الغارة الاخيرة
في اواسط عام 1941 كان الجيش الجوي الثامن الاميركي سيداً مطلقاً في سماء اوربا وكان سلاح الطيران الالماني موزعاً على ثلاث جبهات وبدأ يتقلص يوماً بعد يوم بسبب هجوم الحلفاء الشديد ولكنه كان مازال بوسع هذا السلاح ان يسدد ضربات قاسية للحلفاء عندما تسمح له الفرصة ولقد سنحت له هذه الفرصة في حزيران عام 1944 فلقد تكبدت قاذفات الجيش الثامن الجوي خسارة تحدث خلال الحرب .
كان سبب هذه الكارثة فكرة خطرت على بال القادة الاميركيين في استخدام المطارات الموجودة في الجبهة السوفييتية لهبوط القاذفات الاميركية بعد ضربها الاهداف الخارجة عن مداها . ولقد بدات المحادثات بين الاميركيين والسوفييت في اواخر عام 1943 وتمت الموافقة في نيسان 1944 حيث وضع السوفييت تحت تصرف الاميركيين ثلاث مطارات بدلاً من ستة وتقع هذه المطارات حول كييف وقام المهندسون الاميركيون بتطويل المهابط وتحسينها وذلك خلال شهر مايس 1944 وكان افضل هذه القواعد مطار بولتافا لامكانية استقباله القاذفات الثقيلة وكذلك كانت حالة مطار (ميرغورد) اما مطار (بيراتين) فكان لا يصلح إلا للمقاتلات .
وفي اليوم الثاني من شهر حزيران 1944 اقلعت من المطارات الاميركية في ايطاليا (130) قاذفة قنابل اميركية من طراز (b-17) و(70) مقاتلة من طراز (موستانغ) كانت مهمتها قذف الموانئ في (ديبرش) ومن ثم التوجه إلى مطارات الجبهة السوفييتية .
وفي السادس من حزيران اقلعت هذه الطائرات من مطاراتها في الاتحاد السوفييتي وقامت بقصف مطار (نحالاتس) في رومانيا . وفي الحادي عشر من حزيران عادت هذه الطائرات إلى ايطاليا واثناء طريقها قامت بقصف مطار (فوسكاني) في رومانيا ايضاً .
وخلال هذه الغارات الثلاثة فقدت قاذفتان من طراز (b-17) وطائرتان مقاتلتان من طراز (موستانغ) وبعد الانزال في النورماندي توقفت عمليات قصف الاهداف البعيدة ليقوم الجيش الجوي الثامن بدعم تقدم الجيوش البرية وفي حوالي منتصف شهر حزيران كان وضع هذه الجيوش البرية حسناً جداً مما اعاد إلى الاذهان فكرة ضرب الاهداف البعيدة .
وكان الهدف الاول هذه المرة برلين وكان عدد الطائرات المشتركة في المهمة (2500) طائرة بين مقاتلة وقاذفة ولقد اعطيت التعليمات لضرب معامل الطائرات والمعامل الاخرى المحيطة بالعاصمة الالمانية .
واثناء الطريق إلى الهدف انفصلت عن التشكيلة قوة مؤلفة من (114) قاذفة قنابل من طراز (b-17) و (70) مقاتلة من طراز (موستانغ) في الوقت الذي ظهرت فيه (100) مقاتلة المانية تتاهب للهجوم على التشكيلات الكبيرة وتابعت القوة الكبيرة طريقها بالرغم من الهجمات المتكررة عليها حتى وصلت برلين وهناك فاجئتها نيران قوية من المدفعية م/ط ولكنها قصفت اهدافها وعادت بعد ان فقدت (44) قاذفة قنابل ثقيلة فكانت اكبر خسارة حلت بالقاذفات الاميركية بعد قصف المطار (شوينفرت) في عام 1943 عندما ارتفع رقم القاذفات المفقودة إلى (60) قاذفة .
اما القوة الصغيرة التي مر ذكرها فقد تابعت طريقها إلى(رهلند) جنوب برلين فقصفت مكان تجمع مصافي البترول ثم تابعت طريقها إلى المطارات السوفييتية قرب كييف . ولقد طارت هذه الطائرات على ارتفاع عال والشمس خلفها تلمع في الافق وتخفي في اشعتها القوية قاذفة قنابل المانية اقلعت من احد المطارات ولحقت بالتشكيلة الاميركية تحجبها الشمس عن نظر الرماة الخلفيين للقاذفات الاميركية .
وحوالي بعد الظهر كانت القاذفات الاميركية تطير فوق سهول فسيحة تناثرت فيها المزارع التعاونية ومن ثم بأت القاذفات والمقاتلات الاميركية بالنزول في منطقة كييف وهبطت معظم المقاتلات في مطار (بيراتين) بينما هبطت 73 قاذفة في مطار (بولتافا) اما ما بقي من التشكيلة فهبط في مطار (ميرغورد) .
