انه يبشر بحرق كل ما حوله حتي لو احترق هو أيضا.
وقد استقال ديفيد بن جوريون من الحياة السياسية وراح يزرع الطماطم والخيار في كيبوتز سيدي بوكر بصحراء النقب.. ولم تكن اسرائيل قد توصلت الي قنبلتها النووية بعد.. فكان علي تلميذه وربيبه موشي ديان مواصلة المشوار.. وعندما عين وزيرا للدفاع قبيل حرب يونيو عام1967 أصدر تعليماته السرية باستكمال مفاعل ديمونة ومده بالأجزاء الحيوية التي تفصل البولوتونيوم.. وهي الخطوة الأخيرة في تصنيع القنبلة النووية.. وقد أصر علي تنفيذ ما أراد رغم أن رئيس الوزراء ديفيد اشكول وأعضاء الكنيست كانوا يعارضون هذه الخطوة.. فقبل سنة تقريبا.. وبالتحديد في صيف عام1966 اقترح ليفي اشكول, علي الرئيس الأمريكي ليندون جونسون تجميد العمل في ديمونة, مقابل شحنات جديدة من الأسلحة الأمريكية التقليدية المتطورة.. ولم يرفض ليندون جونسون العرض وقدم اسلحة حديثة بتسعين مليون دولار الي اسرائيل.. وهي اكبر معونة عسكرية قدمت اليها في سنة واحدة حتي ذلك الوقت.
لكن بينما كانت هذه الاسلحة تصل اسرائيل, كان العالم اليهودي الشهير يوفال نيومان ينفذ البرنامج الذي صممه للحصول علي البلوتونيوم.. واغلب الظن أن الرئيس ليندون جونسون الذي كان متعصبا للدولة العبرية ضحك في سره منشرحا.. فقد ارسلت وزارة الدفاع الاسرائيلية في ذلك الوقت11 مهندسا نوويا الي الولايات المتحدة للتدريب علي تكنولوجيا التجارب النووية, التي تجري تحت الارض وساهم هؤلاء فيما بعد في التحقق من فاعلية القنبلة الاسرائيلية.
ورغم الانتصار الاسرائيلي الساحق في حرب يونيو1967 فإن اسرائيل بعدها اطلقت يد علمائها في التوصل الي القنبلة النووية.. ويعتقد البعض انها توصلت الي القنبلة في عام1968, لكن الدكتور عصمت زين الدولة أشهر علماء الذرة المصريين, قال لي قبل سنوات: ان حسابات العلم والسياسة تقطع بان اسرائيل توصلت الي القنبلة في عام1972.. وقد بنيت هذه الحسابات علي متابعة مصرية دقيقة لخطوات العدو الصهيوني في هذا الاتجاه.. ومن ثم فانها في الغالب حسابات سليمة.. فقد اشارت مصادر متنوعة الي ان اسرائيل كانت تملك17 قنبلة نووية عند اشتعال حرب اكتوبر عام1973.
ولم تستبعد هذه المصادر أن تكون اسرائيل قد اتخذت قرارا لا مفر منه باستخدام الاسلحة النووية, عندما شعرت ان خطوات سير الحرب ليست في صالحها.. فبعد الضربات الأولي صرخ موشي ديان وزير الدفاع في وجه جولدا مائير رئيسة الوزراء.. هذه هي نهاية المعبد الثالث.. فقامت جولدا مائير باعطائه الاذن باستخدام اسلحة الدمار الشامل الاسرائيلية, وفور تجهيز كل قنبلة نووية كانت تنقل علي جناح السرعة الي وحدات سلاح الجو التي كانت تقف في انتظارها.. لكن.. قبل أن يجري وضع اجهزة التفجير في واحدة من تلك القنابل راحت الولايات المتحدة تتدخل لانقاذ اسرائيل بمدها بجسر جوي من الاسلحة المتطورة, التي لا تنتهي فتراجعت عن استخدام السلاح النووي.
ونقلا عن معلق صحيفة واشنطن بوست الشهير جوزيف السوب, فإن الاسرائيليين هددوا مرة أخري بشن حرب نووية ضد سوريا ومصر في عام1974 نظرا لتصاعد القوة السورية علي الحدود في الجولان, ولادعاء اسرائيل بأن صواريخ سكود المصرية قادرة علي حمل رءوس نووية, مما يشكل تهديدا للمدن الاسرائيلية.
ولو كان من الصعب تحديد تاريخ ميلاد القنبلة الاسرائيلية, فإن من الممكن معرفة قيمة تكلفتها... ان خبراء الذرة لدي الامم المتحدة يقولون: انه لابد من انتاج10 قنابل نووية معا, وهي تحتاج الي10 سنوات وتتكلف104 ملايين دولار بأسعار منتصف الستينيات.. منها70 مليون دولار ثمن المواد الانشطارية و18 مليون دولار تكلفة التصنيع و12 مليون دولار تكلفة التجارب, و4 ملايين دولار للتخزين والصيانة.. ولو قسمنا هذه التكلفة كلها علي عشرة لكانت تكلفة القنبلة نحو10,5 مليون دولار.. وقد قدر الخبرا تكلفة البرنامج النووي الاسرائيلي من بدايته وحتي انتاج عشر قنابل دفعة واحدة بنحو200 مليون دولار.
وبرغم كل ما يكتب وما يقال عن البرنامج النووي الاسرائيلي, تفضل اجهزة المخابرات هناك التزام الصمت وكأن الأمر لا يعنيها.. ولا تتردد الرقابة العسكرية في مصادرة ما ينشر عنه.. ففي عام1981 منعت هذه الرقابة نشر كتاب كان علي وشك الصدور..عنوانه لن يحيا أحد بعدنا ـ قصة القنبلة النووية الاسرائيلية.. وتلقي مؤلفه تهديدا بالسجن لمدة15 سنة.. وطرد مراسل شبكة التليفزيون الامريكية( سي.بي.اس) في اسرائيل لانه اذاع ما جاء في الكتاب.
وفي الكتاب ان اسرائيل شهدت17 تجربة فرنسية للتفجير النووي في صحراء الجزائر.. وانها حصلت علي خلاصة هذه التجارب.. وفيه ان تعاونا قويا بدأ منذ سنوات بين اسرائيل وجنوب افريقيا.. نقلت بعده تجاربها النووية من صحراء الجزائر الي المحيط الأطلسي.. من الارض الي البحر.. وفيه ان اسرائيل عقدت صفقة للتعاون النووي بينها وبين تايوان.. ساهمت في تطوير قنبلة نيترون اسرائيلية, وزادت من مرمي صاروخ كروز ليصل مداه الي2400 كيلومتر.. وهو ما يعني وصوله الي الاتحاد السوفيتي.. وفي عام1972 حققت اسرائيل خطوة مهمة وهي تخصيب اليورانيوم المستخدم في تصنيع القنبلة النووية بالليزر بمساعدة جنوب افريقيا, وهي طريقة لا تكلفها كثيرا.
أما مستعمرة ديمونة التي يتستر وراءها المفاعل النووي الاسرائيلي فتقع في وسط النقب.. وتبعد عن بئر سبع بنحو35 كيلومترا شرقا.. والمنطقة صحراوية.. جبلية.. قليلة السكان.. برغم انها تزيد علي نصف مساحة فلسطين.. ولا احد يعرف الاسم العربي لها.. وان كان هناك من يطلق عليها أم دومنة أو أم أرديمة.. لكن.. من المؤكد أن ارض ديمونة كانت ملكا لقبائل بدوية تعرف باسم عرب التائهة.
وليس من السهل معرفة سر اختيار ديفيد بن جوريون لديمونة كي يبني فيها المفاعل النووي؟.. هل السبب توافر المياه في باطنها؟.. ام وجود انفاق طبيعية في الجبل المحاذي للمفاعل, الذي يصل ارتفاعه الي588 مترا؟.. ام قربها من مناجم الفوسفات التي يستخلص منها اليورانيوم؟.. وليس من السهل معرفة ما يدور في داخلها.. بما في ذلك طبيعة سكانها.. هل هم مدنيون؟.. ام عسكريون متنكرون؟.. وهي تبدو مثل واحة من الاسمنت والنخيل.. يحتاج الاقتراب منها الي تصريح خاص يوقع عليه مسئول خاص في مكتب رئيس الحكومة.. وتمنع السيارات العابرة من التوقف هناك.. لذلك فالصور التي التقطت لها متشابهة وغير واضحة.. فقد التقطت من غرب المفاعل.. عن بعد.. ومن سيارة مسرعة.. وبالرغم من ذلك تباع هذه الصور بأسعار مذهلة.
ويقع المفاعل نفسه علي تل يرتفع نحو183 مترا فوق سطح لبحر.. وتحيط به عدة مطارات وقواعد عسكرية.. اهمها قاعدة هاتزريم الملحق بها مدرسة لتعليم الطيران.. وسر اهميتها ان الخبراء يعتقدون انها مركز تجميع ونقل السلاح النووي الاسرائيلي.. وكل هذه المطارات والقواعد لحماية المفاعل.. وتدعمها شبكة عريضة من الرادارات.. وبالقرب منها معسكرات للقوات البرية والقوات المحمولة بالمدرعات.. والأوامر الدائمة للمدفعية اطلاق النار والصواريخ علي اية طائرة تخترق المجال الجوي هناك, بما في ذلك الطائرات الاسرائيلية التي يحرم عليها الطيران فوق المفاعل.. وقد حدث قبل سنوات ان اسقطت طائرة اسرائيلية عبرت المنطقة الحرام بطريق الخطأ.
وتكتسب مدينة ديمونة شهرة عالمية واسعة بسبب المفاعل.. وطبقا لآخر المعلومات, فإن المفاعل الفرنسي ادخلت عليه توسعات عديدة حتي اصبحت طاقته تزيد علي150 ميجاوات.. ليستخلص المزيد من البلوتونيوم.. وهو ما يعني تصنيع المزيد من القنابل النووية.. ويقدر عدد هذه القنابل بنحو300 قنبلة توصف بأنها في القبو.. اي جاهزة تحت الطلب.. والاسم الرسمي للمفاعل هو: كريا ـ لو ـ محيكا ـ جارني.. ومعناه: مركز النقب للأبحاث النووية.. أما ما يجري في داخله فقصته أكثر اثارة تستحق الصبر والانتظار