وفي مطار (بولتافا) وجدت القاذفات الميركية مهبطين طول احدهما اربعة كيلو مترات يمتدان من الشمال إلى الجنوب وكانا على شكل (l) واثناء الهبوط لاحظ الملاحون الاميركيون وجود عشر طائرات اميركية حول النهاية الشمالية للمهبط وشاهدوا بعض حظائر الطائرات ووجود بعض المقاتلات السوفييتية فيها .
وبعد الهبوط تدحرجت القاذفات ثم توقفت 14 قاذفة منها حول القسم الشمالي من المهبط بينما وزعت 59 قاذفة على شكل قوس كبير حول المهبط ولما توقفت المحركات ونزل الطيارون والملاحون هرعت جماهير غفيرة من السوفييت لاستقبال وتحية الاميركيين المنتصرينوبعد دقائق تحركت الجموع الغفيرة وقد اختلط بها الطيارون الاميركيون إلى داخل البناء الكبير لشرب نخب النصر والتحالف .
وفي خارج البناء كانت الشمس تميل إلى الغروب ثم سادت الظلمة المطار وخرج بعض الفنيين الاميركيين من الحفلة لكي يثبتوا الطائرات ويملؤوها بالوقود والذخيرة والقنابل وفي الساعة (22) كان كل شيء قد انتها وساد الهدوء سماء المطار وغرق كل انسان في نومه .
وفجأة في الساعة (22.35) وردت اشارة سوفييتية إلى الضابط المناوب في مركز القيادة الاميركية بأن طائرات معادية اخترقت خط الجبهة السوفييتية وكانت متجهة نحو مطار بولتافا وفوراً دوت صافرات الانذار في المطار وهرع الناس إلى الملاجئ ولمدة نصف ساعة لم يحدث شيء ثم بدأ ازيز المحركات يدوي في آذانهم واقتربت (80) قاذفة المانية من طراز (جونكر و هنشل) ومرت طائرة (هنشل) فوق المطار ورمت كمية كبيرة من الانوار المعلقة بمظلات صغيرة اخذت تهبط رويداً رويداً مضيئة المطار بشكل عجيب ولما كانت القاذفات الاميركية بدون غطاء وغير مموهة فقد بدأت تلمع وتسطع بسبب الانوار وبعد مضي عشر دقائق بأت قنابل القاذفات الالمانية تسقط بغزارة فوق المطار .
ولقد فتحت المدفعية م/ط السوفييتية نيرانها على الطائرات المغيرة واقلعت من المطارات المجاورة مقاتلات ليلية سوفييتية ولكن الاميركيين لم يشاهدوا قاذفة المانية واحدة تهوي او تحترق .
واستمر قذف القنابل العالي لمدة ساعة كاملة كانت القاذفات الاميركية خلالها تنفجر فتسطع بلهيبها لترشد القاذفات الالمانية إلى الاهداف الآخرى .
وحوالي الساعة (1.45) انتهى القذف ولكن طائرات (جونكر و هنشل) اخذت بضرب ما تبقى من الاهداف بالرشاشات فاندلعت النيران بمن بقي من القاذفات الاميركية وفي الساعة (2.15) مرت آخر طائرة المانية ثم تسلقت بعيداً باتجاه الغرب وبعد خمس دقائق مرت قاذفة من طراز (جونكر) لاخذ الصور اللازمة وعندما ابتعدت انتهت الغارة .
لقد كافح السوفييت النيران لساعات عديدة دون ان يسمحوا للاميركيين بان يساعدوهم وفي الصباح تمكن الاميركيون من احصاء الخسائر فلقد احترقت سبع طائرات من القاذفات التي تمركزت في شمال المهبط اما القاذفات التي تمركزت في قوس حول المهبط وعددها (59) ففقد احترق منها (40) قاذفة وكان مجموع الخسائر (47) قاذفة من طراز (b-17) فلو اضفنا هذا الرقم إلى القاذفات التي سقطت في الغارة على برلين في نفس اليوم فإن المجموع يصبح (91) قاذفة وهي اكبر خسارة حصلت اثناء الحرب .
ولم تكن الخسارة محصورة بالقاذفات فقط فلقد دمرت طائرتان من طراز (داكوتا) وطائرة تصوير اميركية بينما خسر السوفييت مقاتلة واحدة واعطبت (25) طائرة اخرى ولقد انفجرت خزانات للوقود كانت تحتوي على (2000000) ليتر من البنزين وقتل اثنان من الاميركيين وجرح ستة بينما فقد السوفييت ثلاثين فرداً وارتفع عدد جرحاهم إلى (95) .
ولقد قذف الالمان ما يقارب (110) اطنان من القنابل ولم يخسروا أي طائرة . ولقد حاول الالمان قذف مطار (ميرغورد) في الليلة الثانية ولكن الطائرات الاميركية كانت قد رحلت عنه فلقد كانت غارتهم على مطار (بولتافا) آخر فرصة لهم قبل زوال سلاح الطيران الالماني نهائياً .
التعديل الأخير: